الجمعة ١٥ أيار (مايو) ٢٠٢٠
بقلم محمد متبولي

من خلف السترة الواقية

1

السابعة صباحا، كعادتي أقف أمام خزانة الملابس الممتلئة عن آخرها بملابس لم أعد ارتديها، أنظر إليها وأتذكر للحظات تلك الأيام التي كنت أقف فيها أمامها لانتقي من داخلها أكثر الثياب أناقه، وأتذكر كيف كنت أحيانا أصور نفسي وأرسل الصورة لزوجتي أثناء فترة الخطوبة، حتى أعرف رأيها في مدى تناسق الألوان أو ملاءمة رابطة العنق مع السترة التي سارتديها، وأتذكر تلك المشاجرات اللطيفة بيننا، التي أسميناها مشاجرات الأزرق، عندما كانت تصر على إرسال رسالة صوتية تصيح فيها قائلة:

 والله الأزرق لون جميل جدا، لكن ما يلقش مع كل حاجه

ثم نتبادل النكات والضحكات في مكالمتنا الصباحية، أتذكر ذلك بشكل عابر الآن، بينما أنا أكمل ارتداء سترتي الواقية، وأنا أسمع نداءها على باب الشقة، وهى تستعجلني لأسرع حتى نوصل الطفلين في طريقنا للمدرسة، ثم نتوجه لأعمالنا، وما إن تحين لحظة المغادرة، حتى ألقي نظرة على اربعتنا بستراتنا الواقية، وأتذكر رواد الفضاء في الأفلام الأجنبية القديمة، فتختلط على ابتسامة مكتومة مع شعور دفين بالغصة.

2

رؤية العالم من خلف سترة واقية شيء مخيف، منذ زمن عندما كنت أجلس في عملي وأتبادل توزيع المهام مع زملائي أو حتى مرؤوسي، كنت أهتم جدا بالنظر لأعينهم، وتعابير وجههم وحركات جسدهم، حتى أتمكن من تخمين قدر قناعتهم بجدوى تلك المهام، وفهمهم لطبيعتها، ومدى عزمهم على إنهاءها في الأوقات المحددة، أما الآن فلم أعد أستطيع ذلك كثيرا، فأغلب الناس تفضل الأقنعة الواقية العسلية لتحميهم من الشمس، وحتى الشفافة لا تكشف الكثير من ملامح الوجه، أما السترات فنظرا لسمكها النسبي لا تسمح كثيرا بحركة مريحة لليد، وهو ما قلل من لغة جسد الكثيرين، حتى الأصوات صارت تسمع مبحوحة من خلف الأقنعة.

عندما ارتديت السترة الواقية والقناع لأول مرة، شعرت بشئ غريب يتملكني، وكأن وجهي وذراعاي وصدري قد تمددوا، أو بالأحرى صار لي إمتدادا خارج جسدي، صرت شخصا يتوارى جسده الضعيف خلف سترة وقناع من مواد بلاستيكية، وكأنه يختبئ فيهما من الطبيعة القاسية.

3

العودة للمنزل ليست بسهولة الخروج منه، فللشقة بابين، الأول ندخل منه على غرفة جلوس صغيرة خلف جهاز التعقيم، ثم تبدأ زوجتي بالمرور من الجهاز لتعقيم سترتها الواقية وبعدها تدخل من باب الشقة الثاني، لتشغل نظام تعقيم الهواء المركزي، ثم يدخل الطفلين تباعا وأخيرا أنا، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن كل واحد منا يحتاج لخمسة عشرة دقيقة على الأقل داخل الجهاز حتى يطمئن أن السترة والقناع قد تم تعقيمهما تماما، علاوة على أنه عادة ما يكون علي أيضا تعقيم الأكياس والعلب الخارجية لاحتياجات المنزل التي اشتريناها في الطريق، وهو ما يعني أنني في العادة احتاج لأكثر من ساعة ونصف منذ وصولي للمنزل، حتى أتمكن من تغيير السترة، وارتداء ملابس مريحة، لذا فعادة ما ننهي كافة مشاويرنا قبل الوصول للمنزل، لكن تأتي المفاجأة عندما نتذكر شيئا ضروريا نسيناه، ونقرر طلبه عن طريق خدمة التوصيل للمنازل، حينها يتعين علي ارتداء السترة مرة أخرى، والمرور من الباب الداخلي للباب الخارجي واستقبال عامل التوصيل، وبعدها إعادة نفس خطوات الدخول ثانية، وهو أمر مرهق جدا بالنسبة لي.

منذ عشرة أعوام، كنا أسرة ميسورة الحال نسبيا، أما الآن فقد صارت أوضاعنا المالية مضطربة بعض الشيء، فأنظمة التعقيم وصيانتها، وكذلك الصيانة الدورية لزجاج الشقة الخارجي-حيث أنه غير مسموح بوجود أي شقوق فيه- بعد أن تم استبدال كل الشرفات والنوافذ به، علاوة على تكلفة تغيير السترات الواقية بين حين وآخر، أصبحت تبتلع نصف ميزانيتنا إن لم يكن أكثر، قطعا لسنا وحدنا، فتلك البنود أصبحت ضاغطة جدا على أغلب الأسر، صحيح أن بعض الأسر التي لا يمكنها تحمل تلك النفقات، تستخدم وسائل أقل كلفة، كاستخدام الكلور والكحول في النظافة، والاعتماد على وسائل تعقيم هواء قديمة وسترات رخيصة نسبيا، أو حتى تضطر أحيانا للبقاء بالمنزل مرتدية الأقنعة الواقية، لكن ذلك كله ليس مجديا بشكل كاف، وللحقيقة أنني لست على استعداد للمخاطرة بحياة أسرتي من أجل المال.

4

يأتي الجانب الأكثر إثارة في الأمر، عندما نقرر الذهاب بالطفلين ليلعبوا مع أقرانهم بأحد المتنزهات، فالطفل الأكبر ذي العشرة أعوام، كان مدركا نسبيا في أواخر زمن ارتداء الملابس التقليدية ، أما الطفلة ذات الثلاثة أعوام فقد ولدت في عصر السترات الواقية، ولم تخرج من قبل بملابس خروج غيرها، لذا فدوما ما يبادرني الطفل بسؤاله:

 بابا هو انا لازم ألبس البتاعه ده وأنا رايح ألعب، ما ينفعش ألبس لبس زي بتاع زمان

فيدور بيننا حوار طويل، حول ضرورة ارتداء السترة، وأهميتها، وعادة ما ينتهي بإظهاره قناعة واهية بما أقول، كأنه مل من الحديث المكرر، ويريد أن ينهيه لكي يلعب الكرة مع أصدقاءه، لكنني عندما أفكر في الأمر، تنتابني القشعريرة، فهو لا يمكنه أن يرى ملامح الأطفال الآخرين بوضوح، أما أنا فهناك شيء هام جدا قد حرمت منه، فمنذ ولادة طفلتي وبدء خطواتها الأولى في الحياة، لم أتمكن قط من الإمساك بيدها الصغيرة بدون قفاز والسير معها في الشارع بينما هي تسير ببطء تارة، وتقف تارة وتقاوم السقوط تارة.

ببساطة لم أتمتع بشعور تشبث تلك اليد الصغيرة بيدي وهي تحاول تعلم السير، أي عالم هذا الذي تطمس فيه معالم وجوه الأطفال خلف سترات واقية، ولا يمكن للآباء الاقتراب من أبنائهم إلا من خلال القفازات.

5

تأتي لحظات الرعب عند إقامة عيد ميلاد أو مأدبة طعام أو احتفالية منزلية، سينتج عنها تجمع أكثر من عائلة من بينها عائلتك في شقة واحدة سواء كنت المدعو أو الداعي، خاصة إذا ما كنت تعرف أن أحد تلك العائلات تتراخى نسبيا في إجراءات التعقيم، فعند تلك اللحظة التي يجتمع فيها الجميع ويقررون رفع أقنعتهم الواقية، يبدأ صوت نبضات قلبك في الارتفاع، وتتحرك عيناك في كل إتجاه لترقب خوفا زوجتك وأطفالك ومن يقفون بجوارهم، هكذا كنت أشعر دوما، ومع كل عطسة أو سعلة مفاجأة، تزداد نبضات قلبك بشدة، فأنت لا تعرف إن كانت مجرد شيئا طارئا أم أنها ستحمل خلفها ما هو أبعد من ذلك بكثير.

وما إن ينتهي مثل هذا التجمع، حتى تبدأ الهواجس، فلان كان بادي عليه الإرهاق، ترى هل كان مصابا بشئ ما، أم أنه إعياء من العمل، ذاك الصبي الذي كان يلعب مع الطفلين محمر الوجهين، أتكون بوادر حمى، هذه السيدة التي كانت تتجاذب أطراف الحديث مع زوجتي كانت تأخذ أنفاسها بصعوبة، ترى هل لديها مشكلة في صدرها، وهكذا أظل أدور في دوائر مفرغة حتى تمر الأيام ولا تظهر أي أعراض مرضية على أفراد الأسرة فأهدا بعض الشئ.

لذا فمنذ زمن بعيد أنا وكثيرون مثلي صرنا نفضل تجنب الاختلاط داخل المساكن قدر المستطاع، ونقصره على الأماكن المفتوحة، حيث يضطر الناس رغما عن أنوفهم، ارتداء السترات الواقية، فلا يمكنك طلب من ضيف لديك في المنزل، أن يرتدي القناع والقفازين.

6

الأزرق أجمل ألوان العالم، لكنهم لا يصنعون السترات الواقية إلا من الأصفر والأبيض والأسود ولا أعرف لماذا، قطعا يمكنني طلب سترة خاصة زرقاء لكنها ستكون باهظة الثمن، ودخل العائلة لا يسمح، لذا اكتفي بشراء ملابس المنزل باللون الأزرق.

منذ عدة سنوات عندما بدأت الجائحة صار لزاما علينا إرتداء الأقنعة الطبية (الكمامات)، والتي لم يكن لدي أية مشكلة مع لونها، الذي غلب عليه اللون الأزرق أو اللبني، حينها كنا مازلنا نرتدي ملابسنا القماشية المعتادة خارج المنازل، حتى عندما تحور فيروس الجائحة وصار أكثر شراسة، وأصبحنا نرتدي الأقنعة الواقية، كان بإمكاننا اختيار أذواق الملابس، لكن عندما تعددت الفيروسات والأوبئة، وصار لا يمكن الخروج بعيدا عن مجال عمل أجهزة التعقيم إلا بالسترات الواقية، أخذت الأمور تطور.

بداية كان الناس يرتدون السترات فوق ملابسهم العادية، ثم يخلعونها في الأماكن المغلقة، ومع الوقت صارت السترات الواقية هي زي الخروج الرسمي للجميع، وأصبحت الأثواب القماشية قاصرة على ملابس المنزل، صحيح أن هناك تطور كبير حدث في أذواقها، لكنها في النهاية تظل ملابس خاصة بالإقامة بالمنازل، وإن كانت بعض الشركات قد بدأت بعمل قصات متنوعة للسترات الواقية، وربما في المستقبل القريب تتنوع ألوانها، لكنها ستظل سترات هدفها الأساسي أن نختبئ خلفها من تلك الفيروسات الفتاكة التي لا ترى بالعين المجردة، وكأنها جنود الطبيعة الخفية التي أطلقتها علينا، لتحاسبنا على ما اقترفناه في حقها من تخريب لقرون.

7

أنا وزوجتي من أولئك الذين مازالوا يحتفظون بالأمل، أمل أن تعود الحياة لطبيعتها وأن نخلع تلك السترات الواقية يوما ما، ونرى العالم خارج منازلنا بشكل مباشر لا من خلف قناع، وأن نلامس الأشياء بأيدينا المجردة بدون قفازات، وأن ندخل المنزل بعد يوم عمل طويل وشاق لاهثين لنلقي بما اشتريناه من احتياجات في المطبخ، ثم يرتمي كل واحد منا على أقرب كرسي إليه، دون أن نضطرا للوقوف ساعة أو أكثر تحت جهاز التعقيم.

لذا فلم نفعل مثل الغالبية الذين ألقوا بملابسهم القديمة، واكتفوا بالسترات الواقية، فقد احتفظنا بها، ليس ذلك فحسب بل قمنا بشراء عدة أطقم من ملابس الخروج القماشية للطفلين، تناسب أعمارهم الحالية والمستقبلية، وكنا نطلبها خصيصا من بعض المحال التي مازال لديها مخزون راكد من أواخر أيام الملابس التقليدية، لنبقيها للزمن.

أحيانا يقف كلانا أمام خزانة الملابس، ونقلب فيها، فالتقط أنا سترتي القماشية الزرقاء، وتقرر هي ارتداء إحدى فساتين السهرة، ونختار لكل طفل أحد أطقم الخروج القماشية، ثم نجلس للعشاء ونتابع نشرات الأخبار بالتلفاز، وكأننا ننتظر صدور بيان بإنتهاء تلك الأزمات، وعدم إضطرارانا لارتداء السترات الواقية ثانية، فنندفع حينها للشارع بتلك الملابس، ونحتفل مع الملايين من البشر على قدرتنا استنشاق الهواء بشكل مباشر مرة أخرى، بينما أنا وزوجتي نمسك بيدي الطفلة الصغيرة لأول مرة في الخارج بدون قفازات، ونطوحها في الهواء.

تمت


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى