عصر الفلسفة الإسلامية وتكوين الفكر النظري
لاشك في أنّ الفلسفة بوصفها خطاباً معرفياً، تُمثِّل رأس الهرم في بداية التفكير النظري، وفطن العرب إلى حاجتهم الملحّة إلى هذه المعرفة منذ نهايات القرن الأول الهجري، في نفس الوقت الذي تنبهوا فيه إلى حاجتهم إلى المنهج بوصفه الآلة التي يستعملونها في الوصول إلى حقائق الأشياء، بعد أن تيقنوا أنّ لهم رسالة ذات بعد عالمي وإنساني يريدون أن يوصلوها إلى أبعد بقعة في العالم. وجاء الكنديّ (252هـ) ليسرَّهم بهذا السرّ الذي بيده مقاليد صياغة تلك الرسالة في قالب مقبول ومقنع ومتقنِّع بقناع العلم، فأخبرهم بأنّ: أعلى الصناعات الإنسانية منزلة، وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة(16)، وفي ذلك العصر، أي القرن الثالث الهجريّ، كان اصطلاح الصناعة يعني: العلم. ولعلّ غبطة الكندي في هذا الاكتشاف، توضح لنا مقدار حاجة الفكر العربي إلى المقدمات النظرية، لضمان الكيفية العلمية لدراسة الظواهر. لقد ملّ العرب من موقع الانبهار والتصديق بالوجود والجمال وسواهما، وأرادوا أن ينتقلوا إلى موقع معرفة جزيئات ماهية الأشياء طراً، التي كانوا عاجزين عن إثباتها بالعلم. وكان المنطق، والفلسفة، وما فيهما من غطاء نظريّ دقيق، يكفلان كيفية الحصول على تلك المعرفة، التي كانت الثقافة تفتقر إليها من قبل، ولهذا السبب بادر عبد الله بن المقفَّع (143هـ) منذ مطلع القرن الثاني إلى ترجمة أجزاء من منطق أرسطو كما سنبيّن.
ولأنّ العرب، كما يقول صاعد الأندلسي ( 462هـ- 1070م ): لم يمنحهم الله عزّ وجل شيئاً منه [ أي علم الفلسفة]، ولا هيأ طباعهم للعناية به، ولا أعلم أحداً من صميم العرب اشتهر به إلا أبا يوسف يعقوب بن إسحاق الكنديّ(17)، فهذا يعني أنّ البداية الثالثة المنظمة للتفكير النظري في الحضارة العربية الإسلامية، تبدأ مع اشتغال الكندي ( ت252هـ- 867م ) بالفلسفة في جوانبها الوضعية والعقلانية الصرف.
البداية الثالثة، كانت مهمة لتأسيس العلوم المستقلة في الثقافة العربية، ومن بينها علم: النقد الأدبي، وكان ثمة طبقة ممن اشتغلوا به يمكن أن نطلق عليهم تسمية: النقاد النظريون، كـ: ابن طباطبا ( 227هـ)، وقدامة بن جعفر ( 337هـ)، وابن سينا (370هـ/980م – 428هـ/ 1038م )، وحازم القرطاجني ( 684هـ)، وسواهم من النقاد الذين اكتشفوا أهمية النظرية في العمل النقدي، وهو ما سنتطرق إليه لاحقاً.
ولكن ما هذه البدايات الثلاث، التي نعتقد أنها مهمة في نقل العرب إلى ميدان الاشتغال بالنظرية ومفاهيمها ومشكلاتها، حتى استطاعوا أن ينتجوا جملة من النظريات النابعة من واقع الفكر العربي، والواقع الجديد الذي وضعهم الإسلام فيه؟. نستنتج من هذا، أنّ النظرية ساهمت في حلّ المشكل الحضاري الجديد الذي واجه العرب، باعتبارهم أمة خلعت عنها ثياب البداوة، وارتدت ثياب الفكر الجديد، والحياة المادية الجديدة، ومن هنا جاءت العلوم لكي تلبّي حاجة معرفية أساسية، تضاهي ذلك التطور المادي في الحياة العراقية آنذاك.
وفعلاً اشتهرت مدرسة العراق الفقهية على سبيل المثال بالأخذ بالرأي؛ لأنّ طبيعة تلك الحياة الحضرية تحتاج إلى الاجتهاد، لعدم كفاية النصّ في الإجابة عن الأسئلة المتولدة من
ظواهر ومشكلات تلك الحياة، بخلاف الحياة الصحراوية البدائية وغير المعقدة. وفي ميدان علم الأدب،لم يكن مقبولاً النظر إلى الشعر في حواضر بغداد والبصرة والكوفة بنفس المعايير التي كان النابغة الذبياني الناقد، ينظر فيها إليه، بعد أنْ تسرّبت كلّ هذه المعارف والثقافات إلى داخل الثقافة العربية. فدراسة الأدب، اتجهت وجهة أخرى، تتمثل في الانتقال إلى الحديث عن الأدب حديثاً عن طريق المفاهيم المتضمنة دلالات محددة، وعن طريق إثارة معضلة نظرية كالجدل الذي دار بين الجاحظ ومجموعة من العلماء والنقاد حول جماليات التعبير الأدبي، هل هي في اللفظ وحده أم في المعنى وحده، أم في كليهما؟ وهو ما اصطلح عليه في أدبيات النقد القديم: قضية اللفظ والمعنى، التي شطرت النقاد والعلماء شطرين أحدهما يناصر، والآخر يناهض طريقة دون أخرى.
إذن، هذه البدايات في الثقافة العربية، إنما تتمثل في:
1- البداية الأولى، وأسميها: طريق المثاقفة، وتبدأ منذ نهايات القرن السادس الميلادي؛ أي في المدة التي أسس فيها كسرى أنو شروان مدرسة جُنْدَيْسابور، وتستمر حتى سنة 81 هجرية؛ سنة الفتوحات الإسلامية، واكتشاف العوالم والثقافات والعلوم الأخرى من لدن المسلمين الفاتحين بالسيف والفكرة.
2- البداية الثانية، وأسميها: طريق الفتوحات والترجمة، وتبدأ منذ سنة 81 هجرية، حتى النصف الأول من القرن الثالث الهجري؛ المدة المفترضة التي تفلسف فيها أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكنديّ.
3- البداية الثالثة، وأسميها: طريق الفلسفة، وتبدأ مع الكنديّ منذ النصف الأول من القرن ثالث الهجريّ، حتى وفاة ابن خلدون ( 808هـ) آخر الفلاسفة العرب القدامى.
وبعد ذلك يتقهقر التفكير الفلسفيّ، حتى العصر الحديث إذ تبدأ مرحلة أسميها مرحلة: الاستئناف الحديث، ولا أسميها: بداية؛ لأن الفكر العربي قد مرّ بمرحلة التأسيس مع الكنديّ، ونضج التأسيس وأسفر عن ميلاد نظريات وأفكار جديدة، بيد أنّ المخاض الفلسفيّ توقف نتيجة ظروف تاريخية صعبة أحاطت بالمجتمع العربي.
التبادل الثقافي مع الفكر الأجنبي
يتعيّن أولاً، أن نقرّ بوجود تأثير لقناة من قنوات العلاقة الثقافية مع حضارات العالم غير العربي في أطوارها الأولى، ونقرّ كذلك بأهمية هذه القناة في إحداث نَقْلَة للثقافة العربية وعلومها الناشئة آنذاك. هذه حقيقة من الحقائق المعروفة في تاريخ الثقافة العربية، يندر أن تجد من يؤرخ لها لا يعرّج على الوقوف عند تلك القناة المهمة. وعلى الرغم من أنّ العرب، هم الذين بادروا إلى الأخذ من تلك الثقافات والعلوم الخارجية، فإنهم طوّعوا مفاهيم العلم، وزوّدوا تلك الثقافات بأفكار جديدة طيلة استمرار تلك العلاقة الثقافية التفاعلية.
والتثاقف، أو المثاقفة، اصطلاح عرفه العرب وأطلقوه على: المطارحة في العلم والأدب ومذاكرتهما، قال أبو حيان التوحيدي ( 360، أو 380، أو 400، 414هـ): فلعلّ هذه المثاقفة تبقى وتروى، ويكون في ذلك حسن الذكرى(1). بيد أنّ تلك، كانت صورة أولية للمثاقفة، التي ستتعقد من خلال الانفتاح على تراث العالم الخارجي وعلومه، وأفكاره ونظرياته الأشدّ خطورة، كما هو الحال في نقل بعض الأفكار الفلسفية الخطيرة إلى داخل الثقافة العربية، مثل قول الفلاسفة بقدم العالم وأزليته، وقولهم كذلك بأنّ الله يعلم الكليّات دون الجزئيات، وقولهم بأنّ الأجساد لا تُحشر. وهو ما أثار حفيظة فلاسفة الإسلام كأبي حامد الغزاليّ (505هـ)، الذي ردّ عليهم مفنداً حججهم بكتابه الشهير: التهافت، الذي خلق نوعاً من الجدل في الفكر الإسلامي بين مدرستين في الفكر الإسلامي: المدرسة السلفية، والمدرسة العقلانية، الأولى فتح بابها الفلسفيّ أبو حامد الغزالي، والثانية فتح بابها ابن رشد الذي دبّج كتاباً ضخماً ردّ فيه على موقف الغزاليّ من الفلسفة والنظريات الفلسفية.
ومع أننا صرنا الآن نضمِّن مصطلح المثاقفة معنى آخر، لعله من نتاج الدراسات الحديثة، وهو العلاقة الثقافية المتبادلة مع الحضارات الأجنبية في عصر النهضة العربية، فإنّ الاصطلاح القديم ينطوي على طرفين يتبادلان المعرفة والثقافة في ما بينهما داخل حضارة واحدة، وفي إطار لغة مشتركة، وفي مواضعات ثقافية يعرفها الطرفان المتثاقفان. والحقّ، أنّ العرب في ما تركوه من إرث ثقافيّ، لم يقفوا بإزاء هذا المصطلح، كما نقف نحن اليوم في قسم من المواقف المتطرفة بخصوص المثاقفة مع الغرب الآن، فالشريعة الإسلامية كما يذهب إلى ذلك الدكتور ماكس مايرهوف في دراسته المهمة حول تاريخ علم الطب عند العرب،لم تكن بهذا التطرّف الأصوليّ، وكانت في:
أول ظهورها تبيح دراسة العلوم مطلقاً، ويمكننا القول بأنه من وقت المعلّم الديني الشهير الغزالي 1111م [عاش أبو حامد الغزالي ما بين 450هـ - 505 هـ] فصاعداً حلّ الاضطهاد الديني لهذه الدراسات محلّ السماح بها بزعم أنها تؤدي إلى فقدان الاعتقاد بأصل العالم والشك بوجود الخلاق(2).
ومع ذلك، فإنّ قناة المثاقفة مع فكر العالم لم تتوقف، واستمرت العلاقة تزداد تعقيداً بسبب حاجة الحضارات والثقافات إلى تغذية جسدها بصورة دائمة، لكي تكون حاضرة ومتفاعلة مع ما يجري في العالم من تطورات على مختلف الصعد.
وعلاوة على السبب الذي ذكره ماكس مايرهوف، يمكن القول إنّ دخول العلماء من غير العرب في الإسلام، ووضع مؤلفاتهم باللغة العربية، صيّرهم جزءاً من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وجزءاً من مشكلات الفكر العربي ونظرياته الجديدة، فلم يجدوا ضيراً من التلاقح الثقافيّ مع تراث العالم، والتفاعل مع قيمه الإنسانية والعلمية، ومن يقرأ التراث الفكري والعلمي والأدبي للعرب سوف يتعرّف على مساهمة الأقوام الأخرى في بناء الحضارة العربية الإسلامية.
لكنّ تزايد دراسات المستشرقين في البحث عن أصول العلوم العربية، وكيفية تشكلها، وتحديد المسارب الثقافية التي نفذت إليها، هو الذي أثار أهمية المثاقفة مجدداً بوجهيها: الإيجابي والسلبي. فقد تحدث المستشرق الفرنسي الدكتور ريجيس بلاشير عن قانون: تأثير مثاقفة الغالبين في اتصالهم بالمهتدين الجدد إلى الإسلام(3). وهو هنا، يقرن تصدير وتكريس نظام الثقافة الإسلامية بالقوة والسلطة والحجة المصاحبة لتصدير الخطاب الثقافي خارج دار الإسلام، وعملها على ترويجه ليكون أيديولوجيتها في الانتشار، وتوطيد أركان الحكم الديني. وما أفادته الثقافة العربية من ذلك القانون، هو أنها أضحت في قلب القيم والمشكلات الثقافية والنظرية التي كانت تجري في عالم القرون الوسطى، وهذا ما جعل المستشرق الإنكليزي هاملتون جب يتحدث في محاضرة ألقاها عن: تأثير الثقافة الإسلامية في أوربة العصور الوسطى.
وبصرف النظر عن الدوافع السياسية التي تصاحب الخطاب الثقافي عادة، فإنّ الواقع الاجتماعي الجديد تمخّض عن تزايد الحاجة إلى العلم لحلّ المشكلات المعقدة في المسائل الفكرية، والعلمية، واللغوية، والأدبية، وضروب الحياة المختلفة. وهكذا، فإنّ التعريف الحديث للمثاقفة يشدّد على فرضية وجود الطرف القومي الآخر المختلف في عرقه، فالمثاقفة بحسب هذا الاشتراط هي:
تبادل ثقافي بين شعوب مختلفة وبخاصة تعديلات تطرأ على ثقافة بدائية نتيجة لاحتكاكها بمجتمع أكثر تقدماً، أو تأقلم ثقافي يفضي إلى رفع مستوى فرد أو جماعة أو شعب(4).
ومن أولى تلك المشكلات العملية التي واجهت المجتمع العربي آنذاك مثلاً، كانت تتمثل في الحاجة إلى تشخيص علمي لأمراض الجسد، ومعرفة تركيب الأدوية عن طريق معرفة أسس الكيمياء. وقد أفضى بهم ذلك إلى مواجهة جديدة تتعلق بـ: نقل/ ترجمة المصطلحات الطبية إلى لغتهم الأمّ، ومحاولة اكتشاف طرائق المخاطبة العلمية عن طريق لغة اصطلاحية خاصة. ناهيك عن تخصيب العقل العربي في القرن السادس الميلادي بلغة العلم، واصطلاحاته، ونظرياته، ومناهجه في معالجة المشكلات.
طبعاً هذه ثقافة جديدة، إذْ ليس بوسع الطبيب العربي في ذلك الوقت أن يقتنع بالعلاج البدائيّ، إنما ينبغي عليه أنْ يعرف أنّ ثمة علماً يحتوي على نظريات ومفاهيم ومناهج لا يمكن تجاوزها قط في أيّ علاج علميّ. هذه النقلة الحضارية، لم تكن نقلة عابرة أبداً، بل هنالك عالم جديد صار يرتكز على قواعد رصينة، وهو ما أفضى إلى تأسيس: مجتمع ثقافيّ، لعله واحد من أهمّ المجتمعات التي تأسست في حضارة القرون الوسطى.
قنوات المثاقفة
وتجمع المصادر القديمة، والمراجع الحديثة، على وجود قناة المثاقفة التي نشأت في الخاصرة الشرقية لبلاد العرب في القرن السادس الميلادي بتأثير ثقافات أجنبية عديدة. فبعد منتصف ذلك القرن، أسس كسرى أنو شروان (531م – 578م)، الذي تأثر بالثقافة الهيلينية التي كان قد اكتسبها خلال حربه مع سوريا واستضاف الفلاسفة اليونان المطرودين عندما أغلق جوستينان مدارس أثينا، مدرسةً زرادشتية في جُنْدَيْسابور في خوزستان حيث لم تحتضن الكتب اليونانية والسريانية فقط، بل الكتب العلمية الهندية، وترجم جميعها إلى الفهلوية.
وذكر طه باقر، أنّ هذا الإمبراطور البيزنطي، قد أصدر أوامره في العام 529م، بغلق:
مراكز البحث والمدار الفلسفية اليونانية في أثينة وغيرها من المدن، ففرَّ كثير من العلماء والمفكرين إلى جنديسابور حيث وجدوا الترحيب والرعاية، كما جاء إليها عدد كبير من العلماء والمفكرين السريان من المراكز السريانية المشهورة في مابين النهرين، مثل حرّان ونصيبين، فحصل في هذا العهد المشهور التقاء حضاري لعله كان الفريد من نوعه في تاريخ اتصالات الثقافات.(5).
وينبغي أن نشير هنا، إلى الأهمية العظيمة لهذا التأسيس الثقافي الأكاديمي، إذْ ساهم في تعريف العرب القلائل الذين انخرطوا في تحصيل العلم بوجود حقلين أساسيين للمعرفة العلمية، هما: حقل التفكير النظري الصرف، وحقل الممارسة العملية. وفي هذه المدرسة التي ستكون من ممتلكات الدولة الإسلامية بعد الفتوح، وجدت كما يؤكد بروكلمان: الفلسفة أيضاً موطناً فيها، وقد ظلّت مزدهرة إلى العصر العباسي*.
إذن، ما حقيقة هذه المدرسة، وما المهمة التي اضطلعت بها في تأسيس العلوم العربية، وتحديث نظامها الثقافيّ؟. يدوّن لنا ابن النديم ( 380هـ أو 385هـ) في كتابه الموسوعيّ العظيم، عدداً من الحكايات عن نشأة العلوم, أنواع الكتب , أخبار الفلاسفة الطبيعيين والمنطقيين وأسماء كتبهم ونقولها وشروحها والموجود منها وما ذكر ولم يوجد وما وجد ثمّ عدم. ويبدو أنّ العرب كانت لهم عناية بتدوين ميلاد العلوم واندثارها ونهضتها مرة أخرى، إذ يعتمد ابن النديم قسماً منها لتكون مصادره في الكتابة عن هذه النشأة. يقتبس من كتاب: النهمطان لأبي سهل بن نوبخت الذي يشير فيه إلى أدوار نشأة العلوم وازدهارها واندثارها وازدهارها مرة أخرى. ولعلّ الشيء المهمّ في هذا الكتاب وغيره، إشارتها إلى كثرة صنوف العلوم وأنواع الكتب ووجوه المسائل التي وصفها: أهل بابل في كتبهم، وتعلّم أهل مصر منهم، وعمل به أهل الهند في بلادهم(6). ويذكر أبو سهل في كتابه أنّ الملك الضحّاك بن قي:
بنى مدينة اشتقّ اسمها من اسم المشتري، فجمع فيها العلم والعلماء، وبنى فيها اثني عشر قصراً على عدّة بروج السماء، وسماها بأسمائها وخزن كتب أهل العلم، وأسكنها العلماء... ومن غير كلام أبي سهل: بنى سبعة بيوت على عدد الكواكب السبعة، وجعل كلّ بيت منها إلى رجل فجعل بيت عطارد إلى هرمس، وبيت المشتري إلى تينكلوس، وبيت المريخ إلى طينقروس... وهرمس كان من أكملهم عقلاً وأصوبهم علماً وألطفهم نظراً، فسقط إلى أرض مصر. فملك أهل مصر وعمّر أرضها وأصلح أحوال سكانها، وأظهر علمه فيها. وبقي جلّ ذلك وأكثره ببابل، إلى أن خرج الإسكندر ملك اليونانيين، غازياً أرض فارس، من مدينة للروم يقال لها مقدونية... ونسخ ما كان مجموعاً من [ العلوم] في الدواوين والخزائن بمدينة اصطخر. وقلبه إلى اللسان الروميّ والقبطيّ، ثم أحرق بعد فراغه من نسخ حاجته منها، ما كان مكتوباً بالفارسية، وكتاباً يقال له الكشتج، وأخذ ما كان يحتاج إليه من علم النجوم والطبّ والطبائع، فبعث بتلك الكتب وسائر ما أصاب من العلوم والأموال والخزائن والعلماء إلى بلاد مصر)(7).
ويكثر ابن النديم من ذكر الأخبار والحوادث التي تدلّ على عناية ملوك الفرس: بصيانة العلوم، وحرصهم على بقائها على وجه الدهر، وإشفاقهم عليها من أحداث الجوّ وآفات الأرض... فاختاروا لها من المكاتب أصبرها على الأحداث، وأبقاها على الدهر، وأبعدها من التعفّن والدروس، لحاء شجر الخدنك، ولحاؤه يسمى التوز)(8). وقد كانت ( أصناف علوم الأوائل بالكتابة الفارسية القديمة)(
9).
ويكشف هذا عن أهمية فتح العرب لبلاد فارس، كأنه فتح لخزائن العلوم. وهو ما ترك آثاراً واضحة على تأسيس العلوم العربية بعد الإسلام، إذ وُضِعَت هذه العلوم والثقافات في خدمة الفاتح الجديد، وخدمة الدين الجديد، الذي وجد فيه الفرس مخلِّصاً لهم من عذاباتهم الروحية السابقة. وفعلاً، كان عدد العلماء كبيراً من الذين اتخذوا العربية لغة لتدوين أفكارهم وعلومهم الجديدة. وما أفادته الثقافة العربية من ذلك، هو التزاوج الفكري بين العقل الأجنبي المنخرط في الإسلام، المؤمن بالخطاب الفكري الإسلامي أشدّ الإيمان، والعقل العربي الذي أعاد فهم الإسلام على نحو مندمج بتراث العرب ونظرتهم الأخلاقية إلى العالم.
أما فيما يتعلّق بأسباب نشأة مدرسة جُنْدَيْسابور، فيذكر ابن النديم أنّ الفلسفة كانت:
ظاهرة في اليونانيين والروم قبل شريعة المسيح عليه السلام. فلما تنصّرت الروم ومنعوا منها، وأحرقوا بعضها، وخزنوا البعض ومنع الناس من الكلام في شيء من الفلسفة إذ كانت بضدّ الشرائع النبوية. ثم إن الروم ارتدت عائدة إلى مذاهب الفلاسفة وكان السبب في ذلك أنّ ليوليانس ملك الروم، وكان ينزل بأنطاكية وهو الذي وزّر له ثاسطيوس، مفسّر كتب أرسطو، لما قصده سابور ذو الأكتاف، وظفر به ليوليانس، إما في حربه له وإما لأنّ سابور كما يقال، مضى على أرض الروم ليقبض أمرها ففطن له وقبض عليه، والحكاية في ذلك مختلفة)(10).
وفي عهد قسطنطين الأكبر، ملك الروم، ( عادت النصرانية إلى حالها، فعاد المنع من كتب الفلسفة وخزنها إلى ما عليه إلى الآن)(11). ويبدو أنّ هذا المنع والتضييق على الفلاسفة والعلماء هو الذي ساهم في هجرتهم إلى جنديسابور ليحظوا بالرعاية الكاملة من لدن كسرى أنو شروان، وتزدهر في هذه المنطقة مدرسة للعلوم المختلفة. ولم تكن مدرسة جنديسابور قناة المثاقفة الوحيدة التي فُتِحَتْ على الثقافة العربية، إنما ينبغي أن نشير إلى قنوات أخرى كان لها فضل تقديم العلم اليوناني والثقافة الهلينستية إلى المسلمين، إذ من المعروف تاريخياً أنّ هذه الثقافة وجدت لها موطئ قدم في:
بلاد الشام وأرض الرافدين تحت حكم الإسكندر الأكبر وخلفائه لقيت في انتشار المسيحية عضداً قوياً. وفي الشام وهي تابعة للإمبراطورية البيزنطية كانت الأديرة مرابع للثقافة اليونانية التي اكتسبها سكان هذه الأديرة من طريق ترجمات عديدة وإن لم يكونوا قادرين على تنميتها وزيادتها. وقد غلبت إلى جانب ذلك دراسة اللاهوت وإن لم تهمل الفلسفة والطب(12).
والقناة الأخرى لنقل العلم اليوناني، كانت في مدينة: حرّان بأرض الرافدين، وكان سكانها على الرغم من البيئة المسيحية الخالصة التي حولهم قد احتفظوا بوثنيتهم السامية القديمة التي تأثرت بدين هرمس تأثراً قوياً، وقد ازدهرت فيها بخاصة الدراسات الرياضية والفلكية التي أنبتتها الحضارة الأكدية من قبل ثم رعتها الهلينستية(13).
إنّ الشيء المهمّ في هذه القنوات الثقافية، هو أنها نبّهت العرب إلى أنّ: المعرفة الحسية، لم تكن كافية وحدها للوصول إلى حقائق الأشياء، إنما ثمة طرائق أخرى تتمثل في: المعرفة العقلية النظرية، والمعرفة التجريبية، وثمة وسائل ومناهج متنوعة لابدّ من معرفة أصولها قبل الخوض في أية مغامرة للوصول إلى حقائق الأشياء. ووسائل المعرفة هذه، كانت هي لغة العصر وثقافته، ولهذا يبدو من غير اللائق بالفكر العربي آنذاك أن يطرح أو يناقش أية فكرة خارج إطار هذه الأعراف الثقافية.
وعندما شعر مفكرو هذه الأمة، بأنهم متخلّفون عن هذا الركب الثقافي والفكري، شـمّروا عن سواعدهم، وقاموا بنقل أمهات الكتب اليونانية والهندية والفارسية إلى الثقافة العربية، ومن ثمّ الانتقال إلى شرحها وتوضيحها، ثم إلى تحليلها ونقدها، وإضافة أفكار جديدة إليها، ثم الانتقال بعد ذلك إلى مرحلة التفلسف وإنتاج النظريات العربية الخالصة.
وينبغي أن نعترف بأنّ المدارس والأكاديميات ستصبح فيما بعد من ممتلكات دولة الإسلام أو دار الإسلام بعد الفتوحات الإسلامية العظيمة، ذلك أنّ مع مجيء الإسلام تمّ ضم هذه المراكز جميعها سياسياً وإدارياً، وما كان الأهمّ في هذا كله هو أنّ العلماء القادمين من هذه المراكز جميعها كان بإمكانهم أن يتابعوا دراستهم ويتفاعلوا في ما بينهم دون أن يتقيدوا بأيّ وجهة نظر أرثوذكسية رسمية، مهما كان الدين(14).