كابوس
أكره الحياة حين ينصب الموت خيمه بجانب أحلامي.. أكره الإنسان حين ينام في خيمة موته، مستسلماً لنهايته الفاشلة. إن الحياة حلم لا ينتهي، والموت مجرد كابوس منتهي.
يخرج من تأثير الأضواء الملونة، إلى خفوتها.. إلى القمر، ينظر من نافذة الروح إلى الدائرة المضيئة في الأعلى.. إلى ذلك النور المسروق من أصابع الشمس، ينظر بدقة وإحترافية، كمن يسعى لحفظ شيء في تقاطيع الذاكرة ليرسمه لاحقاً. يحفظ النور ومعه القمر، فهما لا ينفكان وحتى النجوم المتحلقة حولهما تحوز على عطش عينيه..
القمر يسرق الضوء، وهو يسرق العمر من بين أظافر الساعة، المستمرة في التقدم، فيلحقها جارياً في سيلها.. حتى هذه اللحظة وهي على الحال نفسه.. الساعة تشير إلى الحادية عشر ليلاً وتقضم بعقاربها الوقت وعمره، و نسيم الليل المزركش بالأنوار يحمل معه رائحة ماء البحر ورمله، رذاذ التاريخ والذكريات، وعبث الماضي..
أنفاس النسيم تستبيح المنزل كله، تقتحم غرفة تلو الأخرى، وهو ساكن يشتم رائحة ذكرياته بتململ، وساعة الرمل تنقلب فترجع به إلى الخلف..
السهر على ذلك الجبل حالك السواد..والقمر إختبأ في جانب غيمة مرت عمداً في المكان.. ويوسف يشعر بالسأم من إختطاف الضوء وإنتشار رائحة البحر، فرائحته ليلاً غيرها نهاراً.. هواء الليل البحري يأتي من أفق الماضي المنسي في حفر الزمن، يخرج كالمارد فيجتاح بيوت المدينة النائمة، وينثر صمته الكئيب في أرواح البشر.
أعادته إلى مكانٍ أخر، حملته إلى شيء ما قد أراد أن ينساه.. يعود حيث أتى، يعود إلى البداية، حين كان ولم يكن هو.. أشبه بالمؤامرة، الغيمة ترحل والقمر يتوه والرمل ينقلب ورائحة البحر لا تحمل سوى الماضي.. وتخلق في نفسه طعم العودة، هي لا تشبه شيئاً، لا تشبه سوى نفسها.
يشتم رائحة الموت، من عنق زجاجة النبيذ المنطفئة بجوار صورة عائلته، هذا هو وهذه زوجته وولديه. الإطار الخشبي يخرجه من إطار المكان، العبق بعبثية الماضي، تشده ذكرى حبه الأول إلى المقعد الأخضر الحديدي حيث طبع هيامه هناك، وعشقه المراهق المجنون، ورغباته المستترة في جزيئات الوردة الحمراء، تسحبه القبلة الأولى من هدوئه المفتعل، وترميه في سياق العودة إلى التاريخ، في قطار الماضي.. العنف والألم واللذة صاحبوه في تلك اللحظة.. اللحظة الأولى.. لا تنسى.. ولا تذكر إلا مع رائحة النبيذ!
رائحة الحزن تدق الباب الرئيس للذاكرة، فيوجه نظره إليه، يتردد في التقدم، فتلفته صورة عرسه ويداه تلفان خصر زوجته، كأنه يخنقها من وسطها، يسقيها شراب الهوى المفعم بالحقد، فهو لا يحبها، لا يهواها لا يعشقها.. أرادها غصباً. ببداهة وسرعة الثمل يصحح لنفسه: "أرادوها لي غصباً".
ما بين الأولى والثانية سطر عميق ترقص الذاكرة عليه شامتة ويدنوا العاشق من تلة البحر لامحاً قلبه يمطر دم فؤاده.. ويشتعل في جسده الصمت الهائج. والركود المفروض على قلبه ينتفض.. فيصرخ صامتاً محطماً قضبان القدر في هدوء باذخ..
يعود إلى الكنبة، فقد أرهقته الذكريات العائدة، بعد سفر طويل.. يستدير كي ينام..
في برهة تستفيق من تحته الأريكة، وتحمله كفوفها على أرجوحة الزمن المضمورة في خزانة الذكرى، تروح به إلى حفرة وضع فيها جسداً أبيضاً، فارغاً وجامداً كتب القدر على رخامها "أخاك" و تجيء به إلى صيحات الثكلى "زوجة أخيك" واليتامى "أولاد أخيك".. صراخ وبكاء ونحيب، ورجل يشبهه تماماً يأخذ كفاف يومهم ويسير في طريق الضباب ضاحكاً، يرى نفسه في هيئة ذلك الرجل: سارقاً، يرى نفسه ينتهك حرمة أخيه الغائب، يسرق منزله وجسد إمرأته وقوت أولاده، ويسير في طريق الضباب... وأصوات البكاء تعلو لتملأ الفضاء الفارغ صدىً وأزيزاً يخرم الحياة ويثقب الموت.. فيجعل من نساء الأموات حمال صليب، يطفن به أزقة القهر والعذاب والبحث المرير عن معيل.
يخال نفسه هو السارق، يرى نفسه فيه وكأنه هو، وكأنه يستعيد الحدث، وكأنه فاعله، لكنه لم يسرق ولم ينتهك ولم.. ولم!
الوجع المتنامي في جسده الثمل يسقطه من على الأرجوحة، ينهضه من كابوسه، من عودة الماضي الأليم، من حقيقة الحدث الذي صار، وتفوح من جلده رائحة الندم، تشعل بين يديه سيجارة ينفخ فيها عذابه عله يشفى من تداعيات الأرق، ومن تداعيات الظلم الذي أحدثه في أخوه وعائلته ونفسه!.. فيختنق برائحة ظلمه وظلامه..
يركض مستغيثاً بالبحر، مخرجاً رأسه المليء بالذكريات المتفجرة من فتحات النافذة، فيبصر البحر، واهماً، هائجاً غاضباً، يلعن البشر والظلم ويعِيد بعقابٍ لم يألفه من قبل إنسان..
يهرب من جديد من أمواج البحر، إلى أي مكان، أي ركن، أي شيء..كالمجنون يجول في المنزل يصطدم بكل شيء، في الطاولة والكنبة و جروح الجسد وذاكرته و ثنايا الروح وأبعاد العذاب وتشعبات النار الحارقة..
يتوقف الوقت:
يغوص في نفسه، يذوب في أطرافه، يمسح ذنوبه بعرقه، يعود طفلاً، إلى أحشاء أمه، فتختفي الذنوب، تختفي النقاط السوداء التي سطرت حياته، تذوب في بياض الطهارة والبراءة والخلق...
يعود الوقت:
ينكسر الحلم، يرمم الكابوس نفسه ويعود إليه!
ترن ساعة الثالثة فجراً لتنبهه إلى أنها تقضم عمره ثانيةً ثانية، و تقصر عمر الليل، فلا مجال للتخاذل والتصارع، الوقت لا يرحم، والساعة لا تتوقف ولا شيء يوقفها.. فهي مستمرة في تقصير الأعمار وإنهاء الليل!
شيء ما خلف الجدار، أحس بهذا، وتقدم نحوه فسمع حفيف الأوراق ينتفض من أيادي الأشجار ويطرق بقوة على الجدران، فيقرأ بين تقطيعاتها قهر ولده وعذابات أبنته.
تحلق الورقة الخضراء وتحط على روحه راسمة جسد إبنته، الذي صار لوحةً سوداء مقطعة بخطوط دمٍ حمراء.. وصفعات ألم تلف خديها الحريريين.. وسوط كتب عليها آيات الكفر الشيطاني.
يذوب رأسه بين يديه ويختفي جسده الضرير في مساحة الموت الضيقة، بين عقارب الساعة وعقارب الحياة..
ورقة أخرى تنفك عن أمها وترطم رأسه بصورة ولده المرمي في مكعبٍ حديدي كتب عليه "رغبات والدي وطموحاته" فيستوي في ناره والسقوط الناري لأحلام إبنه الوحيد..
يدخل سريره كي ينام، هرباً من نفسه وضربات الضمير المتسارعة، فتسرقه نظرات أمه المحدقة من خلف الصورة، المرمية في مدافن الموت، متعفنة الجسد والروح. هو الذي قتلها.. لا! هو الذي أودى بها إلى الموت، كان عاقاً على أهله وأمه التي أطعمته حناناً وعطفاً، طفلاً ورجلاً.. رماها كأنها غريبة عنه، وكأنه غريب عنها، كأنه ليس من جسدها ومولود رحمها.. رحلت متألمةً من طيشه وقلة وفائه.. رحلت دون علاج.. فــ"الطبيب غالي الأجر": قال لها!!
تفرش الدموع بساطها على خديه، تلين جفاف العواطف وجمودها السابق، فتصنع من هذا الرجل عجينة طرية تتحكم بها ذكرياته العائدة من البعيد.. من خنادق الماضي.. فيبكي روحه وجسده، يبكي أمه وأبيه وشقيقه وزوجته وحبيبته وأولاده.. يبكي الكل، يبكي الجميع، فيفتح في جسده جرحاً ويدفن فيه رأسه..
ينظر خلف الزجاج، فيرى شقوق الشمس بدأت بالبزوغ.. والسماء إستعادت نورها، والليل رحل.. ولكنه سيعود، سيعود حتماً بعد كل نهار..
أما هو فيحني رأسه للموت ويبتسم سراً.. ويمضي خلف ذاك الظل.