الاثنين ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
عن الحضارة «1»
بقلم محمد متبولي

عالم القوة

علاقات القوة تتحكم فى العالم، قطعا هذه الجملة و ما سيعقبها لا تمثل حكما عاما شاملا على العالم، و لكنها محاولة لالقاء الضوء على واحدة من أهم القيم التى أصبح الكثيرون يقدرونها و يحترمونها لأنها تمثل سمة رئيسية لعالم اليوم و الحضارة القائمة، و القوة التى توصف هنا ليست القوة العسكرية وحدها، و لكنها كل وسائل القوة المعروفة كالثروة، و السلطة، و النفوذ، و التكنولوجيا، و العلم و غيرها، و الاقوى هو الذى يحوز احدى او بعض هذه الوسائل التى يفرض بها ارادته على الاخرين، و عندما يتحقق له ذلك يفرض معها ثقافته و معتقداته، فيصبح الصواب صواب و الخطأ خطأ لا لأنهما كذلك و لكن لأن الاقوى ارادهم كذلك و يتحدد الظالم و المظلوم ليس بناءا على من وقع عليه الظلم و لكن طبقا لما قرره الاقوى، و الاقوى يهاجم الضعفاء لا لأنهم استفزوا قوته و لكن ليؤكد عليها و يقضى على امالهم فى حيازة وسائل القوة التى ستحد من نفوذه عليهم، و فى المقابل يشعر الضعفاء بالقلق المستمر من احتماية مهاجمة الاقوى لهم و يسعون لامتلاك وسائل القوة المحرمة عليهم حتى يتمكنوا من الدفاع عن انفسم متى اقتضت الضرورة ذلك، او يوجهوا هذه الوسائل لمهاجمة الاقوى مباشرة لأنهم موقنون من مهاجمته لهم.

لينشب هنا صراع الجميع مع الجميع من أجل الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من وسائل القوة و حرمان الاخرين منها، و على هذا الاساس يمكن تقسيم العالم لقسمين، مجتمعات خاض افرادها و خاضت هى نفسها صراع مع الاخرين لحيازة القوة حتى حققت لنفسها امتلاك قدرا كبيرا منها بعد ان نجحت فى تطوير وسائل الانتاج و التكنولوجيا و العلم و أصبحت على قدر كبير من التحضر، و غدت فرص حيازة وسائل القوة متاحة بشكل كبير لأفرادها مما يجعل نسبة كبيرة منهم متساوين فى تلك الفرص، و فى الوقت نفسه فان التقدم و الانجازات التى حققتها تلك المجتمعات جعلت لديها رغبة قوية فى الحفاظ عليها و ذلك عن الطريق التحصن بمنظومة كبيرة من العدل و القوانين و المساواة بين افرادها على اختلاف قوتهم و تطبيق حقوق الانسان، مما يحول دون الاستخدام المفرط للقوة بين افرادها بشكل يهدد أمن و سلامة المجتمع من الداخل، الا ان هذه المجتمعات تعتبر هذا التقدم و العدل حكرا على افرادها فقط و ربما افراد المجتمعات المماثلة لها فتتعامل مع غيرهم بمنطق القوة، و أبرز ما يمثل هذا النوع من المجتمعات هو المجتمعات الغربية،اما النوع الاخر من المجتمعات فهى مجتمعات تتفاوت فى امتلاكها لوسائل القوة و لكن تلك الوسائل محدودة مما يجعل حيازتها حكرا على فئة دون أخرى، فيشتد الصراع بداخلها من أجل الحصول على هذه الوسائل، و كذلك فهى جزءا من صراع القوة العالمى لأن المجتمعات الاقوى منها تسعى للسيطرة عليها و المجتمعات الاضعف تسعى لحيازة القوة على حسابها، و ربما تكون المجتمعات الشرقية أحد الامثله على ذلك.

و تؤدى سيادة ثقافة القوة الى ظهور العلاقات القائمة على النفعية و المصلحة، فالعلاقات التى تحقق مصالح اطرافها فقط هى التى لها قيمة و توضع عين الاعتبار، و من ذلك ان يتحالف بعض الاقوياء مع بعضهم لتأكيد نفوذهم و سيطرتهم، او يتحالف بعض الضعفاء مع بعضهم لمواجهة نفوذ الاقوياء، او يتحالف أحد الضعفاء مع أحد الاقوياء اتقاءا لشر قوى آخر، او ربما يسعى احد الاقوياء للتحالف مع احد الضعفاء لتحجيم نفوذ قوى آخر او لوئد محاولة احد الضعفاء حيازة وسائل القوة، و تؤدى ثقافة القوة كذلك لفكرة امتلاك الحقيقة فالقوى يرى انه الاحق بالقوة و عليه الحفاظ عليها بأى ثمن و لا يحق لأحد ان ينافسه فى ذلك كذلك هو يرى ان معتقداته هى الاولى بالتصديق (و خير مثال على ذلك محاولة بعض الدول الغربية فرض أنظمة معينة من الحكم على بعض الدول الاخرى لأنها ترى ان ذلك الاصلح لهذه الدول)، و فى المقابل يرى الضعفاء ان الاقوياء ليس لهم حق فيما يحوزون من قوة و ان الاقوى يحاول اضعاف معتقداتهم لأنها الأصح و لأنها ضد مصالحه، و بالطبع يتم ذلك كله دون ان يفترض اى طرف و لو احتمالية بسيطة فى ان الاخر يمتلك و لو جزءا ضئيلا من الحق فى موقفه، و على هذا فقيم الرحمه و التسامح و الحوار، و احترام الاخر، و الديمقراطية، و غيرها تصبح غير ذات قيمة، او تظهر قيمتها فقط عندما تحقق منفعة.

و لو حاولنا رصد بعض الظواهر فى مجتمعنا و المجتمعات المماثلة سنجد ان علاقات القوة تلعب دورا هاما ، فمثلا نجد ان من فى الحكم يحاولون فرض رؤيتهم فى سياسة الامور و الاصلاح على المعارضة مستخدمين وسائل القمع الحكومى قانعين بأنهم وحدهم الذين يعرفون حقائق الامور و ان من دونهم لا يستطيعوا ان يقدموا ما هو أفضل، و فى المقابل تستقوى المعارضة بالجماهير فى مواجهة أهل الحكم و هى على قناعة تامة بأنهم غير قادرين على الاضطلاع بدورهم بشكل كلى، و هكذا يتحول الامر الى صراع على السلطة يحسمه الاقوى و تتلاشى فى ظله قيم الحوار و التسامح، و تضيع فى خضمه الافكار الايجابية البناءة و الكفاءات اللازمة للتقدم التى يحوزها كلا الطرفين.

و لو نظرنا الى الجانب الاقتصادى سنجد ان المؤسسات المالية الكبرى و كبار التجار يسعون لأحتكار السوق و السيطرة عليه مطيحين بصغار المستثمرين و التجار، حارمين السوق من قيمة التنافسية التى تؤدى لتحسين الخدمات و السلع، فارضين على المواطنين ما يشاءون من منتجات و مستوى جوده.

و بالمثل فان نسبة ممن يعارضون تنامى دور المرأة فى المجتمع لا ينبع رأيهم ذلك من قناعتهم بان دور المرأة الامثل تؤديه من خلال بيتها، لكن ينبع من الخوف ان يؤدى ذلك الى تقليص سلطة الرجل على المرأة او منازعتها له فى سيادة المجتمع او حتى عدم رغبة بعض النساء انفسهم فى تحمل مشاق الحياة العامة، و هنا تظهر فكرة النفعية عن طريق الافاده من كثير من العادات و التقاليد و بعض الرؤى الدينية التى تؤيد ذلك لا ايمان بصحتها لكن لأنها تحقق المنفعة فى اثبات وجهة النظرتلك، و كأنهم يقولون ان المرأة فى الشرق خلقت من صنف آخر غير الذى خلقت منه المرأة فى الغرب.

و تؤدى الظروف الاقتصادية الصعبة و اللهاث خلف لقمة العيش و تقبل الكثير من المشاق فى سبيل الحصول عليها الى رغبة الرجل- الذى دائما ما كان ينظر لنفسه على انه سيد المجتمع- فى ايجاد حيز يمارس فيه سلطات رجولته التى حطت من شأنها تلك الظروف، كذلك فان القيود التى تفرض على المرأة او الاطماع التى تواجهها بعض النساء التى فرضت عليهن الظروف تحمل جزءا من مسئولية اسرهن تزيد من رغبتها فى تغيير هذا الوضع، فتتحد رغبة الرجل فى ممارسة ما فقد من سلطة و رغبة المرأة فى نيل قدر أكبر من الحرية و ممارسة نوع من السلطة التى حرمت منها عن طريق الاستحواذ على الرجل او تربية الابناء ليكون ذلك الاتحاد نواة تكوين اسرة جديدة، يحوز بمقتضاها طرفى الاسرة الرئيسيين قدرا من السلطة و الحرية التى حرما منها و يستقوى كل منهم بالاخر فى مواجهة مصاعب الحياة، و قد يؤدى ذلك الى تحكم الاسر المفرط فى افرادها و الحد من حريتهم بشكل غير مبرر و هو ما يولد لديهم الكبت و يقتل ملكات الابداع، او ربما على النقيض يؤدى ذلك الى تكاتف الاب و الام من أجل حيازة احد وسائل القوة كالمال و السلطة متناسين الابناء تاركينهم للضياع، و فى هذا السياق ايضا نجد ان بعض الاسر القوية تسعى لمصاهرة مثيلاتها للحفاظ على قوتهما معا و زيادتها، او ان يسعى بعض الافراد للارتباط بافراد اقوى منهم ليكون ذلك طريقهم لحيازة احد وسائل القوة، و بمقتضى ذلك كله تتحول العلاقات الاسرية القائمة اصلا على الحب و التراحم و الالفه الى علاقات قائمة على تبادل المصالح.

و مع احتدام الصراع على حيازة وسائل القوة و تضاءل فرص الحصول على السلطة او المال او كليهما على اعتبار انهما أشهر وسائل القوة، يتساءل البعض كيف لهم حيازة قدرا مؤثرا من القوة؟، فتأتى الاجابة، عن طريق السيطرة على البسطاء، لكن كيف لهم ذلك؟، و فى المقابل يتساءل البسطاء كيف لهم ان يحوزوا قدرا من وسائل القوة تحميهم من تلاعب الاقوياء بهم؟، فتأتى الاجابة الشافية، عن طريق الدين، فيتجرأ البعض دون علم كاف على الدين ساعين من خلال الفهم الخاطئ و التفسيرات المتشددة الى السيطرة على البسطاء و دفعهم لأتون المواجهة سواء كان ذلك مع البسطاء الاخرين او مع من يرون انهم يجب ان تتلاشى قوتهم من اجل ان يحصلوا هم عليها، و على الجانب الاخر يستغل البعض الدين فى الحفاظ على قوتهم عن طريق اقناع البسطاء بوجوب الرضا بأوضاعهم و عدم السعى لنيل اى من وسائل القوة، و هكذا يصبح التطرف الدينى بكلا وجهيه السابقين شكلا من اشكال حيازة القوة.

و ما الطائفية الا أحد اوجه التطرف الدينى القائمة على فكرة امتلاك الحقيقة، فالبعض يرى انه وحده على حق و وحده الموعود بدخول الجنة ،و هو ما يعطيه حق سيادة المجتمع على اعتبار انه المختار و على الاخر ان يذعن لذلك، و بالتالى فهو يسعى الى اثبات ذلك للآخر عن طريق اظهار قوته، و العكس صحيح، فيصبح الوضع العام فى المجتمع ملتهبا و قابل للأشتعال مع أقل شرارة.

و يمكن ايضا تفسير رغبة البعض فى الحد من اتاحة التعليم و المعرفة للجميع و محاربة الاكثر منهم علما و كفاءة و ظهور ظاهرة العقول المهاجرة، على انها رغبة من البعض فى الحفاظ على اوضاعهم و ما يحوزون من سلطه، و كذلك يمكن ايضا تفسير الفساد من اجل نيل السلطة و المال، او رفض بعض البسطاء لفكرة تنظيم الاسرة حتى يحوزوا القوة عن طريق كثرة الابناء، او استخدام البعض للبلطجة حتى يسيطروا على الاخرين، و غيرها الكثير و الكثير من الامثال.

و مع تنامى علاقات القوة يصبح العالم مكان موحش خال من القيم التى تحفظ للانسان سعادته، و يصبح القلق من الاخر و الارتياب فيه اسلوب حياة، و مع تزايد ضحايا علاقات القوة تلك يطوق الجميع الى تحقيق قيمة غائبة و هى العدل، لكن العدل سيحتاج الى قوة ايضا حتى يتمكن من أخذ الحق من القوى و اعادته للضعيف، فيمكن ان يتحول عن مسارة و يعود العالم الى سيرته الاولى فتظهر الديمقراطية كحامية للعدل من تطرف القوة، لكن الديمقراطية هى جزء من كل أكبر و هو الحرية، و عندما تتحقق الحرية يبدع الانسان و ينتج الحضارة التى يرتقى بها و يرقى العالم معه و يستغنى تماما عن استخدام القوة، فالعدل طريق الحضارة و الحضارة القائمة على العدل لا القوة هى سبيل الانسان لتحقيق السعادة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى