شيخ الإشراق السهروردي، ضحية عصره
الصوفية؟
تتعدد التعريفات حين تتعلق بتعريف الصوفية، فنجد مثلا:
في موسوعة (ويكيبيديا): " الصوفية أو التصوف هو مذهب إسلامي، لكن وفق الرؤية الصوفية ليست مذهبًا، وإنما هو أحد أركان الدين الثلاثة (الإسلام، الإيمان، الإحسان)، فمثلما اهتم الفقه بتعاليم شريعة الإسلام، وعلم العقيدة بالإيمان، فإن التصوف اهتم بتحقيق مقام الإحسان، مقام التربية والسلوك، مقام تربية النفس والقلب وتطهيرهما من الرذائل وتحليتهما بالفضائل، الذي هو الركن الثالث من أركان الدين الإسلامي الكامل بعد ركني الإسلام والإيمان، وقد ابن عاشر في منظومته (المرشد المعين على الضروري من علوم الدين)، وحث أكثر على مقام الإحسان، لما له من عظيم القدر والشأن.".
وعند أحمد بن عجيبة :" مقام الإسلام يُعبّر عنه بالشريعة، ومقام الإيمان بالطريقة، ومقام الإحسان بالحقيقة. فالشريعة: تكليف الظواهر. والطريقة: تصفية الضمائر.
والحقيقة: شهود الحق في تجليات المظاهر. فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده، والحقيقة أن تشهده". وقال أيضاً: "مذهب الصوفية: أن العمل إذا كان حدّه الجوارح الظاهرة يُسمى مقام الإسلام، وإذا انتقل لتصفية البواطن بالرياضة والمجاهدة يُسمى مقام الإيمان، وإذا فتح على العبد بأسرار الحقيقة يُسمى مقام الإحسان".
وعند الأستاذ محمد شودب يمكن تعريف الصوفية على أنّها مذهب من المذاهب الإسلاميّة وسبيل يسلكُهُ العبد ليصلَ إلى الله تعالى، والمقصود بالوصول إلى الله أي معرفة الله تعالى، فهو مذهب يُعرّف العبد على ربّه ويُقرّبه إليه باتباع مناسك خاصّة بالصوفية كالحضرات وحلقات الذكر والزهد وغير ذلك.
وبالإجمال يمكن تعريف الصوفية لغة بأنها نسبة إلى لبس الصوف، فمن الشائع عند الصوفيين أنّ لبس الصوف يُعتبر نوعًا من التقشّف والزهد وتعذيب النفس، ويعتبرونه نوعًا من أنواع التقرّب إلى الله، وبأنّهم بهذا يتّبعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
أما اصطلاحا فالصوفية طريقةٌ حديثةٌ ابتدعها مؤسسوها للتعبّد، وكان الأصل في التعبّد في بداية نشأة هذه الطائفة الإفراط في الزهد والتقشف، والامتناع عن ملذات الحياة كالزواج وغيره، سعيًا للوصول إلى الحقيقة المطلقة، والحقيقة المطلقة التي يسعون للوصول إليها هي الله –عز وجلَ - إلّا أنّ الغالب على أتباع هذه الطائفة هو الغلوّ في التقشّف وهجر ملذات الحياة الدنيا، والتفرغ بشكل كاملٍ إلى التعبّد والتقرّب إلى الله، بطرُقٍ تختلف من فرقة إلى أخرى من فرق المتصوفة.
السهروردي/الرحالة في سبيل المعرفة:
ولد شهاب الدين يحيى السهروردي أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي سنة 1155 م في بلدة سهرورد، وفيها تلقّى معارفه الأولى الدينية مكنها والفلسفية والصوفية، لكنه لم يكتف فسعى بين البلدان يستزيد من المعرفة التي كانت ضالته.
لم يكن السهروردي طالب معرفة سهل الإقناع، يكتفي بما يلقَّنه، بل كان في رحلاته يسعى للاستخبار عن مطلع العلوم، ويبحث عمن عنده خبر العلوم الشريفة، في سبيل هذا البحث المضني تنقل السهروردي بين مراغة وأصفهان والشام وتركيا، وكان كلما حل ببلد بحث عن العلماء والحكماء فيه فأخذ عنهم وصاحب الصوفية وأخذ نفسه بما كانوا يمارسونه من مجاهدات ورياضات روحية.
بقي السهروردي رحالة ظامئا يبحث عن نبع المعرفة، حتى استقر به المقام بحلب حيث سيلقى مصيره سنة 1191 م.
السهروردي وفلسفة الإشراق:
فلسفة الإشراق: تقريب للمفهوم.
يُعرف الإشراق (Illumination) تعريفاً عاماً بأنه: «ظهور الأنوار الإلهية في قلب الإنسان الصوفي (العارف)»، وذلك هو برهان التجربة الصوفية في أدنى مظاهرها.
وبعيدا عن التفاصيل الفرعية، فإن الصوفية، على اختلاف مشاربهم، يُجمِعون على العناصر الأولية نفسها للتجربة الصوفية وهي: (التصفية أو التجريد = محاربة الشهوات)، و(الكشف أو المشاهدة أو الفتح= شروق الأنوار)، و(العشق والفناء = فقدان هوية العارف في الذات الإلهية)، وهذا هو الإشراق بمعناه العام.
والإشراقية قديمة تبدأ من الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي قال إن العالم ما هو إلا فيض عن العقل الأول (العقل الفعال). أما في صورتها الإسلامية، فإنها تعود إلى حكمة المشارقة أهل فارس، وهي تعني “الكشف”، وبعبارة أخرى الإشراقية الإسلامية تعني الوصول إلى المعرفة الحقيقية عن طريق الذوق والكشف، وليس عن طريق البحث والبرهان العقليين.
والذي يميّز هذه المدرسة عن غيرها من المدارس اعتمادها في تحصيل معارفها على عدة أمورٍ: الأول: العقل والاستدلال المنطقيّ والفلسفيّ، والثاني: الذوق الفطري وصفاء الباطن، والثالث: اعتمادها على ظواهر القرآن الكريم، والسنة، والرابع: سعت هذه المدرسة لتقدّم رؤيةً كونيّةً، عن الوجود والكون والله والآخرة. وعلى هذا تكون هذه الفلسفة قد مزجت بين العقل والشهود والقرآن والسنّة.
فلسفة الإشراق عند السهروردي:
سعى السهروردي إلى وضع نهج بديل للواقع، مشككاً بالأطر الرسمية للميتافيزيقا ولنظرية المعرفة عند ابن سينا، رغم أنه كان قد نشأ هو نفسه عليها. تصور السهروردي عالماً حيوياً لإشعاعات متعددة مصدرها بعيد وهو "نور الأنوار أي الله، والتي تقع بدرجات وقوة مختلفة على المادة الغامضة. عٌرف نهجه فيما بعد باسم مذهب الواقع الأساسي (أصالة الماهية)، كمقابل للواقع الأساسي للوجود (أصالة الوجود).
إن النفس البشرية – عند السهروردي – مادة مضيئة، بل هي النور المرشد، حسب مصطلح الإشراقين وهذا المجال من المعرفة المعروف بالعلم الحضوري، يعد من إسهامات السهروردي في تاريخ الفكر الإسلامي.
وبالنسبة إلى السهروردي لم يكن الإشراق يعني الذوق والكشف فقط وإنما ذهب به إلى أن " الله نور الأنوار" ومن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالمَين المادي والروحي.
وأضاف: أن " النور الإبداعي الأول" فاض عن" الله/ نور الأنوار" وتصدُر عن النور الإبداعي الأول أنوار طولية سماها " القواهر العالية" تصدر عنها بدورها أنوار عرضية سماها "أرباب الأنواع " تدير شؤون العالم الحسي، فابتدع السهروردي عالماً أوسط بين العالمين العقلي "نور الأنوار" والعالم المادي سماه "عالم البرزخ" و"عالم المُثل" وهو ما يذكّر بعالم المُثل عند أفلاطون.
لقد استطاع شهاب الدين السهروردي الجمع بين العلم والذوق بين العقل والقلب، فكأنما جمع أفلاطون مع هرمس.
نخلص من هذه الإشارة الإشراقية في فلسفة السهروردي المقتول إلى أن الإشراق عنده يعني انبثاق النور. إذ يرى بعض الدارسين إنّ سبب ذلك هو أنّ العلم نورٌ يُشرق في قلب العارف، فالقلب مثل المرآة المجلوّة المصقولة، محاذياً للّوح المحفوظ وما عليه من العلوم والحقائق الإلهيّة، فكما لا يمكن أن يكون شيء محاذياً للمرآة المصقولة ولا يؤثر فيها، فكذلك لا يمكن أن يكون شيءٌ محاذياً للوح المحفوظ وهو لا يرى في المرآة القلبيّة الصافية.
لذلك كانت الدعوة إلى تطهير القلب من أدران الذنوب، وصقل النفوس من الشذرات والصغائر الدنيويّة لتشرق العلوم والمعارف في القلوب، فتطّلع على حقائق الأشياء.
وقد لخص الأستاذ محمد شودب في مقاله المعنون ب (نبذة عن حياة السهروردي) فكر السهروردي الجامع بين الصوفية والتفلسف قائلا: " كان السهروردي مهتمًّا بفلسفة الإشراق التي تُقرّبه من عالمِهِ الصوفيِّ أكثر من اقترابِهِ من الفلسفة، بيدَ أنّه استطاع أن يجمع بين التصوّف والفلسفة في عالمِهِ الخاص الذي لم يوجدْ عند غيرِهِ، وهذا من خلالِ تقسيمهِ الحكمة إلى قسمين بحسب رأيهِ:
الحكمة البحثية: وهي قائمة على الدليل الملموس، وتعتمد بشكل كبير على العقل والبرهان وهذه الحكمة التي أخذها من الفلسفة.
الحكمة الذوقية: وهي قائمة على الإحساس والتخيّل، وهذه الحكمة التي أخذها من دراسة الإشراق والفلسفة الإشراقية الإسلامية، وهي تفتقر لعامل البرهان والعقل. لذلك كانَ السهروردي جامعًا للحسّ والتجريد، مؤمنًا بحاجة الإنسان إلى الحكمة الذوقية القائمة على الإيمان الروحي البعيد عن العقل والبرهان والدليل، وحاجة الإنسان إلى الحكمة البحثية القائمة على العقل والبرهان."
نهاية السهروردي:
وأمّا في قصة مقتلِهِ، فنورد ما كتبه فخر الدين مارديني حيث قال: "فلمَّا فارقنا شهاب الدين السهروردي من الشرق، وتوجّه إلى الشام، أتى إلى حلب، وناظر بها الفقهـاء، ولم يجارِهِ أحدٌ، فكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف بن أيوب واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحَسُن موقعه عند الملك الظاهر، وقرّبه، وصار مكينًا عنده، مختصًّا به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيّروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك، وكذلك إن أُطلق فإنَّهُ يفسد أيَّ ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك". ويتم ابن أبي أصيبعة هذه القصة المؤلمة قائلا: "إنَّ الشهاب بحث مع الفقهاء في سائر المذاهب وعجزهم، واستطال على أهل حلب، وصار يكلّمهم كلامَ منْ هو أعلى قدرًا منهم، فتعصّبوا عليه، وأفتوا في دمه، حتى قُتل".
ويزيد الأصفهاني في كتاب (البستان الجامع) فيقول ما معناه: بعد أن ازدادت أحقاد فقهاء حلب على شهاب الدين أقاموا له مكيدة فدعوا إلى مناظرة علنية في أحد جوامع حلب وسأله أحد فقهائها: "هل يقدر الله أن يخلق نبيا آخر بعد محمد؟" فأجاب السهروردي: " الله لا حدّ لقدرته".
فاجتهد الفقهاء أعداؤه وتأولوا في إجابته أن السهروردي يجيز خلق نبي بعد محمد، فشكوا “كفره وخروجه عن الدين وطالبوا بقتله” إلى ابن صلاح الدين الأيوبي فردّهم فرفعوا الأمر إلى والده فأرسل لولده رسالة تشير عليه بقتل السهروردي، وهذا ما كان.
ولهذا قُتلَ السهروردي باختلافِهِ مع هؤلاء اختلافًا فكريًّا إذ كانَ يكشف جهلَهم وقلّة علمِهم، حتّى لم يجدوا بدًّا من التخلّصِ منه جسدًا، لكنه بقي فكرا ومدرسة.
وقد اختلفت الروايات حول طريقة مقتل السهروردي، فمنها من قال بموته مسجونا، ومنها من قال بأنه هو من اختار طريقة موته، وأنه اختار الموت جوعا، فذُهب به إلى صحراءَ قاحلةٍ وتُرِك هناك حتى مات.
وقد ذكرتني هذه الرواية بموت طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي الذي ذهب إلى حتفه بقدمه.
ماذا بقي من شيخ الإشراق؟
اهتم المستشرقون بالسهروردي المقتول باعتباره صوتا صوفيا متميزا ومرآة مجلوة تكشف صفاء الروح داخلها، وعقلا بَزَّ عقول فقهاء عصره وجعلهم يضمرون له الحقد والضغينة.
ومن ضمن من اهتم بشيخ الإشراق نجد المستشرق ماسنيون الذي يقسّم كتب شيخ الإشراق طبقا لثلاث مراحل من حياته الفلسفية، صبغت كل مرحلة من هذه المراحل مواقف السهروردي وتفكيره بصبغة معينة، وجعلها كالتالي:
القسم الأول المتعلق بمرحلة الشباب، وكتب فيها السهروردي: الألواح العمادية، وهياكل النور، والرسائل القصيرة.
القسم الثاني المتعلق بالمرحلة المشّائية وكتب فيها: التلويحات، والمقاومات، والمطارحات، والمناجيات.
القسم الثالث وهو ما يتعلق بالمرحلة السينوية الأفلاطونية، وفيها صنّف السهروردي: حكمة الإشراق، وكلمات الصوفية، واعتقاد الحكماء.
إلا أن محاولة أستاذ الأدبيات البروفيسور هنري كوريان، نقلت الدراسة من مرحلة البحث التاريخي إلى مرحلة البحث في فلسفة شيخ الإشراق ومحاولة الكشف عن التطورات التي مرّت بها فلسفته منذ مراحل التعليم الأولي في مراغة، وحتى اكتمال منهجه وتوفره على مجمل آليات الجدل في حلب.
ملحوظة:
لم أقصد أن أكتب دراسة أكاديمية عن السهروردي ولا أدعي قدرتي على فعل ذلك، وإنما قرأت عن شاب رفض الخضوع لرأي شائع فتمرد عليه وناظره وأفحمه، فكان عقابه الموت.
أحببت أن أذكر الناس بأن اختلاف الرأي من محركات التقدم والتطور والسير نحو أفق مُضاء لا مظلم.
استفدت من كتابات أساتذة أجلاء، بل وأخذت من كتاباتهم ما رأيت أنه يفي بالغرض أفضل مما قد أتجرأ وأضيف.
ذ. محمد رشد (تحت الحجر الصحي)