صبري موسى وفساد الأمكنة
يعد الكاتب المبدع صبرى موسى من الكتاب المتميزين وأذكر خلال دراستي الجامعية قمت بشراء روايته فساد الأمكنة وعندما عشت معها وجدت عظمته الأدبية ففي ربيع عام 1963 أمضى المبدع صبري موسى فى جبل الدرهيب بالصحراء الشرقية قرب حدود السودان ليلة خلال رحلته الأولى فى تلك الصحراء وفى تلك الليلة ولدت فى شعوره بذور تلك الرواية ثم رأى الدرهيب مرة ثانية بعد عامين خلال زيارة لضريح المجاهد الصوفى أبى الحسن الشاذلى المدفون فى قلب هذه الصحراء عند عيذاب فأدرك أنه فى حاجة لمعايشة هذا الجبل والإقامة فيه إذا رغب فى كتابة هذه الرواية ثم وافقت وزارة الثقافة على تفرغ المبدع صبري موسى من شهر نوفمبر عام 1966 إلى نوفمبر 1967 للإقامة فى الصحراء حول الدرهيب للتفكير ومحاولة الكتابة ولكنه بدأ فى كتابة رواية فساد الأمكنة عام 1968 ثم انتهى منها ونشرت مسلسلة في مجلة صباح الخير خلال عامى 1969 و1970 ثم تم نشرها فى العدد 204 من الكتاب الذهبى الذى صدر في شهر يوليو عام 1973 وفى عام 1974 فازت بجائزة الدولة التشجيعية كما فازت بجائزة بيجاسوس الأميريكية للأعمال غير المكتوبة بالإنجليزية وفاز الراوئي صبري موسى بوسام الجمهورية من الطبقة الأولى كما تم اختيارها ضمن أفضل 100 رواية عربية .
شخصيات الرواية نيكولا وماريو وإيليا وايسا ابشر وتدور أحداث رواية فساد الأمكنة حول رحالة إيطالي يضع رحاله في مصر ويدعى نيكولا وينبهر بالصحراء فيقرر الاستقرار بها حتى نهاية حياته وتكمن مكانة الرواية المهمة في الأدب المصري في كونها أول عمل فني يقع بالكامل في الصحراء بعد عقود من وقوع الروايات المصرية في الريف أو المدينة فهى تركز على حياة البدو والقبائل بدلا من التركيز على الصيادين والحياة الساحلية وتكمن حداثية الرواية في طريقة ربط الأحداث مع المكان حيث أن المكان يلعب دور كبير في الرواية حتى أنه يبدو كشخصية مستلقة بذاته ويفعل المبدع صبرى موسى هذا عن الطريق الوصف الدقيق للمكان وتفاصيله .
رواية فساد الأمكنة تصف الجبل بأنه يعود إلى آلاف السنين من تأثيرات الرياح وعوامل التعرية وهذه إشارة تحقق هدفين في سياق النص فهذا المكان قديم جداً قدم الأرض ذاتها كما أن تأثير آلاف السنين لا يتعدى إحداث نتوءات صخرية وتجاويف في حين أن سنوات معدودة من حياة الاستعماريين والاستغلاليين والطامعين في هذا الجبل فجرت فيه من خلال المواد المتفجرة سراديب وحفراً بطول آلاف الأمتار وهو الأمر الذي يبرز تعارضاً أو تبايناً بين أثر الطبيعة الهين على مدار آلاف السنين وأثر الإنسان المدمر على مدار سنوات معدودة كما تصف الرواية شخصية بطل العمل الراهب نيكولا بأنه لا وطن له وهو وصف يقوم على المفارقة لأن نيكولا ليس معدوم الجذور ولا الهوية المكانية فأصله من بلدة في القوقاز واستقر في تركيا حيث يعمل أبوه وفي إيطاليا حيث عمل هو لبعض الوقت وتزوج وأنجب ابنته وجاء إلى جبل الدرهيب في البداية بغرض التعدين والبحث عن المعادن النفيسة ومادة التلك ثم سحره المكان وأساطيره وطبيعة القبائل المستوطنة فيه والتي يعود أصلها إلى منطقة القوقاز وبذلك تصير عبارة لا وطن له تأكيداً لفكرة قيام نيكولا بتعذيب نفسه يومياً لأنه يريد أن يتطهر وحتى أن يصير صخرة ومعلماً من معالم المكان كما استطاع جده الأكبر كوكا لونكا أن يتحول إلى صخرة من قبل ويحقق أسطورته الخاصة وقد استعمل الروائي صبري موسى الفراغ في الرواية بمعنى المكان الذي تنظر إليه العين نظرة بانورامية إجمالية أو شمولية فلا تنظر إلى المكان في حد ذاته وإنما تبحث عن شيء محدد فيه ويقول الراوي عن محاولات البحث عن نيكولا بعد اختفائه واختفاء حفيده الرضيع: ( وأخذ بعضهم يتلمس بعينيه نيكولا في ذلك الفراغ الصحراوي المترامي البعد من هذا الارتفاع المناسب وهز بعضهم رأسه وهو يلوح تجاه بحر الرمال الخطير والمخيف مؤكداً أن نيكولا هناك الآن) في هذا السياق يظهر أفراد قبائل البشارية وهم السكان الأصليون للمكان الذين يرفضون هؤلاء الغرباء رفضاً رومانتيكياً فيدير البشاري رأسه تجاه الفضاء إذا رأى واحداً منهم ما اضطر هؤلاء الغرباء من مسئولي شركات التعدين والسياحة إلى استقدام الغرباء الذين يتناثرون عبر فضاء النص وهم المستثمرون المصريون الذي ينتمون للمكان على سبيل المجاز المرسل والأجانب المغامرون الذي جاءوا للتنقيب عن المعادن النفيسة وكل ما يمكنهم من أن يكوّنوا ثروة عظيمة وتحميهم سلطات الاحتلال الإنجليزي التي يتممون إليها حقيقة أو على سبيل المجاز أيضاً وكلا الفريقين اللذين تجمعهما المصلحة الواحدة ينظر إلى المكان على أنه نكرة بلا صاحب وبلا جماعات أو قبائل تعيش فيه منذ مئات وربما آلاف السنين وبالتالي يعتبرونه عديم الانتماء ويقومون بالاستيلاء عليه بتفويض من السلطات التي تنظر إلى أهل المكان الأصليين على أنهم مجرد هامش من هوامش الدولة لا قيمة له ولا حق له في المكان أو في انتساب المكان إليه .
بقى أن تعرف .. عزيزي القارىء .. أن المبدع صبري موسى من مواليد 19 فبراير عام 1932 في دمياط وبعد إتمام تعليمه في الفنون الجميلة عمل في بداية حياته معلما للرسم ومكت سنة واحدة ثم التحق بجريدة الجمهورية ومنها انتقل إلى مؤسسة روزاليوسف وكان أحد مؤسسي مجلة صباح الخير عام 1956 وبدأ كتابة القصة القصيرة بمجلات الرسالة الجديدة والقصة والتحرير وروزاليوسف وغيرها قبل أن يصدر مجموعته الأولى القميص عام 1958 وتوالت بعد ذلك أعماله القصصية والروائية وأدب الرحلات كما كتب السيناريو والحوار لأفلام من أبرزها البوسطجي وقنديل أم هاشم المأخوذين عن عملين أدبيين للكاتب الكبير يحيى حقي .
يوم 18 يناير عام 2018 توفى المبدع صبري موسى بعد صراع مع المرض وشيعت جنازته من مسجد السيدة نفيسة بالقاهرة وتوارى جثمانه بين ثرى مقابر الأسرة بالبساتين فرحمة الله على روحه .