طفل تاه عن حلمه
كان الجو ممطرا، وباردا برودة قاسية ترتعش لها الأبدان. كنت مسرعة أبحث عن مكان لأحتمي به من المطر الشديد. لمحته يجري في نفس الاتجاه الذي أذهب اليه. أدركت أنني أعرفه. كان يرتدي قميصا قصيرا وسروالا باهتا، برجليه صندل تشرئب منه أصابعه وتتألم من قساوة الجو الماطر. كان يجري ويضحك ويلتفت للوراء. انه الطفل سعد لم يتجاوز بعد الثانية عشر. كان يمر دائما من أمام بيتي، يحمل محفظة قديمة جدا تظهر منها كتبه، وكان دائما يجري وأمه وراءه تطلب منه أن ينتظرها. يجري كأنه يبحث عن حلمه الهارب منه وسط الزحام. اقترب مني وسلم علي بوجه مبتسم ورعشة تحتل كل أطرافه الصغيرة. أكيد عرفني هو الآخر. كانت الابتسامة كافية لتزيل كل استغراب. سلمت عليه وسألته وكلي اندهاش من وجوده في تلك الساعة وفي ذلك المكان:
- ماذا تفعل هنا؟
ابتسم من جديد وقال لي بصوت مرتعش:
– أعمل مع ذلك الرجل. وأشار الى رجل يحتمي بجلباب سميك ويحيط به مجموعة من الألعاب الخاصة بالأطفال ويختبئ تحت مظلة في انتظار سكوت الأمطار. أعدت السؤال وكلي اندهاش:
– لماذا تعمل معه؟
ضحك وفرك يديه من شدة البرد وخبأهما تحت ابطيه وظل يتحرك حتى لا تتجمد رجلاه وقال لي:
– انني أعمل لأكسب بعض المال وأساعد أمي.
شعرت بأنه يتألم كثيرا، سألت نفسي، هل من شدة البرد أم من الحاجة التي تكبل حياته.؟ لم أجد سوى شالا كان حول عنقي، أعطيته اياه لكي يدفئ به جسمه. نظر الي وابتسم وشكرني ولفه حول عنقه وصدره واتكأ على الحائط ينتظر.
كانت نظراته حزينة رغم الابتسامة التي تستوطن كل ملامح وجهه، ينتظر ان يتلطف الجو، ينتظر أن يجد صدرا حنونا يمنحه كل الحب، ينتظر أن يحقق حلمه الصغير الذي يلهث وراءه عند كل صباح ويعيل أمه كأنه هو المسئول عن وضعها ووضعه.
ساد صمت بيننا وكان حلول ذلك الجو البارد والممطر منعنا من التفكير والكلام. سألته من جديد:
- هل تشعر بالدفيء الآن؟
أومأ برأسه بالموافقة رغم أن ملامح وجهه كانت مسافرة بعيدا تبحث عن شيء ما. رفع بصره اتجاهي وقال لي:
– شكرا على مساعدتك. لأنني كنت سأموت من البرد.
كادت أن تفر دمعتي، وكتمت آهاتي في تلك اللحظة. قلت له:
- هل ما زلت تتابع دراستك؟
أجابني بكل فرح وكأنه كان ينتظر السؤال:
- نعم، لكن أتغيب أحيانا لأنني اضطر للعمل.
ثم استطرد:
- لا يهم. سأحاول أن أنجح. وظل يدعك يديه ويحرك أصابع رجليه كأنها رقصة ليلة شتوية.
خف المطر قليلا، ثم انطلق كالريح في اتجاه الرجل. بدأ يساعده على حمل تلك الألعاب ووضعها في صندوق كبير كان مركونا تحت شجرة. كان يتحرك كالفراشة بسرعة شديدة، لا يأبه بالجو البارد ولا بقطرات المطر التي مازالت تزورنا بين الفينة والأخرى ولا بوجع أصابع رجليه اللتين تنغمسان في البرك المائية التي خلفتها تلك الأمطار الشديدة. راقبته عن بعد، اقترب من الرجل الذي يشتغل معه، أعطاه ورقة مالية واحدة. ابتسم سعد، وبدت على ملامحه عدم الرضا. لكنه حنى رأسه وهم بالانصراف. ندهت عليه، توقف وهو مازال يحرك الورقة المالية في يده كأنها ورقة شجرة أعلنت احتضارها في يوم خريفي. سألته:
– كم أعطاك؟
ضحك وقال لي:
-عشرون درهما. ثم تابع بصوت حزين:
-الحمدالله. لقد قال لي في المرة القادمة ستأخذ أكثر.
لم يعجبني هذا الاستغلال البشع، قلت له:
– لماذا تضيع وقتك معه؟ ستضيع دراستك.
عادت الابتسامة وقال لي بكل عفوية وهو يحاول أن يرد لي الشال:
– أريد أن أساعد أمي. وأريد شراء مثل تلك السيارة.
وأشار بأصبعه الى سيارة صغيرة للأطفال التي يمتلكها الرجل الذي يشتغل معه. كان المطر قد توقف قليلا، وخفت الرياح، اقتربت منه قبل أن يذهب الى حال سبيله وقلت له:
- هل هذا هو ما تتمناه يا سعد؟
كان فرحا بشكل غير طبيعي، كأنه امتلك العالم بين يديه وقال لي:
- أنا أشتغل مع هذا الرجل، لأرى تلك السيارة كل يوم وأمسح عنها الغبار وأركبها أحيانا عندما لا يكون هناك زبائن.
وانطلق يجري، يتسابق مع الريح وزخات المطر. والورقة المالية في يده وحلم شراء سيارته خلفه.