صمت ولعنات
لم يكن ذلك المنزل الذي استأجرته من العجوز الإسبانية يصل لسقف تطلعاتي، حيث إن ثمنه البخس فقط هو الذي حثني على استئجاره، فقد كان منزلا غريب الأطوار، يرتعش له جسمي لمجرد النظر إليه، فقد كانت جدرانه سميكة شنيعة، ونوافذه الأمامية كانت تبدو أنها لم تفتح منذ عقود، فقد كانت درفاتها متسخة مُغَبَّرة تتقاطع عليها قضبان حديدية زيادة في الحرص، وكانت أرضية المنزل خشبية داكنة تقرقع على وقع خطى واطئيها مصدرة صوتا رهيبا، وأثاث المنزل كان إسبانيا باليا يوحي بالشؤم، وكان يكتنف المنزل ضوء خافت شاذ نسماته خانقة، فقد ترك المنزل الغريب في نفسي انطباعا كئيبا من أول نظرة ألقيتها عليه، غير أن لم يكن لي من خيار آخر، فقد كنت أمر بضائقة مالية جعلتني أسكن ذلك المنزل رغما عني.. فأخذت أطمئن نفسي، وأبعد القلق عني، حتى أقنعت مخيلتي أنني كنت مفرط الحساسية فقط، وأن كل ما انتابني من خواطر مرعبة ناتج عن حالتي النفسية القلقة ليس إلا .ومع مرور الأيام تغلبت على تلك الأفكار السوداء التي احتشدت في رأسي ورحت أتأقلم مع المنزل شيئا فشيئا، فقد وجدت فيه كل ما يحتاجه كاتب شاب مثلي من ظروف للمضي قدما في كتاباته، فقد كان المنزل ينعم بصمت رهيب، وعزلة تامة، فأكاد أزعم أنني لم أسمع صوت أدمي قط منذ أن سكنته، فقد كانت كل المنازل المجاورة له مهجورة منذ زمن بعيد، وإن لم يخني حدسي فإنني أحسب أن تلك المنازل لم تعرف وطأة قدم منذ أن هجرها ملاكها الأسبان في سبعينيات القرن الماضي، وهذا ما زاد من إعجابي بذلك المنزل، فأنا كنت قد قررت عزل نفسي عن معارفي والانطواء على ذاتي، وكنت قد قطعت كل ما يربطني بماضي القاتم، فقد كنت أقضي معظم الوقت في الكتابة والمطالعة، ولا أغادر المنزل إلا لجلب مستلزمات العيش الضرورية أو للتجوال جنب بحر المدينة الذي كنت أجد فيه ذاك الصديق الذي يؤنس وحدتي. بيد أن مع انقضاء أسابيع عدة، اتضح لي أن ما كان يسطر في رأسي من خواطر مرعبة لم يكن من ضرب الخيال، فقد صرت أسمع بين الفينة والأخرى أصواتا غريبة، فعادت الأفكار الرجيمة تتأجج في داخلي وهذه المرة بشكل أكبر، فقد أزالت الأصوات كل الشكوك من نفسي وتيقنت تمام اليقين أن ثمة أرواحا جحيمية تسكن المنزل اللعين.
وبعد مرور شهر، وفي مساء ينايري عابس، استيقظت من النوم متأخرا كعادتي، وانا احاول طرد الكسل عني بعد رقاد عميق، حيث كان النهار في الخارج يلفظ أنفاسه الأخيرة، ومصابيح الشارع أخذت تزين الناظور بنورها الشفاف الساطع، وخلافا لعادتي قررت المكوث في المنزل وعدم التجوال بمحاذاة بحر المدينة، حيث كان الطقس يومئذ شديد البرودة، فأشعلت سيجارتي الأولى وأخذت أتجول في أرجاء المنزل بقهوتي السوداء المرة، وأنا أصغي إلى نغمات رذاذ المطر الذي انساب إلى أعماق قلبي وسرح بي في عالمٍ آخر بعيد عن ضجيج الآخرين و وجوههم البئيسة، وبينما كنت أسير جيئة وذهابا في المنزل استرعت انتباهي صورة فتاة معلقة على الجدار، فرحت أمعن النظر فيها، فقد كانت فتاة عشرينية إسبانية حسناء، ذات شعر أشقر طويل مسترسل إلى كتفيها وذات بشرة بيضاء ناعمة، فأبهرت بجمالها ورحت أتفحص وجهها العذب بدقة تامة، غير أنني ما إن صوبت نظري إلى عينها اليسرى حتى تجمدت كل نقطة دم في جسمي وأخذتني رعشة كادت أن تفضي بي إلى الإغماء، فقد كانت عينها زرقاء كامدة معكرة عليها غشاوة شفافة، فكانت تبدو كعين زجاجية، فاضطربت روحي وعكر مزاجي، فقد تركت الصورة في نفسي إحساسا مروعا، فلعنت بقلب شيطاني تلك الصورة اللعينة وأخذتها ووضعتها في صندوق القمامة خارج المنزل وعدت أدراجي، وكانت قد صفعتني لفحة برد خفيفة، فأحسست ببرد يسري في جسمي، فتناولت معطفي واستلقيت على كرسي ذي مسندين قرب الموقد وأخذت أفرك يد بيد على ناره حتى أحسست بدفء يغلغل في جسدي، فتناولت دفترا وقلما من فوق مكتبي وشرعت في تحضير نفسي لإتمام كتابة قصة خيالية كنت قد أنهيت كتابة المسودة الأولى في فجر ذلك اليوم، وقبل أن أضع قلمي على الورقة أخذت أقرأ المسودة، آملا في أن أجدها رائعة.. ولكن عكس ما كنت أتطلع إليه، فقد وجدتها ركيكة حيث أنني لم أستطع مواصلة القراءة، وأصبت بالخبل، وكدت أن أجن قبل إتمام النصف الأول، فقذفت بها في الموقد ثم أخذت أشاهد النار وهي تمتصها، ثم انزلقت على قاع الكرسي لأتكئ برأسي على ظهره ومضيتُ في تخيلاتي بغية نسج خيوط قصة أخرى تكون أفضل من سابقتها، وأن يكون النشر مصيرها بدلا من نار الموقد. وفي غمرة السكون الطاغي، ودون سابق موعد، انسكب في أذني صوت رقيق ينبعث من خلف باب المنزل، فقطع علي أفكاري، وانزعجت في أول الأمر, لكني أرجعت ذلك إلى صوت الرياح التي كانت تعصف المدينة، فعدت إلى عالمي وأخذت أعصف عقلي لينتج أفكارا جديدة، غير أن الصوت حال دون ذلك، فقد أخذ يتصاعد في مسامعي، فسرعان ما تعرفت على جنس الصوت فقد كان صوتا أنثويا، صوتا لفتاة عشرينية، وبنبرة يكسوها الحزن والأسى سمعتها تقول:
– أهذا ما أستحقه منك؟ أهذا هو جزائي؟ أنسيتني؟ أيعقل أنك لا تتذكرني ؟ أتملك ذاكرة متعجرفة إلى هذا الحد؟
بالكاد صدقت ماسمعته أذناي، فقد صعقت تماما، وظللت دقائق معدودات جامدا دون حركة قبل أن تتمم الفتاة :
– أي حب أحببتك أنا؟ أي عشق عشقتك أنا؟ أنسيت؟..أنسيت ليالينا الساحرة؟.. أنسيت كلماتي التي كنت أهمسها في أذنك لتدفئك بعذوبتها بينما أنت نائم؟..أنسيت رقصنا على ضوء القمر .. أنا وأنت فقط ، وقليل من الشموع! أنسيت قبلاتنا الشتائية أسفل عمود الإنارة و حارس الليل يُراقبنا؟ أنسيت كل هذا؟
تسارعت أنفاسي واضطربت روحي، أخذت رشفات من قهوتي التي سكبتها منذ نصف ساعة وقد نسيتها تماما وسط ذهول من أمري، سكتت قليلاً، ثم أردفت قائلة:
– لماذا كل هذا النسيان يا حبيبي؟ لماذا لا تتذكرني ولو بكلمة ؟ .. ولو بهمسة ! لمذا كل هذا الصمت..تحدث ..قل شيء.. قل أحبك..قل أعشقك.. قل أكرهك
مزقت كلماتها جفوني وسجن صوتي في حلقي ولم أقو على الرد، فقد ملأ هذا الصوت اللعين روحي برعب ليس له مثيل، أعقب ذلك صمت طويل غلب عليه الحزن والسكينة ثم أخذت الفتاة نفسا عميقا وواصلت قائلة:
– مهما ابتعدت يا حبيبي فسأظل قريبة منك، ومهما أهملتني فلن أتخلى عنك، سأظل قريبة منك، سـأظل قريبة من دقات قلبك، من همساتك، من أنفاسك، سأظل دائما روحك الثانية، سأسكن أنفاسك يا حبيبي
ارتجف كوب القهوة في يدي، وكادت كلماتها أن تبتلعني، أخذت رشفات متتالية من سيجارتي بنهم شديد، والعرق يتصبب من كل جسدي، وكان جزعي يزداد مع كل كلمة تلفظ بها، وقد ضاعف منه صوت هزيز الرياح العتيدة، فلم أقو على الصمود أكثر فسرت نحو الباب بخطوات خفيفة صامتة، وكلي شعور بالخوف والفزع، مع إحساس عميق بثمة لعنة قادمة ستحل بي، رفعت المزلاج بهدوء تام، وفتحت الباب بقدر ما يسمح لرأسي بالعبور، وأمواج من الرعب تلتهمني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي، وأخرجت رأسي بحيطة شديدة، وإذ بي أرى فتاة جالسة في درج المنزل، وهي تقرأ آخر سطور روايتها، فتنفست الصعداء بعد أن كاد أن يغمى علي، حيث إنني ظننت أن ثمة روحا جحيمية تخاطبني، وما إن اختلست النظر إلي واستقرت عيناها علي بكل ما فيهما من صدق وإخلاص، حتى انتابني إحساس بالاضطراب والسعادة في آن واحد، فلم أستطع إبعاد عيني عنها، ظللت أحدق بها طويلا ..! فقد تقطعت الكلمات في فمي ولم أقو على التلفظ بأي شيء، فارتسمت على محياها ابتسامة طبيعية بريئة تحمل في طياتها كل سمات الوقار وتدل على تربية أصيلة وأخلاق رفيعة، ثم أخفضت عينيها، وبدا لي أن احمرارا شديدا قد صبغ وجنتيها، وهي تلف رداءها حولها وتغادر دون أن تنبس بِبِنْتِ شَفَةٍ, فأغلقت الباب وعدت أدراجي ودونت ما وقع وحصلت على قصة رائعة!.
سليم بوعزاتي