الاثنين ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
بقلم فاروق مواسي

علو في الممات قصيدة الأنباري

من أجمل القصائد الوفية الحاشدة بالشعرية النافذة، التي تسحر في صورها- قصيدة أبي الحسن الأنباري يرثي محمد بن بَقيَّة- وزير عز الدولة بن بُوَيه، وكانت قد وقعت بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة خصومة، ظفر فيها عضد الدولة، فقبض على ابن بقية، وقتله بين أرجل الفيلة، ولم يكتف بذلك بل صلبه، وظل مصلوبًا إلى أن مات عضد الدولة.

حضر الشاعر إلى مكان صلبه، فتحسر عليه، لما له عليه من نعماء وأيد بيضاء، فكتب قصيدته على عدد من النسخ ألقاها في الطرق، فلما وصلت إلى عضد الدولة قال:
"لقد تمنيت أن أكون أنا المصلوب وأن القصيدة قيلت فيّ".
القصيدة:

علوَّ في الحياة وفي الممات
لحقٌّ أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا
وفودُ نَداك أيام الصِّلات
كأنك قائم فيهم خطيبـــــــــًا
وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاءً
كمدِّهما اليهم بالهِبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن
يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
عن الأكفان ثوبَ السافيات
لعُظْمك في النفوس تبيت تُرعى
بحرّاس وحفّاظ ثِقات
وتوقَد حولك النيرانُ ليلا
كذلك كنت أيام الحياة
ركبتَ مطيةً من قبلُ زيدٌ
علاها في السنين الماضيات
وتلك قضية فيها تأسٍّ
تباعد عنك تعيير العداة
ولم أرَ قبل جِذعك قطُّ جِذعًا
تمكّن من عناق المَكرُمات
أسأتَ الى النوائب فاستثارث
فأنت قتيل ثأر النائبات
وكنتَ تُجيرُنا من صَرْف دهر
فعاد مطالبًا لك بالتِّـرات
وصيَّر دهرك الاحسانَ فيه
إلينا من عظيم السيئات
وكنتَ لمعشر سعدًا فلما
مضيتَ تفرقوا بالمنحِسات
غليلٌ باطنٌ لك في فؤادي
يُخفَّف بالدموع الجاريات
ولو أني قدَرتُ على قيام
بفرضك والحقوق الواجبات
ملأتُ الأرض من نظم القوافي
ونحت بها خِلافَ النائحات
ولكني أصَّبر عنك نفسي
مخافة أن أُعَد من الجناة
وما لك تربة فأقول تُسقى
لأنك نُصبُ هطْل الهاطلات
عليك تحيةُ الرحمن تَترى
برَحماتٍ غوادٍ رائحاتِ

ما أعجبني في هذه القصيدة حسن التعليل في كل مشهد من تجليات الصلب، بل هو حسن تأويل، وقوة خيال.

كذلك هذا الانسياب وهذه السلاسة في اللغة، وقدرة التصوير على جوانب مختلفة من جملة الوصف.

أقول إنها قصيدة الوفاء وهي صادقة التعبير، لأن الشاعر ليس له أي مغنم، بل بالعكس يتهدده عضد الدولة ورجاله.

لنوازن بين ما هو في الواقع في الصورة الحالية أو الماضية وبين الصورة التي يفرضها الشاعر أو يحاول أن يقنعنا بها:

كان المرثي في حياته عاليًا في مكانته

اليوم هو عال رفيع الشأن في مماته (في صلبه هو معلق بارتفاع على الخشبة)، فهنا معجزة أن يبقى العالي في حياته عاليًا في موته.
..
كانت الوفود من الناس يقدَمون إليك لطلب الندى والعطاء

اليوم فإن الناس الذين تجمهروا لمشاهدتك أراهم وكأنهم هذه الوفود التي تطلب العطايا. (جعل المتجمهرين العاديين وفودًا تطلب عطاءه).

اليوم هو مصلوب ويداه ممدودتان

هذا المشهد ليس صلبًا، وإنما هو مد يديه ترحيبًا بالوفود، وها هو يمد يديه لتقديم الهبات لهم. أما الكفن فهي ثوب من الرياح، وليس كفنًا عاديًا.

(شتان بين الغرض من حضورهم وبين ما تخيل في حضورهم)

المصلوب واقف وأمامه الناس يشاهدون المنظر

الشاعر يرى المرثي إمامًا خطيبًا في صلاة الجمعة، وكأن الناس هؤلاء جاءوا يصلون. (كان الخليفة أو من ينوب عنه هو الذي يصلي في الناس).

الصورة سبق بها ابن المعتز في مرثيَة له للخليفة المعتضد:

وصلَّوا عليه خاشعين كأنهم
وفودٌ وقوف للسلام عليه

المصلوب يرتفع عن الأرض ولا يدفن في التربة

السبب في ارتفاعه عن الأرض أن بطن الأرض ضاق عن ضم مكارمه وأفضاله، فصار الجو قبره، كما كان الكفن من ثياب الرياح، وهذا بالطبع لأنه عالي الشأن، مختلف عن الناس.

المصلوب عليه حراسة خوفًا من إنزاله من قبل أقربائه ومن يهمهم أمره

يخاطبه ويقول: أنت عظيم، وبسبب عظمتك يحرسك ويرعاك حراس ثقات يحفظونك- كما كانوا قبلاً في حياتك وفي حراستك.

المصلوب توقد حوله النيران حتى يتأكدوا من بقائه في ساحة الإعدام

هذه النيران هي التي كان يوقدها لإكرام ضيوفه، فظلت مستمرة.

ثم يخاطبه فيقول:

في عملية الصلب ركبت مطية (استعارها للخشبة)

هناك من سبقك في ركوب المطية هذه هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد طالب بالخلافة فصلبه هشام بن عبد الملك، فلك في زيد أسوة حسنة. وهذه المسألة فيها العزاء، فمن أراد من أعدائك أن يعيّر بمصيرك، فليتذكر زيدًا من أهل البيت وما جرى له.

جذع الشجرة أو الخشبة كان عاديًا

الجذع أصبح اليوم فريدًا من نوعه، لأنه تمكن من عناق المكارم، فجعل الصلب عناقًا، والمرثي جامع المكرمات.

كنت قد أسأت إلى مصائب الدهر التي قاومتها بعطائك

أنت اليوم قتيل الثأر، فقد قاومتك النوائب، وها هي تثأر منك.

كنت تسعفنا من صروف الدهر وتقلباته

الدهر يطالب بالترات أي الثأر- (كما في البيت السابق). وفي البيت التالي جعل هذا الدهر إحسانك إلينا سيئاتٍ تحيق بك وبنا.

كنت رمزًا لسعادة الناس

اليوم تفرقوا بكل ما هو نحس

الشاعرفي النهاية أخذ يصف مشاعره مباشرة:

حرارة القهر والحزن مستمرة لك في قلبي، ولا يشفي بعض هذا الغليل إلا دموعي الهتون.
لو قدَرتُ على قيام بالحقوق والواجبات لكنت أرثيك في قصائد أنوح بها، وليس كنياحة النساء؛
ولكني أصَّبر عنك نفسي، ذلك لأن هناك من سيعدّني من الجناة، فأعداؤك ما زالوا يتربصون.
ثم إن من عادة الشاعر الراثي أن يدعو بالسقيا على ضريح الميت، وأنا هنا لا أدعو لك به، لأنك أصلاً في واجهة المطر وأقرب عليه من الأرض، فهو يقع أول ما يقع عليك، فعليك الرحمة متتالية، وتروح هذه الرحمات وتغدو إليك.

ابن الأَنْبَاري
(ت. بعد 1000 م)

محمد بن عمر بن يعقوب، أبو الحسن بن الأنباري: شاعر مقلّ، من الكتاب. كان أحد العدول ببغداد. وكان صوفيًا واعظًا. اشتهر بقصيدته في رثاء الوزير (ابن بقية) التي أولها:
"علو في الحياة وفي الممات"

قال صلاح الدين الصفدي: لم يسمع في مصلوب أحسن منها.

(نقلاً عن الزركلي: الأعلام، ج6 ص 312، وقد ذكر من مصادره عن الشاعر وعن القصيدة- تاريخ بغداد 3: 35 ،والنجوم الزاهرة 4: 130 وابن خلكان 2: 63 و 64 و 65 في ترجمة ابن بقية).


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى