«في بيت أمي» لمحمود درويش
*في بيت أمي* (1)
في بيت أُمِّي صورتي ترنو إليّولا تكفُّ عن السؤالِ:أأنت، يا ضيفي، أنا؟هل كنتَ في العشرين من عُمري،بلا نظَّارةٍ طبيةٍ،وبلا حقائب؟كان ثُقبٌ في جدار السور يكفيكي تعلِّمك النجومُ هواية التحديقفي الأبديِّ...(ما الأبديُّ؟ قُلتُ مخاطباً نفسي)ويا ضيفي... أأنتَ أنا كما كنا؟فمَن منا تنصَّل من ملامحِهِ؟أتذكُرُ حافرَ الفَرَس الحرونِ على جبينكَأم مسحت الجُرحَ بالمكياج كي تبدووسيمَ الشكل في الكاميرا؟أأنت أنا؟ أتذكُرُ قلبَكَ المثقوبَبالناي القديم وريشة العنقاء؟أم غيّرتَ قلبك عندما غيّرتَ دَربَكَ؟قلت: يا هذا، أنا هو أنتلكني قفزتُ عن الجدار لكي أرىماذا سيحدث لو رآني الغيبُ أقطِفُمن حدائقِهِ المُعلَّقة البنفسجَ باحترام...ربّما ألقى السلام، وقال لي:عُدْ سالماً...وقفزت عن هذا الجدار لكي أرىما لا يُرىوأقيسَ عُمْقَ الهاويةْ
ثانياً: نظرة عامة في معاني النص:-
يحمل العنوان - الذي هو عتبة النص الأولى - الكثير من المعاني، ومنها: مشاعر الحنين التي تمتلئ بها نفس الشاعر، الحنين إلى وطنه، الحنين إلى الأم، الحنين إلى مرابع الصِّبا والطفولة. فالعنوان يهيئ القارئ لما يريد الشاعر قوله في هذا النص.
وفي مشهد حواري يستعير تقنيات السرد، حيث الشخصيات (الشاعر وأناه والغيب)، والمكان ( بيت أمه)، و الزمان ( الحاضر الذي يسترجع من خلاله الماضي)، يفتتح الشاعر قصيدته بمحاورة ذاته، الممثلة بصورة قديمة له معلقة على حائط البيت.
في بيت أُمِّي صورتي ترنو إليّ
وحين يبدأ الشاعر قصيدته بشبه الجملة "في بيت أمي "، فإن تقديم شبه الجملة على المبتدأ يدل على أن بيت الأم هو النقطة المركزية في هذه الجملة. كما نجد في "صورتي "هذه المفردة المؤنثة دلالةً تتماهى في مفردة "أمي ".
وأول ما يقابل الشاعر في بيت أمه هو صورة قديمة له معلقة على الحائط، فالصورة هنا تمثل ماضي الشاعر، الذي تركه خلفه بعد سفره من بلده، ومن هنا يبدأ الحوار، فالصورة ترنو إلى الشاعر، وتتلقفه بمجموعة من الأسئلة.
ولا تكفُّ عن السؤالِ:
أأنت، يا ضيفي، أنا؟
الصورة تعتبر الشاعر ضيفا على بيت أمه، ونلمح من هذا الوصف إشارة عتاب وملام على الغياب الطويل. ولا تكتفي الصورة بوصف الشاعر بالضيف، ولا تتساءل فحسب، بل إنها (لا تكف عن السؤال): هل أنت ما زلت أنت ؟ أم تغيرت ؟ أما زلت أنت ذات الشخص الذي أنا صورته؟
كما يدل هذا السؤال على الحيرة التي تكتنف الشاعر، فشعوره بالغربة عن بيت أمه، الذي يمثل الوطن، يدل على هذه الحيرة التي جعلته يبحث عن ذاته القديمة ممثلة بالصورة، كي يجد إجابات عن هذه الأسئلة التي تدور في نفسه، وهو عندما ذهب بعيداً كان يريد أن ينظر من الخارج لتكون النظرة أشمل وأدق.
بعد ذلك نجد الشاعر يخاطبُ آخرَه الزمني بـ "كنتَ ( التاء منصوبة)، ولا يخاطب ذاته القريبة، ولو أرد ذلك لجاء بـ "كنتُ "[ التاء مرفوعة]:(2)
هل كنتَ في العشرين من عُمري،
بلانظَّارةٍ طبيةٍ،
وبلا حقائب؟
سؤال آخر ينهال على وجع الشاعر، حيث يعيدنا هذا السؤال إلى مرحلة عمرية، حيث كان يضجّ بالحياة والشباب، في ذلك العمر لم يكن الشاعر بحاجة إلى نظارة طبية، فالنظارة هنا ترمز إلى تقدم الشاعر في العمر من جهة، واستنزاف نظره في البحث والتحري. يصطدم الشاعر بهذه الفجوة التي تضعها الصورة أمامه، بين ما كان عليه، وما أصبح عليه بعد هذا العمر الطويل. هذه المساحة الزمنية الملأى بالألم والغربة، التي تتمثل في قوله "بلا حقائب "، فالحقيبة رمز للسفر والهجر والبعد والغربة. كذلك نقرأ المسافة الزمنية الواسعة في قوله "في العشرين من عمري "، فتخصيصه هنا لـ "عمري "من شأنه أن يحيلَ المتلقي إلى الوقوف عند "العمر الآنِي "الذي وصله الشاعر، وفي ذلك إشهارٌ للفارق الزمني بين الآن و العشرين من عمره.
إن نظرتُه إلى صورته العشرينية تنطوي على أمنيةِ شاعرٍ يطمح بعودة البهاء واجتياز دورة الحزن والاختلاف والاغتراب وصولاً إلى الأنا المحررة من النظارة الطبية ومن الحقائب. وفي المقطع التالي نجد عتاب الذات للذات، شعور بالشوق لتلك الأيام.
كان ثُقبٌ في جدار السور يكفي
كي تعلِّمك النجومُ هواية التحديق
في الأبديِّ...
تتضح في هذا المقطع لهجة العتاب، ويزداد صخبها، حيث تلوم الصورة الشاعر على الرحيل، تعاتبه على الاستعجال في السفر، كان هناك مساحة من أمل تكفي كي يبقى الشاعر صامداً في وطنه، وأن يرى المستقبل من وطنه. فالشاعر كما يتضح استعجل السفر، دون البقاء، والبحث عن بقعة ضوء "أمل "، يخطو من خلالها إلى عالمه، إلى أحلامه.
ومن خلال الانزياح هنا نرى كيف شخّص الشاعر الأبدية، حيث أصبح بالإمكان التحديق بها بواسطة النجوم، التي جاءت أيضا مشخَّصة في النص، إذ تعلم الناس كيفية التحديق في الأبدية.
ما الأبديُّ؟ قُلتُ مخاطباً نفسي
في جملة اعتراضية، يتساءل الشاعر في نفسه: ما الأبدي؟ سؤال يثير الدهشة في نفسه، سؤال يأخذه إلى متاهات الحيرة. ولعله يلمح إلى ذات السؤال الذي جعله يقفز من الجدار ليستكنه سر الوجود، فكأنه هنا يعبر عن شعوره وقد ذهب بسؤال وعاد بسؤال.
ويا ضيفي... أأنتَ أنا كما كنا؟
تكرار للسؤال الأول، تأكيد على بحث الشاعر عن ذاته التي تركها خلفه.
فمَن منا تنصَّل من ملامحِهِ؟
يأتي هذا السؤال زيادة في العتاب واللوم، يدل على تنكّر ذاته القديمة لهذا الغريب الضيف. سؤال يبحث عمن انسلخ من جلده، وترك وراءه ماضياً مليئاً بالذكريات.
أتذكُرُ حافرَ الفَرَس الحرونِ على جبينكَ
أم مسحت الجُرحَ بالمكياج كي تبدو
وسيمَ الشكل في الكاميرا؟
تنبش الصورة ماضي الشاعر، تذكره بذكريات لا يمكن أن تُنسى، كي تساعده في تذكر بعضا من ملامحه التي محتها رياح الغربة. فأثر الحافر في جبين الشاعر ذكرى من هذه الذكريات، تتساءل: هل بقي هذا الأثر أم مسحته كي تظهر وسيما أمام الكاميرات وأمام الناس. قسوة في اللوم والعتاب، تتهمه الصورة بأنه هو المسؤول عن انسلاخه عن ماضيه.وترمز الكاميرا هنا إلى الشهرة التي جعلته يتنكر لماضيه برأي الـ (أنا) الأخرى، التي ربما ترمز هنا إلى أهله وناسه.
أأنت أنا؟ أتذكُرُ قلبَكَ المثقوبَ
بالناي القديم وريشة العنقاء؟
ذكرى أخرى أعمق أثراُ من الأولى، تثيرها هذه الصورة الغاضبة من الشاعر، فإن كان الشاعر قد مسح أثر حافر الفرس، فإن ثقب القلب لا ينمحي، هذا الثقب في القلب أحدثه الناي القديم، وريشة العنقاء، وهو توظيف لأسطورتي الناي (3) و العنقاء (4)، والشاعر يشحن هذا المقطع برمزين دالين على مدلولات مختلفة، إذ أن الناي يرمز إلى الألم، والعنقاء أو طائر الفينيق كما يعرف عند اليونانيين، يرمز إلى التجدد والانبعاث من الذات، يدل على تجدد الحياة وعدم فنائها. فالشاعر في النص يبحث عن ذاته، تزدحم نفسه بمشاعر الألم والحزن. تلومه الصورة على انسلاخه من ذاته.
أم غيّرتَ قلبك عندما غيّرتَ دَربَكَ؟يصل الحوار إلى ذروة اللوم والعتاب، ذروة التنكّر لهذا الضيف الغريب.قلت: يا هذا، أنا هو أنتيرد الشاعر على هذه الاتهامات، ويؤكد انتماءه لذاته.لكني قفزتُ عن الجدار لكي أرىماذاسيحدث لو رآني الغيبُ أقطِفُمن حدائقِهِ المُعلَّقة البنفسجَ باحترام...
لقد قفز الشاعر من جدار الواقع الأليم الذي كان يحياه، لكي يرى ماذا يخبئ له الغيب خلف هذا الجدار، لكي يطعم طعم الحرية، فالبنفسج (5) زهرة تحوي لونا متماوجا يشي بالأمل والحياة، وقد استعمل الاثينيون هذه الزهرة لتعديل الغضب، ولجلب النوم والراحة، ولإراحة القلب وتقويته. ونلحظ هنا أن درويش جعل الغيب مشخصاً له حدائق معلقة متشحة بالبنفسج، ويتحدث، حيث يرد السلام.
يدافع الشاعر عن هذه الرحلة التي قام بها بحثاً عن الحرية والأمل والحياة، بعيداً عن الألم والحزن والغربة داخل جدران الوطن. ولم تكن انسلاخا عن الذات، ثم يعلن عن الغاية النهائية من الرحلة/ القصيدة ليقيس عمق الهاوية، وهي عالم الغيب والمجهول.
ثالثاً: اتجاهات النص:-
ينقسم النص إلى نسقين، الأول نسق العتاب ويستغرق معظم النص، ويمثل نسيجه العام. والنسق الثاني التبرير، وتتضمنه الأسطر الثمانية الأخيرة.
أما السطر الاعتراضي (ما الأبديُّ؟ قُلتُ مخاطباً نفسي)، فيقع – حسب المعنى العام – ضمن النسق الثاني، لأن سؤال (ما الأبدي) هو بالأصل أحد الأسباب التي دعته للقفز عن الجدار، لاستكناه مكنونات الكون.
وإذا ما قارنا النسقين نجد أن النسق الأول يحتل مساحة أكبر من النسق الثاني الخاص بالتبرير. ويعود ذلك إلى رغبة الشاعر في فسح المجال لماضيه ( الأهل والوطن) لبث لومه وعتابه، فهو عتاب المحب. ونستشف ذلك من إصغائه إلى كم من الأسئلة فالصورة لا تكف عن السؤال، مما يشير إلى أن الصورة لم تسأله هذه الأسئلة (الثمانية) الواردة في القصيدة فقط، بل هي عينة أو أمثلة على أسئلة الصورة، وهو من شدة إصغائه وفسحه المجال لم يقاطع تلك الأسئلة بل تساءل في نفسه "ما الأبدي؟ قلت مخاطباً نفسي".
ويوجه الشاعر الخطاب إلى الشخص الذي في الصورة من خلال ضمير المخاطب (قلت يا هذا أنا هو أنت)، وضمير المخاطب هذا مجرد إجراء فني، وبالتالي لا يخاطب الشاعر إلاّ نفسه، مختلقاً الموقف، ومختلقاً المخاطب.
وقد توزعت الضمائر في النص بين ضمير المتكلم (الصورة/ الأنا الآخر)، وضمير المخاطب (الشاعر/ الأنا)، ثم يتحول الشاعر من ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم في نهاية القصيدة، كما اقتضت طبيعة الحوار التي غلب عليها (الإنصات). وبالتالي فالمكان الذي قيلت فيه القصيدة هو الوطن في جو العودة بعد اغتراب، تحلق فيه الرمزية القائمة على تشخيص الصورة في صورة الأنا الآخر المتعلق بوطنه المرتبط بجذوره، فهو إذاً لم يتنكر لجذوره، ولم يتكبر حتى بعد أن أصبحت الكاميرات تلاحقه كالمشاهير.
رابعاً:معجم النص:-
يغلب على النص الحقل الدلالي الزمني، وتشير إليه المفردات الآتية (كنت/ العشرين/ عمري/ بلا نظارة طبية/ بلا حقائب/ كان/ الأبدي/ كنا/ أتذكر/ القديم/ غيرتَ/ قفزتُ)، ومن هذا الحقل الدلالي يتمثل عالم الشاعر المطلق الذي يتيح له – من خلال اللغة - الحركة الحرة بين الأزمان.
وقد جاءت لغة القصيدة بسيطة سلسة، مكثفة محملة بالدلالات، فقد حمّلها الشاعر الكثير من الرموز التي خدمت النص والفكرة التي يريد الشاعر إيصالها إلى المتلقي، فنجده يرمز بالأم، والصورة، والزمن، والجدار، والبنفسج وغيرها.
خامساً:النص بلاغياً:-
إن التراكيب التي وظفها درويش في النص تصب في بؤرة الروح القلقة؛ التي تريد الوصول إلى أهداف كبرى، ويجرها اليأس إلى الوراء أحياناً، كجمل الاستفهام على طرفي(أم المعادلة)..( أتذكُرُ حافر...أم نسيت، أتذكُرُ قلبَكَ...أم غيرت). كما نجد زيادة بارزة للجمل الفعلية على الجملة الخبرية، ويفسر ذلك طبيعة الحركة التي تنتظم حياة الشاعر، وانتقاله من حالة إلى أخرى، باحثاً، ثائراً، طامحاً. ويمكن حصر بالجمل الفعلية الواردة في النص وهي:
(ترنو إليَّ/ ولا تكفُّ عن السؤال/ كنت في العشرين/ كان ثقب...يكفي/ تعلمك النجوم/ تنصل عن ملامحه/ أتذكر حافر الفرس/ مسحت الجرح/ كي تبدو وسيم الشكل/ أتذكر قلبك المثقوب/ غيرت قلبك/ غيرت دربك/ قفزت عن الجدار/ أرى ما لا يرى/ أقيسعمق الهاوية).
والشاعر في هذا النص ليس حامل أخبار، وإنما هو مترجم أحاسيس وانفعالات، وليس مصوراً للواقع، وإنما مصور لرؤاه الخاصة، باعتماده أسلوب التجريد، حيث يجرد من نفسه شخصاً آخر يخاطبه ويستعيد من خلاله ذكرياته، إلى أن يفصح الشاعر عن ذاته ويعلن عن نفسه بواسطة ضمير المتكلم (أنا هو أنت).
كما استخدم الكناية في (قلبك المثقوب بالناي القديم – كناية عن الحزن)،و(كي تبدو وسيم الشكل في الكاميرا – كناية عن الشهرة والتنكر للماضي)، وهي انزياحات تضفي جمالية على النص، وتمنحه بعداً رمزياً.
سادساً: الثنائيات:-
تتحدد الحوارية منذ السطرين الأولين، وتكاد تنحصر بين الشاعر وأناه الآخر، لينطلق النص منها شاقاً طريقه بين الثنائيات التي يمكن إجمالها بما يأتي:
(1) ثنائية (الأنا) و (الأنا الآخر):
تبدأ هذه الثنائية في القصيدة من كلمة ( صورتـ – ي)، ثم تتنامى أبعاد هذه الثنائية لتشمل الماضي والحاضر، حيث نجد الماضي في (أتذكر، كنتَ..) والحاضر في (في بيت أمي، ضيفي). والاتهام والتبرير، إذ نجد الاتهام في (فمن منا تنصل عن ملامحه؟، أم مسحت الجرح كي تبدو وسيم الشكل؟، أم غيرت قلبك؟...)، ونلحظ التبرير في (لكني قفزت عن الجدار لكي أرى...).
(2) ثنائية الذاكرة والنسيان:
لهذه الثنائية (الضمنية) دلالاتها النفسية التي ساهمت في تأجيج العاطفة في النص، حين جعلت الشاعر في موضع الدفاع عن النفس، الذاكرة الواعية في مقابل الاتهام بالنسيان، فاختزال الشاعر إجابته بقوله: "أنا هو أنت لكني قفزتُ..."، يتضمن عبارة (لم أنسَ) في مقابل ( أتذكرُ) التي تتكرر في النص.
(3) ثنائية الحضور والغياب: من خلال سياق النص يمكننا القول أن الشاعر يقابل غيابه عن وطنه جسداً، بحضوره التام وعياً وقلباً، فقيمة أسلوب الاستفهام هنا ليست جمالية فحسب بل وظيفية كذلك، فقد افترض الشاعر الأسئلة ليجيب، ليبرر، ليدحض، ليريح المقابل، ليظهر وفاءه وتمسكه بجذوره.
(4) ثنائية التوتر والهدوء: إذا تأملنا القصيدة نجد حركتها تسير وفق المعادلة (هدوء - توتر – هدوء)، والذي يتضح من خلال المسار الدرامي (الجلوس في بيت الأم ويمكن هنا أن تشير لفظة ضيفي إلى الترحيب والهدوء، ثم التساؤلات والعتاب الذي يشير إلى التوتر، ثم الهدوء بعد أن يفرغ الآخر من عتابه ويجيب الأنا إجابة مقنعة).
سابعاً: المستوى الضمني:-
ويظهر من خلال تساؤله الخفي (ما الأبدي؟ قلت في نفسي)، في إشارة إلى مفهوم الخلود الذي يمثل أحد عوامل القلق، التي يحاول الشاعر أن يخفيها بالصمت كونها من المحرمات في مجتمعه. فالمتفحص المتأني والمفتت للحوار الذي يتحكم في النص، يظهره كمشهد اجتمعت فيه كل أسباب القلق من (عتاب/ غربة/ هاوية/ ربما ألقى السلام)، وشاهد عيان نطق بصفته شريكاً في العملية (أتذكر قلبك المثقوب بالناي الحزين؟).
ويظهر كذلك من خلال إشارته إلى أساطير الناي، والعنقاء، والبنفسج، تلك الأساطير التي تتوافق مع معانٍ في نفسه، في فكره، وعاطفته، كالحزن، والحنين، والحلم بالانبعاث، والبحث عن الراحة والسكينة.
كما يظهر في تصويره عودته الى وطنه بعد غياب طويل. ولكن "الطفل "أو "الفتى "لم يعد اليه. لقد عاد شيخا، أو أنه عاد الى "شيخ في المرآة". وهو تناص يصل إلى حد التطابق مع الشاعر العربي القديم، ابن زهر الاشبيلي: "إني نظرت الى المرآة أسألها، فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا / رأيت فيها شويخا لست أعرفه، وكنت أعهده من قبل ذاك فتى / فقلت أين الذي بالامس كان هنا. حتى ترحل عن هذا المكان متى؟ فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة، أتى الذي أنكرته مقلتاك أتى".
ولكن محمود درويش يخرق هذا التناص (أو التطابق) الشكلي، الى ما هو أعمق وأشد كثافة وقلقا وحيرة، فهو حين يخاطب (الآخر) في نفسه (الآخر الذي هو نفسه)، لا ينفصل عن نفسه، بقدر ما يفاجئها بالمعرفة المذهلة، أي أنه لا ينفصل عن هذا الآخر إلا ليزيد التحاما به. وبهذا المعنى نفهم تناصه المتكاثر في قصائده الأخيرة، ليس فقط مع شعراء آخرين، قدامى ومحدثين، وإنما أيضا مع كثير من قصائده الأخرى (سمعت قلبَ أمي، من قصيدة يختارني الإيقاع)، (كل قصيدة أم، من قصيدة وأنا وإن كنت الأخير). (6)
كما نلحظ تناغم المستوى العميق مع القضية الواقعية، حيث الهجرة والغربة والعودة والحيرة وفقدان الذات، فكل ذلك وارد في الواقع الفلسطيني، و السرد يؤثث المشهد بعناصر المكان والزمان والشخوص والحدث. (7)
والسؤال هنا حول أسباب ومبررات درويش لحدوث هذا التناص الواسع والكثير، على وجه التحديد، هل هو الموت الذي ينبش في الذاكرة، فيرفع من أعماقها كل نصوص الآخرين الى نص الذات؛ ليدمج الواحد في الكل والكل في الواحد، الى الحد الذي لا يعرف الشاعر نفسه فيه أنه هو نفسه، أو أنه آخر؟.
ثامناً: الموسيقى الشعرية:-
تتحدد هوية القصيدة العروضية في البحر الكامل بالتناوب بين التفعيلتين (مُتَفاعلن - مُتْفاعلن) على مدار القصيدة، وإذا كانت تفعيلة الكامل تدل على الثبات، ولا سيما عند تسكينها (مُتْفاعلن)، فيمكن أن نمزج بين إيقاع التفعيلة الثابت مع الهدوء الذي يقابل به درويش أناه الآخر، لنخلص إلى أن استخدام الشاعر هذه التفعيلة ما هوالا (محاولة) للثبات من خلال اللغة التي طالما كانت سلاح درويش في المواجهة.
أما قافية القصيدة فمفتوحة، وهي مناسبة للنهاية المفتوحة للقصيدة، إذ اختتمها درويش بإجابة تحتاج بدورها إلى سؤال (هل نجح في قياس عمق الهاوية؟). ومن جانب آخر فإن هذه القصيدة التي تفتقد إلى القافية تناسب البنية السردية المتواصلة في أسلوب النص، حيث يسلمنا السطر إلى الذي بعده، في سلسلة متصلة إلى نهاية القصيدة.
تاسعاً: الصورة الشعرية:-
وترد صور في القصيدة داعمة وموافقة لمعانٍ ظاهرة أوخافية في النص، ومنها صورة (الفرس الحرون)، التي ترفض الانقياد، وبالتالي فإنها قد تسببت بجرح للشاعر عندما حاول سوقها، وتتوافق هذه الصورة مع الركود الذي يصر عليه (أناه الآخر)، ويصر هو على قيادة نفسه إلى المدى البعيد، فهو في حالة تجاذب مع نفسه، كتجاذب الفرس الحرون مع سائسها.
والصورة الشعرية في النص عموماً تقع بين الخيال والواقع، فهي صورة خيالية تشير إلى واقع ذاتي لدى الشاعر أو في مجتمعه، ففي قوله: "كان ثقباً في جدار السور يكفي.."، صورة لمجتمعه الذي ظل يراقب المستقبل بطريقة حالمة عكس عالم الحركة المتقدم، وقفزه عن الجدار، صورة لشخصيته المتطلعة الطامحة.
كما اعتمد على الألوان في صوره (النجوم المرتبطة بالبريق اللامع/ الجرح المرتبط باللون الأحمر/ المكياج الذي يشير إلى طيف من الألوان/ البنفسج بلونه الهاديء)، ودلالاتها بالتسلسل (الهدوء والتأمل/العنف والحركة/ حرية الحركة/ الهدوء)، فتكون الصورة بالمحصلة متوافقة مع الحالة النفسية القلقة المتحصلة من مجمل السياق في النص.
الهوامش:
النص مأخوذ من موقع (مؤسسة محمود درويش).
قراءة في ديوان: لا تعتذر عما فعلتَ لمحمود درويش، نصر جميل شعث،صحيفة إيلاف الإلكترونية.
أسطورة الناي: لقد احتل الناي دوره في كثير من أساطير المصريين القدامى ومن أجمل الاساطير التي سجلتها إحدى برديات الدولة القديمة في طيبة، الاسطورة التي تحكي كيف جلس الراعي العاشق الاخرس على شاطئ النيل في إحدى الليالي القمرية يبكي حبه ويشكو إلى آلهة النيل وقد حرمته الحياة نعمة النطق لأن لسانه عاجز عن التعبير عما يريد ان يقوله ليعبر به عن حبه للأميرة ثامبو فخرجت له آلهة الحب هاتور من بين الشعاع الفضي الذي يكسو صفحة الماء وقطعت عوداً من اعواد الغاب الذي يحرس شاطئ النهر واعطته له وطلبت منه أن ينفخ فيه بأحاسيس قلبه فتساقطت دموعه الحارة على الناي فحفرت فيها الثقوب التي خرجت منها اول الحان الحب فقد جمعه الناي بحبيبته التي سمعت نداء قلبه عن طريق الحان نايه
أسطورة العنقاء: كل ألف عام، تريد العنقاء أن تولد ثانية، فتترك موطنها وتسعى صوب فينيقيا وتختار نخلة شاهقة العلو لها قمة تصل إلى السماء، وتبني لها عشاً. بعد ذلك تموت في النار، ومن رمادها يخرج مخلوق جديد.. دودة لها لون كاللبن تتحول إلى شرنقة، وتخرج من هذه الشرنقة عنقاء جديدة تطير عائدة إلى موطنها الأصلي، وتحمل كل بقايا جسدها القديم إلى مذبح الشمس في هليوبوليس بمصر، ويحيي شعب مصر هذا الطائر العجيب، قبل أن يعود لبلده في الشرق. هذه هي أسطورة العنقاء كما ذكرها المؤرخ هيرودوت، واختلفت الروايات التي تسرد هذه الأسطورة، والعنقاء أو الفينكس هو طائر طويل العنق لذا سماه العرب "عنقاء "أما كلمة الفينكس فهي يونانية الأصل وتعني نوعا معينا من النخيل، وبعض الروايات ترجع تسمية الطائر الأسطوري إلى مدينة فينيقية، حيث أن المصريين القدماء اخذوا الأسطورة عنهم فسموا الطائر باسم المدينة. وقد أشارت بعض الروايات إلى أن عمر الطائر خمسمائة عام، حيث يعيش سعيدا إلى أن حان وقت التغيير والتجديد، حينها وبدون تردد يتجه مباشرة إلى معبد إله الشمس (رع) في مدينة هليوبوليس، وفي هيكل رَعْ، ينتصب الفينكس أو العنقاء رافعًا جناحيه إلى أعلي. ثم يصفِّق بهما تصفيقًا حادًّا. وما هي إلاَّ لمحة حتى يلتهب الجناحان فيبدوان وكأنهما مروحة من نار. ومن وسط الرماد الذي يتخلف يخرج طائر جديد فائق الشبه بالقديم يعود من فوره لمكانه الأصلي في بلد الشرق البعيد.
أسطورة زهرة البنفسج (من كتاب لغة الأزهار الصادر في فرنسا عام 1818م): الزهور لم تكن الا صبايا قتلهن الحب هذا ما قالته الاساطير وقالوا قديما لو كان لديك قرشان فاشتري بأحدهما رغيفا وبالاخر زهرة. اسطورة زهرة البنفسج (violet flower)تقول الاسطورة الانجليزية ان ملك الثلج شعر بالوحدة في قصره الجليدي فبعث جنوده للبحث عن فتاة جميلة تدخل السعاده الى قصره فوجد الجنود فتاه جميلة اسمها فيوليت فأحضروها له فوقع في حبها وتحول بفعلها الى رجل طيب فطلبت منه ذات مرة الذهاب الى اهلها فسمح لها على شرط ان تقوم بهذه الزيارة في فصل الربيع شرط ان تكون على شكل زهرة بنفسج ثم تعود اليه في الشتاء وهكذا تحولت الصبية الى زهرة حملت اسمها.
محمود درويش في ديوانه الجديد: «لا تعتذر عما فعلت»تناص مع النفس والآخر وعذاب في شهوة الايقاع، موقع الشروق التونسي.
التناص وظلاله الثقافية.. مقاربة تطبيقية في قصيدة محمود درويش "أبد الصبار"، فداء العايدي، موقع رسائل الشعر.