الثلاثاء ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٨
بقلم حسن عبادي

عائد إلى الديار

خلال زيارة الزعتريّة إيفا (سميرة) حمد للوطن زرنا برفقة زوجها نستور وزميلي المحامي فؤاد نقارة النصب التذكاريّ الذي أقيم في أكتوبر الأخير تخليدًا لذكرى الأديب الفلسطينيّ الشهيد غسّان كنفاني، ابن مدينة عكا، في مدخل مقبرة النبي صالح في مدينة عكا، حيث تربطها علاقة بآني كنفاني ولكونها متطوّعة مع الجبهة الشعبيّة في حينه. التقطنا الصور التذكاريّة وصوّر زميلي فؤاد شريطًا شاركناه على صفحة نادي حيفا الثقافيّ، وفوجئنا الأسبوع الفائت بخبر إزالة النصب، تلبية لنزوة وزير الداخليّة الإسرائيلي أرييه درعي، الذي توجّه بدوره إلى لجنة أمناء الوقف الإسلاميّ لإزالة النصب التذكاريّ بحجّة أنّه "مخرّب وينتمي للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين"، رغم إغتياله يوم 08.07.1972!!

كتب غسّان كنفاني في مسرحيّة الباب أنّه لا بديل عن جنّة فلسطين وكل محاولة لبناء جنّة بديلة في المنفى ستبوء بالفشل: "لن أرتدّ حتّى أزرع في الأرض جنّتي... أو أنتزع من السماء جنّتها...أو أموت، أو نموت معًا"، وهو القائل: "إذا وقع نظركم على رجل طويل جدًا، لا أعرف اسمه، لكنّه يلبس بدلة خاكيّة عتيقة، ويبدو لأوّل وهلة كأنّه مجنون. محاط بشيء يشبه الغبار المضيء، فاتركوا كلّ شيء واتبعوه... إنّه غسّان كنفاني في طريقه إلى فلسطين". لم يحقّق حلم العودة في حياته فأعيد بنصبٍ تذكاريّ في مسقط رأسه... في عكا. وليته لم يعد تلك العودة المبتورة الموؤودة!

وضعنا نصب أعيننا، في نادي حيفا الثقافي، إحياء ذكرى مجزرة تلّ الزعتر، واستضفنا السنة الماضية الدكتور عبد العزيز اللبدي بمناسبة إشهار كتابه الوثيقة "حكايتي مع تلّ الزعتر"، الذي جاء سلاحًا معرفيّا في وجه أعداء المعرفة والحضارة وإنسانيّة الشعوب وقمنا بترتيب أمسيات في بلدات مختلفة ولكنّ قوى الظلام نجحت أن تُرضِخ رؤساء سلطات محليّة عربيّة منتخَبين لإلغائها في اللحظة الأخيرة، ورئيس آخر اعتذر نصف ساعة قبل بدء الأمسية التي دَعى إليها! ورئيس بلديّة أخرى يتبخّر مكتبه ساعة اللقاء المحدّد معه في ديوانه، ومثله محاضر كان مِن المفروض أن يشارك بمداخلة لكنّه "تلاشى" وتساءلت في حينه: لماذا؟!؟

وها هو المشهد يعود، نشهد في الشهر الأخير تراجع سلطات محليّة منتخَبة وإبطالها أمسيات ثقافيّة أعلنت عنها لإشهار رواية "حكاية سرّ الزيت" للأسير وليد دقّة (تتناول محاولة طفل بزيارة والده الأسير لكنّه يُمنع فيختبئ في شجرة زيتون قُلعت ونُهِبت، يتخفّى باستخدام زيت الزيتون المقّدس لينجح في زيارة والده) رضوخًا لطلب سعادة الوزير؟!؟

يتكرّر المشهد ذاته حين يلغي مجلس محلّي منتخَب عرض مسرحيّة "فلسطين سنة الصفر" بسبب مضمونها (كوميديا وثائقيّة تتحدّث عن مخمِّن عقارات سعى إلى تقدير الأضرار اللاحقة ببيوت هُدِمت في القدس ونابلس وغزة)!

السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا تقوم المؤسّسات بفحص قانونيّة العمل قبل إقراره؟ ولماذا هذا الرضوخ المهين لنزوات هذا الوزير أو ذاك؟

سخّر غسّان من الثقافة الموسميّة، المستأجَرة، السلعة وأطلق عليها "ثقافة التكسي" حين وصف بعض المنابر كسيارّة التكسي - من يدفع يركب!!! وكأنّي به ينظر لهذا المشهد الكفكائيّ ويبتسم ساخرًا.

إنّ السياسة التي تنتهجها المؤسّسة الإسرائيليّة معروفة، يحاولون تشويه تاريخنا وطمس معالمنا لاعتقادهم بأنّ هذا كفيل لجعل شعبنا ينسى تاريخه، قالت غولدا مئير يومًا: "كبارهم سيموتون وصغارهم سينسون". يعتقدون أن التاريخ لهم وحدهم، ولا أحد غيرهم مرّ عبر بوّابته، يحتكرون المذبحة، يحاولون طمس ذاكرتنا الجماعيّة وكيّ وعيِنا واحتكار دور الضحيّة، لكنهم لا يعلمون أنّ إرادة الحياة هي ملك شعبنا.

تزامنًا مع إزالة النصب التذكاريّ، تُصدِر مؤسّسة الأسوار العكيّة لصاحبيها يعقوب وحنان حجازي كتاب "معارج الإبداع" (ما لم يُنشر من الكتابات الأولى للأديب الشهيد غسان كنفاني") من إعداد شقيقه الأديب عدنان كنفاني، وهي مجموعة من القصص والمقالات والحوارات والتمثيليّات والدراسات والمحاولات الشعريّة التي لم تُنشر، ليكون الإصدار صرخة مدوية ومجلجلة: هنا باقون!

تسعى المؤسّسة الصهيونيّة لسلخنا عن واقعنا وامتدادنا العربيّ الفلسطينيّ، وكيّ الوعي، ممّا يتوجّب على جماهيرنا وسلطاتنا المحليّة المُنتخَبَة أن تقف بالمرصاد لهذه المحاولات والأساليب ولا ترقص لعزف نشاز هذا الزعيم أو ذاك!

آن الأوان لتخليد ذكرى أبطال الحريّة دون خوف أو وجل أو تأتأة، ونقرع جدار الخزّان علّنا ننقذ أبطال غسّان في رجال في الشمس.

نعم، صدق غسان كنفاني حين قال مقولته الأبديّة: "ليس المهمّ أن يموت أحدنا، المهمّ أن تستمرّوا"!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى