السبت ٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٣
بقلم عرفه عبده علي

عصفورة الصحراء تلبي نداء الشرق!

"نداء الشرق".. وآلاف الحكايات والأساطير التى شكلت الشرق الغامض الساحر، وتلك الحياة المطلقة بين الرمال المتعددة الألوان والظلال والفضاء الممتد بلا حدود، كل ذلك أشعل مخيلات الشعراء والأدباء والرحالة والفنانيين والمغامرين

وبقــــدر ما سحــر"الشرق العربى"هــؤلاء الرجال، اجتـذب وسحر أيضــاً"نسـاء الغـرب"وبعضهن خضن أكثر المغامرات مشقة في التاريخ، وبعضهن اكتسبن خبرة ببعض المناطق، و مهارة ودراية في كيفية التعامل مع أهل المشرق، و أفادت كتاباتهن في إثراء معلوماتنا في جوانب عدة من تاريخ المشرق العربي ،وأوضاع القبائل ولهجاتها، وشخصيات أدت أدوارا ً هامة، ومدن وقرى، وأودية وبوادٍ، وتجارة وحرف، وأوضاع سياسية وإدارية ،وتفاصيل من الحياة اليومية.

وبعـــض الـرحـالات الأوروبيــات - وأكثرهــن انجليزيــات – كن أديبات شاعرات"آن بلنت"وبعضهن ينتمين إلي عائلات أوروبية ارستقـراطيـــة: جيـرتـرود بل، استر ستانهوب، ماري مونتاجو، جين دجبي.. كن منعمـات في بلادهــن ثم عشـن ظروفـاً صعبة وقاسية في بـلاد العرب ،عشن فـي خيمــة، وامتطين الجمـل وقمن بحلب الناقــة!

الليدي في القدس العتيقة:

كانت الليدى "جين دجبى Gane E. Digby -"3 ابريل 1807- 11 أغسطس 1881 واحدة من جميلات اوروبا وأكثرهن مغامرة، اشتهرصالونها الأدبى فى باريس فى الثلاثينيات من القرن الثامن عشر.. إرتاده أعظم الأدباء: فيكتور هيجو، الفريد دى موسييه، شوبان، جوته وبلزاك الذى خلد إسمها فى الأدب العالمى في روايته "زنبقة الوادى" شغفت بالقراءة وعلم الاثار والرسم والنحت وأجادت ثمان لغات، و ارتبطت بعلاقات زواج وعشق مضطربة مع عدد من الملوك والأمراء والبارونات فى أوروبا.

لقبها دى بلزاك بـ"عصفورة الصحراء"وكتب لها :"كأنك يا صديقتى تنتمين إلى الشرق".. ولبت الليدى دجبى نداء الشرق، حيث وجدت فيه سعادتها ،وكانت حكايتها أقرب الي الخيال ،سئمت حياة القصور ومن العشاق الطامعين في ثروتها فقررت الرحيل الي الشرق مهوي أفئدة الرحالة والمغامرين.

وصلت ليدي دجبي الي مدينة القدس في شتاء عام 1852 واعتبرت زيارتها للمدينة المقدسة بداية لحياة جديدة لم تكن تدرك كيف ستكون!

تولي القنصل البريطاني في القدس رعايتها، رفضت الاقامة في أحد الفنادق وفضلت العيش في خيمة!.. حرصت علي زيارة معالمها وأشهر مقدساتها ،ورسمت اسكتشات سريعة للمسجد الأقصي وقبة الصخرة وكنيسة القيامة ومغارة مريم والباب الذهبي وباب دمشق وصعدت الي جبل الزيتون حيث رسمت عدة مشاهد بانورامية للمدينة.

ثم رحلت الليدي جين الي أريحا ،حيث استمتعت بأمسيات ساحرة تميزت بألعاب استعراضية بالجياد أثارت خيالها لسنوات، وحكايات الصحراء وقصص العرب.. وبعد نحو أسبوعين رحلت الي بلدة الناصرة ،نصبت خيامها ورفاقها خارج البلدة، زارت بعض من شيوخ القبائل، كما حرصت علي زيارة مغارة العذراء وبيت يوسف النجار، ثم رحلت الي وادي الأردن وتنقلت بين مضارب البدو وزارت مغارات ومواقع أثرية ،وزارت مدينة طبرية علي شاطئ بحيرة الجليل.

الليدي والشيخ!

هو الشيخ "مجويل بن نهابة المصرب العنزي" أشهر أمراء بادية حمص

ذكرت سيرته في عدد من المؤلفات الانجليزية والعربية:

"كان الشيخ مجول فارسا ً بدويا ً رشيقا ً وسيما ً نبيل الشمائل، يتحدث الفرنسية والتركية والايطالية ويعرف البادية كالنسر المحلق ويلم بالآثار ويبرع في الحديث".. وأشاد بصفاته د. فتزشتاين الذى عرفه عن قرب وكتب: "الليدى دجبى تعيش مع الشيخ مجول العنزى فى جنة دمشقية، وهى معذورة إذ ضحت من أجله بأوروبا وصالوناتها ومسارحها"!

تمتع الشيخ باحترام وتقدير قبيلته المصراب والقبائل الأخري ،وعلي الرغم من أنه لم يتجاوز الثلاثين من عمره، ذاع صيته في بادية الشام خاصة توليه بنفسه حماية الزائرين والرحالة الأجانب في الطريق من حمص الي مدينة تدمر،كان بارعا بركوب الخيل وترويضها فزاد من اعجاب الليدي وهي التي عشقت الخيل، كان يراودها حلم زيارة "تدمر" التي قرأت عنها كثيرا وعن ملكتها الشهيرة زنوبيا ،وتتوق لرؤية اثارها: رواق الأعمدة ومعبد بعل شامين ومعبد بل والمسرح الروماني..
حدثها كثيرا عن دمشق التي وصفها بجوهرة الصحراء وقد أصبحت مفتوحة للاوروبيين، وحدثها أيضا عن قصورها وبساتينها ونهر بردي وعلي ضفتيه بيوت وحدائق غناء وخيام البدو والمسافرين، والي الغرب جبل حرمون تتألق قمته بالثلوج حتي في شهر يونيو !.. والي الشرق جبل حوران يمتد جنوبا بطول الطريق الي تدمر حيث وضعت الطبيعة خطا فاصلا بين الخضرة ورمال الصحراء!.. وكان الشيخ قد أرسل رسولا ليعلم الجميع في دمشق بقرب وصوله ،في ساعة مبكرة، علي مشارف المدينة احتشد الناس لاستقبال الشيخ وتحيته بالدفوف والأغاني واستعراض بالخيل والسيوف شارك فيه، كانت الليدي في حال من الانبهار مما تشاهد ،ثم مضوا جميعا بعد أن اجتازوا نهر بردي علي كوبري خشبي عتيق الي بوابة توماس.. أبدت الليدي اعجابها بنظافة الشوارع والمقاهي يغلب عليها اللون الأبيض، البيوت ذات الواجهات الحجرية تتوسطها أبواب خشبية ضخمة تفتح علي أفنية تزدان بفسقيات رخامية رائعة، تنوع الأجناس: عرب وأتراك وفرس وكرد وقوقاز، روائح التوابل وعطور الشرق في الخانات والأسواق وأصوات الباعة الجائلين، انتشار الحمامات العامة،وللنساء حمامات خاصة.. وذروة انبهارها بعمارة الجامع الأموي.. أقامت في فندق يملكه اليوناني ديمتري ،هو الوحيد في دمشق، كان بيتا لأحد التجار الأثرياء، شجرتان ليمون تظللان المدخل، تتوسط الصحن نافورة من الجرانيت الأحمر ،أحواض لسمك الزينة وأحواض للورود والرياحين وشجرة عنب.. مشهد يهيئ أجواء الراحة والمتعة!

وفى الطريق إلى البادية، كانت الليدى والشيخ مجول يتقدمان القافلة ويلهوان بالطراد والقنص، ويقص عليها حكايات البدو والبادية وعجائب الآثار، وأشارت الي المسامرات الليلية حول النار بين شباب العشيرة تستمع لقصص العرب وأخبار القبائل ونمت بينهما مشاعر الإعجاب الذى تحول إلى حب جارف!.. وقد لمست فيه شخصيته المتميزة التي أهلته لقيادة قبيلته، كان أشجعهم وأذكاهم وأبسطهم، رشيقا جذابا بعباءته الفضفاضة وبمعطفه القرمزي كأحد أمراء البادية ،يحيط به دائما رجال عشيرته ،وطلبت الزواج به فرفض فى البداية، وهي تعرف أنه متزوج من "مسكه" وله ولد "شبيب" وبعد مشاورات ومداخلات قبل الإقتران بها بشرط أن تعيش حياة البادية بكاملها، فسافرت الي اليونان لانهاء اجراءت طلاقها من ملك اليونان وتزوجته على طريقة البدو أمام شيوخ العشيرة، و زفت إليه فى مراسم عرس بدوية بين الأهازيج وعروض الفرسان، لتنتقل من حياة الارستقراطية البريطانية ورفاهية القصور الي حياة البادية خمسة عشر عاما مطيعة لزوجها"تغسل له قدميه وتعد له الطعام، وتحلب النوق وتحمل الزبدية وتعتنى بالخيل

وتكنس خيمة الشعر وتداوى المرضى ،احتطبت حافية القدمين ورعت قطيعا من مئات الابل تميزت بوسم خاص بها"!..
كتبت جين في مذكراتها:"لم يحبني الشيخ مجويل لجمالي، فقد عرفني حين ذوي جمالي وفارقني الشباب، ولا لوفرة أموالي وهو العربي الذي يأبي أن تمتد يده الي مال زوجته، ولا لعراقة نسبي فهو لاشك يثق أنه أشرف مني نسبا ،وربما اعتبرز واجه مني تضحية كبري!.. أحبني مجويل لشخصي فقط وهذا أسمي أنواع الحب وقد جعلني حبه النبيل أحترم شخصه وأقدره"!

كانت العشيرة بأجمعها وبدو الصحراء عامة: يحبونها ويقدرونها واشتهرت بينهم بلقب"أم اللبن" لشدة بياض بشرتها!.. وكانت تسافر في الصحراء كزوجة أمير بادية محبوب، كما كانت تحضر اجتماعات شيوخ القبائل ،وتنوب عن زوجها عندما يكون مسافرا!

وبعد موافقة الشيخ، شيدت دارا ً فى حى "مسجد الأقطاب" بدمشق، كانت أشبه بالقصر، وتحدثت المصادر عن سيرتها المتألقة فى دمشق، حيث كان يجتمع بقصرها الأمراء ورجالات دمشق وشيوخ القبائل والقناصل ،وفيه التقت عام 1858: ايزابيل بيرتون الكاتبة والرحالة وزوجها المستكشف الرحالة الأشهر والدبلومسي ريتشارد بيرتون ،وعالمة الاثار والرحالة جيرترود بيل التي لعبت أخطر الأدوار في السياسة البريطانية في العراق وجزيرة العرب،كما زارها في عام 1878 المستشرقان الرحالة الفريد وان بلنت ،ولاهتمامهما البالغ بالخيول العربية حدثهما الشيخ مجويل عن السلالات الأصيلة وتاريخها..

لقد كانت الليدي جين دجبي امرأة من نوع نادر، ارستقراطية مغامرة قادرة علي مواجهة الأخطار والمجهول، حكايتها هى واحدة من الاف الحكايات التي شكلت سحر الشرق.. ومذكراتها حملتنا برشاقة لنعايش الأحداث بالرغم من تباعد الزمان ولتروي قصة حب عابر للجغرافيا والتاريخ والأديان!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى