في بيت تشيكوف ـ روسيا 1973
سافر محمود البدوى إلى موسكو فى صميم الشتاء " فى العاشر من شهر يناير 1973 " فى رحلة ثقافية بصحبة الشاعرين محمود حسن اسماعيل وصلاح عبد الصبور والأديب حلمى مراد ، وفى قلبه فرحة ، وفى نفسه لهفة إلى زيارة مقر العباقرة العظام .. ديستوفسكى .. تولستوى .. جوركى .. تشيكوف .. جوجول ..
يوشكين .. الكسندر كوبرين .. جارشن .. هؤلاء القدامى الأفذاذ .. الذين ظلوا صامدين فى وجه كل أعاصير السياسة والتحول .. ولم يستطع أن يطمس نورهم لا قوى ولا ضعيف .. وهؤلاء هم الذين علموا كتاب العالم أجمع كيف تكتب القصة والرواية .. وما من أحد من الأفذاذ إلا ودان لهم بالفضل .. كتبوا للحياة ومن الحياة .. وعاشت قصصهم ما دامت الحياة تجرى فى شرايين الوجود ..
كانت لهفة البدوى وفرحته لا حد لها .. وهو يضع قدمه فى أرض المطار .. ونسى البرودة الشديدة .. والثلج الساقط .. والشىء الرهيب الذى يجز رقبتك كحد السيف القاطع إن لم تكن قد تلفعت وغطيت الرأس والعنق والأذنين بالصوف السميك ..نسى هذا كله لأنه بعد ساعات قليلة سيكون فى شارع غوركى ومنـزل تشيكوف ..
غوركى الذى علم نفسه وخرج من مدرسته وقلب الحياة كأعظم أستاذ وأعظم معلم ..
وتشيكوف الذى زار جزيرة سخالين .. ليكون قريبا جدا من نبض الحياة .. ونبض الواقع .. وليكون أنبغ كاتب قصة قصيرة فى هذا العالم ..
ونزل البدوى فى أكبر الفنادق بالمدينة .. وأصبح فى نظره مدينة عامرة فهو من تسعة طوابق .. وضخامته لاحد لها .. واسمه يطابق المقاطعة التى ينتمى اليها .. وأخذ الدور التاسع .. ليقع نظره فى سهولة على أنوار المدينة فى الليل .. وعلى الثلج الساقط .. وعلى الحركة فى الشارع .. حتى إذا حبسه البرد والثلج عن الخروج من الفندق .. يجد فى هذا المنظر المتجمع ما يأتنس به ويخفف عنه وحدته ..
وتجول فى شوارع موسكو الواسعة بحرية وانطلاق ، وأحس بالبهجة والراحة ، فلا زحام ولاشبه زحام حتى فى أشد ساعات العمل فى النهار ويحس وهو يمشى بين ربوعها كأنه يتحرك فى ضاحية قليلة السكان ، فموسكو أعظم مدينة روسية ، بل هى أجمل وأنظف مدينة فى أوربا ، وتحس مع التنافر فى مبانيها وعدم التناسق فى عماراتها ، أنها قامت لتكون هكذا من طراز نادر .
وفى الصباح المبكر .. والثلوج تتساقط إتجه البدوى فى نشاط إلى منـزل تشيكوف وكان منشرح الصدر لتحقق أمنية عزيزة عليه .
والبيت يقع فى شارع جانبى ضيق .. ودخل من بابه الصغير والثلج على العتبة إلى القاعة الخارجية وأرضها من الخشب ، فأحس بأنفاس تشيكوف العظيم وأقدامه فى هذه القاعة وهو يديرعينيه بنظرة إنسانية وخطوة متأنية .. ثم يدلف إلى حجرته الخاصة حيث يستقبل الزوار والمرضى ..
فقد كان يكتب على مائدة صغيرة فى غرفة الكشف على المرضى .. وفى هذه الغرفةكان ينام أيضا .. وقد ظل بيته فى موسكو محتفظا بكل دقائقه الصغيرة وطابعه .. كأن صاحبه لايزال حيا ويتنفس فيه ..
القلم الذى كان يكتب به روائعه كما يكتب به روشتات المرضى .. ظـل موضوعا فى مكانه من المكتب ..
وفى نهار طلعت شمسه .. توجه البدوى إلى مكتبـة كبيرة ليشترى صـورا " لتشيكوف " وراعه النظام والتنسيق ورخص أسعار الكتب والزحام الشديد فى المكتبة .
والإنسان الذى يجيد ثلاث لغات قد يعتز بنفسه ويعتز ، ولكنه عندما يذهب إلى روسيا يشعر بالنقص الشديد ، ويشعر أن الحياة العصرية تقتضيه بأن يجيد سبع لغات على الأقل ، والمرء يقف حائرا فى بهو الفندق وهو يسمع لغات كثيرة لايعرفها ولا يفهمها ويشعر بالأسف .. وقد تكون الأسبانية حيث عاش العرب وأوجدوا حضارة عظيمة .
وفى ليننجراد شاهد القصر الذى شيدته كاترينا الثانية ، ورأى فيه ما عملته ريشة الفنانين العظام فى كل عصور التاريخ من ميكائيل انجلو إلى بوكاسيو .
وزار مقابر الأدباء والفنانين العظام .. ديستوفسكى وتشايكوفسكى وزار بيت بوشكين .
وتجول فى متحف الأرميتاج ورأى فيه أجمل ما صنـعه الرسامون فى العـالم ، ولم يشبع من النظر الى اللوحات ، فكان مذهولا وهو واقف أمامها من روعة الفن وقدرة الإنسان على التعبير . ففى قاعاته عمل كامل لروفائيل وأكبر مجموعة فى العالم لرسوم رامبرانت وأجمل لوحاته وأشهرها " عودة الابن الضال" ." ذكريات محمود البدوى التى نشرها بمجلة الثقافة المصرية تحت عنوان " فى بيت تشيكوف " عدد مارس1974 وبعنوان " فى منـزل بوشكين "عدد أبريل 1974 و مقدمة كتاب قصص من روسيا لمحمود البدوى .. تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى .. دراسة الدكتور عبد الحميد إبراهيم .. الناشر مكتبة مصر 2003 "
أحدثت هذه الزيارة فى داخل البدوى هزة عميقة ، وأثر أهلها فى عقله ووجدانه ، وتحركت مشاعره ، ووجد نفسه فى حالة من الانفعال ، ويزخر رأسه بمئات الأحداث الصغيرة والكبيرة ، فأخرج الورق والقلم ، وكتب أربع قصص نشرت بالمجلات المصرية وأعيد نشرها فى كتاب " قصص من روسيا "
وهى مرتبة على النحو الآتى :
- قصة «القطار الأزرق» ونشرت فى أكتوبر 1973 بمجلة الثقافة .
- قصة «عودة الابن الضال» ونشرت فى 29|4|1974 بمجلة روز اليوسف .
- قصة «الجعران» ونشرت فى يونيه 1974 بمجلة الثقافة .
- قصة «الرنين» ونشرت فى 3|4|1976 بمجلة الإذاعة والتليفزيون .
وسننقل اليكم من هذا الكتاب أول قصة كتبها ، ليعرف الناس البلد التى أثرت فى عقل ووجدان الفنان " البدوى "
القطار الأزرق
بقلم محمود البدوى
التقيت " بنادية " لأول مرة بفندق أوكرانيا فى مدينة موسكو ، وكانت واقفة فى الصف أمام عاملة المقصف ، وتحاول أن تجعلها تفهم بالإشارة وبكـل وسائل التعبير ما تريده من أصناف الطعام ولم تنفع هذه الوسيلة ، فتلفتت نادية إلى ناحيتى وأشارت إلى الأطباق التى أمامى على المائدة لتأتى لها العاملة بمثلها تماما ..
ولما تناولت الطعام من فوق الرف واستدارت ، بحثت بعينيها عن مائدة خالية ، فلما لم تجد ظهر عليها الضيق ، فلوحت لها بيدى لتتفضل وتجلس إلى مائدتى ، فجلست تأكل افطارها صامتة بعد أن عبرت لى عن شكرها بهزة خفيفة من رأسها .
وتصادف بعد ذلك ركوبنا المصعد معا وهو صاعد ونازل فى طوابق الفندق ، وكانت تفتح عينيها السوداوين على سعتهما وتحدق فى وجهى كمـا كنت أفعل مثلها فى صمت دون أن نتبادل كلمة واحدة .
وتقابلنا ساعة الظهر فى " الجوم " وكانت مع رفيقة لها فى مثل أناقتها وشبابها وحيويتها ، ومع أن رفيقتها بدت لى روسية خالصة .. ولكنهما تاهتا مثلى فى طرقات المتجر ، فقد كنا نلف جميعا وندور فى هذا التيه دون أن نهتدى إلى باب الخروج .. وكلما تقابلنا ابتسمنا ابتسامة تجمع بين المرارة والعجز ..!
وكنت كلما رأيتها نسيت ما أنا بسبيله .. وأشعر بأنى سأظل على اتصال دائم بها كلما تحركت فى قلب المدينة الكبيرة ، وأن صورتها لن تبرح خيالى أبدا ، وبدا لى جليا أنها تدعونى ولا تستطيع التعبير عن ذلك بالإشارة ولا بالكلام .
وفى صباح يوم وقفت على باب المصعد فى الدور التاسع كعادتى لأنزل إلى الطابق الأرضى وكان السهم يشير بأنه نازل .. فضغطت على النور ، ولما وصل طابقى وفتح الباب ، وجدته ممتلئا كله بالنساء من المضيفات اليابانيـات وغيرهن .. وليس فيه موضع لى .. فبقيت مكانى .. وأشرت للعاملة فى أسف .. بأن تواصل طريقها فى النـزول .. ولكنها لم تفعل وظل الباب مفتوحا .. وسمعت صوت نادية من الداخل يردد مع صوت العاملة :
– تعال come .. بالإنجليزية ..
فدخلت وسط هؤلاء الفتيات وأنا شاعر بالخجل ، وظللن يضحكن ويزقزقن كالعصافير حتى وصلنا إلى الأرض ..
وخرجت من الفندق بصحبتها فى هذه المرة ، وأصبحنا نتجول فى المدينة معا ، وسرنى أنها تجيد الإنجليزية ، فقد تعبت من الحديث بالإشارة وأنها ذاهبة إلى " ليننجراد " مثلى .
قالت لى أنها " فنلندية " ومسلمة وتشتغل مدرسة علم نفس وجاءت إلى روسيا فى عطلة دراسية لتـزور صديقة لها فى طشقند .. بدعوة منها .. وبعد أن توافر لها المال ..
وحدثتها بأننى التقيت منذ أكثر من ثلاثين سنة ، على التحقيق ، بسيدة "فنلندية " مسلمة وشابة مثلها .. على ظهر باخرة رومانية .. ونزلنا فى "استانبول " .. وقضينا ليلة جميلة على ضفاف البسفور ..
وسافرت هى إلى " فنلندا " .. على أن تكتب لى .. وأعطيتها عنوانى فى كونستنـزا ، وبودابست ، وفينا ..
ولكن بعد وصولى بيومين اشتعلت الحرب فجأة فى أوربا عام 1939 ، فعدت سريعا إلى مصر ، وانقطع بيننا كل اتصال .. ولا شك أنها قدرت موتى كما قدرت موتها ..
وقالت " نادية " بعذوبة :
– قد يكون تقديرك مخطئا ..
– وقد يكون صائبا .. وقد تذكرت هذه السيدة الآن بحنان وشوق عندما رأيتك ..
– الأنى فنلندية ومسلمة مثلها ..؟
– أجل .. فكنا نتحدث معا بالإنجليزية أيضا كما نتحدث الآن فى طلاقة وود ..
وكنت أبحث عن أفلام " للكاميرا " فاضطررنا أن نذهب إلى شارع "جوركى " .. وكان البرد شديدا والثلوج تتساقط بغزارة ، فأشفقت عليها فى هذا الجو ونحن نعبر الشارع إلى المتجر ..
ثم خرجنا لنتغدى .. واتفقنا فى ساعة الغداء على أن نسافر فى الغد إلى "ليننجراد " ..
وقضينا نهار السفر معا نتسوق بعض الأشياء ونودع معالم المدينة الجميلة..
وكان القطار المسافر إلى " ليننجراد " يتحرك فى تمام الساعة الثامنة مساء .. فوصلنا المحطة والثلج يتساقط والبرودة تحت الصفر ب 25 درجة .. وكانت " نادية " متدثرة بمعطف سميك وتغطى رأسها بقبعة زرقاء وفى يديها القفاز الصوفى ، ومع ذلك خفت عليها من هذا الجو الثلجى .
ووقفنا على الرصيف نرتعش من البرد ، وكانت المحطة خالية من الركاب تقريبا .. لأننا قدمنا قبل موعد السفر بمدة طويلة .
وأشفقت علينا موظفة مسنة فى المحطة ، فأدخلتنا قاعة انتظار الضيوف ، فوجدنا قاعة فسيحة مكيفة ، وشعرنا على التو بالدفء والراحة ..
وخلعت معطفى وغطاء الرأس والكوفية الصوف ، وخلعت " نادية " معطفها وقبعتها وقفازها ، وبدا شعرها الأسود مرسلا متموجا شديد اللمعان ، وتألقت عيناها بعد أن خلعت القبعة وزاد ما فيهما من صفاء ورقة ، وأسفرت عن فستان كحلى من الصوف جيد النسيج محكم التفصيل ، أضـفى سحرا جديدا على بشرة فى لون المرمر ونعومته ، وزاد الوجه نضارة وحسنا ..
وقدرت سنها بما لايزيد على الثلاثين سنة ، فقد بدت فى الجمال الآسر للمرأة عندما يكتمل عقلها وجسمها معا .. ويزداد بريق عينيها .. وتتفجر أنوثة وحيوية وهى تأخذ من الحياة قبل أن تولى عنها ..
وقد أخذتنا السيدة الروسية المكلفة بغرفة الضيوف فى المحطة على اعتبار أننا صديقان أو زوجان .. رغم ما بيننا من فارق كبير فى السن ، فقد كنت أكبر من " نادية " بعشرين عاما على الأقل .. وقدمت لنا الشاى الساخن وما عندها من مجلات روسية باللغة الإنجليزية ..
ولما أخرجت لها " نادية " علبة من الحلوى فاض وجه العجوز بالبشر وتناولت قطعة صغيرة من الشيكولاته وردت الباقى وهى تردد الشكر بالروسية التى لانعرفها ..
ورأيت فى هذه السيدة من الحنان والأمومة مثل ما شاهدته تماما فى العجوز الأخرى التى كانت تشرح لنا باستفاضة ودقة كل طباع " تشيكوف" وأحواله عندما زرنا بيته فى هذا الصباح فى قلب موسكو ، حتى تصورت أنها هى التى ربته على صدرها ..وهو جيل عطوف صهرته الحياة وأظهرت فيه أجمل صفاته ..
كانت العجوز فى المحطة لاتفتأ تسألنا بالإشارة إن كنا فى حاجة إلى شىء آخر غير الشاى ، فشكرناها بحرارة ، وقلنا لها بالإشارة أيضا أننا أعددنا لليل الطويل فى القطار كل ما نحتاجه من طعام ..
وكانت تنظر الينا فى تمعن وتطيل النظر وتحاول أن تقول شيئا لاتستطيع التعبير عنه بالإشارة ، شيئا كان يدور فى رأسها ويحتل مراكز تفكيرها ..
وقبل موعد القطار بربع ساعة ، ودعنا السيدة العجوز وخرجنا إلى رصيف المحطة والثلج لايزال يتساقط وكل منا يحمل حقيبته فى يده ..
ومررنا على صف طويل من العربات ، أنه قطار طويل ، بل أطول قطار رأيته فى حياتى .. قطار أزرق فاخر .. وعلى باب كل عربة وقفت الكمسارية بردائها الأزرق الجميل وكأنها قطعة من جماله ، وقفت ساكنة متهيئة للرحلة الطويلة .
وكانت عربتنا هى الرابعة وراء القاطرة .. وحيتنا الكمسارية على البـاب ودخلنا فى طرقة العربة المفروشة بالسجاد إلى مقصورتنا .
ووضعت حقيبة " نادية " وحقيبتى فى الداخل فى المكان المخصص للحقائب وخرجت من المقصورة أتطلع من النافذة وأعطى الفرصة " لنادية " لتخلع معطفها وقبعتها وكل ما كانت تتقى به البرد فى خارج القطار .
******
وقفت أرقب الرصيف من النافذة وأنوار المصابيح الزاهية قد غشاها الثلج المتساقط فأصبحت شهباء تريح العين ، وبدا شىء أشبه بالستارة الزرقاء قد انسدل فوق كل ما يحيط بنا من أبنية وأشجار ، وكان المسافرون الذين يتحركون على الرصيف قلة من السائحين والروس وبعض الضباط بملابسهم الرسمية ..
وبدا السكون واضحا ، ولم أسمع صفيرا للقطارات ولا زعيقا ولا ضجة ، ورأيت قطارات أخرى وكلها زرقاء واقفة حذاء الأرصفة تنتظر من يأذن لها بالمسير ..
وأحسست " بنادية " تقف بجانبى منشرحة الصدر ، وقد غيرت فستانها وبدت كأنها تلبس رداء أعد للسفر الطويل ، وأخـذنا نتحدث ونتطلع إلى بعيد ، وكان رأسى يشتعل بالليلة " الحالمة " ..
وظللنا نرقب الرصيف بعيون ثابتة بعد أن أزحنا الستارة كلها ، وكانت الحركة قليلة ومن يظهر من حين إلى حين من الركاب يمضى سريعا ويدخل فى جوف العربة الدافىء ومعظمهم أزواج ، رجل وامرأة فمن الذى يقضى اثنتى عشرة ساعة فى القطار وحده دون رفيق أو أنيس ..
وشعرنا بأن القطار بدأ يتحرك ببطء وينسحب على الرصيف ، وظلت عيوننا معلقة بأنوار المدينة المتألقة وبالثلج المتساقط على الأعمدة وأسلاك البرق وفروع الأشجار . وشاهدنا من بعيد شيخا كبيرا يمشى بتؤدة فى طريق صاعد وهو يطلع وسط الثلوج ، ورغم الجهد والتعب البادين على ملامحه وجسمه ، فإنه رفض أن تعينه امرأة كانت بجانبه ..
وقالت نادية وقد تأثرت من منظره :
– إنه يتحرك بإرادته وحده ..
فقلت معقبا :
– ولعله حارب وانتصر بإرادته أيضا .. وأحسبه فقد ساقه فى الحرب .. ولكنه ظل صلدا ..
وسلطت الكاميرا عليه ..
فسألت نادية :
– هل ستظهر الصورة ..؟
– أرجو هذا ..
وخيل إلىّ ونحن فى الممشى أنه لا يوجد ركاب سوانا فى هذه العربة . وكانت الكمسارية واقفة هناك على الجانب الأيمن من المدخل ، ثم تحركت وأخذت تنـزل ستائر النوافذ الخارجية كلها ، ودخلنا المقصورة وردت نادية الباب .. وحمدت الله على أن السريرين متجاوران ، فلا داعى لأن يصعد أحدنا على سلم وينام فوق سرير الآخر ..
وسحبت " نادية " الطاولة التى بين السريرين وأخذت تخرج من حقيبة اليد بعض الأشياء وتضعها على الطاولة ..
وقالت وهى تدور بعينيها فى جوانب المقصورة :
– جميلة ..؟!
– جدا .. اتفضلين هذا الجانب ، أم تحبين مكانى ..؟
– شكرا أننى مستريحة هنا ..
وأخذت تجرى المشط على شعرها الأسود الناعم .. وترسله إلى الوراء وهى ترمقنى بعينيها الواسعتين بنفس النظرة الثابتة المفكرة التى كانت فى موسكو ..
وأخرجت المجلات الإنجليزية والكتب لتتسلى بها فى القطار إن طابت لها القراءة ..
ونهضت وفتحت الباب وأنا أقول " لنادية " :
– سأطلب من الكمسارية قدحا من الشاى ، ألا ترغبين ..؟
– أرغب .. ولكن الشاى يقدم عادة فى الصباح ..
– ولكنى سأحاول ..
وكانت " الكمسارية " جالسة فى مقصورتها بكامل زيها الرسمى ، فطلبت الشاى بالإنجليزية ، وسرنى أنها تعرف هذه اللغة .. فنهضت على الفور لتصنعه ..
وحملت لنا قدحين كبيرين من الشاى ممزوجين بالسكر على عكس الشاى الذى يشرب فى قطارات الصين ، وحيت نادية وهشت وبشت فى وجهها . ودلتنى وهى تنسحب على عربة الطعام .. فشكرناها وكان معنا طعامنا .. تسوقناه من بقالة فى موسكو .. خبز وزبد ولحم بقر صنعت منه " نادية " شطائر شهية ، سنأكل منها كلما أحسسنا بالجوع ، دون أن نتقيد بمواعيد الطعام فى القطار ..
وأخذنا نتحدث ، ونتطلع من النافذة فى جلستنا المريحة عن الليل فى روسيا فى القرى والحقول والمصانع والمدن الصغيرة والكبيرة .. وكان القطـار يمضى كالسهم ، ولكن لانحس بسرعته .
وعجبت لإحساسى نحو " نادية " .. فبعد ساعة كاملة من الانفراد بها فى مقصورة ضيقة مغلقة الباب .. لم المس كتفها ولا خدها ولاشعرها .. ولم أشعر بالرغبة فى ذلك ولم أبادلها كلمة غزل واحدة .. أنا الذى كنت أتحرق شوقا إلى السائحات فى موسكو ، وأشتهى مضيفات الطائرات النازلات فى الفنادق وعاملات المصاعد ، وكل شابة التقى بها وأجد عندها الرغبة لمبادلتى النظر والحديث ..
كنت أتحرق شوقا لأن أضم كل أنثى تستجيب لرغبتى .. ولما جاءت الأنثى وأصبحت على قيد ذراع منى والباب مغلق والسكون يخيم ، وكل شىء يهيىء النفس لإشعال العواطف .. لقيت نفسى باردا ميت الإحسـاس .. ميت العواطف .. لا أحس بأى إحساس مما يشعر به الرجل نحو المرأة عندما يخلو بها .. وتدفقت بدلها عواطف جديدة فى كيانى كله .. أحسست بهـا لأول مرة .. عواطف من الحنان الخالص والعطف الشديد ..
فلما قالت لى بأنها تشعر بصداع خفيف ، وضعت أمامها كل مـا معى من أقراص ومسكنات للصداع .. وكانت الحرارة فى المقصورة قد زادت فخرجت وتركتها لتخفف من ملابسها وتفعل كل ما تحب أن تغيره الأنثى من ملابسها وهى وحدها ولا تضايقها نظرات الرجل ..
وعجبت أنا الرجل الأعزب الذى لم يتزوج قط ويعاشر المرأة ليصورها .. كمصور للصحف .. ويبيع صورتها دون اعتبار لصاحبة الصورة .. أنا بكل صفاتى أصبحت فجأة أحترم هذه السيدة وأجلها ، ولم أفكر قط فى أن آخذ لها صورة ..
وكانت تقرأ خواطرى فى موسكو وتقول لى بعذوبة :
– لماذا لاتأخذ لى صورة ..؟
وكنت أجيبها :
– سأصورك صورة تذكارية عندما نفترق فى " ليننجراد " أما هنا فلا ..
– هل أنت بخيل ..؟
– جدا ..!
– إذا سأشترى لك الفيلم ..!
أنها تخلق فى كل كلمة من كلمات الحوار جمالا بلاغيا كان يهز مشـاعرى ، وضحكت .. وكانت مسالك تفكيرى تطرد .. وكنت أخاف من شىء لا أعرفه ولذلك لم أحاول تصويرها قط . ولم أفكر فيه مع أن صورتها مغرية .. ومثيرة فى جريدتى .. شابة فنلندية مسلمة رائعة الحسن بكل الملامح الشرقية فى العينين والخدين والأنف والفم والجبين والشفة الرقيقة الحالمة ..أى كسب وأى إغراء بعد هذا .. ولكن كل حلقات تفكيرى كمصور كانت تقف عندها وتصدم بشىء أعزه فيها ولا أعرف مكنونه .
******
كانت " نادية " قد زارت ليننجراد .. قبل مجيئها إلى موسكو وطشقند . لأن ليننجراد أقرب المدن الروسية إلى فنلندا ، ولذلك أخذت تحدثنى عن ليننجراد وما سنشاهده فيها من جمال وبهجة .
وقالت برقة :
– وسنقضى يوما بطوله فى " الأرميتاج " ..
– يوما بطوله ..؟
– واليوم لايكفى .. ألست مصورا ؟ سترى بعينيك أنه لايكفى .. إن فيه أجمل ما صنعه الرسامون فى العالم أجمع ..
وتناولت لفافة الطعام وأخذنا نأكل على مهل ، وكان فى الكيس ثلاث تفاحات كبيرة .. فأكل كل منا واحدة ، واقترحت نادية أن تعطى الثالثة لكمسارية العربة ، وخرجت من المقصورة لتعطيها التفاحة .
وعادت الكمسارية إلينا تشكر ومعها دفتر ، وطلبت أن نكتب لها كلمة تذكارية ، وكتبت نادية كلمة بالإنجليزية أعجبتنى جدا ، ووقعت تحتها باسمها ووقعت أنا باسمى " ابراهيم " بالحروف اللاتينية الكبيرة .
وأرادت الكمسارية أن تعرف منطوق الاسمين فكررته لها نادية .. نادية .. ابراهيم .. والكمسارية تحاول نطق الاسمين وراءها بلكنة وأنا أضحك ..
وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة بعد أن فرغنا من العشاء .. واقترحت أن نخرج إلى الطرقة ونتمشى قليلا حتى لا نصاب بالخمول ..
فخرجنا وواصلنا السير إلى العربات الأخرى .. وكانت معظم أبواب المقصورات مغلقة ، وقليل من الركاب كان يقف مثلنا فى الممشى ..
ولكن الوقفة بجوار النافذة والقطار يمضى ويطوى فى الليل كل شىء وراءه .. كان لها فعل السحر فى نفس " نادية " فقد تفتحت نفسها وتطلق وجهها وأخذت تدفع شفتها السفلى إلى جانب .. وتفتح عينيها السوداوين إلى ما وراء الحجب ..
وشعرت أنه القطار الذى يطوى الزمن .. ولم أعد فى فترة الأحلام أشعر بشىء .. ثم تنبهت على يد " نادية " على كتفى ولم أتحرك من مكانى حتى لا أجرح شعورها .. إن السعادة حالة نفسية ، وقد أحسست بها فى هذه الساعة إلى أقصى مدى .. وأحسست بعد ذلك بأنها وضعت خدها على كتفى الأيسر بجانب الصدر .. قريبا من القلب .. ولم أتحرك .. وشعرت فى هذه اللحظة بأن نادية جزء من كيانى .. ولا انفصال لنا بعدها .. ولم أسألها إن كانت متزوجه أم لا .. لأنها لم تسألنى هذا السؤال ..
واستفقت على صوتها :
- نرجع ..
وكنا قد تجاوزنا عربتنا بثلاث عربات على الأقل .. فعدنا على مهل ، وبعد أن دخلنا المقصورة بقليل واضطجعنا وأخذت تقرأ .. وأنا أقلب فى صفحات المجلات .
سمعت نقرا خفيفا على الباب فقمت وفتحته ، فوجدت فتاة رشيقة فى الطرقة وناولتنى بطاقة عليها صورة قارئة كف مشهورة موجودة فى القطار !!
وأخذت " نادية " تحاور الفتاة بالإنجليزية وكانت ضاحكة مرحة وفى لباس قصير جدا جعلها شبه عارية ، وقدرت أنها إنجليزية أو دنمركية ، فقد كانت شقراء الشعر وسيمة ..
وسألتها عن العرافة :
– أين هى ؟
– فى العربة السادسة والمقصورة السابعة ..
– وكم الأجر ؟
– عشرة دولارات ..
– هذا كثير ..
– إن الناس تسافر اليها .. وتصرف آلاف الدولارات لتراها .. ولكنها الآن موجودة وفى القطار ..!
وسألت نادية :
– هل ترغبين ؟
– لا .. أنا أعرف حظى ..!
ثم رأينا أن نذهب لمجرد الفرجة .. وفتحت الفتاة باب المقصورة قليلا لنرى من بعيد .. فوجدنا عجوزا نحيلة تجلس مسترخية على السرير .. وشدنى وجهها بغضونه وتجاعيده .. وكانت فوق الثمانين .. وعيناها تلمعـان فى حدة وقوة أبصار غريبة كعينى العقاب
وبدت فى جلستها قصيرة جدا ونحيفة ، ولكنها كانت تتحدث بالإنجليزية بطلاقة مذهلة ..
وقلت لنادية :
– أدخلى ..
فقالت :
– لا .. ولكن لنقف ونتفرج ..
ووقفنا مع الواقفين على الباب .. وكان أمر العرافة قد عرف فى القطار وأصبحت تسلية للمسافرين ، ولم يكن تسمح لغير الراغب فى الدخول .. ولم نسمع من كلامها حرفا لأنها تغلق الباب تماما ، وبدافع الفضول دخلت أنا "ونادية " وسألتها إن كنت أستطيع أن أدفع بعملة أخرى ..
فقالت بالإنجليزية :
– دولارات فقط ..!
وتلفت نحو نادية لنخرج .. وأنا أقول :
– بالعشرة دولارات نقضى يوما ممتعا فى ليننجراد ..
فهمست نادية :
-إن منظر المرأة يسحرنى ..
وأخرجت ورقة بعشرة دولارات وناولتها للعرافة ..
وسألتنى :
– من الذى سنقرأ كفه أنت أم هى ؟
– أنا ..
– اذن تخرج السيدة ..
– ليس بيننا أسرار ..
وأصرت على خروجها ..
وناولتها كفى ..
فقالت بصوت هادىء :
– يدك معروقة .. وطويلة .. وخطوطها واضحة .. أسفار كثيرة .. ومن سن العشرين وأنت تسافر ، والحظ عاثر ، أرى لقاء فى سفينة بين عاشقين ، وأرى بحر مرمرة .. والبسفور ، وهاج البحر ، ودوت القنابل ، وأرى فتاة جميلة ثمرة لهذا اللقاء .. عاشت والتقت بوالدها بعد سنين وسنين ..
وذهلت عند سماع قولها .. وأخذت أردد .. بحر .. مرمرة .. والبسفور ..وسفينة .. ولقاء .. وبحر مرمرة بالذات ولم تقل بحرا ككل البحور ..
وسألت وأنا أرتعش :
والأم ما زالت تعيش ؟
– أجل ..
– أين ..
– فى مدينة كبيرة .. وهى غنية وما زالت جميلة ..
وظللت واقفا والعرق يتفصد على جبينى .. كاد وقع المفاجأة أن يصيبنى بدوار .. ثم تمالكت زمام نفسى وخرجت شاحب الوجه .
سألتنى نادية :
– ما الذى قالته لك ..؟
– لا شىء .. مجرد أكاذيب كالمعتاد ..
وفى المقصورة أخذت أحدق فى وجهها ورجعت أتذكر أمها .. نفس العينين وخط الأنف ونفس البسمة على الشفتين ونفس الطباع ..
وعادت نادية تسأل :
– ما الذى قالته لك المرأة ؟
– ما الذى تقوله عرافة .. أكاذيب بالطبع ..!
– أريد أن أسمعها ..
– قالت أنى متزوج .. وخط السعد واضح .. وتنتظرنى ثروة كبيرة .. وسأظل أسافر دوما .. ولو عرفت أننى مصرى لقالت أننا سنهزم إسرائيل فى هذا الشهر
– وإذا كنت لاتصدقها .. فلماذا تغير حالك بعد قولها ..؟
– هذا يحدث لكل إنسان ..
وخيم بيننا الصمت ، ولم أكن أنام فى القطارات .. وتمددت لتنام هى .. بعد أن خففت الضوء وشمل الظلام المقصورة ..
ثم سمعت صوتها :
– هل نمت ؟
– أحاول ذلك ..
– متى نصل ليننجراد ؟
– فى الساعة الثامنة صباحا ..
– وأين سننـزل ..؟
– فى فندق ليننجراد ..!
– حجزت ؟
– أجل ..
وخطر على بالى سؤال ، فقلت لها :
– نادية .. هل والدك موجود ..؟
– لا .. لقد توفى فى أثناء الحرب ..
– وأمك ..؟
- تعيش معى فى فنلندا .. وهى لا تزال صبية وجميلة مع أنها تقترب من الخمسين ..
– وما أسمها ..؟
– صفية خير الله ..
وارتعش قلبى ..
وسمعت " نادية " تقول بعد فترة صمت :
– إن صورتها معى فى الحقيبة ، هل تحب أن تراها الآن ؟
– فى الصباح يا نادية .. لاداعى للتعب فى الليل ..
كنت أود أن أعيش فى ظل الشك .. ولو حتى إلى الصباح ، فالحقيقة السافرة مع كل ما تحمل من فرحة .. فيها وقع الفجاءة التى لم أكن أتوقع حدوثها قط ، فقد شطر كيانى نصفين .. إن القطار الأزرق حملنى عبر السنين إلى بعيد وأنا لا أدرى .. لاشىء ينسى .. وكل ما يحدث فى حياة الإنسان فهو لاصق بوجوده ..
لقد كانت " نادية " أستاذة علم النفس وتقرأ أفكارى ، وتعرف هواجسى ، ومشاعرى ، وما أنا فيه من فرحة واضطراب .. ولكنها لزمت الصمت ..
وبعد ساعة قمت وغطيت " نادية " بالبطانية .. ولم يكن جو المقصورة يحتاج إلى غطاء ..
" تمت "