الأحد ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم أحمد غانم عبد الجليل

فـي فَـلَـك الـحـب

شيء في داخلى كثيرا ما توقع مصادفتك... ولكن هنا!!... فعلا الدنيا تيدو أحيانا كلعبة الدوائر المتصلة ببعضها عبر فتحات صغيرة، تهتز كل حين لتفضي الكرة في النهاية إلى المركز بعد أن تدور في فلك كل دائرة مرة أو مرات، كم من السنوات لزمت كرتك لتنبثق من جديد إلى دائرة حياتي، شرعتُ أمامها أبواب الرحيل بعد مقتل زوجي على بعد أمتار من باب دارنا... من قتله، ولأي سبب، من يمكنه التكهن في بلاد ينهشها الموت مع كل شهقة نفس وطرفة عين باكية...

تفاجأت برؤيتي أنت أيضا؟... كم تغيرت برأيك، بقدر عتو السنوات التي مضت على افتراقنا؟... حددت موعده بصرامة تسخر من خيبة الحب الأول، آسفة... أقصد الخدعة الأولى، وعيت فجيعتها على يديك أمام كافة زملائنا الذين رقبوا تجوالنا الطويل في باحات الكلية، كم كنت ساذجة عندها وأنا أتشمم عبق الورود الفواح التي كنت تهدينياها وتبقى في يدي المعروقتين خجلا يتصبب مع بوحك الغزلي، لا أريد رميها حتى بعد ذبولها في وهج شمس الظهيرة الموشحة سمار وجهك حمرة مغيب يستعجل رؤيتك في اليوم التالي... ما أعجب تراشق تلك الذكريات داخل رأسي المصَدعة على نحو فجائي، وأنا مغروسة في متاهات حياتي الغرائبية الجديدة، أوَ سأعتادها وأولادي مثلك يوما، وقد سبقتني إليها بسنوات، تناسيتك خلالها تماما، حتى لما عرفت بخبر سفرك الأبدي من إحدى صديقاتي بدا الأمر لي وكأنه مداعبة من الماضي لم تلقِ في نفسي أثرا وأنا أتوجع بين الحين والآخر من حملي الثاني، بل ابتأست من كل لحظة راودتني فيها أحلامي القديمة البلهاء، وكل ما كان يشغلك كيفية لظمي حبةً جديدة في مسبحة غزواتك العاطفية، كنت أعلم هذا جيدا، قد أتجاهله حينا وأتفاخر به أنا الأخرى حينا آخر لأثبت لنزقي الصبياني تميزي عن الأخريات، معلنة لنفسي تتوجي عرش قلبك للأبد، أوصد بتحدٍ أنثوي مستميت كل طريق يقاربك من فتاة أخرى، كما تفعل الحواجز الكونكريتية في شوارع مدينتنا اليوم، ههه... كم من حماقات تدرك أعمارنا، تتلاعب بنا تلاعب الحياة بمصائرنا في زوبعة أقدارٍ عاتية تغريني بالتشبث بك، دون سواك، من جديد...

لم أجد في عينيك اللتين طالما سقتاني من العشق كؤوسا أترع منها بلا ارتواء نظرة ندم أو لمحة اعتذار، آه... نسيت إنك لم تعتد الاعتذار يوما لأحد، فقط ألقت علي ابتسامتك فرحة لقيا وشت بتيه السنوات الغاربة من عمرك، قد تراه الآن عمرا آخر تغيب عنك أكثر ملامحه... تتأملني طويلا، تدقق النظر في ملامح وجهي، ربما تبحث عن ذلك الرونق القديم الذي جذبك إلي، ولكنك لا تعيد على مسامعي كلمات الغزل التي افتقدتها منذ زمن، تحشرج نبراتك يستدعي نهنهات شكوى أودعها بين أضلع صدرك، تتكسر في ضحكات تائهة لا صدى لها في المتنزه الفسيح الذي ألفنا الجلوس على أحد أرائكه، وهمس ثرثرات لا أفهم من معانيها شيئا، لغة غريبة وأمكنة غريبة، وحتى أنت كنت غريبا، وإن أوهمت نفسي أو تمنيت عكس ذلك، وقد صرت، رغم كل انتفاضاتي القديمة ضدك، تتبطن دنيانا، فتاتي المتأرجحة بين ارتداء الحجاب والاعتكاف الباكي وبين الخروج المستمر والسهر حتى ساعة متأخرة من الليل، ببهرجة بنات هذه البلاد الجميلة الموحشة، فلا أجد ملاذا سوى الاتصال بك، أتوسلك أن تفعل شيئا لا أدريه حتى تعود بطفلتي إلى ملجأ أحضاني، تتمعن بها مليا وكأنك تفتقد مرسى الأنثى في حياتك، رغم يقيني بالعكس... الولد الأكبر لجوج اتهام نفسه بالجبن، ينهكه إحساسه بالخذلان لعدم تمكنه من الانتقام لذلك الجسد الذي لقيه مسجى على قارعة الطريق، يكثرشجاره مع فتية مدججين بسلاسل الحديد والسكاكين المحززة، غير عابئ بتعريضنا لخطر الترحيل والمخافر التي يلجها، ترافقه تهمة التحريض على العنف الآتي به من بلاده، وحتى الصغير المتعلق بك ذات تعلفه بأبيه الذي كان يتلقفه منذ دخوله باب الدار، يفتقدك بشدة، مثلما كنت أفعل من قبل، يسأل عنك بإلحاحٍ متوسل إن تغيبت عدة أيام ولم تصطحبه إلى مدينة الملاهي، تتدفق هداياك عليه فرحةً غامرة ظننت إن طفولته المنكوبة لن تتلمضها يوما... وأنا، ما سبيلي لنكران انسياقي للهفة بُكرة الشباب إليك، على خوفٍ واستحياء، أتعلق برقبتك نافرة العروق فأنتحب طويلا ومريرا، تطمس رأسك في صدري فأتحسس كل ما لا ترضى الشكوى به، تأخذني بغتة في عناقٍ حار، بلا مقدمات أو تفسير أوتبرير، فقد مللت كل ذلك كما مللت من تأوهاتي المغبونة لدى تركك لي، مدعيةً عكس ذلك أمام صديقاتي ونظراتهم المؤنبة لارتباطي بك أو حتى الشامتة بكبريائي المعهود، إياك أن تتبرأ من جموح خيالك نحو ذات المخبأ المتواري عن عالمنا، فكل سنيني المنصرمة مصقولة في بؤبؤي عينيك، وإلا ماذا كانت تفعل أجمل صورنا القديمة في ذلك الإطار المذَهب إلى جانب سريرك؟؟...

حمى لم تزاولك لأيام، جئتك وابني الصغير إلى شقتك المستباحة من رتابة الوحدة، رغم كل من قد يزوروك أو تزرنك فيها، لكي نطمئن وأفعل لك ما أستطيع حتى تتعافى وتنهض بابتسامتك الموارية لكثير من الطلاسم التي ألفت سكناك، أخذتني البهتة في حضرة وجهينا الضاحكين، أنى لي النجاة من فيافي تحيري في أمرك، وأنا أقف متخشبة في مرمى نظراتك الزائغة وازرقاق جفنيك، طلبت من صغيري سرعة الخروج إلى الصالة ومشاهدة التلفاز بحجة الخشية عليه من العدوى والإصابة بالهذيان، لبى أمري دون فهم معنى الكلمة الأخيرة ولا الانتباه إلى إطارك الموَشى بأشعة الشمس التي تعبر نافذة غرفتك، شمس باهتة خجول من السحب المتربصة بها، كلما حاولت الاستدفاء بها زاد البرد من احتوائك...

كم فرحت وكم خجلت من هاجس تشاطرنا الفراش في شطط هذيانك الذي حذرت منه ولدي، ولَدته حمى طويلة لم تستطع مراوغتها أو الفكاك منها أبدا، ما سبيلي لانتزاع اعتراف صريح منك بذلك... ساءلت نفسي وأنت تغط في إغفاءة جديدة لا تستمر إلا لبعض الوقت، أكنت تغفو بحق أم إنك كنت ترقب حركتي في الغرفة بعينين شبه مغمضتين، تتفرج على حيرتي في ترتيبها وجمع ملابسك التي تهفو إلى قذفها في الغسالة... لعلك كنت تتوقع، وأنا أصغي إلى خفقان إسمي بين شفتيك في تَيمٍ محروم، جلوسى جانب رأسك، أخذها في حجري، ثم مداعبتها بيديّ وشفتيّ وصوت أفلام الكرتون ترافقها ضحكات الصبي الناعمة تتهافت إلينا عبر باب الغرفة المفتوح، وأنا عندئذٍ بالذات، كنت أصبو في داخلي المشتت ، دون وعي لأي شيء، إلى ذلك وأكثر؟!!...

الآن لا أود أن أتساءل عن شيء، فكل تساؤلاتي ستصير أجوبتها فتاتا منتثرة في فلك خداعك الظافر باستغبائي مجددا، وبعد كل ما أنضجه فيَ العمر الفائت، فقد عرفتَ صهر سنواته بسحرٍ لم تجدِ تعوذاتي معه نفعا... هاهي كلماتك، تنقع سمها مدرارا في عينيّ، رجفة يدي تهدد بتمزيق رسالتك المقتضبة، تركتها تحت عقب باب شقتنا الصغيرة فيما كنا نياما، تقَرِع حلما ينتظر أن تتلقف تيه خطواته، أخشى أن يفرِج جنوحه عن صرخةٍ مدوية تعيد أولادي إلى هلع الانفجارات، ترزيني سخرية أحرفها بضرورة رحيلك إلى مدينةٍ أخرى، بعيدة، ثم تختتم مكرها بأحر سلاماتك لي وللأولاد، أحبابك الغالين على قلبك أبدا...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى