الأحد ٢٩ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم رامي زيدان عليان

عندما تكون ممرضا

عندما تكون ممرضا،عندها تستيقظ من بكرة الصباح كالمتخبط من مس شيطاني، أو كالتائه في غياهب الأرض تبحث عن شيء تنتعله بسرعة قبل فوات الأوان، حتى قبل أن تفكر في غسل يديك ووجهك الآخذين في التألق من كثرة النوم، حتى قبل أن تبتلع ريقك الصباحي تنظر إلى الساعة فإذا بها السادسة وخمسة وأربعون دقيقة، فتقول يا ويلي، طبعا مع لطمة على خديك الزاهيان من كثرة النضرة، لقد تأخرت عن عملي
فتذهب مسرعا إلى الباب وأنت تلبس ما تبقى من مئزرك الشتوي وتفتح الباب وتخرج إلى قدرك.

طبعا في هذه الساعة تكون في طريقك إلى المستشفى برفقة قطط وكلاب الأزقة
تحرسك من أي مكروه قد يعترضك في الطريق، هذا ليس مهما المهم هو الوصول إلى قسمك قبل فوات الأوان أو بالأحرى قبل أن تتشدق عليك رئيسة قسمك بصرخة الموت المعهودة منها حين تأخرك، وخوفا من فكرة العقاب المستشري في كيانها والذي تطلقه كالصاروخ البالستي من فمها المتحجر من كثرة الكلام ليل نهار.

المهم أنك وصلت أخيرا على الموعد تماما فالمسافة من منزلك إلى المستشفى هي تقريبا 15 دقيقة هرولة بسبب ملاحقة الكلاب الجائعة، على أية حال وصلت إلى القسم ولبست معطفك الحريري الأبيض أو كما يسمونه بالثوب الملائكي الأبيض
والخاص بالتمريض، الآن جاء دور الكلمة الصباحية المعهودة والتي لا تحب رئيسة قسمك سماعها منك أصلا" صباح الخير" يا أم فلان، المهم أنك تعرف الجواب الذي يأتي منها متثاقلا أو بدون تحريك شفتيها أو بدون حتى أن تكترث لك أصلا وكأنك لم تقل شيئا أصلا، المهم أن هذه هي أول لكمة تتلقاها على أحد وجنتيك لهذا اليوم،فالساعة ما زالت السابعة صباحا وأمامك الكثير من اللكمات الأخرى، فلا تيأس من رحمة ربك.

بعد ذلك تبدأ يومك كالمعتاد استلام القسم وما فيه من أدوات جارحة وجراحية ومن أدوية وما إلى ذلك وبعدها تبدأ باستلام الحالات المرضية الموجودة في قسمك،
والمهم في هذا الأمر أنك قد تمر على أحدهم فيبدأ لك بالتذمر عما لاقاه خلال الوردية السابقة من سوء معاملة أو تقصير، ولن يرضى عنك ذلك المريض حتى تقول له كلمة أنت على حق وزميلي هو المخطئ فهو لن يتركك وشأنك حتى تقولها، وفي الحقيقة أنت تحب زميلك وتحترمه وتدرك تماما مدى معاناته ليلا مشقة السهر، وتعلم مدى مصداقيته في العمل، لكن الواجب ألعزائي للمريض هنا يجب أن يقدم

على حساب زميلك مهما كانت رتبة الزمالة وإلا قام بشكواك إلى رئيسة قسمك أو إلى مدير المستشفى طبعا والذي بدوره لن يتوانى أن يصفعك هو الآخر بإحدى كلماته الصاروخية والتي تصيب جبينك بتعرق لا إرادي يسيل كالمطر على وجنتيك المشفقتين، المهم أنك تفاديت هذا الأمر اليوم بموافقتك للمريض.
بعد كل هذا يبدأ مسلسل المشقة والمعاناة اليومية، تبدأ بالتحضير للمرور الصباحي للأطباء، فيجب أن تكون كل المعدات على أتم استعداد لملاقاة يد الحبيب وهو الطبيب، يجب على كل شيء أن يكون مسخرا له للاستخدام الفوري طبعا بدون أي تأخير وإلا قد تتلقى صاروخا من نوع ستنجلر يأتيك بغتة، ربما قد يصيبك ببعض الصداع البسيط المؤقت والذي قد يستمر لمدة ساعتين على الأكثر، المهم أنك قد تفاديت هذا الأمر بتحضيرك الجيد هذا اليوم لجميع الأدوات فلم تنسى شيئا على الرف إلا ووضعته أمام الطبيب، المهم بعد ساعة المرور المنتهية بنجاحك الباهر
تحتاج إلى التقاط ما تبقى من أنفاسك الصباحية، قد تجلس على الكرسي بجانب مكتب رئيسة القسم أو قد تتخذ الحائط متكئا لك إذا كان الكرسي شاغرا في ذلك الوقت، المهم أنك لا تلبث أن تفعل ذلك حتى توشك أن تتلقى صفعتك القادمة وذلك بقدوم رئيسة التمريض إلى القسم لترى سير الأعمال، فهي شخصية مستقيمة، تمشي بتأني رافعة رأسها إلى أعلى تناظر ربما طيور السماء علها تنتقي واحدا تطهوه على العشاء, ربما من يدري، المهم أن هذه المرأة لا تحب أن تراك متمسمرا في مكان واحد، بل تريد أن تراك كالدجاجة المذبوحة تتدحرج يمينا وشمالا بين أسرة المرضى حتى لو كان ذلك بلا هدف، المهم أنك بين الأسرة تخترع شيئا لتفعله، قد يكون هذا الشيء أنك ما تلبث أن تناثر أغطية الأسرة المرتبة لتعيد ترتيبها مرة أخرى، وذلك تفاديا لمجادلة مفوهة بينك وبين هذه المرأة العابثة بمصيرك.

المهم أنها لم تدرك مرادها منك فكنت على أهبة الاستعداد وكنت تلك الدجاجة التي في مخيلتها ومثلت دورك على أكمل وجه وبدون أخطاء.

الآن جاء وقت دخول بعض المرضى إلى القسم فكن على أهبة الاستعداد, طبعا كل هذا بدون أن تكون قد أرخيت عضلاتك المتهالكة ولو لدقيقة واحدة، فالصفات التي يجب أن تتحلى بها الآن هي حسن الاستماع والابتسامة العريضة المرسومة على شفتيك اللتان لم تتفوها بأي كلمة طيلة الساعات الماضية حتى لا يفهمك أحدهم خطئا فتكون الطامة الكبرى حينها.

قد تتصادم وقتها مع أحدهم وقد طلب منك شيئا لا تستطيع تلبيته له وهو أمر بسيط جدا أنه يريد جناحا خاصا له أي بمعنى أنه يريد غرفة خاصة ليرقد فيها، طبعا هذا من أشد الأمور وأعصاها على تفكيرك المجرد البسيط، فتقول تارة هل أجيبه بصراحة أم ماذا؟، حينها قد تبتلع كلماتك كلقمة الخبز خوفا أو جزعا من الأمر القادم إلى أن تأتي رئيسة القسم لإنقاذك من هذا الموقف المحرج وأحيانا قد لا تأتي فتكون قد دخلت أنت وأخينا في جدال بيزنطي قد تبرز فيه مواهبك الخطابية لذلك اليوم.

المهم بعد ذلك يأتي موعدك مع الأحلام فقد أتى موعد أخذ العلامات الحيوية للمرضى متزامنا مع إعطاء الأدوية المقترحة للمرضى من قبل الطبيب وما أكثرها.

المهم في هذا الأمر مايلي: أنك تكون مرتبكا ومحرجا من إخراج الزوار من داخل غرف المرضى حتى تعمل براحتك، فقد تتصادم مع أحدهم يكون مفوها وقد يفوقك قدرة على الكلام ويوحي لك بحجج وتصبح عاجزا عن إقناعه بالخروج،
المهم أنك أنهيت هذا العمل بنجاح اليوم وبدون تصادم، وبقي القليل القليل وهو تسجيل وتدوين هذا الملاحظات على الأوراق الخاصة بذلك، هذا ما تبقى من وقت دوامك تستغله في التسجيل الدقيق والحريص وبدون ترك بصمات خاطئة قد يتلمسها أقرانك ومنافسوك في القسم ويتخذونها ضدك في بعض المحافل كقربان إلى رئيسة القسم لتهددك بها ليل نهار كالعادة.

المهم بقي على انتهاء الدوام نصف ساعة فيا ترى كيف تكون؟

أنا سأجيب ستكون نصف ساعة تاريخية من عمرك, فتجلس على كرسيك البلاستيكي المصنوع لإسناد ظهرك الحاني، وترفيه جسمك المنهمك، وتدليل قدميك النملتين من كثرة الوقوف هذا اليوم. بكل بساطة تكون كالخرقة البالية أيها الممرض.

وهكذا دواليك تدور بك الدائرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى