الاثنين ٤ شباط (فبراير) ٢٠١٩
بقلم انغير بوبكر

غربة الراعي

غربة الراعي: سيرة ذاتية لعالم فلسطيني مرموق اسمه احسان عباس.

الصدفة فقط هي من دفعتني دفعا الى الاطلاع الاولي على سيرة ذاتية لناقد فلسطيني ومفكر من الطراز الاول، اسمه احسان عباس وتدل سيرته المكتوبة بلغة عربية سليمة بسيطة على حب المفكر للناس وتضحيته من اجل اسعادهم فقد ذكر جميع مجايليه من الكتاب والمفكرين بتقدير كبير امثال جبرا ابراهيم جبرا و اميل حبيبي والاخرين، هذه السيرة الذاتية لفلسطيني عاش ازمات المنطقة بقلبه وجوارحه وعقله اثرت تأثيرا كبيرا في الكاتب وصاغت شخصيته التي تميز بها الى ان حان وقت رحيله سنة 2003 بعد رحلة علمية تعليمية شاقة بكل من حيقا وصفد والقدس و القاهرة والخرطوم وبيروت حيث قضى اكثر من عقدين من الزمن في الجامعة الامريكية، فقد عاش الكاتب مراحل من نضال قريته عين غزال و الشعب الفلسطيني عموما ضد الانجليز كما اكتوى بنار النكبة الفلسطينية سنة 1948 وذاق مرارة الحرمان من الارض والوطن وتجرع علقم التنقل بين الدول المجاورة بين القاهرة وعمان وبغداد وبيروت حيث قادته متطلبات العيش من جهة وحيث تشتت الاهل والعشيرة من جهة اخرى.
تتميز السيرة الذاتية لاحسان عباس بالبساطة والسلاسة ولكن اساسا بالعمق الانساني والتلقائية في التعبير والصدق الذي ينفجر من الكلمات المستعملة، فهو الذي"اجبر"على كتابة هذه السيرة من قبل اصدقائه ومعارفه، لانه لا يرى في سيرته ما يستحق الذكر من احداث كبرى و تقلد مناصب عليا، هنا مرة أخرى يظهر الكاتب تواضعه وزهده من الاضواء الكاشفة والشهرة الملعونة لديه كما يذكر في كتاب سيرته، يقول الكاتب والناقد الفلسطيني احسان عباس في مقدمة سيرته:"فاتحني عدد غير قليل من الاصدقاء في ان اكتب سيرتي الذاتية، فأخذ اقتراحهم يمثل هاجسا يدور في نفسي، ويستثير ذاكرتي، ولذا توجهت الى اخي بكر عباس اسأله رأيه في الامر، فكان جوابه المباشر ان قال: لا انصحك بذلك، لان حياتك تخلو او تكاد من احداث بارزة، تثير اهتمام القارئ وتطلعاته."-1-

عاش احسان عباس حياة طفل فقير في وسط قروي بسيط يعيش اهله على زراعة بسيطة حتى ان اباه باع مجموعة من املاك العائلة من اجل تسديد ديونه المتراكمة بفعل فشل تجارته، يقول احسان عباس عن هذه الواقعة،"وحين دخلت الى بيتنا ذات يوم وجدت امي واختي في حالة حزن شديد وبكاء صامت، ولما سألت عن السبب، قالت امي: ان والدك قد باع قطعتين من ارضنا ليسد دينه."2- ص 63، نشأ الكاتب في جو الحرمان والفقر والبؤس الاجتماعي، حيث حرم الاطفال من الالعاب والدمى والابتكارات الحديثة، لذلك اضطروا الى ابتكار العاب تقليدية تتماشى مع وسطهم الفقير والمعدم، ولعبت المدرسة التي تم إنشأها في مسقط راسه في قرية عين غزال دورا حاسما في تغيير مسار الطفل احسان الذي تعب كثيرا من تشابه هذه التسمية مع اسم احسان النسوية في مناسبات عديدة محرجة. فكيف دخل الطفل احسان الى المدرسة؟:"كان الدخول الى المدرسة لا يمكن ان يتم قبل بلوغ السابعة، ولكن صداقة والدي للمعلم الاول (المدير) في مدرسة القرية ذللت هذه العقبة، فقبلت وانا في سن السادسة."2 ص 29. واعتبر المفكر الفلسطيني ولوجه المدرسة إيذانا ببدء مرحلة التحرر من بعض القيود المفروضة من طرف اهل القرية و تعلم فيها العابا جديدة وتطورت ثقافته، يقول احسان"ادخلت المدرسة الى نفسي ابتهاجا لم يكن لها به عهد، بما وفرته من تنوع، فالى جانب حل الغاز الدروس، وازدياد منسوب الثقافة، عوضتني عن الالعاب الريفية الخشنة العابا لم اكن اعرفها، فهناك لعبة كرة القدم، وركض المسافات المعينة وشد الحبل، والقفز فوق الحبل، والتمرينات الرياضية."3 ص 33.بعد مرحلة الطفولة الشاقة، انتقل الطفل احسان الى مرحلة جديدة، مرحلة الدراسات الثانوية بحيفا وصفد،حيث احتك بالمدينة وتعرف على شروط العيش فيها رغم حنينه الدائم الى قريته واهله واخوته على وجه الخصوص اخاه بكر عباس الذي احبه كثيرا ورافقه طيلة فترات حياته. وتشي سيرة غربة الراعي لاحسان عباس عن واقع المرأة المزري في هذه المرحلة التاريخية، حيث ان المرأة بصفة عامة تعاني من اسار التقاليد الاجتماعية المجحفة، و يمكن ان نصف هذه المرحلة الدقيقة التي تعيشها المرأة بمرحلة الحب الممنوع، فحالة نوار التي احبها الكاتب دون ان يستطيع مفاتحتها في الموضوع امتثالا لتقاليد القرية ومريم التي ثارت على ظلم القرية وتعرضت للاهانات والنبذ كلها مؤشرات على ان المرأة في المجتمع الفلسطيني القروي كانت مضطهدة ومسلوبة الارادة في الفترة التاريخية التي عاش فيها صاحب السيرة. يقول احسان عباس بخصوص المرأة ما يلي:"وكنت اعلم ايضا ان الحب ممنوع في الريف، وان قصة (مريم) قد حددت كل شئ بخطوط سوداء او حمراء لا قبل بمحوها او طمسها او التغاضي عنها.لكنها خفقة صبيانية بريئة لا احب ان اهملها وانا اوشك ان اغادر القرية."4 ص 40. لكن عباس بثورته الغير معلنة منذ البداية ضد العادات والتقاليد المتخلفة حاول تكسير نظرية الحب الممنوع وتحويله (الحب) الى مباح ولو من بعيد، فتعلق قلبه بفتاة اسمها"نوار"واستطاع التقرب منها والحديث اليها لكن يبدو ان الفتاة لم تكن تشعر بنفس الشعور اتجاه عباس، يحكي الكاتب عن هذه الواقعة ما يلي:"وقد جلسنا معا في ظل شجرة على مقربة من الحقل، ولكني لم أجرؤ على ابتداء حديث معها، إذ كنت اجهل كيف يكون الحديث الى فتاة لا اجد واياها ارضا مشتركة نقف عليها، وهكذا ضيعت فرصة لن تسنح ابدا، وعدت الى القرية حين عاد العاملون في الحصاد، وانا احس بالبؤس وبعدم القدرة على ان اكون انسانا سويا."5-119. في خضم الانفتاح الممنهج لاحسان عباس في البحث عن العنصر الاخر لاثبات ذكورته وسويته، جاءه الاب او الوالد بما يمثله من قوة اجتماعية ودينية وسيطرة اقتصادية"باعتباره معيل الاسر ة"فارضا فتاة على ابنه عباس ليتزوجها، فكان التحول الكبير في حياة المفكر الفلسطيني الذي لم يستطع مقاومة رغبة الوالد، فكانت الصدمة الاولى.يحكي الكاتب عن هذه التجربة المريرة ما يلي:"قلت:هبني وافقت على فكرة الزواج فانا ارفض هذه الطريقة جملة وتفصيلا.قال"الوالد"لا اظنك ترضى ان تمرغ لحيتي في الوحل؟، فانا قد اعطيت كلمة نهائية لوالد الفتاة.قلت: ولكن من حقي ان اكون صاحب الرأي فيما يخص مستقبلي، وكلمتك ليست شيئا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه....قلت: لا اظن انك انفقت كل السنوات الماضية في تعليمي لكي تجعل مني انسانا معطل الارادة."6-156 لكن لماذا اصر الوالد على ابنه عباس بتزويجه من فتاة بعينها وبهذا الالحاح؟:"كنت اعلم ان لدى والدي اسباب اخرى تجعله يصر على تزويجي، من اهمها توقه الى ان يرى له حفدة من ابنه الاكبر، ومنها انه تابع لعادات الريفيين في التبكير بالزواج.ولكن الذي حيرني بل اذهلني هو لماذا اختار هذه الفتاة دون غيرها؟، هذا لغز لعلي لن احله ابدا.....فـإن الفتاة التي قبلت هذه الطريقة في الزواج مظلومة مثلي او اكثر مني قليلا، ذلك اني استطعت ان اقول لا في لحظات المواجهة، وان لم تفدني هذه ال"لا"أما هي فأظنها قد لا تستطيع ان تقول ذلك."7-158. لاحسان عباس علاقة هيامية وغرامية مع القراءة والكتاب والشعر، اذ ان سيرته حافلة بالمطالعات والقراءات المتنوعة وباللغات المختلفة، ذلك ما يبين موسوعيته واطلاعه الكبير على الادب اللاتيني واليوناني والعربي والانجليزي، فهو مولع بمسرحيات شكسبير وخصوصا رائعته هاملت و مولع بالادب الاندلسي وعميده ابن حزم، كما تأثر بمقابسات وادب ابو حيان التوحيدي، حكى لنا الاديب احسان ظروف ارتباطه وولعة بالقراءة منذ مراحله العمرية الاولى هو ورفاقه الطلبة في الكلية الموجودة بالقدس عندما قال:"واخذوا لا يقنعون بساعات المذاكرة بل يتحدون قوانين الكلية ويقومون في الليل، فإذا وجد احدهم حماما خاليا اضاءه وجلس يدرس، وهناك طلبة يذهبون الى غرفة النجارة (المنجرة) –وهي مبنى منفرد مستقل- واخرون يحضرون"البطاريات"ويضيئونها وهم في فراشهم ويخفونها تحت الفراش ليقرأوا."8-121 وقال في موضع اخر من الكتاب يشرح فيه بعض قراءاته مايلي:"وكنت قبل دراسة ادب القرن الثامن عشر قد تعلقت بالشعراء الرومنطقيين: كولردج وورد زورث وكيتس وشلي وبايرون وبخاصة الثاني بين هؤلاء، كما تعلقت بما درسناه من مسرحيات شكسبير وبخاصة مسرحية هاملت، التي اصبحت المرافق لي في الكلية وبعدها، قرأتها في الكلية مرات ومرات، واظنها لونت حياتي بعد تخرجي بلونها الخاص"9-131. وقد تاثر كثيرا احسان عباس بالشاعر الروماني كاتلوس وترجم بعض اشعاره وقصائده الى اللغة العربية، كما انبهر بالادب الانجليزي وخاصة قصيدة ميلتون"ليسداس"في رثاء صديقه كنغ. وتبقى شخصية مريم هي الشخصية المحورية في السيرة الذاتية لكاتب غربة الراعي لما تمثله في نظر احسان عباس من نموذج للمرأة المقهورة والمظلومة والتي استطاعت ان تكسر قيود الماضي وحنينه نحو العبودية والتخلف والاستيلاب في وقت كانت مريم في الماضي تمثل بالنسبة لاحسان وساكنة قريته نموذج المرأة المنبوذة والمنحرفة، ففي فقرات كاملة تحدث المفكر احسان عباس بلغة اعتذار ومراجعة لمواقفه السابقة عن مريم ابنة القرية التي ناضلت بقوة من اجل خلاص المرأة لذلك قال عنها:"اليوم وانا اتطلع الى الماضي البعيد اجدك لم تقنعي بالثورة من اجل الحب بل امعنت في التحدي، حين احببت قاتل عمك.كيف غفلت عن كل هذه الارادة يوم حققت ذاتها.حين مشيت في دروب الحياة معطل الارادة، ممزق النفس بين رسوم الطاعة وواجب العصيان.اليوم فقط وانا اتطلع الى الماضي البعيد.سقط عن عيني حجاب الغفلة الكثيف، لقد سخر الزمن مني حين امتد بي الى هذه اللحظة التي تحطمت فيها جميع البنى المادية والمعنوية، وعجزت عن الوقوف على اطلالها. قد يكون هذا الاعتذار جاء متأخرا كثيرا، ولكنه كان يدور في نفسي منذ مدة غير قصيرة وإنما تأخر كما تأخرت كتابة هذه الاعترافات."10-264 تعتبر سيرة احسان عباس نبراسا للاجيال المقبلة لما تحتضنه من معاني الحب والانسانية المتراكمة عبر تجاربه المتنوعة والغنية في ربوع واصقاع العالم، من طفل قروي مغمور ولد في شهر دجنبر في احدى القرى القريبة من حيفا 1920 الى كاتب ومفكر عالمي ملا بعلمه الجامعات البريطانية والامريكية والالمانية منذ بداية السبعينات والثمانينات، صحيح انه زاهد في الحياة كما يحكي هو ذلك عن نفسه ولكنه استطاع ان يدخل الى قلوب وعقول الكثير من الادباء والمفكرين العالميين الذي غرفوا من ثقافته الواسعة واستفادوا من تحقيقاته المتميزة للوثائق التاريخية وترجماته المحكمة لفن الشعر لدى ارسطو وغيرها من الترجمات التي افاد بها المكتبة العربية. ويبقى ان نقول في الختام بان قضية فلسطين كعمق انساني وحضاري كانت حاضرة في سيرته وان لم تكن بالزخم الكبير المتوقع من فلسطيني عانى النكبة وفراق الارض وتشتت الانسان وغياب الوطن، كما ان عدم الانتماء السياسي المباشر للمفكر والاديب الفلسطيني الى الاحزاب السياسية ساعده في الاحتفاظ على علاقاته مع جميع الاطياف رغم صداقته القوية مع الشيوعيين في تلك المرحلة اكثر من غيرهم وان كان الانتماء السياسي في ما مضى سبيلا من سبل الشهرة والترقي الاجتماعي.
غربة الراعي لم تكن سيرة ذاتية تحكي عن الماضي فقط ولكنها غربة الراعي في الفترات الاخيرة التي عاش فيها الكاتب، امراض الشيخوخة وخذلان البعض وان كان تسامحه يضفي بظلاله على الجميع، يقول الكاتب احسان عباس:"وقد اكتشفت منذ سنة 1994 انني اصبحت فريسة لأمراض الشيخوخة، وقد قال لي طبيب نفسي ان مشكلتك هي الكآبة، فقلت له: لا عجب في ذلك بعد شهود كل هذه الماسي في حياة امتي"11-262 ويختم رسالته الى الاجيال المقبلة بنبرة تواضعية منقطعة النظير موضحا ما يلي:"وقد وضحت لي كتابة هذه السيرة مدى أخطائي في رحلة طويلة، ولكنها من جهة أخرى كشفت لي عن استمراري طويلا في الخضوع لقيم القرية دون محاكمتها او مراجعتها،كما ابانت لي ان كل ما لقيته من الآلام في تلك الرحلة لا يقف في طول مليمتر واحد الى جانب الالاف امتار الالام التي عاناها الشعب الفلسطيني...ثم انني لا احب ان اسابق الذين يتحدثون عن مصلحة الاجيال المقبلة وازايد عليهم، لاني اعتقدت ان الاجيال المقبلة ستدرك مصالحها ضمن ظروفها وبيئاتها، فأما هؤلاء الاوصياء على الاجيال المقبلة فلست منهم في شئ. اني حين اجد أن حياتي كانت تقررها الظروف المتغيرة يوما بيوم او عاما بعام اعتقد انه ليس من حقي ان افرض مفهومات عصري على عصور تالية ولا ان ارسم لها منهجا اعده-غير صالحا لها-قبل ان ارسمه على الورق.هذا هو رأيي وأرجو ان اكون مخطئا."

وختاما نقول: لكي لا تستمر غربة المفكرين الحقيقيين في زمن الرداءة والاصطناع.

المراجع:

*جميع المقتبسات مأخوذة من كتاب غربة الراعي، تأليف إحسان عباس الطبعة الأولى الإصدار الثاني 2006 دار الشروق للنشر والتوزيع.

الحسين مروة شيخ الشهداء و مفكر التجديد الديني

اخترقت رصاصات غادرة من مسدس كاتم الصوت من قوى معادية للحرية والديمقراطية، الجسد النحيف للمفكر اللبناني الاصيل الحسين مروة، ذات يوم من شهر فبراير من سنة 1987 بمنزله بلبنان، مستهدفة اسكات صوت تنويري تثويري للفكر والوعي الى الابد، لكن اين لها ان تسكت فكرا تعمق في الجذور واصبح منهج تفكير في اصقاع الارض؟. لم يراع قتلته سنه كشيخ كبير السن ولا رمزيته كمفكر موسوعي اعطى للمكتبة الاسلامية اعمال بحثية عميقة وجريئة في التراث الاسلامي وفي النقد الادبي والكتابة الاعلامية المتميزة، لذلك حق تسميته بمبدع التجديد الديني في التراث الاسلامي الذي ندر جزءا كبيرا من حياته من اجل التنقيب عن النزعات المادية في مشروعه الكبير- النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية- حسين مروة كان مفكرا تنويريا بامتياز وعنوان النضال من اجل تحرير العقول والنفوس من الخرافة والوعي التضليلي.اغتالوه لانه كان يقول بان لبنان والعالم الثالث عموما لا يمكن ان يتحرر الا بتحرير عقل الشعوب من الاساطير المؤسسة للفكر السياسي والتي تأخذ لبوسا دينية او طائفية لتخفي مصالح او نزعات مادية لقوى مسيطرة تسعى لتأبيد ما لايمكن ان يتأبد،اذا ما استفاقت الشعوب من سباتها وناضلت من اجل تحرر عقولها واوطانها، هذه هي رسالة المفكر حسين مروة التي استشهد من اجلها وفقد الجسم الفكري والتنويري والثوري في العالم الثالث مفكرا تثويريا للفكر والوجدان، ولكن فكره لن يموت لانه فكر اصيل و راهن مع وجود واستمرار الظلم والغبن وانتشار الطائفية السياسية بلبوس ديني و توهج حركات الاسلام السياسي التي تستمر في استثمار الدين لتحريف وعي الناس والهاء الشعوب بصراع مع السماء بعدما كان من المفروض والضروري ان يجب توجيه نضال الشعوب وعقولها نحو الارض والسماء معا.

ان كتب ونضال حسين مروة و مجايليه من الكتاب والمثقفين والمفكرين، هم الاجدر ان يقولوا للاجيال السابقة والحالية، ولاجيال كثيرة تأتي: كيف كان حسين مروة يمارس مسؤولياته كانسان ومفكر وسياسي ومناضل على قدر سواء، دون اجحاف بحق جانب منه لحساب جانب آخر.. ولكي نقرب القارئ الكريم من شخصية وفكر هذا العملاق الفكري والاخلاقي نورد بعض اراء وافكار بعض المفكرين الكبار الذي عرفوا الرجل عن قرب وعاصروه و ناقشوه في افكاره ومشاريعه الفكرية بعمق و جدية وحب عميق للرجل ولفكره.

1-نبذة موجزة عن المفكر الشهيد حسين مروة:

قال عنه الدكتور الاردني شاكر النابلسي في كتابه الفكر العربي في القرن العشرين الجزء الثاني ص 695: مروة،حسين: مفكر وباحث وناقد واكاديمي ماركسي لبناني معاصر.قتلته الجماعات الاسلامية.من كتبه: النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية،تراثنا كيف نعرفه،عناوين جديدة لوجوه قديمة،وغيرها.

قال عنه ناشر كتابه النزعات المادية (دار الفارابي في طبعة جديدة وأنيقة من اربعة اجزاء) ما يلي:

¬ ولد حسين مروة عام 1910 (حسب الهوية، ويرجح انه ولد عام 1908) في قرية"حداثا"قضاء"بنت جبيل"في جنوب لبنان،اخذ دراسته الاولى في بنت جبيل والنبطية.

¬ عام 1924 سافر الى العراق ليتلقى العلوم الدينية واللغة العربية وادابها، في جامعة النجف الاشرف، وانهى دراسته عام 1938.

¬ عام 1948،شارك، عمليا واعلاميا وادبيا، في احداث الوثية الشعبية الوطنية العراقية التي اسقطت معاهدة"بورتسموت"البريطانية الاستعمارية مع حكومة العهد الملكي أنذاك.وعندما حدثت الردة الرجعية وأعيد"رجل الانجليز في العراق"نوري السعيد الى الحكم في ماي 1949، اصدر قرارا بإبعاد حسين مروة من العراق، فعاد الى وطنه لبنان في يونيو 1949.

¬ في لبنان بدأ يكتب زاويته اليومية المشهورة مع القافلة في جريدة الحياة واسهم في تأسيس مجلة"الثقافة الوطنية"اليسارية وفي تحريرها منذ العام 1952 الى احتجابها. كمجلة ادبية فكرية عام 1959 وشارك في تحرير مجلة"الطريق"منذ الخمسينات، واخذ يشرف على تحريرها منذ أواخر الستينات وحتى يوم استشهاده، شارك ايضا في تحرير صحف "النداء" و"الاخبار".

¬ مؤلفاته على التوالي:"مع القافلة"(مقالات) 1952-"قضايا ادبية"(دراسات في النقد الادبي) 1956-"الثورة العراقية"(دراسة في التاريخ الحديث)1985 –"دراسات نقدية في ضوء المنهج النقدي (نقد ادبي) –"النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية"(عمل تاسيسي في مجال الدراسة الماركسية للتراث الفلسفي العربي، جزءان1978) –دراسات في الاسلام بالاشتراك مع محمود امين العالم / محمد دكروب وسمير سعد)1978 –في التراث والشريعة 1983-عناوين جديدة لوجوه قديمة 1984-تراثنا..كيف نعرفه؟ 1986-دراسات في الفكر والأدب صدر بعد اغتياله سنة 1993.

¬ استشهد حسين مروة اغتيالا في منزله يوم 17 فبراير 1987 وله من العمر 79 سنة.
قال الشهيد حسين مروة عن حياته في مجلة الطريق عدد مزدوج يونيو 1984 ص 172"عدد خاص عن مئوية كارل ماركس):

"هذه كبرى المفارقات في حياتي..

رحلت الى النجف صغيرا، لكن الحلم الذي رحل معي كان كبيرا كبيرا...والمفارقة هنا ان الحلم هذا لم يستطع ان يعيش معي في النجف طويلا..لماذا؟

 الف سبب وسبب يمكن ان يقدم لي نفسه بهذه المناسبة، فأتعرفه، واعرفه جيدا، لكن السبب الحقيقي، المباشر او غير المباشر، هو الوحيد الذي اجهله منذ البدء، ولا ازال.
ان أصير"شيخا"مهيبا مرموقا، كوالدي..

ذلك كان حلمي الاول.سبق كل احلامي،سبق حتى احلام طفولتي، وحين بدأت تتدفق بها ذاتي اخذ يحتويها جميعا، او هو اخذ يلتهمها جميعا بشراسة...

كان الوصول الى الكتب والصحف الدورية الصادرة من مختلف البلدان العربية وعن مصر ولبنان بخاصة،متيسرا بالنجف أي خارج"اسوار"المحيط الدراسي الديني...كان يتوافر لنا هناك ان نقرا كتابات المفكرين والعلماء والمبدعين من رجال القرن التاسع عشر والثلث الاول فما فوق من القرن العشرين..مادة القراءة"المحرمة"علينا انذاك كانت من الغزارة بحيث يضيق وقتنا عن استيعابها...كنت أقرا الادب الرومانسي مع الفكر العلمي مع الكتابات العلمية الخالصة، مع البحث الاجتماعي: نظريا وميدانيا..وذاكرتي للعهد الاول من هذه المرحلة تحتفظ باسماء اعلام وكتب ومجلات لايزال لها وهجها الخاص عندي، رغم مسافة ما بيني وبينها الآن..ذلك الوهج النفاذ الذي علمني كثيرا ومهد لي الطريق الى ماركس، ثم وصل بي الى ماركس...اول لقاء لي مع اسم ماركس حصل سنة 1926..لكن ماركس هذا الذي التقيته عند انطوان فرح -صاحب رواية الدين والعلم والمال- لم استقبله بارتياح ولم اشعر انه سيخرجني من بلبلة المفاهيم المختلطة للاشتراكية...لكن رغم هذه الهواجس المقلقة، وقع في نفسي ان ماركس هذا لابد له شان عظيم في القضية التي يتحدثون عنها كثيرا باسم الاشتراكية..لكن، كيف سأصل الى صاحب هذا الشأن العظيم بصورته الحقيقية دون الصورة المضطربة هذه؟ بدءا من هذا السؤال، بدأت ادخل في العلاقة السليمة مع ماركس ومن هنا بدأ ماركس يدخل حياتي ومازال في النجف...لكن ماركس الماركسي تأخر عني وصوله بضع سنين بعد اللقاء الاول...حاولت الوصول الى ماركس الماركسي بوساطة راس المال غير ان نتاج المحاولة كان ضئيلا...اما الانتماء الفكري فلم يحتاج عندي الى ارادة مباشرة في زمن مباشر..فهو جاءني بالارادة البطيئة الخفية، والتراكمات المعرفية الهادئة،بالتحولات الكيانية السرية..كان الانتماء الفكري يتكون في داخلي مع تكوين اصوله الثوابت:"الاتجاهات المادية الهلامية في تفكيري قبل التقائي نص ماركس او انجلز او لينين.. اما مسالة الانتماء العضوي"الحزبي"فهي وحدها كانت العقدة..لقد تأخر عني هذا الانتماء، او تاخرت عنه..رغم ان الناس كانوا يستعجلوني اليه، كانوا يستبقون الى تسميتي"شيوعيا"قبل ان اكون شيوعيا.))

هكذا تحدث الشهيد حسين مروة عن حياته الاولى في النجف والظروف الفكرية التي ادت به الى لقاء ماركس وتغيير منظومته الفكرية راسا على عقب من طالب ينحدر من اسرة متدينة متشبعة بالفكر الاسلامي الى طالب عاشق لكتابات الماركسيين و العلمانيين والمتنورين.
2-اراء بعض المفكرين عن الشهيد حسين مروة:

• الدكتور حليم اليازجي: مجلة الاداب يناير سنة 1988

"ان قراءة الدكتور حسين مروة في أي من الموضوعات الفكرية التي تناولها تضع قارئه امام صورة الثقافة العميقة التي تميزت به اعماله سواء كان الموضوع ادبا ام نقدا للادب او سيرة او ما يشبه الترجمة والسيرة، ولا فرق بين في ذلك بين ما اتخذ شكل مقالة او مؤلف او قضايا في التراث فلسفة واجتماعا وتاريخا او شكل معالجات حية للاحداث المعاشة...هو الرجل العالم الزاهد في كل شئ، ماعدا نشدان الحقيقة التي يتحرر لها الانسان من الجهل،وما يستتبع الجهل من نزوة الوهم العابث لجمع الثروات على حساب فقر اخيه الانسان، وهو مادعت اليه الاديان في جوهر تعاليمها، والدكتور مروة عندما حول مساره من طالب للعلوم الدينية الى متعمق بقوانين المادية فانه في الواقع لم ينتقل من جوهر خلقي انساني الى جوهر مغاير بل استبدل اداة باداة يستقيم معها تحقيق جوهر ما نشدته الانسانية في جوهر طموحاتها عبر العصور.ان الدكتور مروة صاحب المنهج التاريخي في دراسته التراث، كان فيلسوفا حقا بمقدار ما كان مؤرخا للفلسفة،وهو اذ انطلق في تثويره لتراثنا القديم من مقدمات ثورية معاصرة قوامها فلسفة حركة التحرر الوطني حافظ على موضوعيته التاريخية في ملاحقته للفكر العربي في مراحل ازدهاره ظل ملتزما بالثوابت، ثوابت النضال الطبقي وثوابت اتصال هذا النضال تاريخيا بسلاحي المادية، سلاح الطبقات المعارضة او الدنيا وسلاح المثالية اللاهوتية لفئة الحكام...الدكتور مروة كمناضل ومفكر اغنى تراثنا عندما ثوره على ضوء منهجه التاريخي منطلقا من الحاضر، ولا مبالغة في القول انه اغنى الحاضر بما قدمه من استنارات حادة وعرضه المستفيض والعميق لجوانب الماضي.وكان بحق الشخص والظاهرة الذي حمل بامانة متطلبات حركة التحرر الوطني، وكان كتابه النزعات المادية"اسهاما جديدا في توطيد المفاهيم التراثية التي تضيء الروح الكفاحية لشعبنا في سبيل التحرر الوطني الاجتماعي في مختلف اقطاره وكسلاح فكري بوجه العملية الرجعية التي تجري منذ زمن بعيد في حقل التراث الفكري العربي لطمس الوجه التاريخي الصحيح لهذا التراث قصد العمل لاستمرارية الارتباط بين حاضرنا والفكر المتخلف من ماضينا البعيد.))

• الدكتور فالح عبد الجبار: مجلة الاداب البروتية سنة 1988 ص 65:

"ابتداء ينبغي تثبيت عهد وفاء لذكرى المفكر التنويري العملاق، الشهيد مروة، ان لا تمر الجريمة بلا عقاب.لقد اعلنت السلفية، في رعبها من حضور العقل، ان الجهل هو المعرفة الوحيدة الممكنة والمسموحة، وان الالتفات الى الماضي هو احسن لرؤية الحاضر، باختصار رمت السلفية بقفاز التحدي، وينبغي لكل مثقف متنور ان يقبل الرهان.ففي المعركة لا يخسر الفكر غير قيوده... تكتسي الفرضيات التي طرحها مروة في مبادرته الريادية (نقد ونقض التراث) اهمية راهنة. فالتاريخ، بتفسيره الراهن، ليس محايدا.انه جزء من الصراع الفكري الدائر..
اولا: ان الدين الجديد من حيث مضمونه الاجتماعي والايماني (كما يقول مروة) يحمل صفة تاريخية تعبر عن اشكال الوعي الانساني الممكن بلوغها في تلكم الفترة. ان التاكيد على الطابع التاريخي (هذا الحكم يشمل ايضا العناصر العقلانية واللاعقلانية في كل تراثنا) مسالة بالغة الاهمية لدحض السلفية التي ترى الى الماضي كسكون، كلحظة ثابتة يمكن اعادة انتاجها في"المستقبل"كما انها مسألة هامة في نقد القبول المطلق بالعناصر العقلانية للتراث، دون اعتبار لطابعها التاريخي، وكون العقلانية تتجلى باشكال تاريخية، انتقالية، تطورية.فما من احد اليوم، مثلا، يقبل باعادة انتاج"المادية"بصيغتها اليونانية القديمة، او بصورتها"الميكانيكية"(مادية القرن الثامن عشر) نعني ان الافكار ليست تقدمية بصورة مطلقة، دائما وابدا، فهي تقدمية في طور تاريخي محدد.

ثانيا:ان تشريعات الاسلام الاولى وبخاصة الابقاء على العلاقات العبودية، والحفاظ على الملكية الخاصة (بشكلها التاريخي عهد ذاك) هي كما يقول مروة، انعكاس للواقع الاجتماعي، وان مسعى تخفيف الشقاء المادي في تلك الحقبة (تحريم الربا والاحتقار،فرض الضرائب على الاغنياء) اتجاه تاريخي لم يقتصر على مجتمع الجزيرة.فقد شهدت مجتمعات اخرى(لم يظهر فيها انبياء او مرسلون) تحريما للربا والاحتكار.

ثالثا: ان العوامل التاريخية التي جعلت المسيحية (مثلا) دين الدولة، (نشوء الدين المسيحي في مجتمع انجز انتقاله من المشاعية وبرزت فيه الدولة) فيما جعلت الاسلام دولة دينية، ان هذه الشروط التاريخية، التي يتناول مروة جانبها الثاني هي جزء هام من المعركة الدائرة اليوم مع التيار السلفي الذي يرى ان المخرج من ازمة التطور الراسمالي التابع(التي لا يدرك جوهرها المادي) يكون بالانتقال من الاسلام كدين للدولة الى دولة دينية، اي باختصار اقامة دولة ثيوقراطية، تسبغ على حكم طبقة معينة، طابعا مقدسا غير قابل للمس.

• الدكتور علي سعد: مجلة الاداب العدد الثاني سنة 1988 ص 54:

"وحسين مروة اثبت في كل كتاباته انه المقاتل الاكثر توقدا وحماسة وثباتا وشمول ثقافة وعمق رؤية ونفاذ بصيرة وقدرة تعبيرية على الجبهة العريضة التي تتصدى لكل القوى التي تعيق تقدم الانسان.وهي القوى التي تنضوي تحت اسماء وتوجهات متنوعة، المثالية والرجعية والسلفية واللاعقلانية والعبثية والفاشية، وغيرها من نزعات وعقائد تتلاقى في محصلاتها الاخيرة على التقليل من دور العقل في معركة الوجود ومن قدرة العلم على خدمة تقدم العقل البشري...لقد استطاع حسين مروة ان يقارع بشجاعة ودراية كل هذه النزعات الفاعلة والعقائد دون كلل او ملل، على امتداد حياته الفاعلة، وان يعري، بذكاء مسلح بالمعرفة العميقة وبالاداء التعبيري الرائع، زيف مرتكزاتها الفكرية وخطر مفاهيمها.وقد قام بهذه المهمة دون خوف او وجل، ومع وعيه الكامل لما يمكن ان تجره عليه محاولاته التصدي لكل هذه المفاهيم المتجذرة في غياهب التخلف او المرتهنة لقوى عدوانية متنوعة، من اخطار جسيمة على حريته وحياته.
وانا الذي اتيح لي ان اقترب من حسين مروة،بفعل روابط صداقة ترقى الى بداية الخمسينات لم تفتني ملاحظة الشمائل والصفات الخلقية المدهشة التي اشار اليها الكثيرون ممن كتبوا عنه،وخاصة صفات الوداعة وروح الود والكياسة في التعامل مع الاخرين، وحتى الذين كان يخالفهم الراي...واول ما يلفت النظر عندما تلتقي مع حسين مروة هو شعورك بتواضعه الجم وابتعاده الدائم عن اظهار الشموخ، ان في جلسته او في طلته، وتحاشيه الحديث عن نفسه والتفاخر بشئ من مواقفه او اكتشافاته الفكرية، وميله الغالب الى الصمت وتحدثه بصوت منخفض يغلب عليه التردد..فقد ظل رحمه الله، حتى مشارف الثمانين، وكأنه يقف من الاشياء والناس موقف طالب العلم المتلهف للمعرفة.وقد يكون هذا النهم للمعرفة والفرح الطفولي باكتشاف ثمرات عقول الاخرين، دون شعور بعائق يعوقه عن الوصول اليها، هذا النهم والفرح اللذان لازماه الى اخريات ايامه وتعمقا بصورة مطردة في نفسه، هما اللذان عناهما شهيدنا الكبير عندما صرح في حديثه الصحفي للشاعر عباس بيضون:(ولدت شيخا واموت طفلا).

• الدكتور اسعد دياب: مجلة الطريق العدد الثاني السنة 56 سنة 1997 ص 7:

لقد اعلى حسين مروة بفكره ونضاله مداميك عمره طبقة طبقة، فاستقام البناء وتماسك بحيث عرفناه شابا بعد ان تجاوز السبعين، وشهدناه،وها نحن نشهد من جديد لقامته الرفيعة المنصوبة بكامل علوها العلمي والخلقي. وتأخذك المقدمات التي وضعها لاهم مؤلفاته الى تواضع يتاخم الخفر،فهو يصف دراساته النقدية بانها"محاولات متواضعة ارجو أن تنال شرف كونها بحثا عن الحقيقة، وشرف كونها لبنة صغيرة في بناء نهضة نقدية منهجية في بلادي"ثم يكتب في مقدمته لمؤلفه الجليل"النزعات المادية في الفكر العربي الاسلامي""ليس لدى مؤلف هذا الكتاب ادنى وهم بأنه سيقدم الدراسة المطلوبة بشروطها الكاملة، او بالاهم من شروطها،فان ذلك عسير المنال على جهد فردي، حتى في حالة اكتمال العدة لمثل هذا الجهد"مثل هذا التواضع العلمي يجلسنا في حضور انسان ينكر على نفسه ليعلن في لحظة الانجاز محدودية الجهد، وهو لعمري جهد كبير حقا قياسا الى عمر رجل فرد، وما كان لهذا الجزء ان ينجز في كل حال لو لم يكن الرجل من الصديقين الذين يمارسون في يومياتهم حياة القناعة المادية حتى التقشف، والتطلب العلمي حتى النهم....وتبقى كلمات مؤلفاتك خضراء تورق وتزهر في ربيع دائم.."

• الدكتور جميل قاسم:مجلة دراسات عربية العدد ¾ السنة35 يناير فبراير 1999:

"الكتابة عن حسين مروة، في الذكرى العاشرة لاغتياله"كتب المقال سنة 1997"وهي قبل وبعد أي اعتبار، اعتراف باسهامه،كشاهد وشهيد،في الفكر العربي المعاصر والحديث، من وجهة نظر تقدمية وتحررية وديموقراطية.غير ان الاحتفاء النقدي بالمفكرين الافذاذ لا يجب ان يقتصر على التقريظ والتمجيد السياسي و الايديولوجي.من هنا تقتضي المراجعة العلمية تقديم النقد، والمقاربة النقدية، على الدعاية.ولاسيما اذا كان المفكر صاحب مشروع فكري وفلسفي كبير مثل النزعات المادية في الفلسفة العربية-الاسلامية لا يحتاج اصلا الى دعاية بقدر حاجته الماسة الى المراجعة لاية معايير وقوانين ومبادئ وقواعد وغايات حتمية وخطية وضرورية ومتعالية، وذلك كله انطلاقا من النص والاثر المدروس."

3- في سبيل الختم:

انما نريد من هذه المقالة المتواضعة امام قامة معرفية وفكرية كبيرة من حجم الشهيد حسين مروة، ان نقدم للأجيال المقبلة والحالية من الشباب، مفكر ثوري ناضل من اجل الكلمة الحرة وعمل جاهدا على فتح ورش مستغلق و كبير هو ورش تنقية التراث الاسلامي وتمحيصه بمنظور مادي جدلي ولم يكن غاية المقال التطرق لمجمل افكاره او ابداعاته لانها كثيرة وغنية ومتشعبة، بل سعينا الى الاكتفاء بتقديم المفكر حسين مروة و التعريف به، لقد كان هما دائما لدى الرجل، على امتداد حياته السياسية، ان يرى تراثنا الاسلامي كرافعة لتطورنا وتحررنا من اسار التخلف والاسطرة و الاستغلال، وكان الشهيد حسين مروة نصيرا للمظلومين و رفيق للمعذبين في الارض بلغة فرانز فانون، لكن ايادي الارهاب الاثمة اغتالته، لكنها لن تغتال فكره ابدا.

ادوارد سعيد: مثقف المضطهدين وناقد الاستشراق المؤدلج

غيب السرطان المفكر والباحث والناقد الفلسطيني ذو الحضور العالمي المتميز الراحل ادوارد سعيد يوم 25 شتنبر 2003 عن عمر يناهز ثمانية وستون عاما بعد حياة ثقافية وفكرية وفنية خصبة وغنية استطاع في حياته ان يفرض نفسه كمثقف مفكر مؤمن بقضايا الديموقراطية وحقوق الانسان بالعالم الثالث و ان بشكل تيارا ادبيا نقديا مضادرا للاستعامار والافكار الكولونيالية قائم الذات في الاوساط الجامعية الغربية وخصوصا الامريكية كما ناضل من اجل تصحيح صورة الاسلام وفلسطين خصوصا في اوساط النخبة العلمية الغربية داحضا بذلك مجموعة من اراء المستشرقين الذين شوهوا الاسلام والقضية الفلسطينية وربطوا هما بالارهاب والتطرف ومعاداة الاخرين.

رغم ان عائلة ادوارد سعيد كانت الى حد ما ميسورة الحال الا انه عاش طفولة صعبة و فترة شباب اصعب مغتربا في عدة عواصم وقد تحدث ادوارد سعيد باسهاب عن سيرته الذاتية الصعبة في كتابه خارج المكان الذي صدر سنة 1996 تاملات في المنفى سنة 2000 وقبل ذلك وذاك شذرات من السيرة الذاتية في كتابه ذاكرة الشتاء: افكار عن الحياة والمنفى سنة 1983. ولد ادوارد سعيد في القدس في 1 نونبر 1935 ثم هاجر مع عائلته من فلسطين الى القاهرة عام 1947 حيث درس فيها المرحلة الابتدائية ثم انتقل من القاهرة الى بيروت ثم منها الى الولايات المتحدة الامريكية سنة 1951 وتخرج من جامعة برنستون عام 1957 وحصل على الدكتوراة من جامعة هارفرد عام 1964 وعمل استاذا للادب الانجليزي والادب المقارن في جامعة كولومبيا بنيويورك.

لم يهتم ادوارد سعيد في بدايات حياته بالسياسة ولا بالافكار الثورية التحررية بل اتجه نحو الادب والموسيقى وهو ما ميز كتاباته الاولى واطروحته للدكتوراة التي حولها الى اول كتاب سماه جوزيف كونراد وادب السيرة اصدره سنة 1966، التي كانت حول الاديب البولوني جوزيف كونراد الذي تشبه سيرته كثيرا سيرة ادوارد سعيد من حياة اغترابه المبكر من وطنه و حرمانه من حنان الام منذ الطفولة بفعل الهجرة الى جانب قسوة الاب وسلطته المتسلطة الغليظة، هكذا بدا ادوارد سعيد حياته وهكذا كانت حياة كونراد جوزيف كذلك. لكن تنامي تاثير الصراع العربي الاسرائيلي على الراي العام الامريكي وانتشار موجات العنصرية ومعاداة الاجانب في الولايات المتحدة الامريكية وحرب 67 و 73 بين العرب واسرائيل كلها عوامل ادت الى ايقاظ الوعي النقدي والنضالي لدى ادوارد سعيد كما ان لهذه العوامل مجتمعة ينضاف اليها المد الثوري التحرري الذي يعرفه الادب العالمي خصوصا لدى جيل من الكتاب والنقاد المتميزين الذين تاثر بهم ادوارد سعيد اشد التاثر ونذكر منهم على المفكر والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي استفاد ادوارد سعيد كثيرا من منهجيته العلمية في تناول القضايا وتفكيكها وخصوصا كتابه اركيولوجيا المعرفة و الكاتب والمناضل الايطالي الكبير صاحب كتاب دفاتر السجن والذي سجنته الفاشية الايطالية لاسكات صوته واخراس افكاره ومن هذا المناضل الثوري الايطالي استفاد الراحل ادوارد سعيد من عدة مفاهيمية فكرية كبيرة واستعار منه مفاهيم السيطرة والهيمنة والمفكر العضوي وغيرها من الفاهيم التي استعملها ادوارد سعيد في انتاجاته الادبية والفكرية المتميزة. والمفكر الثالث هو المفكر والناقد الادبي الكبير الانجليزي الويلزي الاصل وليامز ريموند الذي تاثر به الراحل ادوارد سعيد تاثرا كبيرا في مناهجه و طرائق تفكيره.

سنة 1978 اصدر المفكر ادوارد سعيد كتابه الذائع الصيت الاستشراق وقد شكل صدوره ضجة كبرى في الاوساط العلمية والاكاديمية والسياسية الغربية والشرقية على وجه العموم، فكان كتابا مؤسسا يعتمده نقاد الفكر الاستعماري وتعتمده الحركات التحررية الاسلامية والقومية واليسارية المضادة للهيمنة الغربية فشكل مرجعا فكريا لها يسند افكارها ويبرهن على ان الهيمنة الثقافية والفكرية الغربية مستمرة رغم اضمحلال الاستعمارات العسكرية المباشرة وتقلصها في خضم الاستقلالات السياسية للشعوب. لكن رغم شهرته وتاثيره الكبير يعتبر بعض النقاد والمفكرين ومن بينهم المفكر والمترجم الاردني وليد حمارنة ان كتاب الاستشراق ليس افضل كتب المفكر الكبير ادوارد سعيد وان كان اشهرها،اذ اعتبر المفكر الاردني كتاب البدايات وصور المثقف احسنها واعمقها كما ان بعض الكتاب شن هجوما لاذعا على ترجماته الى العربية التي اعتبروها ترجمات مخلة بروح الكتاب و بعيدة عن فهمه و تملك افكاره.

ساهم ادوارد سعيد بشكل كبير في خلخلة الوعي النمطي الغربي بشان القضية الفلسطينية و فتح حوارا معمقا حولها في الاوساط الاكاديمية والعلمية الامريكية جلب له ذلك نقمة العديد من الاوساط السياسية والفكرية المساندة لاسرائيل بل قام عدد من المتعصبين للراي والموقف الاسرائيلي الى احراق مكتبه في الجامعة سنة 1991.كما ان كتابات ادوارد سعيد كشفت زيف الادعاءات العنصرية لبعض المفكرين الغربيين الذي يعتبرون العرب والمسلمين والاسيويين والافارقة اجناس دون الاجناس الاخرى و ان دمقرظتهم او معاملتهم بمنطق حقوق الانسان غير مستساغ ولا مقبول وفي هذا الموضوع بالذات انتقد ادوارد سعيد احد كبار المستشرقين الذين يبجلون النظرة الغربية ويعتبرون منتهى الكون ويتعلق الامر ببرنارد لويس. كما انتقد المفكر ادوارد سعيد الامبريالية ونقد الياتها في اخضاع الثقافات و الهويات الاخرى في كتبه الاستشراق 1978 والامبرالية والثقافة 1993 وصور المثقف 1994، كما ناضل المفكر ادوارد سعيد بشكل مباشر في النضال الفلسطيني وانتسب في مرحلة من المراحل للمجلس الوطني الفلسطيني و سعى الى قيام دولة علمانية ديموقراطية ثنائية القومية في فلسطين التاريخية لكن شروع منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات مع اسرائيل وتوقيع اتفاقيات اوسلو جعلت ادوارد سعيد يتخذ موقفا معارضا لهذه الاتفاقيات فجعله في مرمى الانتقادات الاسرائلية والفلسطينية على حد سواء.

بقدر ما كانت حياة المفكر والفنان الموسيقي ادوارد سعيد حياة صعية شاقة مليئة بالتحديات فانه استطاع ان يفرض نفسه كمفكر محترم في القارات الخمس وكمناضل متشبع بالقيم الاسانية بدون حسابات الربح والخسارة و جسد بذلك مثال المفكر المثقف العضوي بلغة انطونيو غرامشي، لذلك قال عنه الدكتور فيصل دراج في احدى مقالته التأبينية له في مجلة الطريق البروتية عدد 5و6 لسنة 2003 مايلي:"دافع سعيد عن"النقد الدنيوي"وشاء ان يكون مثقفا دنيويا، في النظر والممارسة. وعن نظر دنيوي مطلق السراح صدرت وظيفة المثقف، التي جسدها الناقد الفلسطيني ممارسة، قبل ان يعطيها صياغة نظرية لا تكتمل.واول هذه الوظائف"تمثيل"المحرومين،اللامسموعين،اللاممثلين،المغبونين والمهمشين..كأن سعيد، الذي نقض ثقافة الاختصاص، خص المثقف الحقيقي بوضع ثقافته تحت تصرف هؤلاء الذين لا"ثقافة"لهم،والذين ان امتلكوا ثقافة موائمة لا يحسنون التعبير عنها،كما يفعل المثقف، او لا يجدون المكان المناسب للاجهار بها....ساوى سعيد بين الثقافة والمقاومة وهجس بوعي ثقافي جديد ينصر المهزومين ويواجه المنتصرين، ويوزع حقوقا متساوية عادلة على الجميع.وصف سعيد، قبل زمن المثقفين الحقيقيين بانهم"مخلوقات نادرة جدا"واحتفت هذه المخلوقات بعد زمن بانضمام مثقف نادر اليها يدعى: ادوارد وديع سعيد."

سمير امين: المفكر الاقتصادي الماركسي الذي ناهض التبعية وناضل ضد العولمة الراسمالية
برحيل المفكر الماركسي الكبير سمير امين تفقد شعوب الجنوب الثالثية مناصرا كبيرا لقضاياها في العالم، مفكر حلم بعالم متعدد الاقطاب يقضي على الهيمنة الراسمالية المتوحشة التي تتغيأ استعباد الشعوب و الامعان في اذلالها ونهب ثرواتها، وفاة سمير امين خسارة لكل القوى اليسارية التقدمية الدولية التي تكد و تناضل من اجل عالم المساواة والحقوق الكونية بدون تمييز و الطامحة للانفكاك من اسر الديون والتبعية الاقتصادية والسياسية التي افقرت الشعوب وجعلتها لقمة سائغة في فم المؤسسات الدولية التي فرضت وصاية اقتصادية وسياسية وسياسات تقشفية ظالمة على البلدان التالثية تحت مبررات الاصلاح الاقتصادي و السياسي فيما سمي بالتقويمات الهيكلية وهي في الحقيقة سياسات تقشفية اضرت ايما ضرر بالشعوب الفقيرة المظطهدة بلغة فرانز فانون، يكفي ان نحصي عدد البلدان التي كانت ضحية المؤسسات المالية لدولية لنرى حجم الضرر الكبير الذي الحقه الراسمال الدولي بحقوق الشعوب وكرست المؤسسات الدولية والحكومات الراسمالية الراعية لها تطورا لا متكافئ بين الشمال والجنوب وتنمية بسرعتين و عالم غني يستحوذ على خيرات العالم ويوزع الدمار والحروب في كل ارجاء العالم وشعوب فقيرة محتاجة معوزة في الجنوب تعيش في واقع الدمار والحروب الاهلية والفتن المصطنعة اغلبها خارجيا لجعلها تابعة واسيرة للرعاة الغربيين في المراكز العالمية الكبرى. سمير امين نموذج للمفكرين الماركسيين الذين تشبتوا بامل قيام مجتمع انساني افضل بدون ان يتأثر بدعوات نهاية التاريخ والانسان الاخير التي راجت منذ بداية عصر الانهيارت الايديولوجية الكبرى، فصمد امام بريق الراسمالية ووعودها البراقة الخادعة بل وقاوم بتحليلاته ودراساته وممارسته النضالية الانجازات التنموية المفترضة والموهومة للراسمالية المتوحشة.

نبذه عن حياة الدكتور سمير امين وبعض كتاباته:

ولد الدكتور سمير امين في 3 شتنبر 1931 من اب مصري وام فرنسية امتهنا كليهما الطب، قضى فترة طفولته في بور سعيد المصرية حيث كان تلميذا بالمدرسة الفرنسية وحصل على البكالوريا سنة 1947، والتحق بباريس في نفس السنة الى غاية سنة 1957 حيث حصل على دبلوم في العلوم السياسية سنة 1952 و دبلومه في الاحصاء سنة 1956 ودكتوراة في الاقتصاد السياسي سنة 1957 من السوربون وكان موضوعها حول التراكم الراسمالي والتطور اللامتكافئ على الصعيد الدولي. كان الدكتور سمير امين من مؤسسي الحزب الشيوعي المصري"راية الشعب"في بداية الخمسينات كما التحق بالحزب الشيوعي الفرنسي وكان يناضل ضمن الحلقات الماوية حيث انحاز لافكار ماو تسي تونغ وابتعد عن الافكار الستالينية التي كانت مسيطرة انذاك على الاحزاب الشيوعية في العالم. بعد تخرجه من فرنسا سنة 1957 التحق الدكتور سمير امين ببلده مصر للعمل مساعدا لمدير للمؤسسة الوطنية من سنة 1957 الى سنة 1960 الى جانب المفكر المصري والاقتصادي الماركسي الكبير اسماعيل صبري عبدالله الذي عين اول مدير للمؤسسة الوطنية المصرية لادارة القطاع العام المصري وكانت هذه المرحلة دقيقة قي التاريخ السياسي المصري،مع نجاح ثورة الضباط الاحرار على يد محمد نجيب ومن بعده جمال عبد الناصر، وبدء عملية التأميمات للمؤسسات المصرية الانتاجية ومحاولة تاميم قناة السويس سنة 1956 بعد مؤتمر باندونغ لشهر ابريل من سنة 1955 والذي عرف بمؤتمر دول عدم الانحياز والعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. كل هذه الاحداث السياسية المتلاحقة والهامة في التاريخ السياسي المصري والعالمي اثرت تاثيرا كبيرا في شخصية ونضال الدكتور سمير امين الذي ساند بآرائه وتحليلاته الساحة الفكرية والنضالية من اجل تنمية متمركزة على الذات لاقتصاديات الدول النامية الثالثية، ساهم الدكتور سمير امين في مسيرته النضالية الفكرية والميدانية في تأسيس عدد من المراكز العالمية المهتمة بمناهضة العولمة وبالتنمية الاقتصادية لدول العالم كمنتدى دكار والذي يضم شبكة من الهيئات الدولية والمفكرين التقدميين المعادين للعولمة الراسمالية ومن انصار الاصلاح الاجتماعي والمجلس الافريقي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية لدول العالم الثالث وكان سمير امين من اوائل المنظرين الماركسيين الذين تنبؤا بانهيار الاتحاد السوفياتي بل انتقده انتقادا شديدا في وقت كان فيه انتقاد الاتحاد السوفياتي واشتراكية الدولة فيه طابوها لدى المفكرين الماركسيين.

بعض مواقف الدكتور سمير امين من القضايا الاقتصادية والسياسية في العالم (اكتفي بذكر موقفه من الاسلام السياسي و العولمة الراسمالية والدين)

عن الاسلام السياسي يقول سمير امين ما يلي: "ليست تلك الحركات الاجتماعية المتباينة من جوانب عديدة-ولكن تشترك في زعمها ان ’الاسلام هو الحل’ –هي حركات دينية بالمعنى الصحيح للكلمة.وبالتالي فان نعتها الشائع ب"الاصولية"على سبيل المثال هو تسمية خادعة،ولو انها تبدو صحيحة من اول وهلة من حيث الوصف" ويضيف الدكتور سمير امين موضحا رايه في الحركات الاسلامية:""ففي واقع الامر لا تهتم الحركات بالعقيدة الدينية بالدرجة التي ينتظر من علماء الدين ان يهتموا بها.فلا تقدم جديدا في هذا المجال،بل تكتفي بالمفاهيم والممارسات والطقوس السائدة بشكل خاص في المجتمعات الاسلامية كما هي. علما بأنها تطلب من الشعوب المعنية ان تحترم هذه الممارسات والطقوس احتراما حرفيا.فليس لتلك الحركات اذن طابع مشابه لما هو عليه في لاهوت التحرير عند بعض المسيحيين في امريكا اللاتينية خاصة.....فالحركات الاسلامية هي حركات سياسية ولا غير، وبالتالي فإن تسميتها الصحيحة هي"حركات الاسلام السياسي"..من يمتنع عن تحليل استراتيجيات الاستعمار المهيمن بصفته نقطة الانطلاق الضرورية لتقويم دور مختلف التيارات السياسية العاملة في الساحة، من يرى ان هذا النقاش خارج الموضوع لا يمكن ان يقدم تحليلا صحيحا وتقويما مفيدا لمختلف الحلول المطروحة."

يقول الدكتور سمير امين عن الراسمالية والعولمة الاقتصادية ما يلي:"القوى المسيطرة هي قوى مسيطرة لانها تنجح في فرض لغتها على ضحاياها.وهكذا استطاع"خبراء"الاقتصاد التقليدي ان يشيعوا الاعتقاد بان تحليلاتهم وخلاصاتهم تفرض نفسها لانها"علمية"،وبالتالي موضوعية، ومحايدة ولا غنى عنها.هذا ليس صحيحا.فالاقتصاد"الصرف"الذي يزعمونه ويبنون عليه تحليلاتهم لا يتعامل مع الواقع، بل مع نظام متخيل يقع على الطرف النقيض من الواقع. هذا الاقتصاد الوهمي يخلط المفاهيم ويمزج التقدم بالتوسع الراسمالي، والسوق الراسمالية.ولكي تطور الحركات الاجتماعية استراتيجيات فعالة، عليها ان تتحرر من هذا التشويش."..مشروع الجواب الانساني على تحدي التوسع الراسمالي المعولم ليس"طوباويا"على الاطلاق، هو وحده المشروع الواقعي الممكن.بمعنى ان انطلاق تحول في هذه الوجهة سيلف حولف،سريعا، قوى اجتماعية واسعة،وقادرة على فرض منطقه.واذا كان هناك"طوبى"بالمعنى السلبي والمبتذل، فهي مشروع ادارة النظام كله من خلال اختزال الادارة الى تظبيط بواسطة السوق....ليست الراسمالية نهاية التاريخ، ولا الافق الذي لا يمكن تجاوزه في الرؤيا الى المستقبل.انها بالاحرى، فاصلة تاريخية بدأت سنة 1500 تقريبا وبات من الملح اليوم وضع نهاية لها...في برنامج الراسمالية تمثل عملية التسليع المتنامي للكائن الانساني وقدراته الابداعية والفنية والصحة والتربية وموارد الطبيعة والثقافة والسياسة.كل شئ وهذا ينتج تدميرا مثلثا، للفرد، والطبيعة، والشعوب. والميادين التي تكشف اتساع هذا التهديد بالدمار مترابطة،يلحمها منطق التراكم ذاته....تسليع الصحة وتخصيصها: دعوة واضحة لتنظيم"سوق للاعضاء البشرية"بات يقتل اطفال برازيليون من اجل تزويدها بالقطع اللازمة.. تسليع التربية وتخصيصها: طريق ملكي لتعميق اللامساواة الاجتماعية، وتحضير مجتمع عنصري للمستقبل....تسليع صناديق التقاعد وتخصيصها: وسيلة لتغذية صراع الاجيال، بصورة عبثية بالتاكيد...تسليع البحث العلمي: وهو بالمناسبة تخصيص زائف اذا ما اخذنا بعين الاعتبار دعم الانفاق العسكري في الولايات المتحدة مثلا، حيث تستحوذ على الارباح الشركات الكبرى المستفيدة من هذه"الاسواق العامة"... ان كتاب الراسمالية القائمة فعليا كتاب اسود فعلا

يقول الدكتور سمير امين عن الدين والعلمانية تحديدا ما يلي:"ومن المؤسف ان الكثيرين لا يدركون تماما ماهية العلمانية هذه ومدى اهميتها من اجل بناء مجتمع ديموقراطي على مستوى تحديات العصر.ولعل السبب في رفضهم العلمانية هو انهم يخشون ان تكون العلمانية مرادفا لمعاداة الدين.ازعم ان هذا الخلط لا اساس له.وبالتالي فان العلمانية من شانها ان تحرر الدين من استغلال السلطة له.وبالتالي فالعلمانية من شانها ان تقوي بعد القناعة الفردية الحرة من العقيدة،وذلك من خلال فك الربط بين الدين والسلطة،وهو ربط يكبل العقيدة باوضاع الدين كظاهرة اجتماعية ذات طابع تاريخي، وفي هذا الاطار يبدو لي ان العلمانية ليست سمة خاصة بالمجتمعات المسيحية كما يرى السلفيون، فالمجتمع المسيحي الاوروبي للقرون الوسطى لم يعرف مفهوم العلمانية، بل كان يقوم على مبدأ وحدة الدين والدنيا على غرار ما هو عليه في المجتمعات الاسلامية الان. ان هذه الوحدة تعطي للدين طابعا اجتماعيا غالبا على حساب الاقتناع الحر بالعقيدة، وهو سمة مشتركة لجميع المجتمعات السابقة على الراسمالية."

في سبيل الختم:

ليس من الصدفة ان يكون من اخر كتابات الراحل سمير امين كتابه الهام الشامل حول الراسمالية الذي عنونه بالفيروس الليبرالي، حيث اعتبر الليبرالية مرض مزمن ينتقل بسرعة ويقضي على امال الشعوب ويقوض نضالاتها من اجل التحرر والانعتاق من اسر التنمية الموهومة والمزمعة التي تتنبأ بها الراسمالية المعولمة، افنى الدكتور سمير امين حياته مناضلا من اجل تطور متكافئ على صعيد عالمي بين جميع الشعوب ومناضلا ضد ديون انهكت اقتصاديات الدول النامية وناضل اكثر من اجل تنمية متمركزة على الذات تقضي على التبعية الاقتصادية والسياسية التي فرضتها الانظمة الراسمالية في المراكز مستعينة بانظمة طرفية مستبدة تستمد قوتها وشرعيتها من الدعم والحماية من صنيعتها في دول المركز.لم يكن الدكتور سمير امين ارثدوكسيا بل نادى دائما في حياته من اجل تقويم الاشتراكية من جميع جوانبها الفكرية والتطبيقية ودعى في اكثر من مقال وكتاب وندوة الى تنمية ديموقراطية شعبية انسانية تحاول فك الارتباط تدريجيا مع الراسمالية المعولمة و تنتج طريقا ثالثا يقطع مع اوهام من قبيل ان مجتمع السوق والاستهلاك افضل الممكن وانه يفرض الديموقراطية وحقوق الانسان فيما الواقع يقول يوم بعد يوم بان الديموقراطيات الغربية قد نقول تجاوزا بانها حققت ديموقراطية سياسية لكنها في الجانب الاقتصادي والاجتماعي في ازمة حقيقية لذلك نختم بقولة سمير امين في كتابه بعض قضايا المستقبل:" خلاصة القول ان الراسمالية لا توفر الشروط الضرورية من اجل تقدم ديموقراطي صحيح ذي مضمون اجتماعي متحرر حتى في المراكز المتقدمة، فكيف في الاطراف حيث لا توفر الراسمالية حتى ادنى الشروط اللازمة من اجل تحقيق ممارسات ديموقراطية على غرار ماهو عليه الامر في المراكز."

فيصل دراج: الناقد الروائي الكبير و مثقف الاغتراب المزدوج.

بصم المفكر الكبير فيصل دراج الساحة الفكرية والثقافية بكتابات تحليلية كثيرة وغزيرة تناولت مجالات مختلفة يجمع بينها الالتزام الثقافي والفكري بقضايا العقلانية والتقدم والحرية ونشدان النماء والتطور والتقدم لمجتمعاتنا الرازحة تحت نير الاستعباد و التخلف والاستبداد، فالدكتور فيصل دراج من نخبة المفكرين المتنورين الذين بذلوا عمرهم و جهدهم من اجل استقلالية المفكر والتزامه بقضايا الحرية والديموقراطية في زمن صعب ان تجد مثقفا ومفكرا يقول ما يفكر به بدون وجل ولا دوران. عاش المفكر الفلسطيني فيصل دراج مغتربا مبكرا عن وطنه بفعل الاحتلال فانتقل مكرها الى لبنان حيث اشتغل في الفكر والاعلام واشرف على مجلة شؤون فلسطينية وعمل الى جانب الفلسطيني المرموق محمود درويش، وهذه الفترة البيروتية اثرت فيه التاثير الكبير حيث كانت لبنان في هذه المرحلة تعيش فورة وثورة فكرية وثقافية متميزة خصوصا وانه التقى مع رعيل من المفكرين اليساريين الذين استفادوا من وجود هامش من الحرية المتوفر بلبنان في غياب دولة مؤسساتية قامعة، فنسج فيصل دراج علاقات وصداقات متينة مع المفكرين الكبار امثال حسين مروة الذي تأثر فيصل دراج بتواضعه و حبه للخير وتفانيه في خدمة الفكر المستنير، كما تعرف على المفكر اللبناني الماركسي مهدي عامل الذي تساجل معه في عدة قضايا فكرية وسياسية وخصوصا نقده لكتابه بحث في اسباب الحرب الاهلية اللبنانية كما تعرف على يمنى العيد و محمد دكروب الذي كان المسؤول عن مجلة الطريق البيروتية الذائعة الصيت وغيرهم من رواد الكلمة التي يمكن خندقتهم في خانة اليسار الفكري والثقافي. في خضم العلاقات الانسانية والنضالية التي نسجها في الساحة البروتية، جاء الاجتياح الاسرائيلي للبنان سنة 1982 ليجبر ويرغم المفكر فيصل دراج على ترك بيروت ويغترب اغتراب متجدد، حيث غادرها متوجها الى دمشق التي احتضنته وتعلم فيها ودرس في جامعاتها الى ان اضطر الى الاغتراب مرة اخرى والرحيل مضطرا بعد الربيع السوري وما تلاه من احداث تراجيدية بعد 2011. حصل الدكتور فيصل دراج على درجة الدكتوراة في الفلسفة من احدى الجامعات الفرنسية وتحديدا من جامعة تولوز سنة 1974 وتقدم باطروحة حول الاغتراب والتمزق الهوياتي الذي عانى منه المفكر طيلة حياته كفلسطيني حيث عانى من ويلات التهجير والنفي القسري واجبر على مغادرته قريته الفلسطينية وهو في سن الخامسة. قام المفكر الفلسطيني فيصل دراج بعدة مراجعات نقدية للفكر لليسار العربي الذي اعتبره حركة شعبوية اكثر منه تيار يحمل مشروع مجتمعي تغييري. كما انه انتقد ادوار المثقفين في مجتمعاتنا ووصفهم بالمهزومين والمستكينين والمفصولين عن هموم واقعهم، في عدة مواقع من كتاباته الكثيرة والغزيرة، كما انه لم يعد يستسيغ تسمية المفكرين بهذا الوصف باعتبار ان المثقفين الملتزمين نادرو الوجود على حد قوله، حيث الاحرى تسمية المثقفين بممتهني الكتابة اوبالكتاب ولا يحبذ استعمال كلمة المثقف التي لها دلالات قوية من حيث الالتزام والحمولة الاخلاقية العالية. اتجه الفيلسوف دراج نحو الرواية والنقد الروائي معتبرا الرواية هي الفضاء الثقافي الذي يسمح بقول الحقيقة عن الاوضاع المعاشة او المعيشة في قالب روائي جمالي اي انها الجنس الادبي الذي يستطيع الانفلات النسبي من رقابة السلطات الدينية والسياسية، لذلك يتجه المفكر دراج الى الثناء على اعمال روائية معتبرا اياها اعمالا ادبية حداثية استطاعت فضح الواقع المشخص بطريقة سليمة وامنينة مثل روايات جمال الغيطاني:"يدخل جمال غيطاني في ’الزيني بركات’ الى جوهر الراهن العربي،فيكشف قتامه في شكل ادبي اصيل،ويخبر عن معناه في مقاربة روائية رائدة.يهاجر الراوي الى الماضي ويكتب بلغة حقيقة الماضي، او يهاجر الى الماضي كي يجد فيه المساحة الضرورية لكتابة الحاضر، لنقل انها هجرة ناقصة او رحيل واش فرضهما منطق الواقع والكتابة"و يشيد باعمال نجيب محفوظ خاصة روايته اولاد حارتنا التي استطاعت ان تحرك البرك الاسنة داخل الفكر الديني وان تسمح بتساؤلات في دائرة المقدس ورواية ثرثرة فوق النيل التي قال عنها فيصل دراج :"نموذج الكتابة العضوية التي تعيش تاريخها، وتبتعد عن هذا التاريخ وتلتقي به، كي تقرأ فيه شكل النهاية قبل قدومها، وتكتب فيه ظلام المستقبل الذي ينعقد في ارجاء الحاضر. ومن اجل بناء المستقبل في الحاضر، يركن الراوي الى فنه،وينتج المعادل الفني للحاضر،ويكتب رواية بلا نهاية،لان التاريخ سيكتب قتام النهاية عوضا عن الراوي."وله تقدير كبير لطه حسين ومحاولاته التجديدية في سبيل بناء الفكر التنويري وله تقدير معتبر لجبرا ابراهيم جبرا ورواياته ذات النفس التجديدي كما اشاد بروايات ادوارد الخراط وغيرهم من رواد الرواية الذين سعوا الى تطوير المنحى الروائي التجديدي في سبيل بناء حداثة فعلية. رغم ان فيصل دراج يقر بوجود روائيين جادين و ممتازين الا انه لا يقر بوجود ظاهرة روائية جادة في الثقافة العربية اي ان المحاولات التجديدية التحديثية داخل الرواية هي اجتهادات فردية معزولة لا تعبر عن وجود اتجاه روائي تجديدي داخل المجتمع وكل روادها من خريجي الغرب والمتشبعين بثقافته.

في سبيل الختم:

اثرى المفكر الفلسطيني فيصل دراج الخزانة العربية بكتابات وترجمات قيمة متأثرا بكتابات الغربيين المرموقين كبول فاليري و جورج لوكاتش وتولتستوي كذلك كما ان مقالاته في المجلة الادبية الرائعة الكرمل التي كان يديرها الشاعر الفلسطيني محمود درويش كانت شاهدة على موسوعية الرجل وعمق فكره و شغفه بالبحث التاريخي والفلسفي والانساني وعندما نتحدث عن كتابات فيصل دراج فلا بد ان نذكر كتبه التالية: ذاكرة المغلوبين، دلالات العلاقة الروائية، الرواية وتأويل التاريخ، نظرية الرواية والرواية العربيّة، الحداثة المتقهقرة. بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينيّة. ويدعو الدكتور فيصل دراج في معظم كتاباته الى الانعتاق من اسر الماضي والانبهار به و التخلص من اليقينات والمسلمات والايمانيات الارثدوكسية التي حكمت الفكر الماركسي والقومي والديني... و دعا الى ضرورة البحث عن افق انساني رحب يؤمن بالعقلانية والتسامح والنسبية لذلك دعا الى تدشين ما بدأه طه حسين في كتابه في مستقبل الثقافة في مصر خصوصا من دعوته ضرورة الجمع بين التعليم والديموقراطية في افق خلق مجتمع المعرفة الذي يقطع مع الاستبداد بكل انواعه واشكاله وتمظهراته ولنتعرف اكثر على نبل الدكتور فيصل دراج واحترامه لذكرى اصدقائه ما قاله عن الشهيد مهدي عامل على صفحات احدى اعداد الطريق:"في زيارة الى دمشق، وبصحبة رفيق العمر والاحلام محمد دكروب، دخل مهدي الى مطعم،وكان بيده"فلة"يحملها بحرص شديد، ويشملها بين الفينة والاخرى قائلا"مااجمل رائحة هذه الفلة"ويعرض جمالها،مفتونا على الاخرين.قال بلهجة حاسمة ومغتبطة:"هذه الفلة لازم ما تذبل"

نقول مع مهدي عامل و فيصل دراج نحن كذلك ان هذا النموذج من المثقفين لازم كتاباتهم وافكارهم ان تنقل الى الاجيال المقبلة وان لا تذبل مع صيحات الظلام الطويل الذي يغشى الثقافة والفكر الانساني المتنور امام انتشار الارهاب والتطرف والاستبداد والاستقواء الراسمالي الاستهلاكي على ثقافة وفكر الشعوب.

6.جورج طرابيشي المفكر الحداثي المتنور، فولتير الفكر الاسلامي

سيظل اسم المفكر السوري جورج طرابيشي الحلبي المزداد سنة 1939 من اسرة مسيحية محافظة- كما يروي ذلك بنفسه في عدد من الاستجوابات والكتابات - والمتوفى في منفاه الباريسي في مارس 2016، علامة مضيئة في تاريخ النضال الفكري والثقافي في مجالات النقد الادبي والترجمة وفحص مكنونات الثرات الاسلامي نقدا ونقضا. وستظل مساهماته النظرية في هذا المجال نموذجا للفكر العلمي المكافح المهموم من اجل اللحاق بركب الحداثة ومتطلباتها العلمية والفكرية. وقد تميز انتاجه الفكري بغزارة كبيرة ومتنوعة فترجم الكتب الماركسية المهمة وقدم لنا كتابات الوجودية لسارتر و اليسار الجديد لالتوسير وكتاب الانسان ذو البعد الواحد لماركيوز وغيرهم من عمالقة الفكر الماركسي واهتم ردحا من الزمن بالفرويدية وترجم عدد كبير من كتابات سيغموند فرويد، بل تأثر بالتحليل النفسي وطبق منهجه في دراسة نقدية لعدد من الروايات العربية واصدر كتب مهمة استثمر فيها التحليل النفسي بجدارة واقتدار مثل كتابه الذي نشره سنة 1977 شرق وغرب، رجولة وانوثة: دراسة في ازمة الجنس والحضارة في الرواية العربية. وكتاب عقدة اوديب في الرواية العربية نشره سنة 1982 وكتاب الله في رحلة نجيب محفوظ وغيرها من الكتب الادبية الهامة التي الهمت جيل ثقافي واسع في السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، اشتغل الطرابيشي في مجلات عربية كبيرة ورائدة لها بصمات واضحة على الفكر العربي المعاصر مثل مجلة دراسات عربية ومجلة الوحدة..، و استطاع المفكر جورج طرابيشي ان ينعتق من اسر التصنيفات الايديولوجية رويدا رويدا متجاوزا الاقانيم الفكرية التقليدية من قومية واشتراكية الى رحاب التحليل العلمي المنضبط فقط للمناهج التفكيكية والبنوية العلمية متأثرا بما اسماه التبعية للعلم المفهوم الذي ابدعه غاستون باشلار.هذا التحول من الايديولوجي الى الابستيمولوجي، ليس بالامر السهل او الهين بل تطلب منه تدرجا وانفتاحا واكب التحولات الكبرى والهزات العنيفة التي عرفها العالم شمالا وجنوبا على كافة الاصعدة الفكرية والسياسية، لكن عدد كبير من المثقفين التقدميين بقوا مقيدين بالخطابات السابقة التي تجاوزها الواقع، لذلك يؤاخذ المفكر السوري جورج طرابيشي على بعض المفكريين المشتغلين بالثقافة العربية المعاصرة بقائهم اسرى العقل الايديولوجي المنمط، حيث يقول متحدثا عن هذا النوع من المثقفين (1):"فرغم التقدم المذهل الذي اصابه العلم العالمي في المئة سنة الاخيرة، فاننا نلاحظ غيابا تاما لوجود مفكريين علميين في الحقل التداولي بالثقافة العربية المعاصرة، على عكس ما كان عليه واقع الحال في عصر النهضة يوم كانت تلمع اسماء دعاة كبار لاستتباع العقل للعلم.....وشخصيا لست استثني نفسي من هذا النقص في التكوين العلمي الذي تعاني منه جملة الانتلجنسيا العربية، وان يكن انفتاحي –ترجمة وتأليفا- على التحليل النفسي في السنوات الاخيرة قد ساعدني على الانعتاق –منهجيا على الاقل- من عقلي الايديولوجي السابق."

اشتغل جورج طرابيشي في عقوده الاخيرة بمشروع فكري ضخم حاول فيه استخدام ما اسماه بالحفر الاركيولوجي للتراث(2) وساهم في ذلك التوجه، نقده المنهجي والمعرفي لكتب الراحل محمد عابد الجابري حيث استمرت رحلته النقدية لمشروع الجابري حوالي 25 سنة وخصوصا كتابيه نحن والترات وتكوين العقل العربي، حيث تناول الطرابيشي المشروع الفكري للجابري بالمقاربة النقدية والتمحيصية بدأ من المراجع المصرح بها من طرف الجابري والتي سكت عنها، انتهاءا الى الخلاصات والاستنتاجات والاشكايات المغلقة التي صاغها وشبهها الطرابيشي بحبائس، بطريقة الخف بالخف او النعل بالنعل كما ذكر ذلك مقدمة كتابه الاول نقد نقد العقل العربي (نظرية العقل). ويمكن بخلاصة شديدة تلخيص مؤاخذات جورج طرابيشي على الجابري في ثلاث قضايا رئيسية:

تعصب الجابري للعقل المغربي البرهاني على حساب العقل المشرقي البياني والعرفاني وشطره لوحدة العقل الاسلامي، الى شطرين متقابلين لا عقلين منفعلين متفاعلين كما تقتضي المنهجية العلمية التواصلية التراكمية التي يبنى عليها الفكر، يقول الطرابيشي في مقدمة كتابه (على غلاف الكتاب) نقد نقد العقل العربي وحدة العقل الاسلامي مايلي:"يقوم كل مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، على اصطناع (قطيعة معرفية بين فكر المشرق وفكر المغرب) وعلى التمييز بين (مدرسة مشرقية اشراقية ومدرسة مغربية برهانية)".

عدم دقة بعض المراجع التي اعتمدها الجابري في بعض إحالاته كما هو شان احالته الى لالاند مباشرة دون وساطة برهييه في قسمته العقل الى مكون (فتح الواو)ومكون (كسر الواو) حيث ان طرابيشي يصر على ان الجابري استعان بمصدر مستتر هو معجم اللغة الفلسفية لبول فوكييه ولم يقرا لالاند نهائيا. اذ يقول الطرابيشي في كتابه نقد نقد العقل العربي (نظرية العقل) ص 13:"الى اي مدى كان الجابري لالانديا فعلا، لا في توظيفه لتمييز لالاند فحسب، بل حتى في فهمه له وفي رجوعه الفعلي، في شواهده بالذات، الى مؤلف"العقل والمعايير"؟.. كما ان طرابيشي شك كذلك في اطلاع الجابري على رسائل اخوان الصفا، بل اعتبر شواهده في الموضوع مغشوشة حيث وسم الجابري الرسائل بالغنوصية والظلامية ومحاربة العقل والمنطق فيما مقدمة الرسائل، فيها مدح للعقل والمنطق والحث على اعماله في كل الامور الحياتية..

اعتبار الجابري بان الاليات الخارجية هي التي ساهمت في انكفاء العقل واستقالته في الحضارة الاسلامية فيما يرى الطرابيشي بان الانكفاء والغروب له اسباب داخلية ميزتها الاساسية انكماش ذاتي لهذا العقل على نفسه،يقول طرابيشي في مقدمة كتابه (الغلاف) نقد نقد العقل العربي ما يلي:"هل يصلح (حصان طروادة) لتفسير ظاهرة استقالة العقل في الاسلام؟ بعبارة اخرى، هل يمكن رد افول العقلانية العربية الاسلامية الى غزو خارجي من قبل جحافل اللامعقول من هرمسية وغنوصية وعرفان"مشرقي"وتصوف وتأويل باطني وفلسفة اشراقية وسائر تيارات"الموروث القديم"....؟، كما ان المفكر الجابري اخطأ في تقدير الطرابيشي عندما حصر اعمال العلم وانتاجه في الحضارات الثلاث اليونانية والعربية والاوروبية الحديثة ومارس امبريالية فكرية حين ظلم الحضارات الاخرى التي ميزها بانها حضارة السحر والشعودة وقمع العقل رغم اسهاماتها الكبيرة في المنطق والرياضيات والفلك كالحضارة الهندية والصينية وحضارة بابل والحضارة المصرية.

ينتمي جورج طرابيشي الى تيار عقلاني وعلماني يدعو الى استعمال العقل في كل الامور الدينية والدنيوية، فاختلف مع الجابري في مفهوم وضرورة العلمانية التي اعتقد الجابري انها بنت غريبة عن دار الحضارة الاسلامية ودعا الى الاكتفاء بالنضال من اجل العقلانية ولم يكن طرابيشي وحده الذي انتقد الجابري بسبب موقفه من العلمانية بل انتقده كثير من المفكرين والمؤرخين الذين اعتقدوا ان الديموقراطية والعلمانية والمواطنة بنات من نفس الاسرة الانسانية المعاصرة لا تتحقق احداها الا بوجود الاخرى ويمكن في هذا الاطار ان نرجع الى موقف المؤرخ اللبناني الكبير وجيه كوثراني في كتابه تأريخ التاريخ حيث انتقد نقد الجابري للعلمانية واعتبر ذلك رضوخا للسياسي الايديولوجي وتجاهلا للمعطى الابستيمولوجي العلمي ومهادنة سياسية للحركات الاسلامية اكثر منه موقف علمي رصين. التيار العقلاني الذي ينتمي اليه المرحوم الطرابيشي يسعى الى اعطاء اولوية لاعمال سلاح النقد ورفض المعتاد والسائد أي معاداة الدوغمائية و وادعاء امتلاك ناصية الحقيقة.لذلك يرى بان أي فكر نقدي يجب ان يخوض معاركه الفكرية على جبهات متعددة ومن هذه الجبهات النقدية يدعونا الطرابيشي الى الاعتراف بان عالمنا المعاصر استفاق مفزعا، على نتائج صدمات كبرى ثلاث واخرى خاصة بنا نحن الشعوب المتخلفة وهي تلخص ما سماه جورج طرابيشي انتصار العقل الصانع على العقل الساحر وانتصار الدنيوي على الديني او بتعبير مارسيل غوشيه الخروج من الدين بدل الخروج على الدين:

الصدمة الاولى هي الصدمة الكوسمولوجية، أي ان الانسان الغربي اكتشف مع غاليلي عدم مركزية الانسان والارض في الكون بل ان الارض والانسان جزء جد بسيط ومهم من مكونات الكون وهذا نقض للفكر الديني الذي تباهى بمركزية الانسان.

الصدمة الثانية بيولوجية، أي ان الانسان الذي تتحدث الاديان المختلفة على انه صورة مصغرة لله او الاله في الارض لم يعد ممكنا بعد نظرية داروين (1882-1809) الا ان نقول بانه من اصل حيواني وينحدر من القردة وهذه خيبة كبرى بالنسبة لمقدسي الجنس البشري(3)

الصدمة الثالثة سيكولوجية أي عندما كتشف فرويد ان وعي الانسان ليس هو المتحكم الاصلي في انفعالات وقرارات الانسان ومصيره، بل اللاوعي أي الشعور المضمر الخفي أي العقل الباطن هو الذي يفسر قراراتنا واحلامنا، فبدأت قسمة العقل الى عقل ظاهر يسكنه الوعي والادراك وعقل باطن لاشعوري يسير الانسان بالاكراه.

الصدمة الرابعة وهي صدمة الحداثة أي عندما اكتشف انسان عالمنا الثالث الفجوة المعرفية والعلمية والفكرية التي تقع بيننا وبين الغربيين خاصة عندما زار عدد من المفكريين النهضويين اوروبا واطلعوا على حضارتها وقارنوها بما لدينا من انحطاط وتخلف ونكوص حضاري.
ليس من السهل الاحاطة بكتابات جورج طرابيشي في مختلف المجالات التي انخرط فيها مفكرا وناقدا ومترجما والتي تتجاوز 200 كتاب و 300 مقال ساعيا لرسم خط فكري واضح ومتماسك. لذلك اعتبر شخصيا ان كتاباته الاخيرة"من اسلام القران الى اسلام الحديث"و كتاب العقل المستقيل في الاسلام وكتاب المعجزة او سبات العقل في الاسلام من الكتابات الثورية في الفكر الاسلامي من حيث وضوحها في الانتصار للمقاربة المنهجية العلمية في التعامل مع التراث وكذا لان هذه الكتابات تحمل رسائل وخلاصات اساسية في نقض استغلال الدين سياسيا من قبل السلطات السياسية الاسلامية باختلاف مذاهبها، كما ان هذه الكتابات تحريض بالمعنى الايجابي للكلمة على الثورة على القوالب الدينية الجامدة المنتظرة للمعجزات لتطوير وتثوير الواقع. المعجزة هي عنوان سبات العقل وتكلسه وتحجره. فلا معجزة سوى العلم والتقنية والحداثة الفكرية والسياسية، ففي خاتمة كتابه المعجزة او سبات العقل في الاسلام يقول المفكر الطرابيشي (4):"لعلنا لا نغالي اذا قلنا ان اتخاذ موقف عقلاني ونقدي جذري من ادبيات المعجزة ومنطق المعجزة يكاد يعادل انقلابا كوبرنيكيا. وبالفعل، ساهمت هذه الادبيات، بالمنطق المباطن لها، في اذاعة الوهم في الثقافة العربية الاسلامية الموروثة بامكانية سيطرة سحرية على الطبيعة والكون والتحكم بقواهما من دون الحاجة الى معرفة قوانينهما، بله بتحدي هذه القوانين والقفز فوقها."

المفكر الطرابيشي، شانه شأن اي انسان اخر ابن زمانه، لكن الذي يجعل كتاباته مميزة وراهنية هي مقاربته التفكيكية للقوالب الجاهزة وسؤاله الصادم الموقظ من سبات الركون الى الاجابات الجاهزة والقوالبة المتجمدة، للمفكر طرابيشي حدس فلسفي بلغة هنري برغسون من حيث عشقه للسؤال ورفضه للاجوبة المالوفة المكررة.

ياليت لنا بعضا من امثال الطرابيشي يملؤون الارض فكرا وعقلا بعد ان ملئت جورا وجهلا.

المراجع:

1-جورج طرابيشي: مقال منشور تحت عنوان قصة الانسان في مجلة الابواب البيروتية التي تصدر عن دار الساقي عدد 27 ص 104

2- ربما يعتبر المفكر الفرنسي ميشيل فوكو من اكبر رواد حفريات المعرفة وتاثر به الجابري وطرابيشي واخرون خصوصا كتابه الهام حفريات المعرفة الذي ترجمه الى العربية المفكر المغربي سالم يفوت.

3-اورد الكاتب ANDRE LANGANEY في كتابه la plus belle hidtoire de l’homme ,editions du seuil , paris 2000 ونقل عنه الطرابيشي في المقال المذكور اعلاه مايلي ص 106: -ولئن كان قد بات معروفا منذ ايام داروين (1882-1809) ان الانسان ينحدر من القرد، فان احد الكشوفات الكبرى للبيولوجيا النووية في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين قد اثبتت ان القرد الذي ينحدر منه الانسان هو حصرا الشانبنزي الذي يشارك الانسان في اكثر من 80 في المئة من جيناته الوراثية..."

4-جورج طرابيشي: المعجزة او سبات العثل في الاسلام دار الساقي الطبعة الثانية ص 181

7.عبد الرحمن بدوي: عميد الفلاسفة المعاصرين وموسوعي متبحر في العلم والترجمة.

في شهر فبراير من سنة 2002 فقدت الساحة الفلسفية العالمية، هرما من اهرامات الفلسفة المعاصرة، فيلسوف استثنائي ليس فقط من حيث عدد انتاجاته العلمية وترجماته المتعددة التي تجاوزت 120 كتابا، ولكن كذلك لتجربته الفسلفية الغنية التي دامت عقود من الزمن حيث ولد عبد الرحمن بدوي سنة 1917، جاب من خلالها تدريسا وبحثا عددا كبيرا من جامعات العالم من مصر ولبنان وليبيا الى طهران مرورا بسويسرا والمانيا وباريس والولايات المتحدة الامريكية والهند والكويت...، والتقى برجالات الفكر العالمي بمختلف الاوطان، مستشرقين ومستغربين، فاستحق بذلك ان نسميه عميد الفلاسفة المعاصرين. في سنة 2000 اصدرت المؤسسة العربية للدرسات والنشر كتاب من جزأين يحمل عنوان"سيرة حياتي"للدكتور عبد الرحمن بدوي، ويقع الكتاب في حوالي 800 صفحة متوسطة الحجم بدأه الكاتب بالجملة التالية:"بالصدفة اتيت الى هذا العالم، وبالصدفة ساغادر هذا العالم!". ولد الفيلسوف عبد الرحمان بدوي في قرية صغيرة في مصر تدعى شرباص مركز فارسكور مديرية الدقهلية (ثم محافظة دمياط ابتداء من سنة 1957)، وتقع على النيل عند الكيلو 196 فهو اذا ينتمي لاسرة زراعية وله ارتباط بالارض وشؤون الزراعة منذ سنوات طفولته، لنرى ما يقوله الفيلسوف بدوي عن مولده:"(وكان مولدي في حوالي الساعة الثانية من صباح الرابع من فبراير سنة 1917.وكنت الثامن من اخوتي واخواتي لامي، والخامس عشر بين ابناء والدي، وسيصبح المجموع واحدا وعشرين ولدا.احد عشر من البنين وعشرا من البنات.وكان ذلك تعويضا هائلا عما جرى لجدي، فانه لم ينجب غير ولد واحد هو والدي.)"ص 15 اهتم عبد الرحمن بدوي منذ المرحلة الابتدائية بالتحصيل الدراسي والاهتمام المضني بالدراسة والتحصيل العلمي، يقول عبد الرحمن بدوي عن تعليمه الابتدائي ما يلي:"لقد كنا نحسن النحو والصرف ونقرأ النصوص الادبية –من شعر ونثر- في كتاب عنوانه:"مجموعة من النظم والنثر للحفظ والتسميع"في السنتين الثانية والثالثة، ونقرأ ونحفظ نصوصا من كتاب:"ادبيات اللغة العربية"لحفنى ناصف واخرين، وبذلك استطعنا حفظ وفهم روائع من القصائد والخطب والرسائل التي تعد من غرر الادب العربي.لقد استظهرنا قصائد للمتنبي وصفي الدين الحلي وابي العتاهية وصالح بن عبد القدوس وغيرهم، كما استظهرنا خطبا رفيعة المستوى لعلي بن ابي طالب وزياد بن ابيه والحجاج وواصل بن عطاء، فضلا عن رسائل لعبد الحميد الكاتب، والجاحظ.وان انس لا أنسى مجيء مدرس جديد في منتصف العام حديث التخرج من دار العلوم، وان أول درس شرحه لنا وألزمنا بحفظه هو وصف ابن المقفع لمن سماه"اخا"وبدأه بقوله:"كان لي اخ".... فأين هذه النصوص الرائعة الجزلة من النصوص الغثة التافهة التي يقرأها تلاميذ المدارس اليوم في مصر، ليس فقط في المدارس الابتدائية، بل في الاعدادية، بل في الثانوية، بل وفي الجامعية؟!.")ص وحصل الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي على شهادة اتمام الدراسة الابتدائية من مدرسة فارسكور الابتدائية في مايو 1929 (وكان ترتيبه 354 من مجموع الحاصلين على الشهادة الابتدائية في القطر المصري وكان عددهم حوالي مائة الف. انتقل بعد ذلك الى المدرسة السعيدية الثانوية في الجيزة على الشاطئ الايسر من النيل امام القاهرة، وكانت تلك الثانوية تعد في ذلك الوقت أرقى المدارس الثانوية في القاهرة، لذلك يؤمها أبناء الطبقة الراقية والطبقة الحاكمة ويلجها بعض الفقراء ذي الميزات الممتازة وكان من بينهم المفكر بدوي الذي التحق بالقسم الداخلي للثانوية و بالصدفة التقى بمدرس جغرافيا كان قادما من انجلترا يقيم هو كذلك بالقسم الداخلي وساعده ذلك على الاستفادة من مكتبته القيمة. يقول عبد الرحمن بدوي عن هذه المرحلة العمرية الهامة:"اقام في الداخلية مدرس جغرافيا كان قادما لتوه من بعثة بانجلترة، واسمه حسن جوهره.كان مدرسا جادا، واسع الاطلاع، وقد صقلت ذهنه إقامته في انجلترة، وكان يؤثر العلم والتحصيل، ولهذا كان يؤثر الطلاب المجتهدين ويرعاهم رعاية خاصة.ولإيثاره للعلم والتحصيل انشأ في قاعة صغيرة بالطابق الثاني من البلوك الذي يسكن فيه الطلاب الداخليون مكتبة صغيرة، ولكنها ثمينة لانها كانت تحتوي على عدد من امهات كتب الادب العربي، واخص بالذكر منها: كتاب نفح الطيب للمقري، وشرح سقط الزند لابي العلاء المعري، والحماسة لابي تمام والمنتخبات الشعرية التي اختارها سامر البارودي.وقد أقبلت على قراءة هذه الكتب –رغم صعوبة ألفاظها وعباراتها بالنسبة لي في تلك السن المبكرة وانا في الثالثة عشرة من عمري.... وفي الوقت نفسه-وانا في سن الربعة عشرة –بدأت اقرأ الشعر الانجليزي في نصه الانجليزي.وتصادف ان اشتريت من مكتبة عتيقة صغيرة في شارع محمد علي وكنت قد بدأت في التردد على دار الكتب المصرية –ثلاثة كتب انجليزية.. ومن ملتون Milton انتقلت الى الرومنتيك الانجليز فبدأت بشلي Shelley واستظهرت قصيدة: الريح الغربية....لكن ليس معنى هذا انني لم اطلع على الادب الفرنسي، بل بالعكس كنت قد قرات كتاب محمد حسين هيكل: جان جاك روسو: حياته من كتبه، كما قرات ما ترجمه حافظ ابراهيم من قصة البؤساء لفكتور هوجو... اما الادب الالماني فكان اول اتصال عميق به في السنة التالية، سنة 1932 وانا في الخامسة عشرة من عمري.") ص 34-36 بعد اتمام الدراسة الثانوية حصل بدوي على البكالوريا –شهادة الثانوية العامةالان- قسم ادبي في يونيو 1934 وكان ترتيبه الثاني على جميع طلاب القسم الادبي بمصر. في مرحلة الدراسات الجامعية ذات التخصص الفلسفي –وكان ابوه يفضل ان يتخصص ابنه عبد الرحمن في الحقوق لانه تخصص يخرج الوزراء والديبلوماسيين وعلية القوم لكن للقدر والصدفة دورها في الاختيار - تتلمذ عبد الرحمان بدوي على يد مفكرين مشهورين ومرموقين امثال لالاند (لقد كان تتلمذي على لالاند نعمة لا استطيع ابدا نسيانها، ولا وفاءها حقها من الشكر وعرفان الجميل) ص 64 و الكساندر كويريه Koyré وقال عن هذا الاخير:(كذلك كان لكويريه علي فضل عظيم، لانه كان يجمع بين النزعة الميتافيزيقية والنزعة العلمية، وكان يهتم بالتيارات الصوفية.. وثم ميزة اخرى لكويريه افدت منها كثيرا وهي معرفته الجيدة باللغة الالمانية وبالفلسفة الالمانية) ص 64-65 و مصطفى عبد الرازق الذي أثنى على خصاله الكثيرة حيث قال في حقه:"لقد كان النبل كله، والمروءة كلها. كان دائما هادئ الطبع، باسم الوجه، لا يكاد يغضب، وان غضب لم يعبر عن غضبه لا بحمرة وجهه وصمت كظيم: كان اية في الحلم والوقار.."ص 61 وطه حسين الملقب بعميد الادب العربي و صاحب الكتابات الروائية والادبية المميزة والمثيرة للنقاش والفضول العلمي، ككتابه المثير للجدل والذي ادى الى طرده من الجامعة بعنوان في الشعر الجاهلي، تم تنقيحه واخراجه بعنوان جديد،في الادب الجاهلي ورائعته"الايام"وغيرها من الابداعات التي ماتزال تلهم الادباء والمفكرين في عصرنا الراهن يقول عبد الرحمن بدوي عن طه حسين ما يلي:"(واذا كنت قد حضرت كل ما تيسر لي حضوره من محاضرات الدكتور طه حسين، فانما كان ذلك لاعجابي المفرط به وبصوته وهو يحاضر.وكنت قد سمعته يحاضر محاضرة عامة لاول مرة في حياتي في شتاء 1933-1934 لما القى محاضرة عامة في جمعية الشبان المسيحيين عن الشاعر الفرنسي العظيم بول فاليري Paul Valery فاخذ بلبي وسحرني بجمال صوته وعذوبة نبراته وروعة ادائه اللفظي...) لكن الدكتور عبد الرحمن بدوي صب جام غضبه على الشيخ محمد عبده واصفا اياه بنعوت كثيرة واتهامات خطيرة تتراوح بين عمالته للانجليز وللقنصل البريطاني تحديدا كرومر من جهة و تواضع معرفته وعلمه من جهة اخرى رغم شهرة محمد عبده التي وصلت الى اصقاع الارض، لنرى ماذا يقول فيلسوفنا عن محمد عبده ص 51:"لكن هذا هو ما فعله الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية، و"المصلح الديني"المزعوم! فقد انعقدت بينه وبين لورد كرومر علاقة حميمة-ان صح ان توصف بالحميمة علاقة التابع بالمتبوع، والذليل بالجبار، والمطيع الخاضع بالآمر المسكبر.بل كان محمد عبده هو نفسه يتفاخر ويتباهى بهذه العلاقة الوثيقة بينهما، وبينه وبين سلطة الاحتلال...وقد استغل كرومر علاقته هذه بمحمد عبده فجعله يكتب مقالات ضد محمد علي، راس الاسرة العلوية، بمناسبة مرور مائة عام على توليه حكم مصر، وذلك في سنة 1905..اي اصلاح ديني قام به؟ لم يستطيعوا ان يذكروا الا تفاهات شكلية، مثل تحليل لبس القبعة –وكأن هذا امر خطير جدا به يكون المرء"مصلحا دينيا"كبيرا!"حصل عبد الرحمن بدوي في ماي 1938 على الليسانس الممتازة في الاداب من قسم الفلسفة بكلية الاداب بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة الان)، وكان ترتيبه الاول ليس فقط على قسم الفلسفة، بل على كل اوائل الاقسام الاخرى في الكلية وعين معيدا بالجامعة بتشجيع من الشيخ مصطفى عبد الرازق والعميد طه حسين.سياسيا انتمى المفكر بدوي في بداياته السياسية الى حركة مصر الفتاة ثم الى الحزب الوطني ردحا من الزمن واشتغل معهم فكريا في اعداد مقالات وارضيات فكرية في مواجهة خصومهم في الداخل والخارج، وكتب مقالا هجائيا ضد عباس محمود العقاد بعنوان:"العقاد جهول يريد ان يعلم الناس ما لايعلم"بل مارس بدوي ورفاقه العنف المادي على العقاد لثنيه عن مواجهة حركة مصر الفتاة، لكن بطش السلطات السياسية ضد الحركة والملاحقات البوليسية دفعت عبد الرحمن بدوي الى الابتعاد عن السياسة نهائيا والتفرغ للبحث العلمي وكان اول انتاج فكري للدكتور بدوي هو كتاب"نيتشه"الذي ظهر سنة 1939 وكان هدفه من الاصدار هو تقديم خلاصة الفكر الاوروبي الى القارئ العربي واحداث ثورة روحية في الفكر العربي على حد قوله في سيرته، وقد طبع الكتاب الاول خمس مرات ولقي نجاحا كبيرا في مصر وخارجها، ثم تلا الكتاب الاول، كتاب ثاني عنونه الكاتب ب"التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية"ويحتوي على جملة من الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع والتي كتبها عن كبار المستشرقين، وناقش بدوي رسالة الماجستير سنة 1941 وكان من اعضاء المناقشة كل من الشيخ مصطفى عبد الرازق وطه حسين وابرهيم مدكور كما ناقش اطروحته للدكتوراة سنة 1944 بحضور نفس اللجنة وزيادة باول كراوس وكان عنوان موضوع الدكتوراة هو الزمان الوجودي والتي نشرت فيما بعد في كتاب تحت عنوان خلاصة مذهبنا الوجودي.، ثم بدأ بدوي مشوار التدريس بجامعة القاهرة في العام 1939-1940 ثم انتقل بعد ذلك الى لبنان مابين 1947 -1948 ثم انتقل الى جامعة عين شمس ثم انتقل مستشارا ثقافيا ورئيسا للبعثة العلمية المصرية بسويسرا سنة 1956 وخلال هذه المراحلة عايش بدوي الاحداث السياسية التي تموج بها مصر والمنطقة من الانقلاب العسكري الذي قاده الضباط الاحرار سنة 1952 ومشاركة عبد الرحمن بدوي في اشغال لجنة اعداد دستور جديد سنة 1953 ضمن 50 عضوا تم اختيارهم من الخبراء والسياسيين و العدوان الثلاثي على مصر وعدم اكتراث السفراء المصريين بالاحداث السياسية وانغماسهم في اللهو والملذات.. كما عرفت هذه المرحلة الوحدة التعسفية بين مصر وسوريا وسرعة انفكاكها لانها بنيت على الاوهام لا على الحقائق والمشاريع الملموسة.

السيرة الذاتية لعبد الرحمان بدوي طويلة ومتشعبة وغنية باحداثها ومواقفها ولكي لا نظلم الرجل حقه، اقول بكل مسؤولية ان هذه القراءة لسيرته الذاتية لا تدعي الاحاطة بجميع مراحل حياته ومواقفه وسفرياته ومحاضراته المتعددة ولكن سأحاول فقط ان ابين بعض المواقف والافكار واهم الشخصيات التي عاشرها الرجل وذكرها سلبا وايجابا ويبقى الحكم بطبيعة الحال للقارئ النبيه.

1- موقف عبد الرحمن بدوي من النازية ومن المحرقة اليهودية:(اما حملات النازية على اليهود فكانت جزءا من حملات النازية على من كانوا خصوم النازية في الفترة السابقة على توليها الحكم في 30 يناير 1933.فكانت اذن عملا سياسيا محضا لا تفرق فيه بين يهودي وغير يهودي...ان النازية انما كانت تجسيدا لشكوى الشعب الالماني من تغلغل نفوذ اليهود في المانيا بعد الحرب العالمية الاولى: في السياسة والاقتصاد والفنون، وغيرها من مرافق الحياة، واستغلال اليهود للمصاعب الهائلة التي حلت بالمانيا غداة هزيمتها، وسيطرتهم على مقاليد الحكم ومفاتيح الاقتصاد ووسائل الدعاية والاعلام...فبأي حق، وفي اي شرع يجوز ان يتحكم نصف مليون يهودي في اكثر من ستين مليونا من الالمان؟!) ص 88

2- موقف عبد الرحمان بدوي من انقلاب عبد الناصر سنة 1952:(وقد جاء عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة في دستورهم الاستبدادي الزائف الذي اصدروه في يناير 1956 فصادروا كل هذه الحقوق والحريات مصادرة تامة، واحلوا مكانها القيود التي نسفت حقوق المصريين وحرياتهم.. باسم مصلحة الشعب جر البلاد الى حربين مدمرتين (حملة السويس سنة 1956 وحرب الايام الستة في يونيو 1967) بسبب حماقته وخرقة تصرفاته واندفاعه الاهوج دون تبصر فقتل الالاف من الجنود ومن المدنيين ودمرت مرافق عديدة وبددت على الاسلحة اموال لا تحصى –فهل قتل الاف المصريين في هاتين الحربين كان ل"مصلحة الشعب"وهل ضياع كل هذه المرافق والعتاد والاموال قدم"مصلحة الشعب") ص 338-351.

3- موقف عبد الرحمان بدوي من بعض الشخصيات الفكرية المصرية كمحمود امين العالم وغالي شكري وتوفيق الحكيم و زكي نجيب محمود وصدقي الدجاني وميشيل فوكو وسارتر وآخرين صادمة وقاسية جدا بالنظر الى اسهاماتهم الفكرية والادبية المؤسسة للوعي الفكري لاجيال باكملها ولكن يبقى ذلك موقفه الخاص به والذي يستدعي المزيد من التدقيق والتمحيص للخروج بالحقائق الضرورية لتنوير الوعي الجماهيري.

تتطرق سيرة عبد الرحمان بدوي الى احداث سياسية جسام حملت تغيرات في المشهد السياسي والفكري في عالمنا المعاصر كحركة الطلاب بباريس 1968 والثورة الخمينية بايران سنة 1979 و بزوغ تيارات فكرية يسارية ويمينية متطرفة، كما تتناول سيرة بدوي تحقيبا ثقافيا مهما وغنيا حيث انه يخصص لكل بلد زاره حيزا تاريخيا مهما،يتطرق الى تاريخه و ومفكريه وفعالياته الثقافية ومآثره العمرانية والتراثية، لذلك تبقى سيرة حياة الفيلسوف عبد الرحمن بدوي منهاجا ضروريا لكل من اراد الاطلاع على تاريخ الافكار الفلسفية باوروبا والعالم.

قدم عبد الرحمان بدوي اسهام حقيقي للمكتبة الفلسفية والادبية العربية لذلك استحق ان نسميه بعميد الفلاسفة المعاصرين وموسوعة حقيقية في التحقيب التاريخي والعمراني للافكار الثقافية والاتجاهات السياسية السائدة في اوروبا والعالم اجمع.

ملاحظة:

جميع الاحالات المذكورة بالمقال تتعلق بكتاب سيرة حياتي ج1: الدكتور عبد الرحمن بدوي الطبعة العربية الاولى 2000 المؤسسة العربية للدراسات والنشر

8.هشام غصيب: المفكر الاردني المهموم بالتقدم والديموقراطية والجدل العلمي في البلدان الشرقية

يعتبر هشام غصيب من المفكرين الشرقيين الذين احتفظوا بماركسيتهم الاصيلة، بل يستعينون بمناهجها وتحليلاتها، رغم الهزات التاريخية العنيفة التي عرفها الفكر الماركسي كونيا، بفعل تغيرات سياسية واقتصادية كبرى عرفها العالم، احتفظ هشام غصيب برؤية ماركسية نقدية في تناوله لعدد كبير من القضايا الثقافية والسياسية والفكرية، وساهم في احياء مفاهيم ماركسية في التداول المفاهيمي والسياسي في حقبة تاريخية اعتقد فيها"الجميع"بان الماركسية كنظرية وكطموح تكوين مجتمع بديل، خال من الاستبداد والعسف والظلم، مبني على العدل والتوزيع العادل للثروات،انتهى كحلم جميل وباتت الليبرالية والعولمة المتوحشة عنوان الحقبة الجديدة، واصبح الانسان الليبرالي هو الانسان الاخير كما بشر ذلك فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتغتون في تصوريهما لمابعد انهيار المنظومة الاشتراكية. لكن حلم المبشرين الجدد بنهاية العالم وسيادة الليبرالية المتوحشة كقدر حتمي، لحسن الحظ نقضه و نغصه مفكرون ماركسيون جدد من امثال هشام غصيب الذي قاده حلمه الجميل الى الاهتمام بقضية تطوير الوعي الجماهيري وتثوير الوعي العلمي لدى الطبقات الكادحة المتضررة من علاقات الانتاج القائمة.

تعرفت على بعض شذرات المفكر والفيلسوف والفيزيائي* هشام غصيب انطلاقا من كتابين وهما ضمن سلسلة كبيرة من الكتب العلمية والفلسفية التي انتجها واثرى بها المكتبة العربية، الكتاب الاول الذي اطلعت عليه هو، هل هناك عقل عربي؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري، والثاني جدل الوعي العلمي: اشكالات الانتاج الاجتماعي للمعرفة. ففي الكتاب المخصص لنقد مشروع محمد عابد الجابري، استثمر الدكتور هشام غصيب العدة المنهجية والابستيمولوجية المعرفية البنيوية الماركسية في نقد منهجيات واستنتاجات محمد عابد الجابري، وبروح علمية يطبعها تواضع العلماء يعترف الدكتور هشام غصيب بالقوة التحليلية والجدالية للراحل الدكتور عابد الجابري، لم يمنعه تواضعه واعترافه باسهام الجابري في تفكيك اشكاليات التراث الاسلامي، في انتقاد اطروحاته وتفكيكها وتبيان مثاليتها وتهافت بعض المناهج التحليلية المتبعة من طرفه.يقول الدكتور هشام غصيب في نقده للجابري ما يلي:"ان الجابري يبدي من البراعة في فن الجدال ومن الاصالة في ابتكار المفهومات واستعمالها في دراسة تراثنا ما يجعل من الصعب حقا على القارئ مقاومة اغراء الوقوع تحت تأثيره وسحره.فهو يلهب الوجدان والخيال بسحر فكره بما يدفع القارئ الى تبني لغته وادوات نقده من دون ادراك حقيقي لجوهر هذه اللغة وتلك الادوات. ومن ذلك تنبع اهميته وخطورته في آن....فهو ابرع المفكرين المثاليين في الوطن العربي اليوم واكثرهم خطورة ايضا لقدرته على النفاذ الى عقل القارئ وايقاعه بين شباكه السحرية المثالية، مهما كان هذا القارئ محصنا بالفكر العلمي المادي."1.

سأحاول باختصار مخل وغير تام تبيان بعض اوجه التناقض الفكري والنظري الموجود بين الجابري وهشام غصيب، في ثلاث نقاط:

1- تظاهر الجابري بالمادية على مستوى الاسئلة والتساؤلات والمعضلات والالتزام بالمثالية على مستوى الاجابات والحلول -2- وقد بين الدكتور غصيب ذلك بجلاء في هذه الفقرة الهامة التي تؤكد اصرار الجابري على أن بالامكان خلق مشروع نهضوي بعقل ناهض، بدون مراعاة البنيات الاجتماعية الطبقية الحاملة للمشروع النهضوي، اي ان الجابري حسب غصيب يسقط في نوع من الهيغلية وفصل تعسفي بين الفكرة وحاملها الاجتماعي الضروري لها، ووصف اسئلته بانها تحمل نوع من الذنب الايديولوجي الذي لا يغتفر، لنرى ماذا يقول غصيب:"فالنهضة، في نظر من طرح السؤال المذنب، ليست مسألة مادية اجتماعية معقدة تنطوي على تناحرات حادة بين طبقات وفئات تسخر لتحقيق اغراضها كل ما في حوزتها من اسلحة وادوات (اقتصادية وسياسية وعسكرية وثقافية ومعرفية واجتماعية عامة). انها ليست حضارة جديدة تبزغ شمسها على انقاض حضارة قديمة تحتضر.وهي ليست مسألة نضالية تقودها حركة تحرر تاريخي، وانما هي مسألة فكرية في جوهرها: نهضة تبنى بعقل...كأن عملية النقد العقلي مشروع فكري محض يتم بمعزل عن المجتمع ونزاعاته المريرة."-3-

2- عرقية الجابري:يتهم المفكر غصيب الجابري بانه يمارس تمييزا عرقيا، حيث ان الجابري يقيم تفاضلا لا تاريخي ولا علمي بين عقول مناطق جغرافية واثنية على حساب مناطق جغرافية اخرى فيفضل العقل اليوناني الاوروبي على حساب العقول الهندية والصينية مثلا في تقسيم يذكرنا ببعض تصنيفات بعض المستشرقين (برنارد لويس مثلا) الذين ادعوا افضلية بيولوجية وعقلية للجنس الابيض على حساب الاجناس الاخرى، يقول الدكتور هشام غصيب في هذه النقطة ما يلي:هكذا بهذه السهولة والرعونة الفكرية، يعزز الجابري تحيزا عرقيا اوروبي المنبع والجذور، طالما جلدنا به الغربيون.اذ ان الغربيين لا يفتأون يروجون الفكرة العرقية بأنهم هم وحدهم القادرون على الابداع النظري.اما الشعوب الاخرى فهم اما نقلة (العرب) واما مقلدون (اليابانيون).بل ان هذا الادعاء ورد جليا صريحا في كتاب هتلر"كفاحي"."-4-

3- انتقائية الجابري وتغطيته الادعاء الايديولوجي بمبرر ابستيمولوجي: يقول هشام غصيب توضيحا لهذه النقطة:"فالجابري يحاول ان يوهم نفسه وقراءه انه مدرك تمام الادراك للاساس المادي الاجتماعي للفكر، لكنه معني بالتحليل الابستيمولوجي، ومن ثم فهو ليس ملزما بالتطرق الى هذا الاساس الذي ينتمي الى حقول معرفية اخرى، وكأن التحليل الايبستيمولوجي فعل روحي مستقل عن حركة المجتمع والتاريخ، وكأن الفكر جزيرة معزولة تؤثر عليها المؤثرات المادية الاجتماعية من الخارج فقط.وهو تبرير ينطوي على تصور خاطئ للعلاقة بين القاعدة المادية الاجتماعية وبين الفكر.-5-. الفرق المنهجي بين المفكرين عابد الجابري وهشام غصيب هو اساسا ان هذا الاخير استعان بالمنهج الديالكتيكي في تحليل العلاقة بين الفكر والواقع على شاكلة ووفق طريقة مهدي عامل في التحليل وانتقاد المساهمات الفكرية للباحثين والمفكرين الذين اشتغلوا بالفكر التنظيري (يمكن هناك الاستشهاد بكتاب مهدي عامل ازمة البرجوازيات العربية ام ازمة الحضارة العربية؟)، فيما حاول الجابري التخلص من اسار التحليل المادي الجدلي والانفتاح على بعض الاجتهادات الفكرية والنظرية الاوروبية وخاصة منهجية ميشيل فوكو وجاك دريدا، التي اعتبرت من طرف الماركسيين الجدد مثالية جديدة لكن باسئلة مادية موضوعية.

لننتقل بعجالة كبيرة الى الكتاب الثاني للمفكر هشام غصيب، جدل الوعي العلمي: اشكالات الانتاج الاجتماعي للمعرفة، حيث يبسط المفكر فكره بوضوح شديد حريص على منهجية علمية رصينة، مهووس بفكرة التقدم الحضاري وتجاوز التخلف، فالكتاب خريطة طريق من اجل الخروج من شرنقة التخلف والتبعية للغرب في جميع مستواياتها، الكتاب يحمل التزاما واضحا نحو تطوير الوعي الجماهيري ليقوم بادواره التنويرية المصيرية لتحقيق الثورة الاجتماعية والثقافية والفكرية التي من شان تحقيقها ان تجعلنا نحيا حياة كريمة في ظل انظمة اقتصادية وسياسية عادلة ومستنيرة. المفكر هشام غصيب استعان بعدة منهجية واليات مفاهيمية جديدة مثل مفهوم الاستغراب وقل للدقة مهمة الاستغراب كآلية نظرية وعملية للحاق الحضاري بالغرب عبر استكناه واستنطاق تراثه وفكره ومحاولة الاستفادة من خبراته وتجاربه وعلومه بدون السقوط في شركه واستيلابه، يقول المفكر هشام غصيب في تقديمه لمفهوم الاستغراب**:فالاستغراب هو سبيلنا لامتلاك الادوات المعرفية والنقدية اللازمة لتحرير نظرتنا الى الامور من اسار التحيز الغربي، ومن ثم للانفتاح على ماضينا وعلى الحضارات العالمية المتنوعة وفهمها وتفهمها.... والشرط الاساسي للتحرر من هذه الهيمنة هو معرفة الخصم معرفة دقيقة على جميع الصعد.ولكن بالنظر الى رقي الخصم وارتقائه وتقدمه، فليس في مقدورنا معرفته او فهمه الا بمعاناة تراثه الحديث وباستعمال ادوات معرفية ونقدية مستمدة من ذاته."-6- ترى ماذا يقترح علينا هشام غصيب كخارطة طريق للتقدم والازدهار الحضاري؟ يقول هشام جوابا على هذا السؤال:"لم نعان نهضة ثقافية على غرار النهضة الاوروبية ولم نعان ثورة علمية ولا ثورة فلسفية ولا اصلاحا دينيا جماهيريا ولا ثورة زراعية ولا ثورة صناعية ولا ثورات اجتماعية سياسية في اتجاه بناء الدولة الحديثة.وعليه، فان هذه المهمات (الثورات) مازالت تنتظر من يحققها من قوى اجتماعية صاعدة.."-7-

المفكر الماركسي هشام غصيب في سبيل بحثه عن اسباب تخلفنا ومسؤولية الاخر اي المستعمر الاوروبي والغربي عموما في ادامته، يتهم بشكل واضح وجلي الاستعمار الامبريالي في عرقلة جهود شعوبنا من اجل بناء مقومات الدولة الحديثة، عبر تشجيع بل وخلق تنظيمات وتعبيرات ماضوية تيسر للاستعمار فرص البقاء ناهبا لاوطاننا، متواطئا من اجل استدامة تبعيتنا له كما يحمل المسؤولية كذلك للحملات الاستشراقية التي مهدت لاحتلال اوطاننا وتزوير تاريخنا وتشويه صورنا امام العالم، يقول توضيحا لهذه الفكرة الهامة:"فكوننا الطرف المسحوق في شبكة الهيمنة التي تسود جزءا كبيرا من عالم اليوم يفرض علينا ان نتخطى ذاتنا الى رحاب حضارة الطرف المهيمن، وان ندك قلاع هيمنته باستعمال الاسلحة التي صنعها هو عينه وأخضعنا بها، وفي مقدمتها الفكر العلمي.لهذا السبب، يلجأ الطرف المهيمن الى اعاقة هذه العملية بصرف نظرنا بعيدا عن جوهره وادوات منعته بدفعه اما باتجاه الماضي، وذلك بتعزيز الفئات المحافظة في مجتمعنا، وإما في اتجاه الصورة الايديولوجية الوهمية بصدد ذاته....ولهذا يلجأ الطرف الغربي المهيمن الى تيسير السبل امام عملية اعادة انتاج البنى الاجتماعية وانماط الانتاج القديمة في مجتمعنا.فهو يسعى الى اعاقة عملية التحديث الشامل....فالوظيفة الاساسية للاستشراق هي التزوير التاريخي، وخلق صورة ملتوية مشوهة للشرق تنسجم ونية الغرب في استعباد الشرق واستغلاله ونهبه، وذلك من اجل تسخيرها في قهر الشرقي وتحطيم انسانيته وتحويله من ثم الى ظل، مجرد ظل للصورة المشوهة."-8-.

المفكر هشام غصيب طاقة فكرية وفلسفية ابداعية هائلة سخر كل امكاناته من اجل رفع الوعي الجماهيري بمتطلبات المرحلة الدقيقة المتميزة التي تعيشها شعوبنا، لذلك نراه مدافع شرس عن التزام المثقفين والمفكرين بقضايا شعوبهم، فهو ضد نظرية الفن من اجل الفن او الادب من اجل التذوق والجمال فقط، بل هو مهووس الى حد كبير بقضايا الديموقراطية والتقدم لذلك نراه يعيب على بعض المثقفين والمفكرين نخبويتهم وتعاليهم على الفئات الكادحة وهمومها، يرى الدكتور هشام ان فرصتنا للحاق الحضاري بالآخر المتطور ممكن ومنظور ولكن لابد ان نقتفي اثره ومناهجه بدون الذوبان فيه اي لابد من القيام بمهمات ثورية كبيرة تبدأ من الاصلاح ديني والقضاء على ما يسميه المفكر باللاعقل المقدس وثورة ثقافية وصناعية ممهده للثورة الاجتماعية السياسية الشاملة، في ترابط جدلي بين الفكر والواقع، اي ان ايجاد الحامل الاجتماعي للثورة الاجتماعية والسياسية ضروري للقيام بالمهمات الديموقراطية والثورية على صعيدي النظرية والممارسة..

المراجع:

• *هشام غصيب حصل على درجة الدكتوراة في الفيزياء النظرية من جامعة ليـــــدز (بريطانيا) عام 1976.

1-هشام غصيب: هل هناك عقل عربي؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري، دار التنويرالعلمي للنشر والتوزيع طبعة اولى ص 12

2- هشام غصيب: هل هناك عقل عربي؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري، دار التنويرالعلمي للنشر والتوزيع طبعة اولى ص 15

4- هشام غصيب: هل هناك عقل عربي؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري، دار التنويرالعلمي للنشر والتوزيع طبعة اولى ص21

5- هشام غصيب: هل هناك عقل عربي؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري، دار التنويرالعلمي للنشر والتوزيع طبعة اولى ص48

** مفهوم الاستغراب استعمله كذلك المفكر المصري الكبير حسن حنفي وعنون به مشروعه الفكري مقدمة في علم الاستغراب، لكن الاسبقية الاستعمالاتية للمفهوم هي للمفكر الاردني هشام غصيب.

6-هشام غصيب: جدل الوعي العلمي، الطبعة الاولى 1992 ص 80-81

7- هشام غصيب: جدل الوعي العلمي، الطبعة الاولى 1992 ص 94

8- هشام غصيب: جدل الوعي العلمي، الطبعة الاولى 1992 ص 101

9.المفكر اللبناني علي حرب، منظر الثورات الناعمة وناقد الحقيقة.

ينتمي الكاتب اللبناني علي حرب، الى جيل المفكرين والنقاد الذين ولدوا في فترة الاستعمار وازدهار حركات التحرر الوطني، وهذا جيل ثقافي وفكري متفرد باعتباره شاهد عيان على المعارك الثقافية والفكرية والسياسية الكبرى التي عرفها العالم،من سقوط العرب امام اسرائيل عسكريا وسياسيا وتبخر الاوهام الوحدوية العربية و سيطرة انظمة ديكتاتورية تسلطية على رقاب الناس في الشرق الاوسط والادنى وانهيار جدار برلين وما تمخض عنه من تطورات فكرية وجروح ايديولوجية لم تندمل بعد. تحولات سياسية كبرى طبعت المسارات الفكرية والثقافية والفلسفية لعي حرب وجيله، جيل تغنى بالثورات الاشتراكية وسيطرة الفكر اليساري عالميا ولم يحصد سوى انظمة البؤس والقهر والطغيان، كما انه جايل صعود الحركات الاصولية في ايران بعد الثورة الاسلامية وتابع عن كثب نمو حركات الاخوان المسلمين في ارجاء العالم الاسلامي، علي حرب اذا،منتوج تحولات كبرى فرضت على المثقفين من امثاله الالتجاء الى الفلسفة والفكر كمهمة نضالية اولا في اطار المقاومة والممانعة ضد واقع مهزوم، تهيمن فيه الجمل الثورية والمشاريع الفكرية الكبرى لكن تستبد فيه القوة والقمع والقهر على صعيد الممارسة، وثانيا ومن اجل استنهاض وعي وفعل جماهيريين لفهم الواقع وتغييره، فالفكر الفلسفي عند علي حرب ليس ترفا فكريا او ترسيمات نظرية او فذلكات لغوية تستهوي قلوب القراء والمتتبعين، هو قبل كل شئ، نضال وتضحية لاجل غايات مجتمعية عملية لتجاوز واقع الاستبداد والتخلف والامية بجميع انواعها واشكالها التي تنخر المجتمعات الثالثية. كتابات وابداعات الفيلسوف علي حرب تنخرط في نقد الحقائق والمسلمات الجاهزة سواء تعلق الامر بالعقائد او الهويات وفي مساءلة ممارسات وافكار المثقفين والسياسيين، الفيلسوف علي حرب عمل نقدا ذاتيا قاسيا للذات المثقفة النخبوية المتعالية على هموم الناس البسطاء، الى حد ان البعض اتهمة بجلد الذات والتحامل على الطبقة المثقفة لذلك يصرخ قائلا:"ولا اراني اجلد نفسي او اظلم غيري، عندما انتقد المثقف واعترف بان جيلنا قد فشل في ما طرحه من شعارات، لانه فقد القدرة على التفكير الحي والتخيل الخلاق، اي ما به يجترح امكانات جديدة لحياة حرة، لائقة كريمة... هذا العجز عبر عنه احسن تعبير الروائي المصري صنع الله ابراهيم بقوله تعليقا على الثورة الجارية في بلده: حتى في الحلم لم اكن اتخيل ان تكون هذه الثورة ممكنة. راجع ملحق الكتب في جريدة لوموند 11 فبراير 2011"1 في موضع اخر من نفس كتاب المفكر علي حرب ثورات القوة الناعمة، ينقد المفكر علي حرب استعلائية المفكرين النخبويين،داعيا اياهم الى مراجعة مواقفهم وافكارهم التي ادت الى حجب الحقيقة عنهم لانهم تمسكوا بالفكر النظري المجرد بدون ممارسة فعلية ميدانية"ثمة من يأخذ علي بأني اغالي في الهجوم على النخبوية الى حد يجعلني لا ارى فرقا بين اهل العلم والفلسفة، وبين بقية الناس، من حيث العلاقة مع الشأن الفكري. وليس لي الا التأكيد على موقفي، بان التفكير بصورة حية ومبتكرة ليس حكرا على الفلاسفة والعلماء، من المفكرين المحترفين، المنتجين للافكار، بل هو ميزة الانسان عامة.على هذا النحو أقرأ مقولة ديكارت القائلة،انا افكر اذن انا موجود،..."2

من المفاهيم الكبرى التي شدتني الى فكر المفكر علي حرب، والتي استمد بعضا منها من المدرسة التفكيكية التي يعتبر احد روادها المعاصرين، مقولة العقل التواصلي الميديائي ومفهوم القوة الناعمة، فعلي حرب ابدع عدة معرفية ومنهجية جديدة، سواء في تحليله للاوضاع السياسية والفكرية المتسمة بالفوضى وغياب المعنى واغتراب المصلحين والعقلاء، او لمحاولته التنظير والتفسير للثورات والانتفاضات التي تعرفها الكرة الارضية في شقها الجنوبي اي الشرق الاوسط وشمال افريقيا منذ سنة 2011 الى يومنا هذا، بل ناصر علي حرب الانتفاضات ضد الاستبداد والظلم واعتقد ان تاريخا جديدا يدون في المنطقة بعد سقوط الشعارات الكبرى المضللة للوعي والفكر، وانهيار الايديولوجيات الاسمنتية وبروز الدور الفعال للشباب والنساء لاحتلال مقدمة الاحداث،مؤكدا ان لا عودة الى الوراء لان ما يحدث يطوي صفحة ويفتح اخرى، ويدخلنا في عصر جديد شاء من شاء او ابى من ابى، يقول الاستاذ علي حرب متحدثا عن هذه التغييرات الكبرى التي نعيشها وتجلياتها ونتائجها المتوقعة:"والاهم ان ما حدث في تونس، ويحدث في غير بلد عربي، وبخاصة في مصر، هو وليد لثورة المعلومات والاتصالات التي اتاحت البث والاتصال للصور والمعلومات بسرعة البرق والفكر، بقدر ما هو ثمرة للقوى الجديدة الصاعدة على المسرح، والتي باتت من معطيات الواقع العالمي الراهن.هناك اولا صعود بلدان كانت على الهامش، بل وراء العرب، فاذا بها تصيح امامهم، كالصين والهند والبرازيل وماليزيا وتركيا، مما عنى كسر احادية النموذج والقطب والمركز في التنمية والسياسة والمعرفة. على صعيد اخر يسجل صعود المرأة، خاصة في ميدان السياسة، على نحو يكسر خرافة الفحولة وقيمومة الذكورة.من هنا فالمرأة العربية اليوم جزء من الثورات الجارية بحيويتها وفاعليتها. وأخيرا هناك صعود الأجيال الجديدة، الشابة، الفتية، التي تفلت من عقال الايديولوجيات الاسمنتية والمنظمات الجهادية الارهابية، لهذه العوامل، وبخاصة الشباب ووسائل الاعلام، الدور الاكبر في حصول الثورة الجارية، التي هي ثورة سلمية مدنية لا تشبه ما سبقها..... وهكذا فهي ليست اشتراكية ولا ناصرية ولا جهادية كما يتمنى او يحن او يحلم ديناصورات العقيدة والفلسفة والسياسة والثقافة.لانها ابنة عصر العولمة بأدواتها الفائقة وليبراليتها الجديدة التي تتيح فضح المستور وكشف الاسرار."3. استطاع علي حرب بفكره الخلاق الجذاب واسلوبه الانسيابي الباهر ان يفكك امراض النخبة المثقفة والمجتمعات في نفس الوقت، ففضح تكلس وجمود النخب الثقافية المتخلفة عن الركب الثوري، المصدومة بالتغيرات التي تحدث في المجتمع وفي صفوف الجماهير، فما جرى ويجري في كل ربوع بلداننا المتخلفة المقهورة، ثورات وانتفاضات"شعبية غير مسيسة، خرجت عن الاطر الحزبية الحديدية والقوالب الايديولوجية الاسمنتية، حيث يسود الشعار الواحد والخطاب الواحد والرأي الواحد، وربما الزي الواحد.نحن إزاء انتفاضات معاصرة لا تعمل تحت اي يافطة زعيم اوحد او قائد ملهم او بطل منقذ، ولا يختزلها معتقد اصطفائي او عقيدة مقدسة او نظرية ثورية لا تخطئ. ولذا فهي ابعد ما يكون عن النماذج التي جسدها لينين او ماوتسي تونغ او كاسترو او الخميني.انها ثورات ذات هوية مركبة هجينة، بقدر ما هي مفتوحة، ومتعددة بقدر ما هي متحركة."4 وختاما اقول بان التعريف الشامل والدقيق بمفكر موسوعي من حجم الفيلسوف علي حرب مهمة صعبة بل مستحلية ولكن مقالنا لا يستهدف التعريف الشامل بافكار ونظريات علي حرب، بل نهدف من خلاله تعريف القارئ الكريم بباحث ومفكر اسدى خدمات كبيرة للفكر العلمي المنهجي في بعده النقدي التركيبي، حيث ان المفكر علي حرب داعية تحاوز لافكار الصنمية وللمفاهيم السحرية وللاستعلاء الفكري والنخبوي، علي حرب نموذج المفكر الثوري الذي يقترح للخروج من المازق الحالي الذي نعيشه جميعا التحلي بعقل تداولي وفكر تركيبي ومعنى التداول والفكر التركيبي لدى علي حرب:"التداول هو في وجهه الاول إتقان لغة التوسط والحوار والتواصل.فالعلاقات بين البشر تبنى وتثمر بخلق البيئات والاوساط او الوسائط و الوسائل التي تتيح التواصل والتعارف والتبادل.فمن غير وسط او توسط من لغة ومحادثة او حجة ومحاورة او قاعدة ومؤسسة يسيطر العماء والخواء او يعم الاقصاء والاستبداد..... من مقتضيات التداول التعامل مع الواقع لا بعين ضيقة او بصورة تبسيطية وحيدة الجانب، بل على نحو تركيبي وبصورة مرنة ومفتوحة.فالواقع ليس معطى نهائيا او نظاما احاديا خطيا او حتمية صارمة ومقفلة. الأحرى النظر اليه كمعطى متحرك ملتبس بقدر ما هو مسرح للعب والمجازفة او مجال الخرق والعبور."5 كتابات وافكار علي حرب تقوي في جيلنا فكر التحرر والانعتاق من المعتقدات البالية والافكار المثالية المتعالية على الاحداث والتجارب، لذلك فكره يحذرنا من القوالب الفكرية المتحجرة والمتاريس العقائدية ومن فكر المؤامرة الدائمة والافخاخ الذاتية لحجب الكائن او لشن الحرب على الاخر"فليس الاخر هو الجحيم دائما"وتعليق كل اخطائنا وعثراتنا على العدو المفترض والمصنوع والذي يواجهنا عند كل رغبة في الانتفاضة على الاوضاع القائمة و الرغبة في التحول الديموقراطي المشروع،.

فكر علي حرب منارة تنير لنا طريق المستقبل، فكر يدقق في المفاهيم ويشرح المسارات ويشي بالمخارج من المأزق لكن واقعنا المأزوم بجعل ازماتنا مضاعفة داخلية وخارجية، معرفية ونفسية، سياسية واقتصادية، في فترة الازمات والانتكاسات والاحباطات من كل حدب وصوب تجعل الفكر الفلسفي مهما كانت توريثه ومصداقيته العلمية والمنهجية، عاجزا عن تفسير حالة التنامي الذي لا يعرف الانقطاع والتوقف في تأبيد الاستبداد وانظمة القهر والذل في انتاج المزيد من التوترات التي تطيح باي امل نحو التطلع الى اللحاق بركب الدول الديموقراطية المستنيرة، ما حدث من فضائع دموية في اليمن وسوريا ومصر... بسبب استبداد الانظمة القائمة وتمسكها بالنهب والسلطة والثروة ورفضها الخضوع لمنطق التاريخ وحتميته في التغيير، يسائل عقلنا السياسي وانسانيتنا وتاريخنا لعلنا نعرف لماذا عجزنا ان نكون انسانيين، ديموقراطيين حداثيين.؟

المراجع:

1-علي حرب: ثورات القوة الناعمة في العالم العربي من المنظومة الى الشبكةالطبعة الثانية 2012 ص 63

2- حرب: ثورات القوة الناعمة في العالم العربي من المنظومة الى الشبكةالطبعة الثانية 2012 ص77

3- حرب: ثورات القوة الناعمة في العالم العربي من المنظومة الى الشبكةالطبعة الثانية 2012 ص-54-53

4- حرب: ثورات القوة الناعمة في العالم العربي من المنظومة الى الشبكةالطبعة الثانية 2012 ص70

علي حرب مجلة التسامح العدد 5 شتاء 2004 ص 227-231

10.هكذا تكلم سلمان رشدي

اجرت جريدة الاكسبريس الفرنسية في عددها 3342 لشهر يوليوز 2015 استجوابا استثنائيا مع المفكر الهندي سلمان رشدي، صاحب كتاب آيات شيطانية (كتاب خلق ضجة كبيرة في العالم بعد صدوره واصدر مفتي الخميني فتوى شهيرة بهدر دمه)، حيث تناول الاستجواب نظرته الى الحركات المتطرفة الارهابية مثل داعش والقاعدة وموقفه من الاسلام والمسلمين ونظرته للعالم بعد الاحداث الكبيرة التي حدثت في العالم بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وبروز حركات الاسلام الجهادي والتطورات التي يعرفها حقل التطور التكنولوجي والتقني وتأثير ذلك كله على نظام القيم والاخلاق ونظرة المثقفين والكتاب الى هذه التغيرات الدراماتيكية التي تعتمل العالم. في مقدمة الملف الذي اعدته الاكسبريس الخاص بسلمان رشدي اكد كريستوف باربيي (christophe barbier)مايلي:"بدون ان نعلم، ادخلنا هذا الانسان المفكر في القرن الواحد والعشرين منذ سنة 1989 في وقت سقوط جدار برلين وبداية انهيار الامبراطورية السوفياتية واغتيال الصين لحلم الديموقراطية بسبب الدم المهدور في التيانمين... في 14 فبراير اذاع راديو طهران فتوى القتل الشهيرة ضد سلمان رشدي وتعهد الخميني بمكافأة سخية لكل من استطاع قتل سلمان رشدي لانه نشر في شتنبر 1988 كتابا مثير للجدل حول نبي الاسلام. هذا الكتاب اثار ضجة عالمية ألهبت العالم الاسلامي فتم حرق العديد من المكتبات وقتل مترجم الكتاب باليابانية وقتل 37 شخص اثناء حريق شب بعد مظاهرات ضد المترجم التركي"مايهمنا في الاستجواب هو ان نستطلع افكار واراء الرجل بعدما جرت مياه كثيرة وتغيرت معالم كبيرة في جغرافية الفكر والسياسة.
حدثت ضجة كبيرة سنة 2015 عندما قرر مركز امريكي pen american centre تكريم المجلة الفرنسية الشهيرة شارلي ايبدو بوسام الشجاعة وحرية التعبير،(معلوم ان عدد من صحفي جريدة شارلي ايبدو تم الهجوم عليهم في مقر عملهم وتم تصفية عدد كبير منهم من قبل جماعات ارهابية متطرفة، يرجح ان تكون تابعة لداعش) فقرر عدد من الكتاب والمفكرين البلاغ عددهم 200 توقيع عريضة ضدا هذا التكريم، لكن سلمان رشدي قلل من الامر واعتبر عدد الموقعين على العريضة"200 موقع"هامشي مقارنة مع مجموع عدد اعضاء نادي pen club البالغ عددهم 5000 كاتب ومؤلف. وفي دفاعه عن هذا التكريم قال سلمان رشدي بان جريدة شارلي ايبدو ليست عنصرية ضد المسلمين كما يروج ذلك البعض ودليله على ذلك ان احصائية هامة لجريدة لوموند الفرنسية اكدت ما يلي: عدد الافتتاحيات التي تناولت موضوع الاسلام 7 من اصل 523 افتتاحية لشارلي ايبدو طيلة عشر سنوات والباقي يهم اسرائيل والجبهة الوطنية وساركوزي و العنصرية في الفرنسية والنخب الحاكمة..
في جوابه عن سؤال المجلة: هل تغير شيئ ما في العقليات منذ الايات الشيطانية الى اليوم؟:

يقول المفكر سلمان رشدي، للاسف الشديد كنا نعتقد ان الحملة الشرسة التي جوبهت بها الايات الشيطانية والمحنة التي مرت بها حرية الراي والتعبير انذاك، ستجعل مساحة الحرية تربح مساحات كبيرة، لكن للاسف كان هناك اتجاه غربي يفضل التضحية بحرية الرأي والتعبير والتفكير وذلك باعتماد توافقات وتراجعات خطيرة.لماذا؟:

هناك تراجع مهول للوضع الثقافي ولادوار المثقفين دوليا، وانتشر الخوف من الكلمة الحرة؟، و انتصر صوت الكلاشينكوف ودوي القنابل أعلى من صوت المثقفين، امس كان اليمين الاوروبي المحافظ الئي تمثله مارغريت تاتشر واليمين الاوروبي عموما مهادنا لقمع الحريات، ساكتا خنوعا للحفاظ على مصالحه الاقتصادية والسياسية، اليوم للاسف الشديد التحق اليسار الاوروبي بموجة المتواطئين مع الانظمة القمعية ومع الحركات الارهابية واصبح اليسار الاوروبي الحكومي مقتنعا بالمساومة على الحرية وحقوق الانسان ومهادنة الارهاب الفكري. يقول رشدي بان هناك رفض لفهم امرين اساسيين: الاول اننا نعيش مرحلة حالكة"sombre"غير مسبوقة حيث ان مايحدث في العالم بعد ظهور التنظيم الارهابي داعش امر جلل وخطير لان حرية العالم اصبحت مرهونة ومقيدة بازواء واهواء تنظيمات لا دولتية يمكن ان تمس امن واستقرار الشعوب في أي مكان وزمان، والامر الثاني ان الارهابيين يستهدفون المسلمين قبل الغربيين، عدد ضحايا المسلمين اكبر بكثير من عدد الغربيين لذلك الارهاب يسائل الجميع ومواجهة التطرف الاسلامي لا يعني بتاتا مواجهة الاسلام او المسلمين هذا التمييز ضروري بل يعني بالعكس الدفاع عنهم، لذلك يرى سلمان رشدي ان الخلط بين الارهاب والاسلام لا يخدم مصلحة دعاة الديموقراطية وحقوق الانسان، الاسلام ضحية من ضحايا الارهاب كما الغرب.

اما عن الفرق بين العنف والتطرف في سنوات صدور الايات الشيطانية واليوم، فازدياد حدة التطرف وتراجع الحريات الفكرية، يرجع في جزء كبير منه الى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واستغلالها بشكل فظيع من طرف الجهات المتطرفة، يمكن تشبيه ذلك بطاعون البير كامو (la peste de CAMUS) اومسرحية (Rhinoceros de Ionesco).

انتشار داعش والارهاب بصفة عامة حسب سلمان رشدي يتحمل فيه الغرب مسؤولية كبيرة، حيث اخطاء مغامرة بوش في العراق وما تلاها من تفتيت العراق وتشتيته ودعم نظام طائفي بغيض فيه والخطأ الاستراتيجي الاساسي هو الدعم اللامشروط للانظمة الوهابية مقابل الاستفادة من ثرواتها البترولية، بدون البترول كانت الوهابية حركة دينية صغيرة ولكن بفضل الثروات النفطية اصبح للوهابية اجنحة تطير بها الى كل اصقاع العالم ناشرة فكرا متطرفا يخيف الجميع ويهدد استقرار الامم والشعوب. ياسف سلمان رشدي لحال مدن تاريخية كانت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي منارات للتنوير والفكر الحر، اصبحت اليوم مرتعا للارهاب والتطرف مثل طهران وبيروت ودمشق... لكن بلغة ماركسية غرامشية لابد من النظر الى المستقبل بتشاؤم المثقف وتفاؤل الارادة. فبالارادة انهزمت النازية في المانيا رغم قوة وجبروت هتلر وبالارادة الحرة الواعية انتصرت الثورة الفرنسية وانبلج عصر الانوار، الكل قابل للتحول والتغيير في هذا العالم، لكن هذا الكل رهين بالتضحيات والصمود في طريق مليء بالاشواك والعقبات. حوار المفكر الهندي سلمان رشدي طويل ويحمل افكارا مهمة واصيلة حول ادوار المثقفين ودور الكتاب والمفكرين، في هذه المرحلة الدقيقة من العالم، لكن الاساسي في الحوار انه حمل اوروبا وامريكا جزءا كبيرا من مسؤولية انتشار التطرف والارهاب عبر السكوت عن الانظمة المستبدة وتفريخها للجماعات الارهابية مقابل مصالح اقتصادية وسياسية، وهذا الاعتراف الهام يجعل مسؤولية المثقفين والسياسيين النزهاء في العالم الحر امام مسؤولياتهم التاريخية في المساهمة في دمقرطة العلاقات الدولية ونشر قيم الديموقراطية وحقوق الانسان ومكافحة الارهاب، عبر الضغط على حكوماتهم المنتخبة بطريقة ديموقراطية للكف عن مساندة الانظمة الاستبدادية المفرخة للارهاب في العالم.

11.فيديل كاسترو: الثائر الذي تحول الى ديكتاتور

بعد 57 سنة من الحكم الفردي المطلق، يغادر زعيم الثورة الكوبية الحياة، بهافانا يوم 25 نونبر 2016 عن عمر يناهز 90 سنة، تاركا وراءه بلدا يئن تحت نير التخلف والفقر و الافلاس الاقتصادي والاجتماعي، ولمكر الصدف بعد وفاته بثلاث ايام، يفتح خط جوي لاول مرة بين ميامي الامريكية عاصمة المنفيين الكوبيين في الخارج و مدينة هافانا عاصمة الثورة ضد الامبريالية الامريكية، كأن القدر اراد لروح كاسترو رفض التطبيع والانبطاح للامريكيين الى اخر رمق. مجريات الاحداث و التضاريس الوعرة واسرارا كثيرة مدفونة للابد، حولت كاسترو من اسطورة الهم الجماهير العريضة من الفلاحين والكادحين الى بطل للاعتقال والاغتيال السياسي للمعارضين.

من هو فيديل كاسترو؟

كانت طفولة فيديل كاسترو قاسية جدا، حيث ولد وهو بدون هوية ولا اسم حتى وصل الى سن 14 سنة، بسبب مغامرات ابيه الجنسية الكثيرة فقد كثر اخوته من زيجات كثيرة، الاولى هي ماريا لويزا، ولد كاسترو يوم 13 غشت 1926 بقرية صغيرة تدعى BIRAN بيران، من ام خادمة في ضيعة والده وترتيبه الثالث من اخوته الستة من زواج غير معترف به بخادمته لينا روز lina ruz، حيث ان اباه ََANGEL القادم من منطقةGALICE، راكم ثروة هامة من معاملته التجارية والمالية مع شركات صناعة السكر الامريكية، ويملك ضيعات كثيرة يسيرها بيد من حديد وكان ابو كاسترو من انصار باتيسا الديكتاتور الكوبي. تلقى فيديل كاسترو تعليما غير معمق حيث تنقل بين عدة ثانويات منها collège de dolors et collège belen وكلهم بسانتياغو، وكان مشاغبا ومشاكسا في طفولته عنيدا جدا الى درجة ان اقدم على حرق بيت عائلته في احدى المرات.

2-فيديل كاسترو الثوري:

قاد فيديل كاستور اول حركة تمردية فاشلة في 26 يوليوز 1953، لذلك سميت حركته حركة 26 يوليوز، لكن ستظل سنة 1955 حاسمة للتوجه الثوري لفيديل الذي التقى في منفاه ومعتقله بالمكسيك،برفيق دربه ومنظر ثورته الارجنتيني تشي كيفارا، الثائر الاممي الذي تجاوزت سمعته وشهرته كل الاصقاع.حيث اعتقلا الرفيقين في بداية سنة 1956 بزنزانة واحدة في سجن ميكيل شولتز MIGUEL SHULTZ بالعاصمة مكسيكو، يبلغ عمر فيديل انذاك 30 سنة و كيفارا 28 سنة. يناير 1959 سيشن فيديل كاسترو ورفاقه حملة هجومية واسعة انطلاقا من جبال سيرا مايسترا الوعرة وتجاوز الجزيرة ب1000 كيلومتر شرقا مصحوبا ب 3000 مقاتل، هذه الحملة ادت الى هروب الديكتاتور باتيستا، مما ادى الى التحاق معظم جنوده بثوار فيديل كاسترو. وتمت السيطرة على العاصمة هافانا في 1 يناير 1959 وعمر فيديل لا يتجاوز 32 سنة، بعد الثورة كلف تشي غيفارا بمهام كبرى كالادعاء العام في محاكم الثورة، ثم المسؤول عن الاصلاح الزراعي ومسؤول البنك المركزي ووزيرا للصناعة، قبل ان يغادر كوبا سنة 1965 لاستكمال مهامه الثورية الى جانب حركات التحرر الوطني بافريقيا.وعكس المتداول فقد كان كاسترو في البداية اقرب الى الولايات المتحدة الامريكية منها الى الاتحاد السوفياتي، حيث ان شعار ثورته كان هو"لا ديكتاتورية يسارية لا ديكتاتورية يمينية، نريد ثورة تحررية انسانية". فقد قام فيديل كاسترو بزيارة رسمية للولايات المتحدة الامريكية في 15 ابريل 1959 واستقبل من طرف نائب الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون، وادى تجاهل الرئيس ايزنهاور لزيارته الى تغيير نظرة التحالفات في ذهن فيديل كاسترو الذي احس بالاهانة والاحتقار، فاجبر على ركوب محور الاتحاد السوفياتي حيث قام بزيارات متكررة الى الاتحاد السوفياتي وربط علاقات صداقة متينة مع الزعيم السوفياتي خورتشوف،حيث استقبل للمرة الثانية سنة 1964 في موسكو استقبال الابطال.عاقبت الولايات المتحدة الامريكية بسرعة فيديل كاسترو بسبب سياسته التأميمية لمزارع السكر وتوجهه نحو موسكو، التي اوقعت كوبا والعالم في ازمة صواريخ سنة 1962 كادت ان تؤدي الى حرب عالمية ثالثة، اذ اعتبر الرئيس الامريكي كيندي في خطاب له يوم 22 اكتوبر 1962 نشر صواريخ باليستية خارج الاراضي السوفياتية تهديدا للسلم الدولي.

فيديل كاسترو: الديكتاتور

اعتقد الكثيرون ان كاسترو كان متشبعا بالفكر الاشتراكي التقدمي الذي كان يمثله فكر ماركس وتنظيم لينين، الا ان الحقيقة هي ان كاسترو لم يكن سوى ديكتاتور لفظته الولايات المتحدة بسبب سياساته الوطنية والفلاحية خصوصا، وانه حكم كوبا بالحديد والنار الى جانب اخوه المفترض راوول كاسترو وابن اخيه راوليتو واقصى المعارضة السياسية وملا السجون بمعتقلي الرأي،بعد انهيار الاتحاد السوفياتي فقد فيديل كاسترو داعما رئيسيا في العالم تزامن ذلك مع توسع الديموقراطيات في امريكا اللاتينية، فبقي كاسترو معزولا يغازل امريكا بدون جدوى، فخلف بلدا اقتصاده متخلف، يئن تحت الفقر والحرمان ويرزح تحت مخلفات حصار طويل. تعرض كاسترو لمحاولات عديدة للاغتيال السياسي من طرف وكالة الاستخبارات الامريكية تجاوزت المئة، لكن نفس الاجهزة المخابراتية دعمته في السنوات الاخيرة بعدما فتحت قنوات سرية مع رفاقه الليبراليين الجدد بقيادة راوول كاسترو والقيادة العسكرية الجديدة المقتنعة تماما بالاصطفاف الى جانب الامريكيين. من الصعب التمييز اليوم بين تاريخ كوبا وتاريخ كاسترو لان كوبا اختصرت تماما في شخص واحد او للدقة قلنا عائلة واحدة، واخيرا لا بد ان نقول بان كاسترو كان مع الثورة في بلد واحد اي كوبا فيما اختار صديقه ورفيقه الثائر تشي غيفارا، الذي اختلف معه فيما بعد تصدير الثورة لتصير عالمية، وهناك يظهر مدى اقتناع كل منهما بالروح الثورية التحررية.

12. محمد عابد الجابري: طبيب التراث الاسلامي و ابن رشد الزمن
المعاصر

لاعسف ابدا في القول بأن المفكر والفيلسوف محمد عابد الجابري لم يحتفى به مغربيا ومغاربيا وعالميا كما ينبغي وكما يستحق ذلك، فالاحرى ان تسمى شوارع ومعاهد وجامعات باسمه و تدرس كتبه في الجامعات المغربية لما تحويه من ابداع منهجي و بحث تاصيلي عن التراث والحداثة والديموقراطية وحقوق الانسان...، محمد عابد الجابري ايقونة الفكر الاسلامي وفيلسوف الازمنة المعاصرة بامتياز اعطى للمكتبة الفلسفية العربية والاسلامية كتابات عظيمة وفتح مستغلقات تراثية كانت مستعصية على الفتح بفعل تراكم غبار المحافظة والتحفظ عليها. من الصعوبة بمكان ان اتحدث في مقال متواضع عن شخصية فكرية وسياسية كبيرة اغنت عقولنا و افكارنا بمنهجيات جديدة في تناول التراث الاسلامي وغير التراث الاسلامي، اذ لا ننسى ان الرجل ابدع في مجالات اخرى وكتب تنظيرات عن الديموقراطية والدين وحقوق الانسان وعن الخطاب العربي المعاصر..، لذلك صح القول في انه فيلسوف ومفكر موسوعي له فضل كبير في ابراز عمق الشخصية الفلسفية المغربية والمغاربية كاستمرار تاريخي للنهضة الرشدية والحزمية والخلدونية... التي عرف بها الفكر المغربي. وهدفنا من هذا المقال المتواضع امام شخصية فكرية وعلمية فذة، ليس تقديم طروحاته و افكاره وكتاباته الغزيرة والعميقة وان كان هذا طموحنا الرئيسي في قادم الايام والسنين ان شاء الله ولكن اساسا هو تقديم محمد عابد الجابري بشكل سريع وخاطف والتعريف به لدى الاجيال الجديدة،كعرفان لما اعطاه الرجل من اسهامات وافكار متميزة تستحق منا كاجيال جديدة، ان نستلهم منها الروح و الارادة لمواصلة درب النضال الفكري والسياسي والعملي من اجل الحفاظ على التميز المغربي والمغاربي فلسفيا وفكريا.

⎫من يكون محمد عابد الجابري؟:

في فبراير من سنة 1997 اصدر المفكر الراحل محمد عابد الجابري كتابا بعنوان حفريات الذاكرة والعنوان مستوحى ربما من كتاب ميشيل فوكو حفريات المعرفة، نظرا لتأثر الرجل بكتابات المفكر والفيلسوف الفرنسي فوكو، يحيلنا الكتاب المذكور منذ الوهلة الاولى على سيرة ذاتية للرجل ومن بعيد كما يريد يركز الكاتب دائما حين يذكره و لكن في مراحل سنه المبكرة وللاسف الشديد لم نستطع الاطلاع على باقي الفترات العمرية المروية بقلم محمد عابد الجابري وان كانت الكتابات التي نشرت في كتاب الجيب –مواقف- قد حاولت سد الفجوة و تضمنت مذكرات سياسية وحياتية للراحل الجابري بعد استقلال المغرب الى غاية نهاية التسعينات وبداية الالفية الجديدة وتناولت احداثا سياسية وثقافية وفكرية واجتماعية عاشها الرجل بالمغرب مباشرة كفاعل سياسي في القوات الشعبية او بطريقة غير مباشرة. يقول مفكرنا في كتابه حفريات المعرفة الطبعة الاولى 1997ما يلي:"تقع مدينة فجيج،مسقط راس صاحبنا، في الجنوب الشرقي من المغرب، على خط الحدود الذي اقامه الفرنسيون بين المغرب والجزائر في اوائل هذا القرن....وعلى اسفل هضبة فجيج يقع قصر زناكة(بالامازيغية:ازناين) على السهول الممتدة الى الجزائر، وهو اكبر القصور جميعا وربما يعدلها مساحة وسكانا واهله يعتبرون انفسهم"المركز"والباقي"اطراف"...في هذا القصر زناكة، ولد صاحبنا وفيه نشأ نشأته الاولى...وكان قد ولد صباح يوم عيد الفطر من سنة 1354 هجرية حسب ما وجده مقيدا في دفتر من دفاتر جده لامه، وذلك يوافق يوم 27 ديسمبر 1935، وقد سجله والده فيما بعد بدفتر الحالة المدنية ضمن مواليد 1936)...وعند انتهاء السنة الدراسية التي قضاها صاحبنا في السنة الاولى الاعدادية بمدرسة التهذيب بوجدة (1950-1951) كانت مدرسة النهضة المحمدية بفجيج قد اثمرت فوجها الثاني من حملة الشهادة الابتدائية.وبما انه كان من المتعذر جدا فتح سلك اعدادي فيها لعدم وجود اساتذة فقد بات المتخرجون منها الحاملون للشهادة الابتدائية مهددين بالضياع والعودة الى الامية، الشىء الذي يهدد مستقبل الدراسة نفسها...ان كاتب السطور(الجابري) لايعرف بالضبط كيف تبلورت فكرة ارسال التلاميذ المتخرجين من مدرسة النهضة المحمدية بفجيج الحاملين للشهادة الابتدائية، الى الدار البيضاء لمتابعة دراستهم الثانوية فيها...ومهما يكن فقد التحق صاحبنا بالدارالبيضاء ليجد مجموعة من رفاقه القدامى في مدرسة النهضة المحمدية من جيله والجيل الذي جاء بعده يدرسون في ثانوية عبد الكريم الحلو...لنعد اذن الى البكالوريا التي اجتاز صاحبنا امتحانها بنجاح في يونيو 1957.وكانت تلك هي المرة الاولى التي تعقد فيها دورة للبكالوريا المغربية المعربة بصورة رسمية، وقد تراس لجنتها الشهيد المهدي بن بركة الذي قرأ اسماء الناجحين بنفسه في بهو بناية المعهد العلمي (كلية العلوم حاليا)..قضى صاحبنا صيف ذلك العام-عام 1957 – وهي السنة الثاني لاستقلال المغرب،قضاه في جريدة"العلم"حيث اشتغل اولا في قسم الترجمة لينتقل بعد ذلك الى قسم المراسلات الداخلية..وبدون صعوبة وفي اسرع وقت حصل صاحبنا على جواز سفر وعلى منحة، وكانت المنح معممة على حاملي شهادة البكالوريا، كما حصل ايضا على ورقة مراسل لجريدة العلم...هنا نقف بعملية"الحفر في الذاكرة"،ذاكرة الطفولة والمراهقة واوائل الشباب..نصوص تنقل للقارئ حديثه مع نفسه عن"القضايا الكبرى"التي كان عليه ان يقرر فيها، خلال السنوات الثلاث التالية(1959-1961) التي انتهت بحصوله على الاجازة في الفلسفة وبزواجه بأم اولاده ورفيقة دربه."

اعطى موقع الجزيرة نت نبذة عن الراحل الدكتور محمد عابد الجابري يوما بعد وفاته ذات يوم من ماي سنة 2010 وهي كالاتي:

ولد محمد عابد الجابري نهاية عام 1935 في مدينة فكيك شرقي المغرب، وارتقى في مسالك التعليم في بلده، حيث قضى فيه 45 سنة مدرسا ثم ناظر ثانوية ثم مراقبا وموجها تربويا لأساتذة الفلسفة في التعليم الثانوي، ثم أستاذا لمادة الفلسفة في الجامعة.

حصل عام 1967 على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، ثم دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970 من كلية الآداب التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، وعمل أستاذا للفلسفة والفكر العربي والإسلامي بالكلية نفسها.

انخرط الجابري في خلايا المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي للمغرب بداية الخمسينيات من القرن الماضي, وبعد استقلال البلاد اعتقل عام 1963 مع عدد من قيادات حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كما اعتقل مرة ثانية عام 1965 مع مجموعة من رجال التعليم إثر اضطرابات عرفها المغرب في تلك السنة.

كما كان قياديا بارزا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فترة طويلة، قبل أن يقدم استقالته من المسؤوليات الحزبية في أبريل/نيسان 1981، ويعتزل العمل السياسي ليتفرغ للإنتاج الفكري.

وكان له أيضا نشاط في المجال الإعلامي، حيث اشتغل في جريدة"العلم"ثم جريدة"المحرر"، وساهم في إصدار مجلة"أقلام"، وكذا أسبوعية"فلسطين"التي صدرت عام 1968.
جوائز حصل عليها:

 جائزة بغداد للثقافة العربية، اليونسكو، يونيو/حزيران 1988.
 الجائزة المغاربية للثقافة، مايو/أيار 1999.
 جائزة الدراسات الفكرية في العالم العربي، نوفمبر/تشرين الثاني 2005.
 جائزة الرواد، مؤسسة الفكر العربي، ديسمبر/كانون الأول 2005.
 ميدالية ابن سينا من اليونسكو بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، نوفمبر/تشرين الثاني 2006.
 جائزة ابن رشد للفكر الحر، أكتوبر/تشرين الأول 2008.
من مؤلفاته:
 العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، وهو نص أطروحته لنيل الدكتوراه.
 أضواء على مشكل التعليم بالمغرب.
 مدخل إلى فلسفة العلوم (جزآن).
 من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية.
 نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي.
 الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية.
 تكوين العقل العربي
 بنية العقل العربي
 السياسات التعليمية في المغرب العربي.
 إشكاليات الفكر العربي المعاصر.
 المغرب المعاصر: الخصوصية والهوية.. الحداثة والتنمية.
 العقل السياسي العربي.
 حوار المغرب والمشرق: حوار مع د. حسن حنفي.
 التراث والحداثة: دراسات ومـناقشات.
 مقدمة لنقد العقل العربي.
 المسألة الثقافية.
 المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد.
 مسألة الهوية: العروبة والإسلام... والغرب.
 الدين والدولة وتطبيق الشريعة.
 المشروع النهضوي العربي.
 الديمقراطية وحقوق الإنسان.
 قضايا في الفكر المعاصر (العولمة، صراع الحضارات، العودة إلى الأخلاق، التسامح، الديمقراطية ونظام القيم، الفلسفة والمدينة).
 التنمية البشرية والخصوصية السوسيوثقافية: العالم العربي نموذجا.
 وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر.
 حفريات في الذاكرة، من بعيد (سيرة ذاتية من الصبا إلى سن العشرين).
 الإشراف على نشر جديد لأعمال ابن رشد الأصيلة مع مداخل ومقدمات تحليلية وشروح.
 ابن رشد: سيرة وفكر 1998.
 العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية.
 سلسلة مواقف (سلسلة كتب في حجم كتاب الجيب).
 في نقد الحاجة إلى الإصلاح.
 مدخل إلى القرآن.
 فهم القرآن: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول.
المصدر: الجزيرة + وكالات

⎫فكر الرجل ومواقفه انطلاقا من بعض كتاباته:

من الصعوبة بمكان ان يتم الاحاطة بجميع الافكار والاطاريح المبثوثة في مقالات وكتب الراحل محمد عابد الجابري، وكذا الكتابات النقدية والاطروحات العلمية التي تناولت مشروع الجابري نقدا وتمحيصا وان كانت محاولة المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي الابرز من بين المساهمات النقدية التي تناولت نقدا ونقضا مشروع الجابري كما ان الدكتور الطيب التيزيني كان له كذلك كتاب نقدي للدكتور الجابري انتقد فيه ما سماه التيزيني بالاستغراب المغربي، كما ان هناك من الباحثين والمفكرين من انتقد انتقال الدكتور الجابري من الفكر القومي العروبي الى الفكر الليبرالي انتهاء بمغازلة و التماهي مع الفكر الاسلامي في كتاباته الاخيرة وهذا موضوع يطول فيه الحديث، فالفيلسوف الجابري صاحب مشروع كبير ابتدأ مع كتاب نحن والتراث و لم ينته حتما بكتاب العقل الاخلاقي العربي، ففي طيلة هذه المسيرة العلمية والفكرية التنقيبية الحفرية عن الحقيقة والمعنى بلغة -علي حرب- حاول الراحل الجابري تأصيل مفاهيم غربية في تراثنا وتبيئتها (كالعقل المكون والمكون باللغة اللالاندية...) بعد مناقشة وتحليل اصولها وابدع مفاهيم نظرية لتناول التراث الاسلامي كالعرفان و البرهان و البيان وقدم افكارا متميزة ومختلفة عن العلمانية والديموقراطية وحقوق الانسان (وان كان الجابري يرفض العلمنة في العالم الاسلامي ويعتبر العقلانية بدل العلمانية تفي بالغرض)، لكن الاسهام الحقيقي في نظري المتواضع للدكتور الجابري هو اعادة احياء الرشدية الفكرية والسياسية في بلادنا وفي المنطقة الاسلامية بعدما تم هجر فكر ابن رشد لفائدة الغزالي وابن سينا لمدد طويلة مغربا ومشرقا لاسباب يطول ذكرها، فالجابري استطاع ان يضع الفكر الرشدي ولو بطريقة تقابلية او كما سماه المفكر السوري الالمعي الطيب التيزيني بالاستغراب المغربي، على جدول اعمال الفكر السياسي والفلسفي المغربي والمغاربي في بنوده الاولى وهذا لعمري انجاز كبير. يقول الدكتور محمد عابد الجابري في مقدمة كتابه بنية العقل العربي –الطبعة الثالثة1993-"لنختم اذن بالتذكير بأننا قد انتهينا من دراستنا لمكونات العقل العربي، داخل الثقافة العربية، الى التمييز بين ثلاثة نظم معرفية يؤسس كل منها الية خاصة في انتاج المعرفة وما يرتبط بها من مفاهيم وينتج عنها من رؤى خاصة كذلك. والخطوات التالية التي تنتظرنا هي تحليل هذه النظم المعرفية الثلاثة (البيان والعرفان والبرهان)وفحص الياتها ومفاهيمها ورؤاها وعلاقة بعضها ببعض مما يشكل البنية الداخلية للعقل العربي كما تكون في عصر التدوين وكما استمر الى اليوم."في هذا التذكير يوضح لنا الجابري اسس فكره ومنهجيته ومفاهيمه الثلاثة المذكورة سلفا وان كان التساؤل المطروح دائما هل هي مفاهيم جابرية خالصة ام استعارة من مفكرين اخرين لم يذكر اسمائهم كما يؤاخذ عليه ذلك بعض المفكرين الاخرين؟ اليس التقسيم الثلاثي بين البيان والعرفان والبرهان مفاهيم سبق ان استعملها وابدعها المفكر المصري الموسوعي احمد امين؟.

وساهم الجابري بحق في تطوير الممارسة السياسية والنظرية في الحقل المغربي حيث ساهم كمثقف عضوي بلغة غرامشي في توجيه حزبه السياسي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وساهم الى حد كبير في توجيه بوصلته السياسية والنظرية (نهاية السبعينات وبداية التمانينات قبل ان يجمد نشاطه الحزبي وان كانت علاقته مع قادة الاتحاد الاشتراكي متواصلة وقوية ومتينة)، لذلك يمكن القول بدون مجازفة عندما انهارت البنية الفكرية والنظرية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية برحيل او مغادرة عدد من اطره الفكرية والمرجعية كالجابري وكسوس ولحبابي ووو انهار الحزب تدريجيا حتى قرب من الاضمحلال والتفسخ والتيهان النظري والسياسي الذي يكابده اليوم للاسف الشديد، لذلك حاول الجابري تسليط الضوء على مجموعة من القضايا التي عاشها في الحزب وفي الاعلام الحزبي وضمنها في عدد من مقالاته وكتبه الصغيرة، يقول محمد عابد الجابري في سلسلة مواقف العدد 1 ص 34:"لقد حركني الى كتابة هذه المذكرات، عندما اعلنت عن النية في كتابتها قبل بضع سنين، الرغبة في المساهمة في كتابة تاريخ العمل الوطني والنضال التحرري الديموقراطي في هذا الوطن، خصوصا عندما لاحظت حاجة الجيل الصاعد الى معرفة تفاصيل عن المسار التاريخي الحديث الذي خرج من جوفه الحاضر الذي يعيشونه والذي سيبقى يؤثر في مستقبلهم لفترة غير قصيرة من الزمن....استطيع ان ادعي بصدق ان هذا المعنى، الذي جعل"الاشتغال بالسياسة"مرادفا للعمل الوطني، هو الذي بقي يحكم سلوكي السياسي الى اليوم.لقد حدث هذا الامتزاج بين السياسة والوطنية في نفسي منذ طفولتي الاولى...لم يكن معنى"الحزب"واضحا في اذهاننا،بل كان هو والعمل الوطني شيءا واحدا.فالشخص كان يوصف بانه"حزبي"، لابمعنى انه متحزب لجماعة وطنية ضد اخرى، بل بمعنى انه منخرط في العمل الوطني من اجل الاستقلال. هذا الامتزاج بل الاندماج بين الوطنية والسياسة في وعيي هو مايفسر في نظري على الاقل-جوانب كثيرة من سلوكي الحزبي ومواقفي السياسية، وبدون تواضع زائف استطيع ان اؤكد انني اقبل من نفسي الخطأ وجميع انواع الضعف البشري في الميدان السياسي وغيره، ولكنني لا اتصور اني استطيع ان اسلك أي سلوك انتهازي كيفما كان.وحتى ما يعبر عنه ب"انتهاز الفرص"، وهو شئ وارد في مجال السياسة ومقبول في نظر الكثيرين، فهو عندي شئ مستبعد تماما."

هذه المقتطفات من كتاب مواقف العدد الاول توضح الفكر السياسي للراحل الجابري المتسم بالاخلاق السياسية الرفيعة والالتزام النضالي والوطني الصادق اتجاه قضايا الوطن، وكل معارف الراحل الجابري يجمعون على دماثة اخلاقه وحسن سلوكه وتواضعه وهذه قيم بدأنا للاسف الشديد نفتقدها في الممارسة السياسية والحزبية اليوم بيسارها ويمينها، غابت الاخلاق السياسية و سيطرة النزعة الانتفاعية والتضليلية والشعارتية على برامج و قيادات احزابنا السياسية وهذا ما يفسر الى حد كبير العزوف السياسي والهجرة الجماعية للجماهير وللنخب اتجاه العزلة والانغلاق والترفع عن قضايا المجتمع.

ما يلهمني شخصيا اكثر في كتابات الدكتور الجابري هو دفاعه المستميت عن الافكار الحرة في التاريخ وعن حقوق الانسان والديموقراطية في زمن كان *ومايزال *فيه للكلمة الحرة كلفة باهضة، فقد خصص الراحل الجابري في سلسلة رمضانية منشورة على صدر جريدة الاتحاد الاشتراكي سنة 1995 مقالات مهمة حول"محن العلماء"في الاسلام ودافع عن افكارهم التنويرية بكل اقتدار، ففي مقال له-على سبيل النموذج- حول محنة ابن حنبل يقول:"واذا نحن رجعنا الى تاريخ محن العلماء في الاسلام فاننا سنجدها ذات اسباب سياسية في الاغلب الاعم منها.فليس هناك في الاسلام من العلماء من تعرض للاضطهاد والمحنة من طرف الحكام دون ان يكون لذلك سبب سياسي، والغالب ما يكون ذلك السبب فتوى او موقف عملي اتخذه العالم ضد الحاكم، في اطار"الامر بالمعروف والنهي عن المنكر"او في اطار مجرد النقد الذي يعبر عن رأي مخالف.باستثناء المحنتين اللتين سنتناولهما بشئ من التفصيل، محنة ابن حنبل ومحنة ابن رشد، فان الاسباب السياسية التي تعرض بسببها العلماء في الاسلام لما تعرضوا له من محن كانت معروفة ومعلنة تحمل معها معقوليتها السياسية، ومنها ما كانت تهما مباشرة وصريحة في مضمونها السياسي، كالامتناع عن البيعة او رفض الافتاء بما يريده الحاكم....ان فهم المحنتين، محنة ابن حنبل ومحنة ابن رشد فهما يحمل معه معقوليته سيمكننا من تعميق فهمنا لما يجري في عصرنا.وفي عالمنا العربي والاسلامي من صراع بين الدولة ورجالها وبين ما يعرف في خطابنا المعاصر بالأصوليين او"الإسلاميين المتشددين".
لقد افتقدت الساحة الفكرية المغربية مفكرا عضويا من طينة الجابري يقول ما يقتنع به بدون خوف ولا وجل وبالكلمة الهادئة المتنورة، لذلك ما احوجنا الى مفكرين متنورين من امثاله التزاما واخلاقا يقولون للحاكم احسنت حين يحسن و اخطأت حين يخطئ، فبلادنا تعج بقضايا سياسية حارقة اليوم ولكن لم نسمع راي المثقفين والمفكرين، حتى نخال في بعض الاحيان انعدامهم، فما سمعنا راي العديد من المثقفين المغاربة عن احداث الريف وعن قضايا عديدة تشغل بال الراي العام الوطني؟؟، فهل هي بداية نهاية المثقف الرسولي –المغربي- بلغة فيصل دراج؟

في مقال متميز و لا اكون مبالغا اذا قلت انه مؤسس للفكر السياسي المغربي اتجاه قضية التطرف"الاسلامي"والموقف العقلاني منه، كتب الدكتور محمد عابد الجابري مقالا رمضانيا سنة 1993 على صدر جريدة الاتحاد الاشتراكي –الجريدة التي كانت سابقا منارة فكرية وادبية قائمة الذات- بعنوان ظاهرة التطرف..الاسباب والعلاج، لنقرأ العمق الفكري للرجل انطلاقا من هذا المقال:"وواضح اننا هنا لا نتحدث عن التطرف عندما يكون في مستوى حجمه الطبيعي،على هامش من هوامش الحياة الاجتماعية والفكرية،وانما نتحدث عن التطرف في حال تحوله الى مركز استقطاب، الى ظاهرة تتجه نحو الهيمنة العامة مما تكون نتيجته قيام ردود افعال متطرفة مضادة فيتحول المجتمع الى مسرح للعراك بين الاطراف المتطرفة سواء كانت تنتمي جميعا الى المجتمع المدني او كان بعضها منه وبعضها الاخر من المجتمع السياسي(الدولة).ففي مثل هذا الحال يتعين التعامل مع التطرف كظاهرة مرضية تستشري وتهدد بالتحول سريعا الى نوع من التدمير الذاتي.وليس هناك غير المعالجة العقلانية وسيلة لتلافي الانزلاق نحو المصير المفجع.ذلك لان التطرف في جميع الاحوال هو عمل اللاعقل،فاذا تمت مواجهته ب"عقل مستقيل"مضاد كان المصير كارثة محققة."

افكار هذا المقال تفيدنا للاستدلال على العمق الفكري للدكتور الجابري من جهة وعلى اعتدال مواقفه وتوازنها عكس الاطراف الايديولوجية الاخرى التي لا تفوت اية فرصة لتصفية الحسابات السياسية بين الفرقاء السياسيين متعمدة الخلط الاديولوجي الممنهج بين التطرف الاسلامي والدين الاسلامي فالحكمة العلمية والنظرة الموضوعية لمحمد عابد الجابري غلبت تموقعه السياسي والايديولوجي وجعل موقفه من التطرف موضوعيا وعقلانيا اذ كان من الممكن ان يصفي حساباته وهو الاشتراكي الاصيل مع تيارات الاسلام السياسي كما يفعل العديد من غلاة اليسار و، لكن الفكر العلمي والموضوعية التي يتحلى بهما الرجل جعل للتطرف اسبابا عميقة مترابطة يعتبر الايديولوجي والديني عنصرا من بين العناصر فقط لا السبب الواحد والاوحد. يقول الدكتور محمد عابد الجابري في خاتمة مقاله حول التطرف (المنشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي يوم 19 مارس 1993 ص 2) ما يلي:"وبعد، فالتطرف ظاهرة مرضية، وكجميع الامراض فان العلاج الانجع والاضمن هو الوقاية.وشروط الوقاية من التطرف ثلاثة: تصحيح الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التعامل العقلاني المبني على الفهم والتفهم ووضع الامور امام مراة التاريخ، واشاعة الفكر النقدي في الثقافة والتعليم.اما غير ذلك من وسائل المواجهة السلبية فهي لا تنتج غير المزيد من التطرف.ان التطرف المضاد يسقي التطرف ويقويه، وهيهات ان يقضي عليه.

⎫في سبيل الختم:

وفاة محمد عابد الجابري خسارة فكرية وسياسية للمغرب المعاصر، حيث ان عطائه الفكري والنظري بمثاية منهاج قويم في تقويم اعوجاجات النظرة التراثية للتراث و تمثيل بارز للمدرسة العقلانية الحفرية المعاصرة لكل قضايانا السياسية والنظرية، فإذا كان من حق فرنسا ان تحتفي بعقولها و مفكريها مثل التوسير و سارتر و فوكو وبورديو و غيرهم كثير وكان للالمان ما يفتخرون به من مفكرين عظام كهيكل و مارس وفيورباخ...، فان المغرب مطالب بالاحتفاء بمفكريه و نشر ابداعاتهم الفكرية والنظرية و برمجة اطاريحهم في الجامعات والمعاهد و التعريف بافكارهم وتكريمهم التكريم الذي يليق بهم كمفكرين ومثقفين اعطوا للفكر السياسي المغربي اسهامات خالدة في الزمان. من المعيب جدا ومن المخجل ان تمر ذكرى وفيات محمد عابد الجابري و الاخرين من المبدعين محمد كسوس وعزيز الحبابي و عبد الكبير الخطيبي و ادريس بنعلي و محمد شكري و اللائحة طويلة دون ان يقف اعلامنا و سياسيينا "التقدميين" و"المتنورين" وقفة تليق بقامات فكرية اعطت الشئ الكثير لادبنا وفكرنا و ان يطالبوا بمبادرات سياسية وثقافية لنشر افكار هؤلاء الرواد وتقديم انتاجاتهم في اعمال تلفزيونية ومسرحية وتثقيفية هامة تخلصنا من برامج الرداءة التي تملأ الدنيا الاعلامية ببلادنا ضجيجا. قد نختلف مع الجابري وامثاله في قضايا ومواقف مثل التعدد الثقافي والامازيغي ببلادنا وتحمسه الكبير للتعريب والعروبة ومطالبته بالاحادية اللغوية والهوياتية و المطالبة باماتة اللهجات.. –ربما بفعل السياق السياسي الاقليمي والدولي التي انتج مواقفه- لكن يبقى الرجل مفكر نادر اخلاقا وتواضعا وعلما، و معلمة مغربية مغاربية اسلامية جامعة تستحق منا العمل على استكمال اوراشه المفتوحة من قبيل دراسات في القران الكريم وغيرها من الاوراش التجديدية والتنويرية التي كان سبقا في التطرق اليها بجدارة واستحقاق، لذلك اتمنى ان تفتح دراساته امامنا حقول جديدة لكتابة تراثنا وتاريخنا قراءة علمية معمقة بطريقة تتبنى الحداثة العقلية في اعلى ذراها واكثرها تقدما وتفتحا.اتمنى ان يؤدي الاهتمام بالدراسات الجابرية الى تجديد علاقة المسلمين بتراثهم وعقائدهم لتنحل مشاكل عالقة منذ ازمان طويلة، كل ذلك لتنمحي الظلمات المعتمة عن سطح واقعنا و تاريخنا وتنفتح امام اعيننا الافاق العلمية والفكرية الرحبة. لان انتظار نهضتنا طال بنفس امتداد انتظاريتنا و استمرار نكساتنا وتواصل انهيارنا المديد بلغة المفكر والصحفي الكبير حازم صاغية. اختتم مقالتي هاته بمطلع قصيدة خاطب بها ابن خلدون السلطان اباسالم عند وصول هدية ملك السودان اليه. (من كتاب فكر ابن خلدون العصبية والدولة -محمد عابد الجابري ص 49)

اوريت زند العزم في طلبي وقضيت حق المجد من قصدي
ووردت عن ظمأ مناهله فرويت من عز ومن رفد

13.الطيب التيزيني: حكيم الفلاسفة المعاصرين ومناصر حقوق الانسان.

⎫في سبيل التقديم:

الحديث عن قامة معرفية وفلسفية وهامة موسوعية في حجم ومستوى الدكتور الطيب التيزيني، حديث مخل ومتعسف وقسري في جميع الحالات والأحوال في حق رجل مناضل ; مفكر حكيم (لذلك اختاره السوريون ضمن مجلس الحكماء اثناء الازمة السورية سنة 2011) وحقوقي (مؤسس لعدد من الهيئات الحقوقية ومنها منظمة سواسية الحقوقية) ندر حياته من اجل نصرة المظلومين والكادحين والمعذبين في الارض بلغة فرانز فانون، ومفكر أعطى للمكتبة الفلسفية العالمية اسهامات وكتابات وابحاث مرجعية ومؤسسة للفكر العقلاني المعاصر باللغة الالمانية والعربية، لذلك فليعذرني القارئ الكريم على عدم ايفاء الدكتور التيزيني الحمصي ما يليق بمقامه بمقالتي هاته، ولكنني اؤمن بان ما لا يدرك كله لا يترك جله، لذلك اقدمت على مغامرة الحديث عن مفكر موسوعي متبحر في الفلسفة والتراث والفكر متيقنا منذ البداية ان الحديث عن تيزيني مسؤولية كبيرة ومهمة شاقة، لكن قررت التحدي.

ثمة مفكرين وكتاب وباحثين يحدثون انقلابات كبرى وثورات كوبرنيكية في عقول وأفئدة المتلقين من القراء والباحثين عموما بمجرد الاطلاع على كتاباتهم، تلك هي تأثيرات وصدى كتب و ابحاث الدكتور الطيب تيزيني، بسبب الاعتناء المنهجي بالموضوع المدروس وسلاسة الاسلوب وحكمة الرجل وتواضعه وإيمانه الشديد بما يقول او للدقة نقول، يقول ما يفكر به و يفكر بما يقوله ويمارس ما يفكر به في تلاحم تاريخي بين الفكر والممارسة، اذ ان التواضع و قوة الحجة اذا التقيا لدى مفكر متنور يسهل عليه"ترويج"و"تمرير"افكاره و مخرجاتها الى عموم المتلقين.
كتابات الطيب التيزيني الذي لا يتوانى في نقده المستمر لكتاباته السابقة واستنتاجاته حسب تطور الاحداث وتراكم الخبرات المنهجية والنظرية والتاريخية، تتصف بالدقة ونفاذ البصيرة والجرأة العلمية في نقد ما يستوجب النقد لذلك نراه صريحا في تقديم مراجعات كثيرة عن افكاره السابقة، فلم يعد يؤمن بالتراث والثورة كما عنون احد كتاباته بل بالتراث والنهضة،ففي جواب له عن سؤال طرحه عليه الباحث والمفكر هاني نسيرة (منشور في موقع الحوار المتمدن العدد 1449- 2006) قال الطيب تيزيني:"الحديث عن كتابي"من التراث الى الثورة"في هذه المرحلة يدعوني للتساؤل فيما اذا كان هذا العنوان مازال محتفظا براهينيته المعرفية والسياسية والثقافية، وله ضرورة تاريخية الان، خاصة وانه ككل عمل فكري يعكس لحظته وان كان يتضمن كذلك ما يغطي لحظات اخرى لاحقة،ورئي فيه بعد عقد ونصف عقد من التفكير ان ينسحب ليفسح الطريق الان الى عنوان اخر هو"التراث الى النهضة"فمرحلته في بداية السبعينات كانت تحتمل مشروع الثورة، بيد انه الان في سياق التحولات التالية وخصوصا مع نشاة النظام العالمي الجديد وتفكك المنظومة الاشتراكية..."ثمة اذا مراجعات فكرية وسياسية قام بها الدكتور الطيب التيزيني وهي التي يجب العمل على تطويرها واستيعابها لبدء معرفة جديدة انطلاقا من خلاصات تجربة فكرية ومعرفية وسياسية خصبة تصلح ان تكون توجيها للاجيال المقبلة. الدكتور التيزيني يصف ما يجري الان دوليا وتالثيا بالحطام المعرفي والعملي المفتوح، داعيا في مناسبات عديدة الى الاسراع بمراجعة التراث والافكار و الطروحات بعقل نقدي تحرري لفتح الدوائر المغلقة واستنهاض الفعل الجماهيري ولو تطلب الامر البدء من الصفر من جديد. كان للمفكر الطيب التيزيني مواقف مشرفة اثناء الثورة السورية ابانت عن معدن الرجل واخلاصه للفكر والممارسة التحررين، داعيا الى اسقاط الدولة الامنية التي التهمت الشعب السوري، مناضلا من اجل القضاء على ما اسماه بالاستبداد الرباعي (استبداد السلطة واستبداد الاعلام واستبداد الحزب الواحد واستبداد الثروة)،وكلفه نضاله و جهره بالحق مضايقات و اعتداءات ومشاكل لا عدد لها كما انه قام بتحليل ممتاز وراهن للظاهرة الداعشية التي ارجع اسبابها الى الاستبداد الظلامي الرباعي اي الفقر وهدر الكرامة والاستبداد و الاقصاء الاجتماعي والفكري محملا للغرب مسؤولية مباشرة في استفحال الظاهرة الداعشية وسكوته عن الاستبداد وتواطؤه مع القوى الرجعية نظاما واحزابا. منتقدا الطروحات المتعسفة التي ترمي كل المسؤولية على الخارج فيما وصل اليه حالنا في الداخل، بل يرى بان التدخل الخارجي يستدعيه مباشرة ومنطقبا الاستعداد الداخلي وترهل الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية..

⎫نبذة موجزة عن الدكتور الطيب التيزيني:

اورد المرحوم شاكر النابلسي في كتابه الفكر العربي في القرن العشرين الجزء الثاني ص 680 نبذة عن الطيب تيزيني جاء فيها:"مفكر واكاديمي علماني ماركسي معاصر.له مساهمات مختلفة في الفلسفة والفكر العربيين.من كتبه: من التراث الى الثورة (عدة مجلدات)،مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، الفكر العربي في بواكيره وافاقه الاولى، على طريق الوضوح المنهجي، حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث"

خصصت مجلة الجديد اللندنية عدد7 غشت 2015 عددا خاصا للدكتور الطيب التيزيني شمل حوارا معه وعدد من المقالات التحليلية السجالية مع هذا الحوار فيما يشبه حوار على حوار وقدمت للحوار بالنبذة التالية:

"طيب تيزيني اسم بارز لمفكر عرفت الثقافة العربية اسهاماته الفلسفية والفكرية لاسيما خلال الربع الاخير من القرن العشرين حيث تحول الى اسم لافت من خلال كتبه ومحاضراته وطروحاته الفكرية انطلاقا من دمشق، ولكن ليس انتهاء بالقاهرة ولا بالدارالبيضاء.
من مواليد مدينة حمص عام 1934 حاصل على الدكتوراة في الفلسفة عام 1967 والدكتوراة في العلوم الفلسفية1973 من المانيا.تم اختياره عام 1998 من قبل مؤسسة concordia الالمانية –الفرنسية واحدا من مئة فيلسوف عالمي في القرن العشرين.تتالت مؤلفات تيزيني منذ السبعينات حتى الان، متناولا فيها النهضة العربية والتاريخ العربي وقضايا التراث والقضايا الاسلامية وعلاقتها بالتاريخ.عام 2011 شارك تيزيني في المظاهرات السلمية في دمشق امام وزارة الداخلية للمطالبة بالافراج عن معتقلي الرأي."

⎫كتب ودراسات الطيب تيزيني:(حسب ويكيبيديا)

• مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دار دمشق - دمشق 1971، خمس طبعات.
• حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث، الوطن العربي نموذجاً، دار دمشق، دمشق 1971، ثلاث طبعات.
• من التراث إلى الثورة - حول نظرية مقترحة في التراث العربي، دار ابن خلدون، بيروت، 1976، ثلاث طبعات.
• روجيه غارودي بعد الصمت، دار ابن خلدون،بيروت، 1973.
• فيما بين الفلسفة والتراث، المؤلف نفسه، 1980.
• تاريخ الفلسفة القديمة والوسيطة، بالاشتراك مع غسان فينانس، جامعة دمشق، 1981.
• التفكير الإجتماعي و السياسي: أبحاث في الفكر العربي الحديث و المعاصر، جامعة دمشق، 1981.
• مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة من 12 جزءا، دار دمشق، 1982.
• الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى، مشروع رؤية جديدة للفكر، الجزء الثاني – دار دمشق، دمشق 1982.
• من يهوه إلى الله (في مجلدين)، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي، الجزء الثالث، دار دمشق، دمشق 1985.
• دراسات في الفكر الفلسفي في الشرق القديم، جامعة دمشق، 1988.
• ابن رشد وفلسفته مع نصوص المناظرة بين محمد عبده و فرح انطون / تأليف فرح أنطون ؛ تقديم طيب تيزيني، دار الفارابي، بيروت، 1988.
• في السجال الفكري الراهن: حول بعض قضايا التراث العربي، منهجا و تطبيق، دار الفكر الجديد، بيروت، 1989.
• على طريق الوضوح المنهجي – كتابات في الفلسفة والفكر العربي، دار الفارابي، بيروت، 1989.
• فصول في الفكر السياسي العربي، دار الفارابي، بيروت، 1989، طبعتين.
• مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر نشأةً وتأسيساً، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي، الجزء الرابع، دار دمشق، دمشق 1994.
• من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي – بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية، دار الذاكرة، حمص 1996.
• النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي، الجزء الخامس – دار الينابيع، دمشق 1997.
• من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا، دمشق، 2001.
• من اللاهوت إلى الفلسـفة العربية الوسيطة، منشورات وزارة الثقافة، سوريا، 2005.
• من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا، 2002.
• بيان في النهضة والتنوير العربي، دار الفارابي، 2005.
• Die Matemie auffassung in der islamischen Philosophie des Mittelalters , 1972 Berlin. بالألمانية
وكتب بالاشتراك مع آخرين:
• الإسلام ومشكلات العصر الكبرى، مع بحث لباحث آخر، دمشق، 1998.
• الإسلام والعصر: تحديات وآفاق، بالاشتراك مع محمد سعيد رمضان البوطي، سلسلة حوارات لقرن جديد، إعداد وتحرير عبد الواحد علواني، دار الفكر،دمشق 1998.
• الواقع العربي وتحديات الألفية الثالثة، مع آخرون، مراجعة وتقديم ناصيف نصار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2001.
• آفاق فلسفة عربية معاصرة، بالاشتراك مع د. أبو يعرب المرزوقي، دار الفكر، بيروت، 2001.

⎫بعض افكار تيزيني الرئيسية:

مر فكر طيب التيزيني اسوة بالمفكرين الاخرين من مجايليه بمراحل اساسية وطفرات فكرية مختلفة ومتباينة، تنسجم مع التحولات السياسية والمجتمعية التي يعرفها الواقع الدولي والاقليمي، فمن تبني ماركسية قحة وصرفة تركز على التغيير والصراع الطبقيين بواسطة الاداة البوليتارية للطبقة العاملة قائدة النغيير الثوري، الى تغيير تشارك فيه كل الطبقات والفئات المجتمعية التي لها مصلحة في التغيير اي حاملة هم ومسؤولية التغيير الثوري وفي هذا الصدد يقول الدكتور الطيب التيزيني في استجواب مع المفكر هاني نسيره المنشور في موقعه الشخصي على موقع الحوار المتمدن سنة 2006:"ان هذا التحول عندي من مشروع الثورة-حيث كان حسن حنفي يصفني بانني فيلسوفها بينما هو فقيهها- الى مشروع النهضة لفوارق اساسية بين المشروعين تبرز في مقدمتها ما يتصل بالحوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية لكل منهما، فمشروع النهضة مشروع الجميع الشعب والامة ككل، اما مشروع الثورة فهو مشروع طبقة، فهو مشروع باتجاه تموضع اجتماعي وطبقي ذي بعد غير شامل، وان كان يحمل امكانية تحوله للشمول"، ومن مراهنة كبيرة على الطبقة الوسطى البورجوازية الميسورة لقيادة دفة الاصلاحات الدستورية والسياسية والمجتمعية في البلدان الثالثية الى الاعتراف اخيرا من قبل المفكر طيب تيزيني بان الرهان على هذه الطبقة اصبح وهما ثالثيا وعالميا كذلك بفعل انهيار الطبقة المتوسطة واندحارها وتغير توجهاتها علميا ومحليا. كما ان الطيب تيزيني انتقل من انتقاد بل واستبعاد اي دور للاسلام السياسي وللحركات الدينية في تغيير المجتمع نحو الديموقراطية ودولة القانون، الى الاقرار بان التطور الديموقراطي لبلداننا لابد ان يشمل الجميع، جميع القوى المجتمعية التي من مصلحتها تغيير منظومة الاستبداد الرباعي المسيطر على اوطننا لان الواقع لا يرتفع و الاسلاميون اصبحوا صوتا مسموعا وواقعا لا يمكن مجافاته ولا استبعاده.يقول الدكتورتيزيني في استجوابه بجريدة الجديد عدد 7 غشت 2015 ص 48 موضحا قانون الاستبداد الرباعي ما يلي:"كان التراكم في مظاهر الاحتجاج على غياب الكرامة والعمل يقابله تعاظم في تراكم المزبلة، الذي ما اكتشفناه تحت مصطلح قانون الاستبداد الرباعي في المجتمعات العربية، اي الاستئثار بالسلطة والثروة وبالاعلام وبالمرجعية المجتمعية المتمثلة في ان الحزب الوحيد الحاكم يقود مع قائده الدولة والمجتمع، من هذا جاءت عملية التمرد على الواقع المعيشي اقل من ان تحدث قطيعة مع الماضي المدجج بالمذلة والمهانة والافقار والاغتراب، واضعف من ان تواجه الحاضر بترسانته ذات الجذر المتمكن في قانون الاستبداد الرباعي ذاك".

للدكتور الطيب تيزيني مواقف متميزة في عدد من القضايا المحورية التي تشغل بال الباحثين عن المعنى والحقيقة في عالم مبعثر مضطرب قلق، لذلك اعطى قراءة مهمة لعدد من القضايا نستعرضها انطلاقا من كتبه وحواراته، ونبدأ بموقفه ونظرته للعولمة ولليسار وللقومية وللتيارات والتعابير الدينية ونظرته المستقبلية للعالم الثالث والعالم عموما.

• في العولمة، يقول الدكتور ما يلي(استجوابه بجريدة الجديد عدد 7 غشت 2015 ص 48):"انها النظام الاجتماعي والمالي والعسكري الذي يبتلع الطبيعة والبشر ويخرجهما سلعا ومالا، وهذا ما يدعو الى وضع اليد على جوهر ذلك كله.فاذا كان ماركس قد وضع يده على ما يجعل من العولمة نظاما من انتاج الاشياء عبر تحويل الانسان الى حالة مشيأة، فان الوصول الى المقولة التالية عبر ماركس يغدو امرا منطقيا، كلما ارتفعت قيمة الاشياء، هبطت قيمة الانسان...مانراه انه في ظل العولمة يصبح كل العالم مهيأ لان يتحول الى اشياء وسلع ومال، وخصوصا منها ما تراه العولمة عائقا في وجه هيمنتها الكونية مثل مفاهيم المواطنة والقانون والهوية الانسانية والوطنيةالخ، ويبدو ان المسالة تستقيم او يمكن ان تستقيم اذا ما طرح السؤال التالي واجيب عنه بصيغة مفتوحة: هل ما يفتقده الحال العربي من خطاب مواطنة وسيادة للقانون وغيرها قابل لاعادة التشكيل في ظل النظام العولمي، وكذلك في ظل الموروث الفكري الديني والقمعي للمنطقة؟

اسئلة هامة ومركزة تحمل جدة في الطرح و تناول قضية العولمة في عصر اصبح الجميع يقبل بالعولمة حسب التصنيفات الاستهلاكية والكيشيهات المكررة وان العولمة قدر محتوم التصدي لتاثيراتها مستحيل، لكن تيزيني يرى ان العولمة سيرورة عالمية يسري عليها ما يسري على الظاهرات الاجتماعية والاقتصادية والتعامل النقدي مع تاثيراتها مهمة اساسية وضرورية.

• في اليسار، يقول طيب التيزيني في حوار اجراه معه الصحفي السوري سامر اسماعيل والمنشور بمجلة الفيصل عدد مارس 2017 ما يلي:"اليسار عندي ليس فكرا جاء من هنا او هناك، انما هو تعبير عن حدث اطاح بالنظر الى العالم بوصفه نقطة واحدة، ولقد وضعت يدي على نقاط مغيبة او غائبة،ابرزها ان هناك الوجه الاخر لما كتب عن الرؤيا اليسارية.."هذه النظرة الثاقبة الاجتهادية لليسار تجعل اليساري منتمي لفضاء اوسع من الجبة الحزبية او الاقانيم المعرفية والنظرية الضيقة والتصنيفات الجاهزة، اليساري فهم رحب خارج اسوار السياسة الحزبية الضيقة التي أنتجتها الدولة الامنية القمعية التي عملت على تجفيف منابع الفكر الحر المنفتح وفرضت على المجتمع تنميطا سياسيا وحزبيا مفروض من فوق ولا علاقة له بالتعبيرات الاجتماعية الطبيعية عن التناقضات التي تعتمل داخل المجتمعات.

• في التيارات الدينية، يقول الطيب التيزيني بان الاسلام تمت خوصصته من طرف قوى محافظة استطاعت ان تملا الفراغ الذي اعقب فشل المشاريع الاخرى المنافسة في الساحة الفكرية والسياسية حيث فشل المشروع النهضوي اليبرالي واليساري العلماني امام استبداد و قمع الانظمة الرجعية"الوطنية"وتواطئ الخارج الاستعماري المنزع و تراجع النخب المثقفة وخفوت صوتها. لذلك يقول تيزيني"تحول الاسلام من دين للشعب او للمسلمين الى دين للاسلاميين، الامر الذي جعله صيغة من الايديولوجيا التي اقصت التدين الشعبي وصادرته."
مازلنا ننتظر بفارغ الصبر صدور المذكرات السياسية والفكرية التي يعكف عليها الدكتور تيزيني بمساعدة نجلته الدكتورة منار تيزيني ونأمل ان تكون نبراسا نهتدي به وننير به اروقة الفكر والسياسة في بلداننا، التي تعرف قحطا فكريا وبؤسا ثقافيا متنامي، فالرجل له تجربة سياسية وفكرية كبيرة ومن واجبه التاريخي نقلها الى الاجيال المقبلة.

ما يشغل بال الدكتور طيب التيزيني منذ سنة 2011 هو الثورة السورية وتموجاتها وماسيها، لذلك لا يخلو اي حديث معه او اية محاضرة له في السنوات الاخيرة عن ذكر التراجيديا السورية و التدفق المستمر للدم السوري الذي اوغلت الجماعات الارهابية والنظام السوري في هدره يوميا امام مراى ومسمع مجتمع دولي فاقد للفعالية وللدقة نقول فاقدا للمصداقية وللروح الانسانية. كما ان طيب تيزيني يواكب على كتابة عدد من المقالات واجراء عدد من الحوارات التلفزية تواكب المستجدات السياسية السورية والدولية ويتفاعل مع الاحداث باسى شديد وحسرة كثيرا ما تغالبه دموعه المؤثرة والمعبرة عن احباطات مفكر حلم بمجتمع اكثر انسانية لكن ليس كل ما يريده المرء يدركه.

⎫في سبيل الختم:

يعتبر التفكير النقدي لدى طيب تيزيني العماد الرئيسي المنهجي لافكاره و خلاصاته النظرية والسياسية، لذلك يعتبر ان معضلة فكرنا في العالم"المتخلف"هو سيطرة الافكار الجامدة اللانقدية.ويبدو ان معالجة هذه الوضعية كما يقول الطيب تيزيني في كتابه فصول في الفكر السياسي العربي ص 106:"تشترط ادوات منهجية ومعرفية اكثر تماسكا وعمقا ودقة وتشخيصا مما هو الامر حتى الان.وهذا بدوره ينطوي على الاشارة الى ان عنصر الشك المنهجي الجدلي يمارس دورا مبدئيا في اعادة صوغ الموقف الفكري العربي في وجهه الناهض.وهنا، نكون قد ولجنا ساحة التفكير النقدي الذي يتيح لنا، هو وحده تحقيق هذه العملية، وبالطبع فاننا اذ نشرع في ذلك، فاننا نجد انفسنا مدعوين الى انجاز العملية المنوه بها، في ضوء اعادة تقويم السابق على نحو يسمح للاحق ان يكون الوريث الشرعي لعناصره الايجابية التقدمية".

الطيب تيزيني مدرسة فلسفية وفكرية نضالية كاملة الاركان، يمدنا بالطاقة التفاؤلية للمستقبل باسئلته الاثيلة الحارقة و يلهمنا بتواضعه الجم وزهده المثالي وتجلده الايوبي في البحث عن الحقيقة والمعنى انقاذا للانسانية.تحية لهذا الحكيم المتفلسف في حياته وفكره ولكم معشر القراء الكرام كل التقدير والاحترام.

14.المهدي عامل رائد الفكر المناضل وشهيد الكلمة الحرة الملتزمة

حين نستذكر أمثال المفكر العالمي الدكتور الشهيد حسن حمدان المعروف نضاليا وفكريا باسم مهدي عامل، فنحن لا نمارس نوعا من النوستالجية الرديئة او البكاء على اطلال فكر ماركسي ثوري يعتبره العديدون من هواة النهايات، بانه فكر انتهى واصبح في انقاض العمارة الاشتراكية المتهدمة تدريجيا من زمن البريسترويكا وسقوط جدار برلين ووحدة الألمانيتين و سيطرة العولمة النيوليبرالية المتوحشة على مفاصل الاقتصاد و السياسة الدوليين الى الان، لكن هدفنا من المقال هو اولا تعريف الجيل الجديد بمناضل ثوري استثنائي جمع بين الكلمة الملتزمة و الممارسة السياسية الهادفة و الملتصقة بهموم و امال الشعوب المضطهدة المقهورة، اطلاع جيل الانترنيت وثورة وسائط التواصل الاجتماعي على مناضل ثوري ضحى بحياته من اجل مجتمع لبناني بدون طوائف او بالاحرى بدون استغلال للطائفية المقيتة التي باتت تنهك المجتمع اللبناني و تعرقل طموحاته نحو الديموقراطية ودولة الحق والقانون، ثم ثانيا البحث في راهنية فكر ثوري احتفظ ببريقه و قوة عدته المفاهيمية رغم مرور مياه كثيرة تحت الجسور ورغم انتشار غلاة الحداثة وما بعد الحداثة الذين اسرعوا في تشييع ودفن فكر جعل منتهى اهدافه خدمة قضايا التحرر الوطني و الانعتاق من اسر الايديولوجيات والانظمة المسيطرة. المطلع على فكر مهدي عامل لن يبذل جهدا كبيرا في اكتشاف قضايا نظرية وسياسية تطرق لها الدكتور مهدي عامل باستخدام عدة مفاهيمية نظرية رصينة، فالدكتور مهدي عامل استطاع ان يعرب فكر التوسير ويستثمره في اجتراح امراض الدولة المتوارثة عن الاستعمار، وابدع مفهوما ثوريا في الادبيات النظرية للاستدلال على الفرق الكبير بين البنية في النظام الاستعماري الامبريالي وبين البنية الاجتماعية والسياسية في النظام الراسمالي التبعي الذي اسماه المهدي عامل بنمط الانتاج الكولونيالي. ويسعى مقالي هذا الى تبيان بعض افكار الراحل الثوري مهدي عامل انطلاقا من كتابات مجايليه من المفكرين والمثقفين الكبار، الذين اعطوا شهادات صادقة وعميقة عن الشهيد مهدي عامل وكانت كتاباتهم بحق تعميقا ونقدا بناءا لفكر نقدي كان هو المعشوق الابدي للشهيد المهدي عامل. واملي كبيرا ان اكون وفقت في اضاءة ركن بسيط من حياة وفكر مثقف وسياسي استثنائي اغتالته ايادي الاجرام باكرا كما قالت الدكتورة فهمية شرف الدين في مقال نوعي نشرته في مجلة الاداب البيروتية سنة 1988:"باكرا رحل، وتوقفت عند نقطة معينة، افكار كانت بحق اسهاما كبيرا في تجديد زاوية الرؤية داخل مسار الفكر الاشتراكي العربي"، كما اجدني متفقا تمام الاتفاق مع الدكتور خضر زكرياء في- نفس المجلة ونفس العدد- الذي قال في حق مهدي عامل ما يلي:
"ان يتحدث المرء عن الاطروحات النظرية لمهدي عامل في دقائق او ساعات امر مستحيل، او هو على الاقل امر فيه استسهال وتعسف كبيرين.فما تركه لنا الباحث المفكر الكبير من تراث فكري هو على مستوى من الاصالة والعمق والاتساع والتجريد النظري بحيث يتطلب عرضه وتحليله ومناقشته جهود فريق عمل متخصص لاشهر وربما لسنوات."

¬من يكون المهدي عامل؟:

سنحاول التذكير بنبذة من حياته وسنستعين بما كتبه الدكتور الاردني الراحل شاكر النابلسي في عمله المتميز من ثلاث اجزاء -الفكر العربي في القرن العشرين- حيث قدم المهدي عامل في دليل الاعلام الجزء الثالث ص377 بما يلي:

(حسن حمدان 1936-1987) مفكر وشاعر وناشط سياسي واكاديمي ماركسي لبناني معاصر.مات مقتولا على ايدي الجماعات الاسلامية.له عدة ابحاث في الفلسفة والفكر السياسي منها: نقد الفكر اليومي، مقدمات نظرية لدراسة اثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني،ازمة الحضارة العربية ام ازمة البورجوازيات العربية؟، النظرية في الممارسة السياسية –بحث في اسباب الحرب الاهلية اللبنانية،مدخل الى نقض الفكر الطائفي، هل القلب للشرق والعقل للغرب؟،في علمية الفكر الخلدوني،في الدولة الطائفية وغيرها.ومن شعره ديوان:تقاسيم على الزمان، وفضاء النون.))، اما موسوعة ويكيبديا فتعرف مهدي عامل بما يلي:

الدكتور حسن عبد الله حمدان المعروف باسم مهدي عامل (ولد في بيروت عام 1936) ابن بلدة حاروف الجنوبية قضاء النبطية. متزوج من إيفلين بران، وله ثلاثة أولاد: كريم وياسمين ورضا.

تلقى علومه في مدرسة المقاصد في بيروت وأنهى فيها المرحلة الثانوية.

نال شهادة الليسانس والدكتوراه في الفلسفة من جامعة ليون، فرنسا. درّس مادة الفلسفة بدار المعلمين بقسنطينة (الجزائر)، ثم في ثانوية صيدا الرسمية للبنات (لبنان). انتقل بعدها إلى الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية كأستاذ متفرغ في مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات.

كان عضوا"بارزا"في اتحاد الكتّاب اللبنانيين والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، ورابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية. انتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني عام 1960، وانتخب عضوا في اللجنة المركزية للحزب في المؤتمر الخامس عام 1987.

في الثامن عشر من أيار عام 1987 اغتيل في أحد شوارع بيروت، وهو في طريقه إلى جامعته الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية الفرع الأول، حيث كان يدرس فيها مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات. من أقواله"لست مهزوما ما دمت تقاوم". وعلى إثر اغتيال مهدي عامل أعلن يوم التاسع عشر من أيار من كل عام"يوم الانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي"

¬ ماذا يقول بعض المفكرين عن فكره و شخصه؟:

• غسان الرفاعي (مجلة الطريق السنة62 مارس ابريل 2003 ص27)

"منذ زمن بعيد لم اجرؤ على مثل هذه المغامرة،(مغامرة الحديث عن اعمال وفكر مهدي في محاضرة في بروكسيل من تنظيم المركز الثقافي العربي حول اعمال وفكر المهدي) كنا صديقين..عملنا معا لسنوات في مجلة الطريق..نتحاور يوميا،نناقش كل شئ.مهدي شلال لا ينقطع في طرح الاشكالات..في اثارة الاحتمالات..دائم القلق امام التساؤلات..كنا نختلف كل يوم في حواراتنا.مع ذلك كانت صداقتنا تتعمق.خسرنا باستشهاده ثروة فكر،منهجية جدال ليس من السهل تعويضها....لاشك ان الهم والهاجس الاساسي في ابحاث مهدي كلها كان فتح افق نظري لخلاص بلداننا وانقاذها من حال التخلف والبعية. فكانت نظريته عن نمط الانتاج الكولونيالي...يقول مهدي: اذا اردنا ان نحررفكرنا نجعله خلاقا، اي قادر على ان ينتج معرفة علمية، وجب علينا القيام بما يمكن تسميته ثورة منهجية.لقد اعتدنا ان ننظر الى الواقع، واقعنا، من خلال فكر متكون....لكن علينا ان ناخذ بعين الاعتبار بان ابحاث مهدي جرت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.ومنذ ذاك الحين وقعت احداث كبرى ذات تاثير عميق على مجرى التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي على الصعيد العالمي.ومن الطبيعي ان يكون لهذه التطورات وانعكاساتها على بلداننا أثرها المباشر على استنتاجات مهدي نفسها، بما فيها تلك الاستنتاجات التي كانت منسجمة ومتوافقة مع طبيعة الظاهرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية انذاك وتعبر عنها بصورة علمية."

• كميل داغر (مجلة الطريق السنة62 مارس ابريل 2003 ص27)

"لقد كان هما دائما لدى الرجل، على امتداد حياته السياسية، ان يرى الطبقة العاملة وخطها البروليتاري الثوري في موقع القيادة لتحالف واسع من المنتجين والمهمشين والمحرومين،كل معذبي الارض هؤلاء الذين تحدث عنهم فرانز فانون، وقد دفع مهدي ثمنا غاليا جدا لهذا الهم، هو استشهاده، الذي كان بالتأكيد لحظة ماساوية، حزينة ومفجعة، من الصراع الدموي الذي شهده لبنان، على امتداد الحرب الاهلية الاخيرة.ونكون نكرم ذكرى الرجل حقا، بقدر ما ندخل في حوار معمق وهادف، حول وسائل الخروج من ازمة، هي الان في مستوى متقدم جدا من حراجتها."

• جورج قرم (مجلة الطريق العدد الرابع السنة 62 يوليوز-غشت 2003 ص 5-6)

"فكر مهدي عامل، رغم القوالب الماركسية التي تصوغه، والتي سأضع بعض التساؤلات حولها، ليس بالفكر الجامد، بل هو يعبر عن جوهر ممارسة الفكر النقدي..... اعتقد ان كتاب مهدي عامل (ازمة الحضارة العربية ام ازمة البورجوازيات العربية؟–صدر سنة 1974)هو قدوة، وهو نموذج جذري رائع في ممارسة الفكر النقدي، رغم ان القالب الشكلي الذي يستعمله له صفة جامدة، مستوحاة من الماركسية في مرحلة تاريخية معينة.ولا شك لدي ان مهدي عامل لو كان لايزال حيا لعمل نقدا لنفسه وللمرحلة التي كان يكتب فيها بلغة معينة....ان نقده لاشكالية التخلف العربي هو نقد جذري، يمكن تطبيقه في شكل علم على ما نحن فيه اليوم وعلى استحالة تحديد ماهية تخلفنا وفهمها.نحن مازلنا في الوضع نفسه، ولم يتغير شئ....انا اعجبت فعلا بالاسلوب اللاذع لمهدي عامل.فهو لم يترك موقفا لكل اعلام النهضة العربية دون التعرض له، واعاد النظر في مناهج تفكيرهم واشكالياتهم بمن فيهم ادونيس و قسطنطين زريق و انور عبد الملك و فؤاد زكريا و صادق العظم."

• هشام غصيب (مجلة الطريق العدد الرابع السنة 61 يوليوز غشت 2002 ص 43)

"من الصعب ان نجد في الفكر العربي الحديث مفكرا تنطبق عليه لفظة"فيلسوف"او"منظر"كما تنطبق على الشهيد مهدي عامل، فدرجة الاحكام والتماسك التي نجدها في كتابات مهدي عامل لا نجد لها مثيلا في الفكر العربي الحديث برمته.بل ان البناء النظري المحكم الذي نجده في كتابات مهدي، وبخاصة في كتابه"مقدمات نظرية"ليذكرنا بما نجده في اعمال عمالقة الرياضيات والفيزياء، امثال اقليدس ونيوتن واينشتاين. فهو سخر جملة من المفهومات المبتكرة، مثل: علاقة التحديد، علاقة السيطرة، حول الصراع الطبقي، الحركة الانتباذية، الحركة الانجذابية، الترابط التراكبي والترابط الانصهاري، الممارسات الاقتصادية والايديولوجية والنظرية و السياسية للصراع الطبقي، الزمن التكويني والزمن البنيوي وزمن القطع، اجهزة الدولة الايدولوجية....انه ينطلق من ارقى ما توصل اليه العقل النظري الماركسي في عصره، اعني انطولوجيا التوسير، لا من اجل تأكيده او اعادة انتاجه، انما من اجل نقده وتمييزه وتطويعه."

• عبد الاله بلقزيز (مجلة الطريق العدد الخامس السنة 57 شتنبر –اكتوبر 1998 ص58)

"لا نعثر في مدونة الماركسيين العرب سوى على ثلاثة اسماء:الياس مرقص ومهدي عامل وسمير امين،يمكن احتسابهم –ثلاثتهم- في عداد ابرز مفكري القرن العشريين الماركسيين عالميا من حيث القيمة النظرية لانتاجاتهم ومن حيث حرصهم على بناء انساق نظرية"

• ماهر الشريف (مجلة الطريق العدد الخامس السنة 57 شتنبر –اكتوبر 1998 ص58)

"وفي الواقع، فقد كان مهدي عامل من اوائل الماركسيين العرب الذين تنبهوا ونظروا لضرورة البحث عن التمايز في اطار الفكر الماركسي، معتبرا انه بحكم التفاوت في مستوى التطور التاريخي، كما يقول مهدي عامل في كتابه (احاديث ومناقشات ص 239):تطرح علينا في مجتمعاتنا مشكلات محددة تختلف عن تلك المطروحة في مجتمعات اخرى، وبالتالي على الفكر الماركسي ان يجابه طبيعة الاختلاف في هذه المشكلات، ان يقبض عليها كي يوضح للممارسة الثورية، وفي الممارسة الثورية، الطريق الفعلي لمعالجة هذه المشكلات."

• جورج لابيكا:(مجلة الطريق العدد الرالبع السنة 56 يوليوز غشت 1997 ص112):

"لقد اغتيل مهدي عامل في احد شوارع بيروت في 18 مايو 1987 على يد اصوليين شيعة ينتمون الى طائفته الاصلية، وكان قد تجاوز بالكاد الخمسين من العمر، وهذا يعني انه كان امامه متسع للكلام والكتابة والعمل.وكان شيوعيا، واصعب ما كان يواجهه، في بلده هو هذا الكم من التعصب الديني،الذي قام بنقده بوضوح ودفع حياته ثمنا لذلك.نقرأ على ضريحه هذا النقش البسيط ’ شهيد الفكر والحرية".مختصرا المصير الذي اختاره بملء ارادته.كان قد تابع دراسته في جامعة ليون حيث حصل على دكتوراة في الفلسفة عام 1965 وبعد ان درس في الجزائر في مدينة قسطنطينة في السنوات الاولى للاستقلال، عاد الى لبنان عام 1967 وعمل بادئ الامر مدرسا في صيدا، ثم استاذا محاضرا عام 1976 في معهد العلوم الاجتماعية في بيروت...جرى الاعتراف باكرا جدا بمهدي عامل في العالم العربي، كمفكر يتمتع بقوة استثنائية، الوحيد الذي حاول توسيع نظرية علمية شاملة للثورة العربية وحتى للثورة في البلدان المتخلفة عموما."

• جاك كولان (مجلة الطريق العدد الرالبع السنة 56 يوليوز غشت 1997 ص117):

"كفيلسوف ومناضل لم يفصل ابدا بين فكره النظري والتاريخ، ليس بمعنى انه يتوق ليصبح مؤرخا وانما بمعنى انه كان في صلب التاريخ.وتجلى هذا الهم منذ الخلاصات التي توصل اليها في اطروحته والتي اسست لاحقا لمشروع المقدمات: القيام"بثورة منهجية"داخل"الماركسية القائمة"عن طريق تطوير الادوات المعرفية الخاصة التي تتيح"تحليل اشكال محددة تتميز في حركة القوانين التاريخية الكونية في الحركة التاريخية للمجتمعات العربية المعاصرة."

• الطيب التيزيني(مجلة الطريق العدد الرابع السنة 56 يوليوز غشت 1997 ص121):

"لقد انقضت عشرة اعوام (كتب الدكتور الطيب تيزيني هذا الموضوع سنة1997) على رحيل المهدي عامل، مقدما في ذلك امثولة دامية على انه كان المفكر مناضلا والمناضل مفكرا،او العارف عاملا والعامل عارفا، بتعبير تقريبي قدمه الزمخشري.والحق،ان هناك ما يدعو الى ان نرى في مهدي ليس تجسيدا لهذه الجدلية فحسب انما كذلك باحثا فيها من طراز مرموق.ولعله من الأهمية والضرورة بمكان ان يشار الى ان مهدي كان المفكر مناضلا والمناضل مفكرا في سياق التقدم التاريخي،تقدم شعبه وامته في شعاب الحرية والديموقراطية والوحدة. وبهذا، نكون قد ميزنا بين نمطين من المثقف والمفكر،واحد يجسد المقولة المذكورة على نحو ما فعل مهدي،واخر يجسدها من موقع السبحة ضد التيار التاريخي التقدمي وفي ضوء مبادئ من نوع الاستبداد والهيمنة النخبوية او الطبقية واللامساواة بين الرجال والرجال والرجال والنساء في الحقوق المجتمعية المختلفة."

• الدكتور مسعود ظاهر:(مجلة الاداب عدد 1و2 يناير فبراير 1988 ص 94)

"وانا بصدد ابراز الجديد المفهومي والمنهجي لدى مهدي عامل في مجال الطائفية والدولة الطائفية في لبنان.اعترف انه قبل هذا الباحث المجدد لم تكن لدى الماركسيين اللبنانيين القدرة على انتاج ثقافة نظرية معمقة حول البنية الطائفية، والهيمنة الطائفية، والدولة الطائفية وغيرها...لذلك استحق هذا المفكر الشهيد موقع الريادة في التنظير المعمق لانتاج الجديد المفهومي في هذا المجال....فلم يتورع مفكرنا الشهيد وبجراة الثوري الاصيل، عن نقد رفاق له، ومن موقع الخندق النضالي الواحد، بالانزلاق عن وعي او بدون وعي الى مواقع الفكر البرجوازي بالذات.فساهم بذلك في تصليب فكرهم المادي وفي تقويم ما اعوج منه...لكن القوى الظلامية كانت له بالمرصاد فاغتالته في اوج عطائه النظري ونقده البناء الذي طال عددا كبيرا من المثقفين، تناولوا المسالة الطائفية والدولة الطائفية."

في سبيل الختم:

خلال المسيرة النضالية الخصبة لمهدي عامل والتي شهد عليها وعاصرها ثلة من المفكرين الكبار من مختلف الجنسيات والبلدان ولكن يجمعهم حب الكلمة الصادقة و النضال من اجل مجتمع انساني متحرر، اصدر حسن حمدان كتب ودوواين وابحاث مختلفة يجمعها هاجس الفعل النضالي التنويري الذي يسكن المفكر العضوي بلغة غرامشي في تناغم مثالي بين الممارسة الفعلية الرصينة و النظرية التي يؤمن بها، لم يكن مناضل صالونات و محاضرات فقط بل كان مناضلا ميدانيا ومفكرا في آن، بالفعل كان المهدي عامل نبراس ينير طريق المقهورين والمنبوذين والمستضعفين، بمنهجيته الثورية و افكاره النقدية الحاسمة التي ترفض التضليل والخلط بين وعي ثوري تحرري ووعي زائف بلغة امين العالم ولكن لقوى الظلام و الرجعية راي اخر، هو راي اسكات الاصوات النيرة في مختلف الازمنة والامكنة، وراي راغب في تأبيد وعي خرافي و استيلاب فكري يسمح بادامة السيطرة الفكرية والسياسية والاقتصادية لطبقات مهيمنة مسيطرة على مقدرات الشعوب المقهورة، فقد اغتالت القوى النطوصية الرجعية عدد من المفكرين المتنورين كحسين مروة الشيخ اللبناني الجليل الذي ولد شيخا ومات طفلا كما قال ذات يوم، واغتالت سهيل طويلة وخليل نعوس وجورج حاوي وسمير قصير وجبران التويني وكلهم من لبنان واغتالت الايادي الاثمة في كل مكان في العالم المفكرين المتنورين الذين سعوا جاهدين من اجل انتشال اوطانهم من الرجعية والظلامية والنكوصية، فتحية اجلال لروح كل شهداء الكلمة والحرية في كل اصقاع العالم وكان من الممكن ان اسرد شهادات عدد كبير من المفكرين الذين تناولوا فكر مهدي عامل بالدراسة والتحليل والنقد كالكاتب والروائي المرموق فيصل دراج الذي اعدد دراسات قيمة عن المهدي عامل او اتطرق لدراسات وشهادات كريم مروة ونزار مروة و محمد كروب واخرون كثر ولكن حيز المقال والمقام لا يسمح بذكر الجميع رغم اهمية مساهمتهم النظرية في نقد و تطوير اطروحات الشهيد مهدي عامل.واختم بقولة للدكتورة يمنى العيد عن الشهيد مهدي عامل (مجلة الاداب البيروتية عدد مزدوج فبراير 1988):"كان مبدعا، واسع الثقافة هو مهدي عامل، ودفاعا عن الفكر المبدع، عن حرية التعبير، عن ثقافة ثورية كانت شهادته، لكن، يبقى الخيط يضئ عتمة الواقع، وسيبقى النور يجلو صدأ الفكر".

انغير بوبكر

 دبلوم السلك العالي في المدرسة الوطنية للادارة –الرباط سنة 2010
 دبلوم المدرسة المواطنة للدراسات السياسية ECEP سنة 2015
دبلوم المعهد الدولي لحقوق الانسان ستراسبورغ سنة 2012
باحث في التاريخ والديموقراطية وحقوق الانسان


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى