السبت ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم كمال عيسى

شيئ من العقل

لم يكن أبو القاسم الشابي مجنونبا ولا معتوها عندما أطلق صرخته في وجه العالم :

إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر، لكن هذا البيت الشعري ذو المعاني الرصاصية الذي ضربنا في المدارس الإكمالية لنحفظه ونحفظ كل معنى من معان كلماته، نراه اليوم وكأنه يتبخر مع تصاعد موجة من الكتابات السلبية، والتي تجد لدى معظم مثقفينا الأرض الخصبة لزرعها والإعتقاد بعدم وجود البديل الجيد لها.

إن ما تطلع علينا به الجرائد يوميا، وما تكتض به رفوف المكتبات أصبح كالسيل الجارف، يجرفنا إلى قاع التشائم والخوف، ويلبسنا ثوب الإستسلام والقناعة الكاذبة بنهاية التاريخ، وربما العالم، والإتكاء على القدر المحتوم كذريعة حمقاء لتبرير مالا يبرر من وضع مشين نعيشه جميعنا.

نعم، لا يختلف إثنان في كون أننا نحيا في عصر كثرت فيه المظالم وأصبح فيه الحق مهدورا، لأننا نشهد عصرا إختلت فيه موازين القيم، وتحول الحق إلى ناطق رسمي بإسم القوة، ولأن القوة غالبة فإن الإذعان لها هو إذعان لمنطقها في تفسير الحق، بيد أنه من السهل جدا الإطناب في ذكر كل عيوب العصر، والسير قدما دون أن يعترضنا أحد في وصف تفاهتنا نحن كعرب ولا معنى لوجودنا أصلا كشعب، أقول من السهل فعل ذلك، وهو ليس عيب، لكنه أيضا، ليس الطريق الأسلم والأنسب الذي تستوجب علينا عقلانيتنا غير المتطرفة السير فيه.

وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال مهم يبحث عن إجابة دقيقة وصريحة، وهو: هل دور النخبة في أي زمان ومكان هو تعرية الواقع أم تغييره؟

لا ريب أن الإجابة تكون إعتباطية ومهزوزة إذا لم ترتبط بقراءة تاريخية لمسار التحول الإنساني، بدء من طبيعته البدائية أو ما قبل إنسانية، وانتهاء بحدود التحول الأكبر، أو عصر الحداثة وتبعاتها ما بعد إنسانية، وهذا يسمح لنا بتجاوز نظرتنا الضيقة للأشياء وفهم حقيقة النخبة وإخفاقاتها في البلاد العربية.

هناك حقيقة كونية هي التي تلف وجودنا بروحها، وتبعث فينا اليقين بأن العالم منذ الأزل وإلى الأبد يسير في حركة دؤوبة من حالة الفوضى اللامتناهية إلى حالة من الإنتظام النسبي ، وأن انسياب الخطيئة هو الذي يجعلنا ندرك الخطأ ونجتهد في تجاوزه، ويمكننا القول أننا كبشر وجدنا من خطأ، إذ لم يكن بوسعنا أن نتواصل في راهننا لو لم يخطأ آدم عليه السلام بمعصيته لله، وما كان لنا أن نتعلم معنى جريمة القتل بوصفها أعظم خطأ يهدد وجود الإنسان لو لم يقتل قابيل أخاه هابيل، ومن ثمّ يتعرى الإنسان أمام مرآة الوعي، فيكتشف أنه مقيد بقيود الجهل، هذا الأخير هو العدو الأكبر الذي يصبح محط إهتمام كل الديانات والرسل، ومن بعدهم نشوء ما يطلق عليه بالفكر الفلسفي، واشتغال كل الفلاسفة إلى اليوم في فضح مكامنه وتفكيك بنيته.

لكن، ما هو هذا الجهل ؟ إنه بإختصار ذلك المستوى من الإدراك القاصر والتصور السحري، الذي يعتمد على أدوات غير عقلية لمعرفة كنه الأشياء وجوهر الحقائق، فيتموضع في حلقات الوعي الزائف، ويرهن مصيره الوجودي له، إلى أن تصبح كل تصوراته وعوائده وسائر أحواله مطبوعة به.

إن الجهل يشدنا إلى الأسفل، وهو بعكس العقل الذي هو إرتقائي، وصفة الجهل تعني غياب كلي أو جزئي لنشاط العقل وأبعاده المعرفية، تلك التي تعيد صياغة المصير الإنساني وتحدد آفاق وجوده في المستقبل بشكل مستمر ودائم، فلا معقولية العقل أو جهله يفرضا علينا قيودا من داخلنا إتجاه العالم الذي يحضننا والأحداث التي تتقاطع مع سيولة الزمن، وبالتالي تكون ردود أفعالنا وفقا لذلك سلبية حتى لا نقول معدومة.

لقد كانت النقلة النوعية بداية بفهم الإنسان عبر الرسالات السماوية ومخزون خبرته التاريخية لهذه المسألة، وكان الحدث الأكبر بعدها ذلك التحول الفكري الذي قاد إلى إظهار أن التاريخ هو عبارة عن سيرورة، أو بعابرة أكثر دقة، للتاريخ مسارات تحكمه، وتفسره مجموعة عوامل ملموسة طبيعية كانت كالمناخ والكوارث، أو إنسانية، مثل الحاجات الإقتصادية، والحروب والصراعات التي تنشب لأسباب مذهبية أو عرقية أو قبلية أو غيرها... وبهذا إنتفت الصبغة الأسطورية التي كانت تصبغ معرفتنا للتاريخ البشري، ولم يعد يعتبر سوى حركة تطورية! مستقيمة تتحكم فيها مجموعة من العوامل الداخلية.

هذا الفهم الحديث للتاريخ أعطى تصورا مغايرا لنشاط الفكر، وفتح بذلك مجالات ظلت مغلقة لوقت من الزمن ليس بالقليل، حيث بدأ الإهتمام بالإنسان يأخذ مجرى آخر وينصب عليه في كونه فاعلا في العملية التغييرية لا مجرد عنصرا من عناصرها فقط، وهذا يعني أن الإنسان أصبح مركزا مرجعيا للنظر والفعل، وإرادة فاعلة بعمق رؤيتها المعرفية، فالإنتقال من وضع إلى وضع آخر أحسن يرتبط طرديا بحجم وعمق المعرفة المكتسبة، فمارتن هايدجر في هذا الإطار يوضح لنا أن المصادر التاريخية لثقافة ما ومجتمع ما تتحدد سلفا بفهم أوسع لما يحصل في العالم، وتبعا لذلك يكون توجه مجموعة بشرية معينة نحو وجهة بذاتها مرهون بهذا الفهم وحده.

وحتى وإن كان هايدجر يبني رؤيته هذه ضمن مشروعه النقدي الذي تبناه في مؤلفه الهام ’ الكون والزمان ’ الذي نشره سنة 1927 فإنه لا ينفصل في جانبه الأكثر أهمية عن تلك النتيجة التي حركت الجهد البشري في لحظاته الزمانية العظيمة نحو تنقية الفكر من الشوائب التي جعلته يكبل نفسه بأغلال الوصاية التاريخية وينطلق بحرية نشطة للكشف عن العوائق الإبيستمولوجية الحائلة دون رؤيته لعيوبه المنهجية.

وبالرغم من أن الثورات المعرفية الكبرى في أوروبا منذ القرن الماضي، أحدثت خطا نقديا شديد اللهجة يشكك في الإستناد المفرط لسلطة العقل والعقلانية، ويضع منهج الشك الديكارتي نفسه في موضع شك، من خلال تبلور رؤية معاكسة تعتبر أن الذات في سياق سيطرة العقلانية قد تم إستلابها وجردت من مقومات وجودها الإنساني ، وأنها في حقيقتها هي ذات غير عارفة بذاتها، تتحدد أصلا بالبنيات المختلفة والمتداخلة لجميع الأصعدة النفسية والإجتماعية والإقتصادية، وبناء عليه، تصبح في وجهها ما بعد الحداثي عبارة عن حصيلة للتفاعلات! الداخلية والخارجية لها، فإن ذلك كله، لم يلغي الدور المحوري للإنسان في تشكيل المصير، ولم يستبدل العقل والوعي العاقل باللاعقل – وإن كان هذا الأخير لا يلغى من المعنى الإنساني في عمومه - ، إنما سعى النموذج الجديد ’ LE NOUVEAU PARADIGME’ تحت تأثير التطور الذي عرفه علم الفزياء المعاصر، من حيث إعتبار العالم المادي كما يؤكد أستاذ الفزياء النظرية في جامعة فيينا فريتيوف كابرا، ليس بمنظومة آلية ( ميكانيكية ) من أشياء منفصلة بعضها عن بعض، بل تبدو في الواقع كشبكة معقدة من العلاقات تعتمد على التعالق والتواكل والطبيعة الدينامية للظواه! ر الفزيائية كلها، أقول، سعى إلى إيجاد مفهوما آخر للعقل يتجاوز المنطق ا لذي كان سائدا والذي يرى بأن العقل والمادة ينتميان إلى مقولتين منفصلتين، فأصبح ينظر إليهما بوصفهما يمثلان مجرد سمتين للظاهرة نفسها وبهذا إنتفت الثنائيات الميتافزيائية التي شكلت التناقض الحداثي بين الجانب العقلي والجانب الروحي.

هذا ما جعل المنظومة الحداثية في طبعتها الجديدة تراجع نفسها ومقولاتها،وتعيد بناء عطاءات فكرها ليتلائم مع المعطيات العصرية والمشاكل التي يواجهها التطور الإنساني اليوم، في محاولة جرئية للبحث عن ’ المقصى ’ الذي أدى إلى غياب أو تغييب الغايات الإجتماعية والشعورية للمجتمع لصالح غايات إقتصادية صرفة، مما تسبب - على حد تعبير – عالم الإجتماع الفرنسي ألان تورين في كتابه الأخير ’ نموذج جديد : من أجل فهم عالم اليوم ’ في إكتساح اللاإنساني وما فوق الإنساني لعالم الإنساني، الأمر الذي يجعل العالم بالنسبة للعديد من الأشخاص من دون معنى، وينتج عنه كره الذات والمحيط.

قد يبدو هذا العرض للوهلة الأولى أنه يخط مسارا خاج المسار الذي يفترضه الطرح السالف للسؤال، لكنه في الواقع لا يحيد عنه قيد أنملة، ذلك أننا لا نأخذ بالحقائق التاريخية من حيث مظهرها، إنما – وهذا هو الأساس – نجترح الجوهر الكامن فيها لفهم تحولاتها، وهذا يجعلنا نؤمن بأهمية الدور القيادي للفكر الحامل لمشعل التغيير، ونفهم بأن تعرية الواقع التي تقف عند حدود البكاء لايمكنها أن تصنع المستقبل، والفكر الإنساني بمختلف مشاربه الشرقية والغربية ماكان ليقف بالإنسان في دائرة الحضارة – على اختلاف آرائنا حولها – لو كان سلك سبيلا آخر غير الرغبة في تغيير الواقع من حسن إلى أحسن.

إن نظرة واقيعة لثقافتنا العربية المعاصرة تظهر مدى غورالشرخ الذي أصابها في الصميم، فعلى مدى عقود طويلة لم ننتج في الغالب غير البكائيات، ونادرا ما نجد وسط العويل المتصاعد أصواتا تملك قدرا من إحترام الذات تشكل الإستثناء الذي يخرج عن القاعدة، فالمألوف لدينا أن النخبة هي الفئة أو الطبقة التي تقوم بدور التكوين والتفكير، وحين نقول هذا نعني بأن النخبة يفترض فيها الإدراك الواعي للتاريخ ومساراته والعوامل المؤثرة في تغييره كلية أو وجه من وجوهه، لكن حقائق ال! واقع تظهر لنا إنقطاع الفكر عندنا عن عالمه، أو فهمه بصورة عكسية، بمعنى أن الطبقة المثقفة أصبحت تجتهد في وضع الفوارق بين الفكر كعملية عقلية إجتهادية والقيادة بوصفها رابطا بين ما هو متخيل وما هو واقعي يخضع لسنن الفعل.

وهكذا أصبحت هذه النخبة تموضع نفسها في خدق معزول، لا تبادر إلى هدم الهوة التي تفصلها عن الجماهير، بل إن الجفاء الحاصل بينهما إزدادت حدته في مطلع هذا القرن، فالجماهير العربية تعتبر أنها تجابه تحديات الواقع من غير نخبة شجاعة ترشدها، والنخبة ترمي بكامل اللوم على الجماهير التي لا تفهمها ولا تقدر عطاءاتها، وفي الوقت الذي أصبحت مشاكلنا لا تأتينا فرادى بل جمعا، نجد الحديث الأكثر إنتشارا هو الحديث المتشح بالحزن و السواد، وهذا يذكرنا برأي – في موضوع آخر – أورده منذ ما يزيد عن هخمسين عاما المفكر الأمريكي تشارلز فرنكل في كتابه ’ أزمة الأنسان الحديث ’ يقول: ’ يبدو لي أن الشعور الحالي بالكآبة والقلق تجاه ال! حياة والكون، وهو وليد فلسفة لما وراء الطبيعة تجعل من الألم والخطيئة، وأسرار الغيب ومرارة الهزيمة، مخططا للكون ومفتاحا للتاريخ هو الذي جمد الخيال الليبرالي وعطله’، هذا الرأي يتوافق مع الصورة التي تظهر بجلاء ثقافتنا، خاصة منذ الهزيمة التاريخية سنة 1967 ، فمما لا شك فيه أن الفكر العربي قد فقد الخيال المبدع الذي رافقه مع بدايات النهضة والذي كان يمده بإرادة قوية والأمل في تجاوز محنة التخلف الحضاري.

إن العائق الذي يحول دون خروج الفكر من حالة الجمود إلى حالة من الحركة الفاعلة يعود في الأساس إلى تلك النظرة التي نجدها متمركزة في سجله، والتي كانت سندا لأنشط حواراته، إنها نظرة دونية للمجتمع تعتقد بقرب موعد انتهاء صلاحيته تماما كما لو كان سلعة تحكمها قوانين الإهتلاك الإقتصادي، وإنطلاقا من هذا، فهي تبحث عن بديلا آخر من نماذج جاهزة تستبدله بها، لا أن تعمل بما تتيحه لها إمكانياتها لإصلاح ما أفسده ضياع حاضره بين العودة إلى الماضي والذهاب إلى المستقبل، وجلي أن البحث عن مخرج للأزمة المتشعبة التي تدير حياتنا في العالم العربي لا يمكن الوصول إليه عن طريق التصور المتماهي إما في الأنا أو! في الآخر، وهذا لسبب بسيط، وهو أن الحاضر العربي يمتلك خصوصية تتشابك فيها التأثيرات الثقافية والغيرية وتراكمات ثقيلة لموروث يمتد إلى العصر الجاهلي .

وزيادة على ذلك، فإن النظرة الدونية للمجتمع ، توحي بالتعالي عليه وتمارس خطابا يجعل أمر تخلفه رغبة ذاتية وليس إكراها له عليه، ويضع الفعل والفاعل والمفعول في سلة واحدة، وعليه، تعطي تلك الخطابات لنفسها الحق في سوط الجميع بنفس القدر، وتغفل في غمرة ذلك أن تراجع طروحاتها وتبحث عن العلة التي حاكت هذا الإٌنقطاع بينها وبين الجماهير من جهة وأدت إلى بقاء المجتمع في حالة سكون وتأزم من جهة أخرى، ومن وجهة نظر شخصية أرى أنه لايمكن أن ننتظر من المجتمع التحرك باتجاه التغيير الحضاري في غياب حقيقي لقيادة فكرية تؤمن أولا بفكرة التغيير كموضوع مرتبط بقابلية دفع ثمن المطالبة بها، وتملك ثانيا بعدا للنظر يمكن على ضوئه القيام بتخطيط جيد يحيد عن الدخول الممل في حقل! التجارب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى