الخميس ٧ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم جعفر حسن

في المعنى الأدبي

يبدو أننا لازلنا ندور في فلك من ثنائيات الإشكالية العربية، وهي التي نمت وسيطرت على عقولنا دون أن نحاول اختبارها فعليا، ويبدو أن مقولتي المبنى والمعنى، باعتبارهما ثنائيتين تسيطران على مجمل حالة التواصل، كما تتبدى بين المتلقي والشعر العربي الحديث ـ وندعوكم للتأمل في مسألة الشعرية وقضايا المعنى والمبنى ـ ربما تصلح تلك الثنائية للتواصل اليومي، أو ما يمكن أن نعبر عنه بالمستوى التداولي للغة.

والتواصل، هو الحالة التي تستخدم فيها اللغة في حياتنا اليومية، أي أن كل كلمة تحمل في داخلها مدلولا واحدا (واضحا) بالنسبة للعملية التواصلية، فحيث أن المرسل (المتكلم العادي)، والرسالة (الكلام الحامل للمعنى التداولي) والمتلقي (السامع العادي) هم أطراف العملية التداولية في الحياة اليومية، فلست ملزما لأن أقول لشخص ما، ما معنى الماء ليفهم ما أريد من جملة (اعطني كأسا من الماء)، ولست ملزما لتوضيح أي مفردة من المفردات التي استعملها حتى أستطيع التواصل معه، مع أن هناك ثنائية تلعب في مجال العلاقة بين الدال والمدلول اللذين يقول البعض عنهما، انه لا توجد هناك أي رابطة ملزمة من أي نوع بينهما.

الصفر البلاغي .

و هل تخلو اللغة في مستواها التداولي من الصور الجمالية؟ بالطبع لا، ولكن تلك الصور لا تقال لذاتها في الحياة العملية، وبالتالي يقوم أمامنا سؤال يتمثل في أين هي درجة الصفر البلاغي في اللغة؟ ربما نجد هذا الأمر يتحقق فقط حين تخصص اللغة بعد إعادة تعريفها، فربما كانت حالة اللغة المعادة التعريف، والتي تستخدم في العلوم الإنسانية مثل المحاماة هي تعبير عن اللغة في درجة الصفر البلاغي، كما هي حالة اللغة حين تظهر باعتبارها مخصصة للاستخدام في إثبات الخوارزميات الرياضية والعلوم البحتة، فإذا قال المحامي :(حقوق الارتفاق)، لا يمكن أن تعود للقاموس لتعرف معنى الارتفاق، ذلك لانه ببساطة يستخدم لغة معادة التعريف، وإن أردت معرفة المعنى المحدد عليك باستخدام قاموس للقانون.

الائتلاف يؤدي إلى الاختلاف .

إذا كيف يختلف استخدام اللغة في الأدب عنه في الحياة اليومية؟ نجد أن اللغة تكتنـز في داخلها طاقات هائلة، وأطيافا متنوعة تحملها ظلال المعاني ضمن درجات متعددة في نسيج اللغة باعتبارها قابلة للتركيب المستمر دون أن تنفذ طاقتها المختزنة، وهي لا تموت أو تختفي إلا بموت حيوية الإنسان الذي يستخدمها، وبموت ثقافته، تموت لغته كما يموت هو ذاته ويذوب في الآخر، ويمكننا في التاريخ أن نشهد على موت لغات مثل الفرعونية والبابلية والفينيقية وغيرها.

لندلل على تلك المرونة الهائلة للتركيب اللغوي، نقول بأننا نجد الإمكانات مفتوحة فيما يتعلق بدائرية الأعداد، وهي مكونة من عشرة أرقام فقط، فما بالك باللغة التي فيها من الكلمات عشرات الآلاف، ونزعم هنا انه منذ أن كتبت اللغة العربية لم يتصادف كتابة مقال أو قصيدة (كإبداع في اللغة) بذات الكلمات، وذات التركيب، وبنفس النسق، والترتيب، على الرغم من العمر المديد لهذه اللغة، إلا أن يكون تكرارا ونسخا لذات المقال أو القصيدة.

مراوغة المعنى .

ويبدو المعنى مراوغا في اللغة ففي الوقت الذي ندعي أننا نصطاده، نجده ينفلت من بين أصابعنا، فعندما يقول شخص ما (أنا ميت عطشا) يخلق للمتلقي إرباكا منطقيا فكيف للميت أن يتكلم، وما دام ميتا من العطش لماذا يطلب الماء، والماء لن يرده من الموت، وليس من المنطقي أن يطلب الميت ماء، وبالتأكيد فأن المحاكمة المنطقية للعبارة لن تجدي نفعا هنا، ويمكن أن تكون اكثر إرباكا في عبارة (أنا كذاب)، ولكن المضمون من العبارة وصل للمتلقي بوصفه تداولا، وذلك نتيجة سيادة الاستخدام المنحرف لدلالية اللغة، فالعبارة في ذاتها ليست إلا تعبيرا عن شدة العطش، وليس بأي حال من الأحوال تعبيرا عن كيفية الموت، وهنا يمكن أن يعتبر مجازا دون إجبار المتلقي على بذل الجهد ليفهم العبارة.

سقوط المحاكمات المنطقية والمعيارية الثابتة .

لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نحاكم اللغة في استخدامها الفني بالمنطق، لأنه يفسد الذائقة، ويربك عملية التلقي الفنية، ويدمر الصورة الفنية التي تقوم مقام المعنى كمضمون، وفرض استخدام المنطق الصوري لفهم العبارة الفنية، يؤدي إلى إحالتها للتداول قسريا، وإخراجها من نسيجها الفني، كما تتم محاكمتها باعتبارها تحمل مدلولا من النوع التداولي على الرغم من انحرافها الدلالي الشديد، وربما غرابتها في التركيب.

انه ذات الخطأ الذي تصورته البلاغة العربية القديمة وهي تحاول تفاديه، وذلك بحكم اكتنازها بالحكم المعياري الثابت، الذي تصورت هي ذاتها بثباته للابد، على الرغم من أن الشعر والأدب باعتبارهما مجالان للفن يموران بالحركة والفاعلية.

ويمكن أن أشير هنا إلى (تراه إذا ما ابصر الضيف كلبه .. يكلمه من حبه وهو أعجم)، ويظهر الحكم المنطقي بفساد العبارة، من خلال ما تقوله محاكمة منطقية للصورة الفنية في هذا البيت كما يلي :"فإن هذا الشاعر اقنى الكلب الكلام في قوله يكلمه، ثم اعدمه إياه عند قوله وهو أعجم . من غير أن يزيد في القول ما يدل على أن ما ذكره إنما أجراه على طريق الاستعارة" ألم تفت قدامة بن جعفر تذوق هذه المفارقة المنطقية وجماليتها لأنه استخدم المنطق الارسطي في محاكمته للنص، ألم تكن الصورة ابعد غورا من تطلعاته المحدودة بالمعيارية المنطقية، إننا لا نستطيع استخدام المنطقي للحكم على العبارة الشعرية، وذلك ببساطة لأنها تصنع من نسيج مختلف يكون جوهره الإبداع.

لقد كانت الصورة في الشعرية العربية القديمة محدودة بنمطية النسق في (عمود الشعر)، والتي جعلتها محدودة بدورها في دائرية البيت، وقد فضل النقاد القدماء استقلالية البيت عن باقي أبيات القصيدة، واعتبروه معيارا لجودة النظم وحسن السبك، ونشير إلى أن دائرية البيت ووحدته، ربما تكون هي المعيارية التي فرضت في كثير من الأحيان اكتمال الصورة الفنية في البيت الواحد، بينما لم تكن هناك حاجة حقيقية لهذا التقييد، ولم تكن نابعة من طبيعة بنية الشعرية العربية، إذ تتوفر في القصائد العربية منذ الجاهلية حتى عصور أخرى شواهد على ما سمي عند النقاد القدماء بالتضمين، والذي عد من عيوب الشعر، وهو أن لا يكتمل المعنى في بيت بذاته ويحتاج إلى بيت آخر ليستكمل المعنى وربما لمجموعة من الأبيات.

قيم متضادة ومضادة

ويمكننا أن نحاول فتح باب على الصدق باعتباره قيمة معيارية أخلاقية تخرب الذائقة الفنية للشعر، حيث أننا مولعون بترديد عبارة مشهورة "إن أعذب الشعر أكذبه" كما تنسب لابن رشيق، وهو حكم عام على الشعر الجميل العذب بالكذب، وصولا لدخول معيار أخلاقي في الحكم على الشعر الجميل بالذات بالكذب، والكذب يهدي إلى الفجور ومن ثم إلى النار، وتوحي العبارة السابقة بسطوة المقياس المنطقي الارسطي القائم على صدق العبارة، وارتباط ذلك كله بالحكم الأخلاقي المعادي للكذب، تلك النظرة بهذا الحكم القاسي والأخلاقي، تبتعد عن الوصول إلى طبيعة الخيال الفني، مما يفسد تذوقه، ويخرب تلك الآلية التي يستطيع بها الإنسان التواصل مع النص الشعري.

السنا نرى أن هناك قيمة فنية هامة أطلقها الشاعر الكبير حسان بن ثابت الأنصاري في اتجاه آخر حيث قال: "وان اشعر بيت أنت قائله بيت يقال، إذا أنشدته، صدقا"، وعلى الرغم من قدرة البعض على تأويل البيت السابق في إطار الحكم الاخلاقي، ولكن ضمن قيمة ايجابية حادة تؤكد الصدق الذي يذهب إلى الجنة مباشرة، كما تشير الأحاديث، ورغم القيمة المضادة تلك في ثنائية (الصدق/ الكذب) إلا انه تظل هناك ملمحا اخلاقيا للكتابة يظل يشتغل على الذائقة التي تخرب من الداخل بالحكم الاخلاقي الجاهز.

و يبدو الأمر من هذا البعد الزمني الموغل، أن البلاغة العربية القديمة لم تعد قادرة بما هي عليه بمزيد من الكشف الإبداعي للشعرية، ما لم تتواصل مع الواقع المعاصر، أو يعاد تعريف مسلماتها وبث الروح فيها. إن بعض النقاد يعتقد انه قد سادت البلاغة القديمة معيارية فلسفية اكثر منها معيارية نابعة من الاستقراء الكامل أو الناقص للنصوص الشعرية أو الإبداعية الأخرى، وإن الأحكام المنطقية وربما الارسطية منها بنسختها العربية، سادت اكثر من غيرها في هذا الجانب من الأحكام المطلقة.

التغيير وموت المجاز المرسل .

و لنا أن نشير إلى ضرورة تغيير العقلية التي نتعامل بها مع الأشياء، والمفردات باعتبارها موضوعات، نعتقد أننا نعرفها لمجرد كونها موضوعات قائمة في ارثنا الثقافي، لقد حان الأوان للتخلي عن ذلك، والتعامل مع اللغة باعتبارها ذات وشائج قوية بالحياة اليومية وهمومها، موجودة على ارض الواقع كما هو تراثنا.

فعبارة تراثية كـ (رجل كثير الرماد)، ربما توحي اليوم وتشير وتومئ إلى أنه رجل يقوم بصناعة الفحم، أو انه رجل وسخ لا ينظف بيته من الرماد، أو لربما رجل بخيل لازال يطبخ على الحطب، أو حتى متخلف، مع ملاحظة انتشار أفران الغاز والميكرويف وغيرها من وسائل الطبخ الحديثة، إن ما توحي به اليوم يذهب بعيدا بحيث يتجاوز ما كانت تشير إليه أو تستحضره من موضوعة الكرم كما هي قائمة في التراث.

ولعل تعبيرا مثل (زيد أسد) الآن تثير في ذهن المتلقي ترابطات معنوية لم يكن يعرفها العرب القدماء، وربما تخيل شخص ما إنه رجل أبخر كريه الرائحة، كسول قليل العمل .. الخ تعوله زوجته (اللبؤة) وربما كثير الشعر (بفتح الشين)، وهي من القضايا السلبية التي بتنا نعرفها بحكم تطور المعرفة عن هذا الحيوان، ولا يمكن أن نحد المخيلة في الجانب الإيجابي فقط فيما يتعلق بالشجاعة !!

ولنا أن نشتغل على المخيلة بشكل مختلف، لنواكب تطور الحياة التي نعيشها، والمملوءة بالمعارف والعلوم والتكنولوجيا، السيارة، الطائرة، الصاروخ، النظرية النسبية .. الخ، لا أن نبقى محبوسين في الماضي التليد.

عندما نحاول أن نستخلص من الصورة الفنية معنى ما (تداولي) دائما وفي كل الأحيان، فإننا بذلك نكف عن التواصل مع العبارة الفنية، ذلك لأننا سنتوقف عن استخدام مخيلتنا لاستجلاء الصورة المتشكلة أو الحالة العاطفية التي تضعنا فيها الصورة الجزئية أو في تلك الحالة التأملية التي تضعنا فيها الصورة الكلية في القصيدة.

عنف غير مبرر

ونحن بآلاتنا القديمة نحاول لي رقبة الصورة الفنية حتى تصبح عبارة تداولية، لنجد فيها ما نجده في كلامنا العادي اليومي التداولي من معاني تتعلق بالغائية الحياتية اليومية، لكن الشعر يتأبى على هذه المسألة، وبات يكف عن استخدام البلاغة القديمة، وعندما نفشل فإننا نقول بأن الشعرية العربية باتت غامضة، وهي بالمناسبة تهمة كبيرة كانت منتشرة ضد الشعر الحديث في السبعينات، وربما لا زالت تكر وتعاد كالمسبحة في وقتنا الحالي، وتجر نحو الماضي كما تشير عبارة لما لا تقولون ما يفهم، إن المسألة لتشبه إلى حد بعيد أن نعطي الشخص أدوات العصر الحجري ونطلب منه أن يقوم بعملية دقيقة في قرنية العين، العملية ستنجح لا محالة، لكن عين المريض ستفقأ بالطبع، وذلك ناتج عن حجرية الأدوات التي نطلب منها التعامل مع أدق الكائنات التي تتضرر بشدة بسرعة غير عادية، وسنعرف كيف نتصرف مع العين حين نكون مطلعين على الأساليب الحديثة والمعاصرة للطب.

انفتاح الدائرة

فالتشبيه يحيل إلى الكناية، والكناية تفتح على الرمز، والرمز يفتح على القناع في الشعرية العربية الراهنة، والشعرية تعتبر التصوير الفني هو الركيزة الأولى للشعرية العربية، على الرغم من أنها تدرك ان الشعر هو مجموع مكوناته لا يرتكز على مكون واحد فقط بذاته، وهو يعتمد في القصيدة الحديثة (قصيدة النص الاجد) على تجاور وتشابك الفضاءات الإبداعية في القصيدة، ولنا أن نشير هنا إلى تقنيات ربط العلاقات المتباعدة بين عناصر الوجود، والثقافة هي التي تخلق تلك الطاقة الإيحائية للصورة في القصيدة، فعلى مستوى بنية التركيب تضل صورة (تنشر الشمس على حبل الغسيل المنتفض) مثلا هي التي تثير هنا عقلية المتلقي في محاولة تفهم العلاقات الغريبة بين فعل تنشر والشمس ثم علاقتهما مع حبل الغسيل المنتفض، إن محاولة تحصيل المعنى سوف تبوء بالفشل هنا على المستوى التداولي، لكن الصورة يمكن أن تقوم في ذهن المتلقي باعتبارها محمولا، ثم إن تلك الفضاءات الإبداعية عند ما تتجاور في البنية الكلية للقصيدة تخلق صورة كلية في ذهنية المتلقي، وقد بات طرفا فاعلا في العملية.

نرى انه قد آن الأوان للتوقف عن التعامل مع الشعرية العربية باعتبارها خطبة منبرية، ذات اتجاه واحد من مرسل إلى مستقبل غير فاعل، تعود على هز الرأس حين الاستماع، كما لا يجوز بنا الافتراض بأن فاعلية عقل المتلقي تقف عند حدود الفهم، وتقصر عن التصور، والإحاطة، والإدراك، والرؤية، والاستبطان، والتفكيك والتركيب، والسبر، والتأمل في الجمال، والاستمتاع به، والتخيل الفاعل والإيجابي .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى