الاثنين ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم يسري عبد السلام صبري

فلتان أمنى

من منكم لا يعرف راشد الشبولى، ولم يسمع عن أفعاله السوداء التى ملأت البلدة ضجيجا لأسابيع، بل الكون كله؟ حتى أننا، نحن المحسودين على مرافقته لن نتعجب إذا ما استشهد بأفعاله تلك جورج دبليو بوش فى إحدى خطاباته، أو إذا استوحى منها باولو كويلهو رواية يكتبها، إلا أن ما حدث مؤخرا شئ لا يمكن تصديقه بالمرة، ولولا أننى رأيت بعينى ما فعله لكان من الصعب على أن أصدق، وخصوصا أننى عشت معه تفاصيل تلك الحكاية: لحظة بلحظة، ويوما بيوم، وسنة بسنة، ولطالما اختلفت معه، واتفقت، وارتحت وتعبت، وحينما كانت تضيق الدنيا علينا نحن العاديين يكون هو أكثر تفاؤلا من أجدعها كمسارى فى قاهرة المعز، حيث كان يرى باستمرار مكانا فارغا فى منتصف الأوتوبيس، ورغم أن بداية هذه الحكاية لم تكن أكثر من لعبة، إلا أنه لعبها بروعة. وقتها كنا ـ أنا وهوـ قد أنهينا دراستنا الثانوية، وعرفنا من جوابى التنسيق أننا دخلنا نفس الكلية، فتوثقت صداقتنا، ووقتها كان أخواه يبيعان ميراثهما: أحدهما ليسافر، والآخر ليبدأ مشروعا يوفر له دخلا شهريا، بينما الشبولى الصغير قرر أن يشترى سيارة آخر موديل، ومن نفس نوع سيارة نائب دائرتنا فى البرلمان، ولأن ما حصل عليه راشد من مال لم يكن يكفى وقتها لشراء تلك السيارة فقد لجأ إلى المنطق ليقنع صاحب معرض السيارات بقبول ما معه فقط على أن يتسلم سيارة آخر موديل بعد سنواته الدراسية الأربع، وهكذا كان راشد يتعامل مع المواصلات العامة المقرفة بحب على أساس أنه يودعها، وكثيرا ما كان يضحى بشراء كتاب جامعى لشراء مجلة سيارات، وكثيرا ما كنت أرحب بإعارته كتبى كما كان هو يرحب بإعارتى تفاؤله، حتى أنه فى لحظة تجل من تجلياته ـ ولا تضحكوا أرجوكم ـ أقنعنى أننى كاتب قصة ملهم.

وذات يوم ونحن محشورون بين شنطتين على شبكة قطار مزدحم جدا قال: تعرف انا نفسى فى إيه؟ فقلت: فى إيه؟ وقبل أن يجيبنى تأمل الناس، وشرد قليلا، ثم قال: مش مهم، مش مهم. ساعتها لم يكن مسموحا لنا بتدلية أرجلنا حتى لا تلامس الرؤوس الكثيرة أسفلنا، ولم يكن مسموحا لنا بحركة غير محسوبة قد تسقط إحدى الشنطتين اللتين تحاصرانا، وهكذا مضت سنواتنا الدراسية بنجاح، وحانت اللحظة التى انتظرها راشد طويلا، والتى باقترابها كان قلبى يرتج بشدة تحسبا لمكر صاحب المعرض، لكنه للأمانة كان رجلا فى غاية الظرف والكرم، وما هى إلا دقائق أمضيناها فى التهانى واختيار اللون والذى منه ليصبح بعدها راشد ابن مبروك الشبولى، بقدرة قادر من ذوى السيارات المحترمة، بل وأصبحت له طريقة ووضعية فى القيادة ذات ثقل ورونق، أظنكم ستدركون مثلى ممن اقتبسها، الشئ الوحيد الذى كان ينقص الشبولى لتحمل الوضعية شارة صانعها هو نظارة النائب الطبية، بينما بقية تفاصيل الوضعية هى هى: إسناد الكوع على الباب هو هو، التحريك المستمر للمرآة هو هو، الفرملة المفاجئة هى هى، حتى النزول المتعجل بعد الفرملة هو هو، مما دفعنى إلى الصياح بقليل من الحدة: على فين يا راشد؟ ليقول وكل ملمح من ملامح وجهه متمسك بالجدية: هاشترى شوية جرايد. فقلت فى نفسى: عجايب، وظللت أراقبه وهو يقرأ العناوين الداخلية والخارجية للجريدة من هؤلاء، ثم يضعها أمام البائع، ثم وهو يفعل الشئ نفسه مع جريدة أخرى، وهكذا حتى تكوم عدد محترم من الجرائد دفع الشبولى ثمنه، وبدأ يخطو ناحيتى متهلل الوجه، فى تلك اللحظة بالذات كان ثمة شئ مريب يحدث داخل السيارة، حيث تصاعد من أركانها الأربعة دخان كثيف، فغادرتها منزعجا، ثم حدث أن ارتجت السيارة بعنف، وبدأ صاجها ينبعج، وينضغط، محدثا مع كل انبعاجة وانضغاطة صوتا مدويا، فجريت ناحية راشد، وإذا بالسيارة تتحول وسط الدخان إلى حمامة بيضاء عملاقة، لها جناحان عملاقان ودعت بأحدهما الشبولى، ثم رفرفت صاعدة السماء. والغريب حقا أن راشدا، حتى بعد اختفاء حمامته ظل متهلل الوجه وهو يلوح لها ببراءة غير محدودة.

تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى