الثلاثاء ١٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم وائل طبيشات

صفاء الأمس وهستيريا اليوم

إن أسرع تطور تشهده البشرية منذ الأزل هو التطور الرقمي وما يتصل به من حوسبة واتصالات والكترونيات، ويتسارع بشكل يصعب السيطرة عليه أو احتوائه، هذا التطور الذي حدث في عقود خلت أحدث فجوة كبيرة بين الأمس واليوم، قلب الموازين رأساً على عقب، وجعل المستحيل ميسراً، وأصبح الخيال حقيقة واقعة.

أذكر صورة أصبحت نادرة هذه الأيام، أتحدث عن ثلاثين سنة مضت، كنا صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً نجتمع في بيت العم أبي العبد رحمه الله، لنشاهد أحداث المسلسل اليومي على شاشة تلفزيون ابيض واسود، وكانت الغرفة تعج بالمشاهدين، والصمت يخيم على الجميع باستثناء صوت الممثلين، وبالطبع سبب اكتظاظ الغرفة والممرات والعتبات لا يخفى على كثير وهو إن هذا التلفاز هو الوحيد في الحي.

هذه الصورة كان عنوانها الألفة والمحبة وموادها البساطة والحوار العفوي الصادق، وإطارها التراحم والترابط الأسري واجتماع ذوي القربى، وتغلفها الطمأنينة وراحة البال وصفاء النفس، وتمضي سنوات وإذ في الحي خمسة تلفزيونات، بداية الفرقة، ثم يشتري الخال أبو فواز رحمه الله تلفزيون ملون، يزهو بألوانه الجميلة، ويتنقل الخبر في جميع أرجاء الحي ويتسابق الجميع لرؤية الوافد الجديد، وبعد ذلك بسنوات قليلة يزور التلفزيون معظم بيوت الحي، وتزداد الفرقة، ولكن لا زال القاسم المشترك هو المسلسل وأحداثه، فهي محطة تلفزيونية واحدة تقدم مسلسل واحد، يتداولون ويتحاورون صباح كل يوم بأحداث جرت في الأمس.

وتغيب السنين وإذ باختراق جديد وعصر جديد يغزو الحي وهو الفضائيات، والهواتف المحمولة، والادهى من هذا وذاك الانترنت هذا المجنون الذي ينقلك من مدينة إلى بلد إلى حي بسرعة فائقة، والمواضيع شتى، والمواقع الالكترونية لا حصر لها، تتناول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، فيها النافع والضار، الجدي والهزلي، الشخصي والعام، صور من جميع الأطياف، معارف وأصدقاء من شتى بقاع الأرض، ترى مشاهد قتل ودمار وتعذيب، وبكبسة زر او رمشة عين تنقلك إلى عالم رومانسي أو جلسة هادئة، تناقضات كثيرة وعالم هستيري، يفترس البساطة بكل أبجدياتها، بحث دائم عن كل جديد لإرضاء الرغبات وهوى النفس، الكل منهمك في حكاية ورواية، حتى باتت العائلة الواحدة تحوي ثقافات عديدة، وسلوكيات مستوردة، وأنماط معيشية غريبة، وفرقة وتشتت، الفاصل بينهم جدران إسمنتية وأبواب خشبية وستائر حريرية، ولكن الفاصل الوجداني كبير جداً.

هل من صحوة تعيدنا للماضي القريب، هل من وقفة تأمل بوضعنا الجديد، جدير بنا أن نمضي بكل حكمة نستقي من معين الحاضر ما هو مفيد، ونسترجع ذكريات الماضي، ونعيش ساعات من البساطة والعفوية، ونبتعد قليلاً عن هذا العالم المجنون، ننهل من حلو الكلام، ونكون عنوان الحب والوئام، وننشد الطمأنينة والسلام، وترعانا عين لا تنام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى