الثلاثاء ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم ميساء قرعان

فن الصمت.. وتكسير المغزل

عندما رأى القاضي ابن العربي الغزالي هائما في البرية وبيده عكازة ، وكان قد رآه قبلها في بغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر القوم، دنا منه وسلم عليه وقال له يا إمام:أليس تدريس العلم ببغداد أفضل من هذا ؟فكان رد الغزالي أن نظر إلى ابن العربي شزرا ثم تمتم بأبيات من الشعر منها :

غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد لغزلي نساجا فكسرت مغزلي
والغزالي مثله مثل بقية المجددين في عصره تعرض للنقد والاتهام بالزندقة ، غير أن شعوره بالإحباط ووصوله إلى قناعة بعجزه عن التغيير دفعا به إلى البرية ، إلى الصمت، وإلى تكسير مغزله

لكن الغزالي ومن نهج نهجه في عصره لا يدرون بأنه بعد مضي قرون على تلك الحادثة، لم يزل المجددون في مجتمعاتنا يراوحون مكانهم إن لم يكونوا فعليا قد تراجعوا ، ولم يزل الجمود الفكري الذي يعيق أي تغيير هو ذاته الجمود غير أن العوائق كثرت وكثرت مصادرها ، كما أن المخاوف ازدادت بازدياد مصادر التهديد ، فليس الموروث الفكري وحده هو آداة الجلد فثمة مستجدات حداثية براقة تلعب دورا أكبر من ذاك الذي تلعبه العامة في التصدي للمفكر أو المبدع والمجدد ، ولذا ازدادت الحاجة إلى الصمت والهروب بمختلف أشكاله ، أما الذين كسروا مغازلهم فهم كثر ، والذين استبدلوا بها مغازل وهمية كثر أيضا

حالة الانسحاب القسري من القضايا التي كانت تشغل الكثيرين هي في حقيقتها صورة من صور كسر المغزل وكذلك حالة الإبدال أو التحول على مستوى الاتجاه والسلوك

حالة اللامبالاة التي يحياها بعض المثقفين في عالمنا العربي ليست بعيدة عن هذا الطرح فعلى أي المغازل يغزلون؟ وماذا يغزلون ؟ ولمن ؟ والنساجون لم يزالوا غائبين منذ عصر الغزالي ، والجلادون من كل اتجاه
الكتابة في مجتمعاتنا ولدى مثقفينا أصبحت وسيلة علاجية لا تتعدى صاحبها ولذا فإنها مؤشر إحباط وتفريغ غضب واستبدال مغزل بمغزل أو منبر بمنبر احترازا من تبعات الدعوة العلنية إلى التغيي
ر
لكن ما قد يغفله الكثيرون هو أن الكاتب لا يكتب ما يريد ويستنفد جل جهده وديبلوماسيته في دورانه حول الفكرة كي لا يفهم (صح) وكي لا يدفع الثمن الذي دفعه أسلافه وبعض المعاصرين ممن لم يكتفوا بكسر المغزل وإنما بالاعتذار عن استخدامه أو التنكر له

رحم الله الغزالي الذي لو أتيحت له فرصة العودة والتعرف إلينا والاطلاع على ما أنجزناه بعد هذه القرون لعدل عن قراره وعاد إلى تلاميذه وتغنى بمغزله، لكننا لا نتمنى عودته ولو على سبيل (الخيال ) فنحن لم نزل نحن مع فارق المظاهر لكن بغداد لم تعد بغداد …


مشاركة منتدى

  • سيدتي الفاضله :
    كل الشكر على هذه المقالة الرائعة وهي بحق فاعله وتصلح في زماننا هذا الذي نعيش ... حقا ان من يكتب يكتب لنفسه مقتبسا (الكتابة في مجتمعاتنا ولدى مثقفينا أصبحت وسيلة علاجية لا تتعدى صاحبها ولذا فإنها مؤشر إحباط وتفريغ غضب واستبدال مغزل بمغزل أو منبر بمنبر احترازا من تبعات الدعوة العلنية إلى التغيير) - انتهى الاقتباس -حيث ان امة اقرأ لا تقرأ وان قرأت فلا تفهم وان فهمت فلا تمارس ما فهمت ....
    وحقا ان المثقفين اصبحوا مرعبون ومهزومون في داخل انفسهم وحتى داخل عوائلهم حيث الكتابة في حالة الرعب والفزع لا تجدي نفعا وفهما
    اننا الان نعيش في زمن مثقفي السلطة ، وعمائم السلطه وكتاب السلطه .... الخ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى