الأربعاء ٦ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم جميل حمداوي

عندما يومض البرق

مميزات القصة القصيرة جدا عند الزهرة رميج في أضمومتها

أصدرت الكاتبة المغربية الزهرة رميج مجموعتها القصصية القصيرة جدا:"عندما يومض البرق"في طبعتها الأولى سنة 2008م عن مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء. وتضم هده المجموعة 81 لقطة قصصية في94 صفحة من الحجم المتوسط.

إذا، ماهي خصائص القصة القصيرة جدا في هذه المجموعة صياغة ودلالة ومقصدية؟ وما هي مظاهر الكتابة النسائية وتجلياتها الرؤيوية والفنية في هذه المجموعة الإبداعية المتميزة؟

أ- من هموم الأسرة إلى هموم الواقع:

تعد الزهرة رميج من الكاتبات المغربيات اللواتي كتبن القصة القصيرة جدا بروح إبداعية متميزة تتسم بالتجريد وعمق الرؤية واستخدام التلغيز بكثرة والاستهداء بالشاعرية المجازية المعبرة. وبما أنها مبدعة أنثى فمن الطبيعي أن تغمس ريشتها لتدبيج مجموعة من القصص لرصد علاقة الرجل بالمرأة سواء أكانت تلك العلاقة إنسانية إيجابية قائمة على التعايش والصداقة والمحبة والمودة والتواصل والتكامل الإدراكي كما في قصة:"جنة"أم علاقة سلبية مشينة أساسها التنافر والعدوان والصراع الجدلي والإقصاء والتغريب والاحتقار والازدراء كما في قصة:"عين الكاميرا"، وقصة:"قتل"، وقصة:"حلم".

وهكذا نجد الزهرة رميج في قصة"الأرجوحة"تصور قسوة الرجل وشراسته ودناءته ووقاحته في تعامله مع المرأة حيث يعيش معها بصورة مزدوجة، يغازلها في الليل حينما يكون مخمورا، و"يبهدلها"في النهار تجريحا وتحقيرا:

"بالليل، وخاصة عندما يكون مخمورا، يرفعها إلى السماء السابعة.
بالنهار يهوي بها إلى الأرض السابعة.
يتعاقب الليل والنهار...
يتعاقب الرفع والخفض...
يتعاقب التقديس والتحقير...
تستمر الأرجوحة في الارتفاع والانخفاض....
تستمر الحيرة في الدوار.
أيهما تصدق؟ وحي الليل الجميل أم محو النهار الجارح؟"

كما تثور الكاتبة على مجموعة من العلاقات الثنائية المشبوهة التي يشوبها الخداع والمكر، وتنتابها الخطيئة والجريمة كما في قصة:"فطام"، وقصة:"تشابه":

"أحبها، أحبته.
كان جبانا. كانت شجاعة.
قال: سامحيني. لقد أجرمنا في حقك.
قالت: لاداعي لطلبك، لقد أجرمنا في حق بعضنا.
قال: كيف، وأنا الشيطان وأنت الملاك؟
قالت: ما أحببتك إلا لأن في شيئا منك... شيئا من شيطانك يسكنني!... لاتعتذر إذن. فأنا شبيهتك وشريكتك في الجريمة."

وتفلسف الكاتبة جسد المرأة من خلال تصورات مختلفة تتأرجح بين الرومانسية والواقعية والنظرة الإيروسية والبورنوغرافية تعكس لنا واقع المرأة وانبطاحها الكينوني والأخلاقي والاجتماعي، وانبهارها بتوافه الحياة ومغريات التغريب والاستلاب الحضاري كما في قصة:"تمرد جسد"، وقصة:"رؤى":

"التفتت زميلاتها حولها لرؤية الصورة موضع الاهتمام.

انبهرن بالملامج المضيئة والجسد الممتلىء شبه العاري تحت سماء باريس الصافية.
قالت الأولى: من قال إن الشباب لن يعود؟ هاقد عدت إلى الوراء عشرين سنة!
قالت الثانية: ما أحلى الإنجاب مبكرا!
قالت الثالثة: ياللزوج المحظوظ! عليك أن تطالبيه بمهر جديد!
قالت الرابعة: ما أصلح هذا الجسد لأفلام البرنو!"

هذا، وتتعرض الكاتبة لصراع الأجيال أو تعايشها على ضوء رؤية نقدية عقلانية ورؤية واقعية متزنة مبينة الهوة الفاصلة بين جيل الكبار وجيل الصغار، وتمرد الأولاد في كثير من الأحيان عن سلطة الوالدين وقوانين المجتمع وسلطة الأنا الأعلى خاصة إذا كان الآباء من فئة المتشددين وقساة القلوب كما في قصة:"نداء الحب"، و قصة:"نتيجة"، و قصة:"عبور"، وقصة:"اختلاف"، وقصة:"الكذب"، وقصة:"الفأر"، وقصة:"وصلة"، وقصة:"أجيال":

"سمع، وهو يقترب من شقته، صراخا. أسرع يفتح الباب.
الصوت قادم من غرفة ابنته.- ما الأمر؟ صاح في زوجته.
- لاشيء! أجابت وهي تضع يدها تخت المخدة.
اقترب من السرير وأدخل بدوره، يده تحت المخدة. أخرج صورة. بدت ابنته إلى جانب شاب وسيم في حديقة عمومية، يلف كتفيها شبه العاريتين معانقا.
- ماهذا؟ أبنتي أنا في هذا الوضع؟
- هذا ماكنت أؤنبها عليه. كيف تسمح لنفسها بأخذ صور مع شاب غريب لاتربطها به أية علاقة؟
هرعت الفتاة إلى غرفة والديها.عادت تحمل ألبوم الصور. فتحته أمامهما قائلة:
- وهذه الصور المحتشمة، هل التقطت لكما بعد الخطوبة أم بعد الزواج؟
رفعت عينيها عن الألبوم. لا أحد في الغرفة!".

وتنقل لنا الكاتبة ضمن هذا التصور الانتقادي واقع الطفولة المهشمة وانعكاسات التربية السلبية على نفسية الطفل وأثر ذلك على عالمه الوجداني والاجتماعي، وتصوير هشاشة الأسرة وطبيعة الصراع بين أطرافها مع تحديد العلاقات البنيوية والسيكواجتماعية التي تتحكم في بنية الأسرة على مستوى التواصل الوجداني الديناميكي والإنساني والقيمي، وكذلك على مستوى التناقضات بين القولي والفعلي كما في قصة:"تربية"، وقصة:"طفولة"، وقصة:"خوف"، و قصة:"انتقام":

"كانت قسوة الأم لا تطاق.لم يجد الطفل جوابا شافيا لتساؤلاته. لم يجد وسيلة للانتقام.
ذات يوم، لم يتمالك نفسه، فبال في الفراش. ما إن رأت الأم فعلته حتى راحت تلطم وجهها وتنتف شعرها وقد جحظت عيناها حتى كادتا تغادران محجريهما.
أحس بسعادة عارمة لم يشعر بها من قبل.
أخيرا، اهتدى إلى طريق الانتقام!"

وترصد لنا الكاتبة في أضمومتها معاناة المطلقات في صراعهن مع الزمن المتقلب والمتغير، وصراعهن مع ذواتهن وواقعهن الموضوعي الذي لايعطف ولا يرحم كما في قصة"عين الكاميرا"التي تعلن فيها الزوجة بكل صراحة وواقعية كراهيتها الحادة لزوجها المتقاعد المنهوك الذي شارك مع فرنسا في حروب عدة ولاسيما الحرب الهند – الصينية. بيد أن أن هذا البطل المتقاعد الذي سهرت على خدمته إلى غاية كهولته زوجته الوفية، فقد استبدلها في ريعان شبابه بشابة حسناء لتشبع رغباته ونزواته الدفينة وإرواء غرائزه الشعورية واللاشعورية.
ولا ننسى أن الكاتبة قد ركزت أيضا على لوحة الإنسانة المطلقة التي تذرف دموعها على شبابها اليانع الضائع، وتندب زمنها الذي حرمها من متعة الحياة السعيدة والاستقرار النفسي المتوازن:

"رحبت المضيفة ترحيبا حارا بابنة صديقتها الحميمة.
جلستا في الشرفة تدردشان وهما تشربان الشاي.سألتها عن طفلها الصغير:
- كم عمره الآن؟
- عشر سنوات.
- عشر سنوات؟ مضت إذن عشر سنوات على طلاقك؟! ياه!
كم يمر الزمن سريعا! حمدا لله أننا لانحس به!
ردت الضيفة الشابة وهي تنظر إليها باستغراب:
- بل علينا أن نحس به!"

وتستعرض الكاتبة مجموعة من المشاعر والأحاسيس الإنسانية التي تنتابها وتنتاب كل كائن أنثوي في عالمنا المنبطح هذا والمنحط في قيمه المهترئة في كل لحظة زمانية ومكانية. وكل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على هشاشة الإنسان وضآلته البشرية وذوبانه وجوديا وانهياره كينونيا وتفسخه اجتماعيا كما في قصة:"غثيان"التي تتقيأ فيها الكاتبة على زمنها المتأخر والمتخلف،، وقصة:"رجع الصدى"التي تندب فيها المرأة زمنها الشائخ وحبها الضائع.

ومن أهم الإحساسات الشعورية واللاشعورية التي استعرضتها الكاتبة في أضمومتها إحساسها بالألم الفظيع كما في قصة:"لعبة الألم"التي تلتجىء فيها الساردة إلى السادية لترويض جسدها على التطهير الذاتي والتمزق الداخلي والترنح العضوي والانتحاب النفسي:

"عندما أشعر بالألم...أي ألم...ألم الروح...ألم الجسد....ألجأ إلى لعبة لأدري أين ومتى تعلمتها.

لعبة أصبحت أدمن عليها. أكررها بعدد حبات الرمال.أدخل دبوسا حادا في باطن كفي.أضغط عليه بقبضة يدي.أغمض عيني.أركز على نقطة اختراق الدبوس لباطن كفي.أضغط وأضغط...وأضغط إلى أن يتلاشى إحساسي بالألم. إلى أن يتلاشى إحساسي بالجسد نفسه... بالزمان...بالمكان....إلى أن أتحول إلى رأس دبوس...مجرد رأس دبوس لا أدري في أي فضاء يهيم...

هل أغرتك هذه اللعبة؟ مارسها، عزيزي القارىء وسترى!"

وجسدت لنا الكاتبة بكل صدق وواقعية في مجموعتها السردية إحساس الأنثى بالقلق والخوف والهلع والغيرة كما في قصة:"فطام"، وقصة:"شيخوخة قلب":

"القلق يكاد يقتلها، أي مكروه يكون قد أصابه؟
تحولت أذناها إلى رادار يلتقط أدق الذبذبات في الشارع الذي يغمره السكون والظلام.
أخيرا، سمعت وقع قدميه على السلم. أسرعت تفتح الباب بهدوء. رفرف قلبها إذ رأته سالما.
صاح متلعثما:
  ألا تكفين عن غيرتك العمياء وتجسسك علي؟
انكمش قلبها. شاخ في الحين.
في الليلة الموالية، ما إن أوت إلى فراشها، حتى راحت تغط في نوم ثقيل."

كما نقلت لنا الساردة العلاقات الباردة والمتخشبة بين الذوات المتقاربة بسبب فظاظة الواقع وموت الشعور الإنساني وإحساس الإنسان بالغثيان والدهشة( قصة الدهشة) واللاجدوى ولا معقولية الحياة:

"يلح علي في كل مرة، نفس السؤال ولا أجد له جوابا.
ليس بيني وبينها أية عداوة أو كراهية.غير أني لم أشعر يوما، وأنا أصاحبها أو أقبلها، بتلك الحرارة التي نشعر بها عادة، ونحن نصافح أو نقبل الناس الذين تربطنا بهم ألفة ما.
هي مثلنا تماما، من لحم ودم يجري حارا في عروقها. فما الذي يجعل حرارتها لا تصل إلى الآخرين؟
حل بها مصاب جلل، فرحت أواسيها. ضممتها إلى صدري ضمة من اكتوى بنفس النار. أحسست أني أضم قطعة من خشب. عندئذ فقط أدركت الجواب."

كما صورت لنا الكاتبة إحساس الإنسان بالإعجاب بالنفس زهوا وفخرا، وفي نفس الوقت يشعر بحقارة نفسه عندما يرتكب خطيئة فادحة تحوله من سيد إلى عبد. لكنه كلما احتقر ذاته ازداد إعجابا بنفسه وسيد ذاته:

"أحس بضميره يعذبه.
"لماذا قمت بذلك الفعل المشين؟ لماذا خالفت عقلي وانسقت وراء رغبتي؟ لماذا تحولت في لحظة خاطفة، من سيد إلى عبد؟"
أحس تجاه نفسه باحتقار رهيب.
فجأة، شعر وكأن غشاوة تنزاح عن عينيه، فإذا بالزهو يملؤه وبقامته المنكمشة تتمدد بحرارة الإعجاب.
وجد نفسه يردد حكمة لم يسمعها من قبل:
"أنا معجب بنفسي لأني قادر على احتقارها"!

وفي المقابل، جسدت لنا مبدعتنا إحساس الإنسان بالإحباط والخيبة والفشل والحزن (قصة رقص)، وفقدان الذاكرة (قصة الإنجاب)، والتقرب من الموت ( قصة موت) مع اندحار الحب والصدق والوفاء في زمن الماديات والحياة المحنطة بالتشييء المستلب كما في قصة:"سلطة"، وقصة:"كأنهم"، وقصة"صدى":

"أحست بالإحباط. هل كانت تنحت بأظافرها في الصخر؟ إذا كان الحب والصدق لايستطيعان فعل شيء، فمن ذا الذي يستطيع؟
خرجت لاترى.لاتسمع. لاتعي.
اعترض طريقها. قبل أن ينفجر بركانها، مد إليها ورقة قائلا:
"قصيدة سهرت على كتابتها البارحة"
التقطتها بسرعة بلهفة، بدهشة:
جميل! رائع! اممكن هذا؟
ضمت االتلميذ الكسول إلى صدرها.انقشع الغيم. تحلقت تغرد حولهما الطيور."

وتنتقد الكاتبة المرأة انتقادا شديدا عن طريق السخرية والمفارقة والهجاء البارودي والتعيير الكاريكاتوري كما في قصة:"بطنان"، وقصة:"ما أسعدك!"، وقصة:"مظاهر"، وقصة"النادل"، وقصة:"امرأتان".
فمن خلال هذه القصص كلها، تكون الكاتبة قد استطاعت التقاط خبايا الأنثى الظاهرة والمضمرة، وانتقاد تبجح المرأة الغنية والسخرية من استعلاء المرأة الجاهلة، مع الإعلاء من شأن المرأة الواعية المتعلمة.

و تندد الكاتبة بتصرفات بعض المتحجبات اللواتي يظهرن الواجهة الخارجية على حساب الداخل الحقيقي، بيد أنهن يلتجئن إلى ظاهرة النقل في الامتحانات بدون خوف ولا وجل، ويمارسن رذيلة الغش والنفاق بدون استحياء ولا خجل، ويتزايدن على الدين بما يصدر عنهن من سلوكيات مشينة لاعلاقة لها بالأصول الإسلامية لامن قريب ولا من بعيد كما في قصة:"تلون"، وقصة:"واجهة":

"كل الطلبة منهمكون في الإجابة عن أسئلة الامتحان ماعداها.آخرون يحاولون... لكنها أكثرهم إصرارا.
تحرك رأسها في كل اتجاه...تهمس إلى مجاوريها، فينهرها الأستاذ:
- إذا كان غطاء رأسك يحول دون سماعك لصوتك، فإن أذني تسمعان دبيب النمل!
الوقت يمر وهي على حالها، تتربص بإجابات الآخرين تربص الوحش بفريسته.
لم يبق الآن، سوى بعض الطلبة المتناثرين في القاعة. دائرة فارغة تحيط بها...لاأمل في تلك اللحظة الأخيرة التي يختلط فيها الحابل بالنابل!...
أخيرا، سلمت الأستاذ ورقة تحريرها.ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة وهو يقرأ ما كتبته أعلى الصفحة بخط عريض أحمر:"بسم الله الرحمن الرحيم.عليه توكلت وهو المعين"."

وتعرض الكاتبة أيضا ببعض الكائنات البشرية المقنعة بالزيف والبهتان والادعاء وهي تحمل في طياتها الأوهام الخائبة وتصدر عن عوالم التخييل الكاسدة، وتجر وراءها عالما من الخيبة والتناقضات الصارخة التي تفصل بين النظرية والممارسة سواء في عالم الأدب أم عالم الفن أم عالم السياسة أم في تمظهرات الواقع بصفة عامة كما في قصة:"مايسترو"، وقصة:"مشهد"، وقصة:"القناع":

"تكاد تطير من شدة الفرح. يالها من صدفة غريبة!...أهي في الحلم أم في اليقظة؟ هو بلحمه وعظمه أمامها!...نموذجها الرائع!...تلتهم كتاباته التهاما!...
أيعقل أن يكون الجالس أمامها الآن، هو نفسه ذلك الكاتب المبجل الذي حلمت عمرا، بلقائه؟ أيعقل أن يحتسي قهوته مثلها ويتحدث إليها كصديق قديم؟
يستمر حديثه...تتضاءل سعادتها...يزداد شعورها بالمغص...
يسقط القناع، فتنهض مسرعة، لتقي إعجابها في المرحاض وتنصرف!"

وتتناول الكاتبة في الأخير تفاصيل الحياة المهشمة وجزئياتها المشتتة في كل تجلياتها المختفية والمعلنة، وترصد أيضا قضايا الإبداع والفن بصورة مأساوية حينما تكشف لنا قناع المبدع الزائف المعجب بنفسه كما في قصة:"القناع". وفي المقابل، تصور إحباط المبدع الناشئ في قصة:"شاعر ناشىء"، وانهيار الفنان المبدع نفسيا واجتماعيا وماديا وقيميا كما في قصة:"التمثال".

ب- من التعبير الواقعي إلى التشخيص التجريدي:

تكتب الزهرة رميج قصصها القصيرة جدا من منطلق الرواية والدراما والشعر والقصة القصيرة، أي إن الكاتبة تتجاوز التلغيز الذي نجده في كتابات السعدية باحدة وفاطمة بوزيان إلى توظيف التخييل السردي الروائي والقصصي في بناء حبكات قصصها القصيرة. لذا، نجد الكاتبة تمطط الأحداث وتسهب فيها، وتحسن الوصف وتوسع فيه على حساب الاقتضاب والتكثيف والإضمار كما في قصة:"النادل"التي استخدمت فيها المبدعة النعوت والصفات والأحوال والتشخيص المجازي في وصف المكان وأجواء الحفل الموسيقي.وبهذا تقرب الكاتبة نصوص الأضمومة من فني القصة القصيرة وفن الرواية بشكل كبير:

"تحول فضاء الفيلا الفخمة إلى حديقة تفوح منها روائح أغلى العطور وتينع فيها أجساد أجمل النساء.
كان الحفل في أوجه. إيقاع الموسيقى يزداد ارتفاعا والأجساد حرارة وعريا.عندما توقف النادل الشاب ذو البدلة الرسمية الأنيقة عند إحدى الموائد، كانت صاحبة الجسد الممتلئ والصدر شبه العاري تحكي نكتة ماجنة. استمرت في الحكي بعدما سحبت نفسا عميقا من سيجارتها الفخمة ونفخت الدخان الذي ارتطم بوجهه وهو ينحني ليقدم لها الشاي...
تابع النادل طريقه على المائدة المجاورة.قالت إحدى الحاضرات وهي تكاد تنفجر من الضحك:
  ألم تخجلي وأنت تحكين النكتة أمام الرجل؟
أجابت وهي تنظر حولها في استغراب:
  أي رجل؟!"

ويلاحظ في هذا المقطع أن الكاتبة في الحقيقة لا تكتب القصة القصيرة جدا بسماتها الإيحائية وتعابيرها المقتضبة الموجزة، بل تكتب بطريقة القصة القصيرة أو بطريقة الأقصوصة بسبب انسياق الكاتبة مع التوسع السردي في تشغيل النعوت والصفات والإسهاب في الوصف إلى حد ما. والمقصود من كل هذا أن الزهرة رميج تكتب القصة القصيرة جدا بعقلية الرواية والقصة القصيرة، ولم تستطع الكاتبة أن تنسلخ عنهما أو تنسى آلياتهما السردية.

هذا، وتوظف الكاتبة جملا فعلية قصيرة قائمة على التراكب والتتابع السردي والزمني والحجاجي من خلال توظيف مجموعة من الروابط اللغوية الحجاجية التي تساهم في خلق الاتساق المنطقي والانسجام المقروئي مثل: حتى، إذا، لم، ثم، إذ، لكن- ما إن...

وتستند الكاتبة أيضا إلى شخصيات مرقمة وغير محددة علميا، وبالتالي، تصبح هذه الشخصيات المعلبة والمجهولة عوامل سيميائية تتفاعل فيما بينها على محور الإبلاغ: المرسل والمرسل إليه، ومحور الرغبة: الذات والموضوع، ومحور الصراع: المساعد والمعاكس لتجسيد ثنائية الخير والشر، وثنائية السعادة والشقاء، وثنائية الصراع والتعايش.
كما أن المنظور السردي في هذه القصص يقوم في الغالب على الرؤية من الخلف واستخدام ضمير الغائب والاسترشاد بالمعرفة المطلقة المحايدة.

أضف إلى ذلك أن الوصف يحضر في المجموعة باعتبار أن الكاتبة تكتب القصة القصيرة جدا بمنطق فن الرواية. لذا، نجدها تشغل آليات التشبيه والاستعارة والتشخيص المجازي والكنائي إلى جانب آليات الوصف والحال واستخدام الصور الروائية.
ويتعاقب الزمن في هذه القصص بطريقة كرونولوجية متسلسلة مع توظيف مجموعة من تقنيات التخطيب السردي وبناء الحكاية التخليية مثل: كانت- عاشرتها سنوات طويلة- كل صباح- في الصباح- عندما كنت...- أخيرا- كالعادة- ما إن-...
ومن حيث البناء المعماري لهذه القصص، فغالبا ما تنتقي الكاتبة مطالع قصصها وخواتمها بدقة ودراية. ومن ثم، ترد البداية في الأضمومة بأشكال متنوعة، ويمكن حصرها في الأنماط التالية:

 البداية التأملية: مثل: جلست تتأمل قطعة الحجارة الملساء.
 البداية الشاعرية: يومض البرق، فيشق نوره جليد السواد...
 البداية الفضائية بتحديد الزمان والمكان: عاشرتها سنوات طويلة. في قمة الجبل كان جالسا جلسة الحكماء.
 البداية الحدثية: خرج عازما على اقتناص حمامة يتلذذ بها حساء.
 البداية الوصفية: الجو هذه الأيام، شديد التقلب.
 البداية الشخوصية: ما إن ألقى المدير نظرة على الورقة حتى صاح فيه..
 البداية الحوارية: قالت الطفلة الصغيرة وهي تقهقه وتضغط بقوة على يد أمها..........
 البداية الحكائية: يحكى في جديد الزمان وآني العصر والأوان.

وترد النهاية كذلك على الأنماط التالية:

- الخاتمة الشاعرية: فتتجمع جحافل الأمطار.
- الخاتمة التراجيدية: بحثت عنها في كل مكان، فلم تجدها.
- الخاتمة السعيدة: كانت السعادة تغمرها وهي تنتظر بشوق...
- الخاتمة المفتوحة: أيهما تصدق؟ وحي الليل الجميل أم محو النهار الجارح؟
- الخاتمة الحوارية: قالت: ما أحببتك إلا لأن في شيئا منك...
- الخاتمة الحدثية: أخيرا، أمسك الزمن بزمام هذا الفرس الذي ظل جامحا أمدا طويلا!اا
- خاتمة المتلقي: هل أغرتك هذه اللعبة؟ مارسها عزيزي القارئ وسترى!
- الخاتمة الفضائية: منذ ذلك اليوم، تعاهدت يده وعقله على أن لا يخضعا أبدا لإرادته.
- الخاتمة الوصفية: جندي شاب مفتول العضلات، حاد النظرات، بجانبه طفلة جميلة تنظر إلى الأرض وهي تمسك بذيل فستانها الأبيض الطويل.
- الخاتمة الاستشهادية:"أخيرا، سلمت الأستاذ ورقة تحريرها.ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة وهو يقرأ ماكتبته في أعلى الصفحة بخط عريض أحمر:"باسم الله الرحمن الرحيم، عليه توكلت وهو المعين".

هذا، وتستخدم الزهرة رميج في مجموعتها القصصية كتابة شاعرية نثرية انزياحية قائمة على المجاز والاستعارة والترميز كأنها تكتب قصيدة نثرية أو خاطرة شاعرية كما في هذه الصورة الشعرية التي عسكرت فيها الشاعرة الطبيعة بكل مقوماتها وشخصتها في صورة حرب مدوية:

"يومض البرق،
فيشق نوره جليد السواد.
عندئذ، يتكشف عمق الظلام.
يدق الرعد طبول الحرب،
فتتجمع جحافل الأمطار".

وتستعمل الكاتبة أيضا الخطاب الفانطاستيكي القائم على منطق التحولات وتداخل المألوف والغريب، والواقع والخيال، والحقيقة والوهم، والوعي واللاوعي كما في قصة:"جنة"التي تتحول فيه علاقة الحب البريئة إلى أحلام طوباوية تسبح في جنان العالم العلوي السامي:

"في قمة الجبل كان جالسا جلسة الحكماء.
في أسفل الجبل كانت تقفز مع الفراشات بين الأزهار.
التقت عيناهما فجأة. سرى تيار كهربائي بينهما.
رأى قلبه المتضخم يستعيد نبضا منسيا.
رأت رأسها يكبر بشكل غريب لم تألفه من قبل.
رآها تصعد الجبل بثقة الحسناء المجربة.
رأته ينزل الجبل بقامته الفارهة ووجهه المتألق.
التقيا وسط الطريق.امتطيا البساط السحري الذي نشر نفسه تحت قدميهما.أدخلهما البساط جنة لم يدخلاها من قبل. مكثا زمنا لم يستطيعا قياسه. كل القياسات كانت معطلة.
خرجا من الجنة، فإذا به في جلسته المعتادة فوق الجبل، وإذا بها تقفز مع الفراشات بين الأزهار!"

وعلى مستوى الأسلبة، فقد شغلت الكاتبة الأسلوب المسرود والخطاب المعروض في كثير من قصص المجموعة دون أن تنسى الأسلوب المذوت كما في قصة:"الفراشة"...
ووظفت الكاتبة لغة في غاية الصعوبة والغموض والتجريد بسبب لجوئها إلى آليات التشخيص المجازي والأسطرة في قصة:"عقاب"، وقصة:"الأسطورة الذاتية"، والترميز في قصة:"جرحان".
واستعانت في تبئير قصصها المروية بالانزياح التجريدي، والمحكي الشاعري، والتشخيص المجازي كما في كثير من القصص التي احتوتها الأضمومة وخاصة قصة:"النار والخشب"...
والتجأت الكاتبة كذلك إلى أسلوب المفارقة والسخرية الكاريكاتورية لتعرية الواقع وانتقاده تعييرا وتحقيرا لبشاعته وحقارته وفظاظته القيمية وانحطاطه أخلاقيا واجتماعيا وإنسانيا كما في قصة: ذوق":

"مل عالم المومسات الذي أدمنه زمنا طويلا.
أراد أن يتزوج امرأة صالحة.أصبح يواظب على مراقبة الفتيات المارات أمام المقهى.
أخيرا، عثر على ضالته. تبعها في تهيب، وقد قرر الكشف عن نيته.ما إن أصبح محاذيا لها، حتى بادرته هامسة:
لا أتجاوز ربع ساعة. والدفع مسبقا.هات المبلغ بسرعة، واتبعني عن بعد".

ونلاحظ أن الكاتبة متمكنة من أدواتها السردية وتقنيات التعبير القصصي فنيا وجماليا، وقد ابتعدت أيما ابتعاد عن التقرير السطحي والكتابات المباشرة الصريحة، واستبدلت كل ذلك بالبلاغة المضمرة والأسلوب المقنع الرمزي والأسطوري والمجازي.

ونستنتج، مما سبق ذكره، أن الزهرة رميج في مجموعتها القصصية:"عندما يومض البرق"تنطلق من رؤية واقعية انتقادية ترصد على هديها مشاكل الأسرة في صراعاتها الذاتية والموضوعية، كما تستقرىء مآسي الواقع وسلبياته المشينة تارة بطريقة تعبيرية واقعية وتارة أخرى باستخدام بلاغة الغموض والتجريد والتشخيص المجازي.

ويتبين لنا من كل هذا أن الكاتبة الزهرة رميج في مجموعتها الإبداعية الجديدة أديبة متميزة بكتابتها السردية الرائعة ومتمكنة من قواعد السرد بأسلوبها السامي الراقي الذي يقرب بخطوات كثيرة فن القصة القصيرة جدا من خصوصيات الفن الروائي والفن القصصي القصير وفن الدراما. وهذا مكسب كبير في اعتقادنا لفن القصة القصيرة جدا بالمغرب وربح ومثمر أيضا للكتابة النسائية في بلادنا.

 [1]

مميزات القصة القصيرة جدا عند الزهرة رميج في أضمومتها

[1الزهرة رميج: عندما يومض البرق، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2008م،ص:12؛


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى