في روايات يحيى بزغود
تعرف الجهة الشرقية من المغرب حركية ثقافية مهمة في مجال الإبداع الأدبي والفني بصفة عامة، والإبداع الروائي بصفة خاصة. والدليل على ذلك كثرة الكتاب الروائيين، وتحقيق التراكم من سنة إلى أخرى على مستوى الإصدارات الروائية، مع تنويع في المواضيع والأساليب والأشكال الفنية والجمالية. ويتبين لنا من خلال مجموعة من الببليوغرافيات أن هناك أكثر من ستين رواية، وأكثر من أربعين روائيا . لكن النقد الروائي بالجهة الشرقية لم يواكب بشكل مستمر ما يصدر من إبداعات روائية لكتاب الجهة، فباستثناء كتابي النقدي(خصائص الرواية المغربية في الجهة الشرقية) (2006م)، والكتاب الببليوغرافي (الإبداع المغربي المعاصر بالجهة الشرقية) (2009م) للدكتور محمد يحيى قاسمي، فليس هناك كتاب نقدي إلى يومنا هذا يتتبع رواية الجهة بالدرس والتحليل والنقد. وينطبق هذا الحكم أيضا على باقي الأجناس الأدبية كالشعر، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، والمسرح، والتشكيل، والسينما...
وعلى الرغم من ذلك، فقد تميزت الرواية العربية بالجهة الشرقية بمجموعة من الخصائص الموضوعية والفنية والجمالية. وهنا، يمكن الحديث عن الرواية البيكارسكية عند محمد شكري وإسماعيل العثماني وميمون الحسني، والرواية الإيروسية عند عبد الحكيم معيوة، والرواية المنجمية عند جلول قاسمي ومحمد بنعلي والسعدية السلايلي، والرواية الگروتيسكية عند سامح درويش، والرواية الحضارية عند حميد لحمداني، ورواية التهريب عند عمرو جلول، ورواية التلقي عند عمر والقاضي، ورواية الذاكرة عند محمد عابد الجابري ويحيى بزغود، ورواية الاغتراب عند مصطفى شعبان، والرواية السياسية عند خالد قدومي ويحيى بزغود، والرواية التاريخية عند مصطفى الحسني، ورواية الهجرة عند حسين الطاهري ومصطفى شعبان ، والرواية الشاعرية عند جلول قاسمي وميمون الكبداني، ورواية الأرض والجذور عند محمد الأشعري وميمون الحسني...
وتتميز هذه الرواية كذلك بارتباطها بأدب الحدود (يحيى بزغود مثلا)، وتصوير ظاهرة التهريب عند عمرو جلول وإسماعيل العثماني، وتوظيف لغات خاصة، مثل : اللغة الإسبانية، واللغة الجزائرية، ولهجات الجهة الشرقية، بله عن تمزيغ اللغة العربية تركيبا وتعبيرا وكتابة في بعض الروايات التي كتبها أبناء منطقة الريف كمصطفى الحسني مثلا ، والدفاع عن الهوية الأمازيغية، وتوظيف الموروث المحلي من عادات وأعراف وتقاليد وشعائر، وتصوير الصراع المغربي الجزائري من جهة، والصراع الريفي الإسباني من جهة أخرى.
وعليه، سنرصد في هذه الدراسة مختلف أشكال التخييل السردي في روايات يحيى بزغود، مع تحديد ما يميز هذه الروايات عن باقي النصوص الروائية بالجهة الشرقية.
التخييل الأسطوري في رواية(طوق السراب):
لقد وظف يحيى بزغود في رواياته مجموعة من الأشكال التخييلية منها: التخييل العجائبي في رواية (الجرذان)، والتخييل السياسي في رواية (ريح الكناسين)، والتخييل الميتاسردي في رواية (الأفيون والذاكرة)، والتخييل الأسطوري في رواية (طوق السراب).
هذا، وتعتمد رواية (طوق السراب) على المكون الميتولوجي أو التخييل الأسطوري بغية نقد الواقع المتعفن الذي يعيش فيه الإنسان العربي بصفة عامة، والمغربي بصفة خاصة.
ومن يتأمل مضامين هذه الرواية، فسيجد أنها تتكون من ثلاث متواليات سردية هي:
بنية الرحلة.
بنية المعايشة.
بنية العودة.
يصاحب السارد عزوز صديقه عصام الذي يزور قرية بني يعرب رغبة في رؤية الأسرة والأهل والأحباب على عادته مرة أو مرتين كل سنة. لذا، كان يسخر لهذه الرحلة سيارته السريعة التي يقطع بها فضاء الفيافي والنجود وسط الطبيعة القاحلة التي لا حياة فيها إلا بالماء. لذلك، وجدنا السارد يركز كثيرا على فضاء جبل " ألغم" الذي يطوق قبائل بني يعرب، ويحكم عليها بالندرة والجفاف والموت، ويسبب في الصراع السيزيفي بين الإنسان وأخيه الإنسان حول الماء والأرض، أو صراعه مع الطبيعة القاسية المتقلبة بين العطاء والمنع والسراب.
وقد تعرف عزوز على أسرة عصام، و اكتشف واقع بني يعرب المميت الذي يحضر فيه "جبل ألغم" بعظمته وقدسيته وجبروته، فيتصرف في مصائر الناس حسب خرافات أهل القرية، ويتحكم في رقابهم وأبدانهم وأقواتهم، ويتنبأ بالذي يأتي ولا يأتي. و يرمز هذا الجبل إلى الناقة المباركة حسب خرافات أهل القرية، بل أكثر من هذا، فقد اقترن في مخيلة الناس بكثير من الأحداث الرهيبة التي امتزجت بالأسطورة والتاريخ والخرافة والدين والخيال، وقد استحضر الكاتب هذه الناقة المقدسة باعتبارها رمزا أسطوريا خرافيا، بعد أن اتخذت في القرآن دلالة مجازية على صدق نبوة صالح. لكن الناقة – هنا- ترتبط بالتخريف والأسطرة والترميز؛ إذ تحيل على التدجيل والشعوذة والاستغلال.
وينضاف إلى هذا أن الكاتب يسرد في متنه الحكائي واقع بني يعرب الذي يعج بالتناقضات كما وكيفا ، ويطفح بالصراعات الدامية سيما بين أولاد حمو وأولاد موسى. ومنشأ هذا الصراع المستمر الذي أتى أواره على الأخضر واليابس راجع إلى سذاجة هؤلاء الآدميين، وإيمانهم بالخرافات وبركات المدعين والدجالين الذين يتسترون وراء أقنعة الورع والزهد والتصوف. ويصور الكاتب حالة الاستلاب والوعي الزائف المغلوط عند مجموعة من الشخصيات الساذجة التي ينخرها الجهل والاستسلام والتواكل والطمع والتعطش إلى الثأر. ويتدخل الشر المقنع بالمعرفة الغيبية رغبة في التخلص من عدالة الأمير المغيب، ليعوض ذلك بسياسة الاستغلال والتدجين، والتحكم في رقاب الناس ظلما وفسادا، والقضاء على كل ما يمت بصلة إلى الحضارة والعلم والمدنية. بيد أن هذا الواقع الراكد في برك التطاحن والشعوذة والخرافة والاستبداد سرعان ما ينقشع سرابه عن حقيقة التدليس والمكر والادعاء وزيف البركات العرفانية.
وحينما يقرر الزائران العودة إلى مكانهما الأصل يتحرك جبل " ألغم" ثائرا على القوم، ويفضح ما ينبغي فضحه، ويعري ما ينبغي تعريته من سلوكيات القوم. وكانت الناقة شاهدة على أفعالهم الشائنة وأهوائهم الدفينة:" تساءل عصام، ونحن نغادر القرية عائدين:
– هل تظن أنه زلزال حقيقي، يا عزوز؟!
قلت: قد يكون مركز الزلزال بعيدا، ليست القرية إلا نقطة التلاشي على تخومه!
قال عصام:
– أما أنا فأميل إلى تصديق الأسطورة! ألم يرحل "ألغم"؟!
قلت:
"- قد يكون رحل، فاسمعنا، إذا طاب لك، "يا سماء الشرق جودي بالضياء"، بصوت محمد عبد الوهاب.... أو بصوتك!"
ويستعين الكاتب في بناء نصه الروائي بمنظور سردي ذاتي داخلي (الرؤية مع) ليلتقط التجربة الشخصية والمغامرة التي قام بها إلى شعاب بني يعرب مع صديقه عصام؛ لكن هذه الرؤية التي يعكسها ضمير المتكلم سرعان ما تنقلب إلى رؤية من الخلف تتوارى خلف ضمير الغائب (عزوز / السارد) للإشارة إلى حياد الراوي، والتزامه الموضوعية في نقل الأحداث، وتصوير الشخصيات، وتنظيم دفة الحكي والأفضية والأمكنة.
وعلى الرغم من الطابع التصاعدي للزمن (الرحلة – المعايشة- العودة)، والتسلسل المنطقي للأحداث ، فالرواية جديدة لتوظيفها مجموعة من الخطابات التناصية والأجناس الأدبية (القصة، والغناء، والحكاية، والأسطورة...)، والاشتغال على المكون الأسطوري والعجائبي، وتنويع الخطابات والأساليب والسجلات اللغوية والسردية والحكائية.
وعلى العموم، يوظف الكاتب الخطاب الشعري (المتنبي، و الشنفرى...)، والخطاب الغنائي (محمد عبد الوهاب، وناظم الغزالي)، والخطاب السياسي (الشورى والاستبداد)، والخطاب الأسطوري (استنطاق الناقة، وأسطرة جبل ألغم)، والخطاب العجائبي (تحول الفتاة إلى حمامة بيضاء، وتحول شعبان الأخنس إلى ثعبان ضخم...)، والخطاب الصوفي (بركات الناقة وشعبان الأخنس)، والخطاب الديني (التناص القرآني، والإحالة على ناقة صالح)، وخطاب السخرية (سذاجة بن يعرب ووعيهم المغلوط)، وخطاب الأمثال، علاوة على خطابات تضمينية ومستنسخات نصية أخرى في الرواية.
ويتخذ الأسلوب كذلك في الرواية عدة أشكال فنية في صياغة العقدة، وتحبيك الأحداث، ونسج لحمتها. وهكذا، نجد أنفسنا أمام أسلوب التعجيب والتغريب "وتبدى لها وجه شعبان الأخنس، بين الوجوه الغاضبة، بعينين تشعان مكرا... ورأت طفلة صغيرة في لباس العرائس الأبيض... ونزف الدم ونزف فتجمعت بسيوله فالتحق بعضها ببعض وتشكلت ساقية حمراء، ما لبثت أن أصبحت ثعبانا ضخما، مروعا يزحف نحو الفتاة التي تحولت إلى حمامة بيضاء...والتقط مسمعها حفيف الأفعوان ورأته يفتح فكيه... فظهرت أنيابه السامة... وهم بإنشابها في الحمامة فطارت فوق الصخرة..."
ويحضر كذلك أسلوب الأسطرة المتمثل في تصوير جبل "ألغم"، واستنطاق الناقة العالمة العارفة بأخبار الناس الماضية والحاضرة والمستقبلة على حد سواء، فضلا عن توظيف التصوير البلاغي البياني القائم على التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية في بناء الأحداث السردية، واستكشاف مغامرة المعايشة للواقع اليعربي الدامي.
ويوجد في الرواية كذلك أسلوب التضمين والسخرية والتخريف والترميز وتهجين اللغة (لغة التراث والكتب الصفراء، واللغة الفصحى المعاصرة، ولغة عامة الناس...) لفضح الواقع وتعريته، وإدانة الوعي الساذج، والثورة على القيم المنحطة في مجتمع منحط بدوره. ويرمي الكاتب من وراء ذلك إلى تصوير قادة العرب الذين يتناطحون فيما بينهم حول زعامات واهية وأطماع سياسية زائفة ، مع التحكم في شعوب فقيرة وضعيفة مازالت تؤمن بالخرافات والأساطير والبدع. ولن يكون التغيير – حسب الكاتب- لهذا الواقع إلا بزلزال عنيف، مثل: (زلزال) طاهر وطار يأتي على رؤوس الجهل وقادة الاستبداد بإرساء نظام الشورى، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، والإيمان بالعلم والحداثة، بدلا من الارتكان إلى التخريف والتجهيل والتدليس وتجويع العباد.
وعليه، فرواية (طوق السراب) رواية أسطورية على غرار رواية (بدر زمانه) لمبارك ربيع ؛ لأنها تشتغل على مكون التخريف والأسطرة لإدانة واقع العرب على جميع المستويات والأصعدة، وانتقاد قيمه المهترئة، وتصوير الإنسان العربي المستلب، واستجلاء وعيه المغلوط الذي يستلزم التغيير الجذري، واستبداله بوعي أفضل منطقي وحداثي يقوم على تسييد العقل، واحترام العلم، وتبني قيم النقد والتجديد والإبداع، وتمثل لغة الحوار والاختلاف ، والعمل على إرساء البناء الديمقراطي الهادف.
التخييل الفانطاستيكي في رواية (الجرذان):
تعد رواية (الجرذان) ليحيى بزغود من الروايات العجائبية التي ترتكز على تيمة المسخ أو التحول. ومن ثم، فإن العجائبي هو انتهاك القوى غير الطبيعية واللاعقلية لماهو مألوف ويومي وعاد في الواقع الإنساني. وبتعبير آخر، فالفن العجائبي هو في الحقيقة انزياح عن قواعد العقل، والخروج عن نواميس الطبيعة، وتخط لقوانين التجربة والحس، وتجاوزها عن قصد للثورة على الواقع المنحط، وإدانته لفظاظته وبشاعته وغرابته. وينبني أيضا على تداخل الواقع والخيال، وصراع العقل واللاعقل، وجدلية الوعي واللاوعي، وتطابق الشعور مع اللاشعور. ويعبر كذلك عن تحكم اللاعقل في حياتنا الفردية والجماعية، ويشخص الخلل الموجود في واقعنا الموضوعي بتأكيد غرابته ولا معقوليته وانحطاط إنسانه، وتحوله إلى كائنات ممسوخة بسبب هيمنة الرذيلة على الفضيلة، أو رجحان قيم الغرائز والأهواء على صفاء السريرة ونقاء الروح.
وثمة نصوص عجائبية كثيرة في الغرب منها: (الحمار الذهبي) لأبوليوس، وأعمال كل من: كافكا، وبورخيس، وكورتزار، وهنري جيمس، وفيكتور هيجو، وگي موباسان، وميريمي، وإدغار ألان بو...
وفي هذا الصدد، يمكن التمييز بين نمطين من الرواية العجائبية: فهناك الرواية العجائبية التقليدية كما نجدها في القرن التاسع عشر الميلادي عند بلزاك، وميريمي، وهوغو، وفلوبير، وموباسان ... وهناك الرواية العجائبية الجديدة التي ظهرت في القرن العشرين مع رواية (المسخ) لكافكا و(الأنف) لگوگول، حيث ينعدم فيها التردد والدهشة، وتصبح الأمور فوق طبيعية عادية لا تثير فينا الاستغراب.
أما الرواية العجائبية المكتوبة باللغة العربية ، فهي تندرج في إطار الرواية الجديدة التي انطلقت مع بداية الستينيات من القرن الماضي، وهي تروم التحديث والتجريب من أجل تأسيس الرواية العربية وتأصيلها.
ومن أهم كتاب الرواية العجائبية جمال الغيطاني في (وقائع حارة الزعفراني)، و(كتاب التجليات)، و(خطط الغيطاني)، و(الزيني بركات)، و(الزويل)...، وصنع الله إبراهيم في (اللجنة) و( تلك الرائحة)، ويوسف القعيد في (شكاوي المصري الفصيح)، و(يحدث في مصر الآن)، و(الحرب في بر مصر)، و(أيام الجفاف)، و(بلد المحبوب)... وطاهر الوطار في روايته (الحوات والقصر) ، وخلاصي الجيلالي في (حمائم الشفق)، وهاني الراهب في (ألف ليلة وليلتان)، وسليم بركات في ( فقهاء الظلام)، و(أرواح هندسية) ، و(الريش)، و(معسكرات الأبد)، و(الفلكيون في ثلاثاء الموت)، و(الفلكيون في أربعاء الموت)، و (مدينة الرياح) ، وإلياس خوري في (أبواب المدينة)...
و من أهم النصوص الروائية العجائبية بالمغرب نذكر : رواية (عين الفرس والضلع والجزيرة) للميلودي شغموم، و(بدر زمانه) لمبارك ربيع، و(رحيل البحر) و(مهاوي الحلم) لمحمد عز الدين التازي، و(أحلام بقرة) لمحمد الهرادي، و(جنوب الروح) لمحمد الأشعري، و(الجرذان ) ليحيى بزغود، و(سماسرة السراب) لبنسالم حميش...
هذا، وتصور رواية (الجرذان) ليحيى بزغود جزيرة بشرية فيها مخلوقات تتحول إلى جرذان وفئران بالليل، وبشر في النهار. وتعبث هذه الكائنات الغريبة بأرزاق الناس فسادا، وتتحكم في دواليب الدولة تخطيطا وتسييرا وتدبيرا. ونجد ضمن هذه المخلوقات: القضاة والأئمة والعلماء وضباط الشرطة والمرابين ومسؤولي الإدارات ومكاتب الدولة... وتكشف الرواية نفاقهم ورياءهم ورجسهم ومجونهم. ويتحولون إلى كائنات ممسوخة مشوهة بأشكال غريبة ألصق بالحيوان منها إلى البشر، ويتخذون خاصيات الجرذان فيزيائيا وعضويا. ولا يهم هؤلاء الجرذان سوى تحقيق مآربهم، ونهب خيرات البلاد، واستغلال العباد، ونشر الجور والفساد.
وهكذا، يقرر ثلاثة من الأصدقاء معرفة سر هؤلاء الجرذان لاستكشاف أسباب تحولهم، وهم: ابن البلد، وأبو غفلة، وابن الوضاح، وقد ساعدهم في ذلك أيوب المنسي بخرائط الجزيرة الممسوخة. وكان الغرض من هذه الصحبة هو البحث عن المغارة حيث توجد بركة التعميد التي يتم فيها التحول الجرذاني. وكان همهم الوحيد هو إنقاذ الجزيرة من الظلم والحيف والبطالة والكساد، بالقضاء على تلك الجرذان التي استنزفت خيرات البلد، وعاثت فيه فسادا، حتى إن الأساطير التي يلوكها سكان الجزيرة ترجع الأزمات التي يعانون منها إلى هذه المخلوقات الغريبة التي تعبث بكل شيء... " تنقلب أيام الأزمات إلى كائنات بشرية؛ تأكل وتشرب وتتناسل، وتمشي في الشوارع بين الناس، فتتأمل الواجهات الزجاجية، وتقصد الأسواق، تفعل ذلك خلال النهار، فإذا جاء الليل ونزل الظلام، ونام الناس؛ تنقلب إلى حالتها الأصلية أعني الفئرانية، تكرع من الزيت وتهتك أكياس الدقيق وتفتت الأوراق وتتندر بما فعلته بالبشر خلال النهار! فإذا طلعت الشمس وانسحب الظلام لبسوا حالتهم الثانية أي تحولوا إلى بشر...يمشون بين الناس ويفعلون كما يفعل جميع العباد...حتى إذا جاء الليل انقلبوا إلى حالتهم الأصلية ...وهكذا دأبهم ما توالت الأيام!"
ويدل هذا التحول الممسوخ على حيوانية الإنسان، وانسياقه وراء غرائزه وأهوائه ومصالحه الشخصية، بدلا من التمسك بالفضيلة والقيم الرفيعة. ويشير كذلك إلى انحطاط مجتمع الجزيرة وتدهوره بسبب الفساد الذي عم المكان على جميع المستويات والأصعدة. وقد أدى الوضع المختل هناك إلى انعدام الحق والعدالة والحرية؛ بسبب تكاثر الجرذان والمخلوقات الممسوخة التي لا تبالي بالفقراء والأبرياء والناس الكادحين والعاطلين. ولا يهتم هؤلاء العابثون إلا بامتصاص دماء الناس ظلما وحيفا وجشعا، ونهش جلود الضعفاء، وأكل أرزاقهم بالربا والرياء والنفاق والكذب والمكر. وهذه المخلوقات هي "التي تشيع المرض المعروف عند العامة بمرض" لقنية" والذي، والحمد لله، لا يصيبون به إلا واحدا واحدا، لأنهم حريصون، في ما عرفت، على أن يبقى الناس قادرين على الإنتاج لأن هذه المخلوقات لايمكنها أن تعيش إلا إذا اشتغل الفلاح والصانع والخياط والنساج...وغيرهم، ومن شأن هذا المرض، كما تعلم، أن يصيب من يفتك به بالعجز الذاتي والتبعية لغيره؛ فيفقد القدرة على التمييز ويضمر رأسه وعضلاته وينتفخ بطنه، ويغدو هم المريض طيلة اليوم الأكل...أكل كل شيء يقع تحت اليد، هذا بالإضافة إلى معاناة المصاب، ذكرا كان...أو أنثى من العقم التام..."
علاوة على ذلك، تتحول معظم شخوص الجزيرة إلى كائنات حيوانية جنية ممسوخة، يسيطر الفكر الأسطوري على تصوراتها الذهنية، وتتميز أشكالها ووجوهها وأفعالها بالغرابة والقبح والذمامة، إذ تشبه الكائنات الجنية والبشر الخرافيين. فأبو غفلة يتعجب من أحد جيرانه الذي أصابه تحول مذهل، فيقول" تذكرت بالمناسبة أحد الجيران، منذ سنوات خلت...كان الناس يدعونه الأستاذ أنور يستشيرونه في أمور كثيرة ويسألونه في السياسة والقانون...وسر تقدم هذه الدولة أو تلك...وتخلف هذا المجتمع أو ذاك، ولكنه منذ أن أصابه المرض أغلق عليه بابه ولم يعد يهتم بأحد...كان بعض الجرذان يعودونه من حين لآخر فيجدونه غارقا في الأكل، لا يكلم أحدا ممن حوله، فيحدقون في رأسه التي تحولت إلى شيء شبيه بلفتة تحمل أذنين وتنغرس بجذرها في عنق غائر بين الكتفين، ويتأملون بطنه الذي تدلى بشكل غريب، وعبثا يحاولون التحدث إليه...ثم ينصرفون مسبحين " لاحول ولا قوة إلا بالله" "ما شاء الله" "سبحان الله" "سترك اللهم"...
وقد بقي المسكين على هذه الحال مدة تقارب السنة ثم انطفأ قنديله ذات صباح!"
وهكذا، تبدو شخصيات الرواية كائنات أسطورية وعجائبية مرتبطة بفضاء عجائبي، لا يمكن التعامل معه بمعايير التفضية البشرية. وتذكرنا هذه الجزيرة في عوالمها الفلسفية بجزيرة حي ابن يقظان الباحث عن الحقيقة نصا وبرهانا، وتحيلنا كذلك على قلعة التطهير في رواية (سماسرة السراب) لبنسالم حميش. ومن ثم، تخضع جزيرة يحيى بزغود في روايته (الجرذان) للتحول والمسخ، حيث يتقاطع فيها الظاهر والباطن، والسطح والعمق، والسفلي والعلوي. ويشكل هذا جدلية الرذيلة والفضيلة بمفهومها الأكسيولوجي(الأخلاقي).
هذا، ولا تقتصر العوامل السيميائية على الكائنات البشرية الغريبة بأسمائها، بل تتعداها إلى حيوانات وحشرات (الخنفساء، والجرذان، والفئران، والنسور، والقطط...). ولا تقتصر الأماكن كذلك على ماهو واقعي وطبيعي( المقهى، والفندق، والمدينة، والمستشفى، والجامعة...)، بل تتعداها إلى أفضية سحرية غريبة لا يقبلها منطق العقل، ولا تستسيغها قوانين التجربة والإدراك الحسي" قال...أما في القديم فكانت بركتهم السحرية تقع في فج بين جبلين أسفل الدشرة الممسوخة... ولكنها فقدت مفعولها حينما جرفت السيول بعض الصخور من الدشرة ودحرجتها في البركة، فلم يعد للجرذان القدرة على التحول إلى بشر، فانتهى وجودهم إلى جرذان تسلطت عليها قطط الجزيرة وبغثان طيورها ونسورها فأهلكتها.
وأما اليوم فإن هذه المخلوقات قد أخذت عبرة من مصيبتها تلك، فاتخذت لها بركة تحت الأرض تقصد إليها كل خريف من جميع جهات الجزيرة...فتتعمد فيها لتعود بعد ذلك وقد اكتسبت قدرة على التحول لمدة سنة أخرى..."
ويلاحظ من خلال هذا المقطع السردي أن البركة السحرية الموجودة في أعماق المغارة هي التي ساعدت المخلوقات الغريبة على التحول من الجرذان إلى بشر في أواخر الخريف من كل سنة. بيد أن الرفاق الثلاثة سيعملون على إفشال هذا التحول العجائبي، ومنع تحقق المسخ، بملء البحيرة بأحجار وصخور التي حالت دون تحول الجرذان إلى جلود بشرية،" فتدافع الحشد ليطوف حول البحيرة ثلاثة أشواط، وكل يضع يده فوق رأسه كأنما يؤدون شعيرة توارثوها عن سالف جيلا بعد جيل، ثم تجردوا من ثيابهم الخارجية وألقوا بأنفسهم في الماء! ففعل سماحة بن البلد وأبو غفلة الصديق وجواد بن الوضاح مثلما فعلوا وأطلقوا ما بأيديهم من حجارة وحصى..."
ويهدف هذا الفعل العجائبي الصادر عن الرجال الثلاثة إلى تنقية الجزيرة من أشرارها وطغاتها وبغاتها، وإعادة بنائها على أساس الفضيلة ، وتحكيم العقل، وإحقاق حقوق الإنسان، والحد من الرذيلة، ومحاربة القيم الدنيئة، وتعويضها بالمبادئ الأصيلة. إن فعل التطهير هو بناء للجزيرة على أساس الفعل والإبداع والحرية والحب، ومحاربة الشعوذة والفكر الخرافي والاستلاب الديني:" ووقف ابن البلد وراء أبي غفلة، وهو ينهمك في تحرير بيان يعتزم نشره، فمد بصره من فوق كتفه، دون أن يشعر به، وقرأ سرا...
"صدقوا أو لا تصدقوا، ...تفجير الأزمة، تقول مصادر موثوقة، من فعل ثلاثة مغامرين، وبضعة غربان بمناقير ذهبية؛ اكتشفوا أن بين الناس في الجزيرة خلائق غريبة تتحول إلى جرذان بالليل!...فعملوا على القضاء عليها، بالحيلولة دون تحولها إلى بشر، واضطروها إلى البقاء في جلودها.
إن هذه الترويكا تصرح بأنها اهتدت إلى أن هذه الزوايا اعتادت أن تتعمد كل خريف في بركة تكسبها القدرة على التحول إلى بشر، فأبطلوا مفعول البركة باستعمال أحجار عجيبة جلبوها من مكان ما من جبال الجزيرة!
أيها المواطنون خذوا مصيركم بأيديكم ولا تنتظروا عودة هؤلاء فماهم بفاعلين ولا هم عليها بقادرين!"
الصديق أبو غفلة
نيابة عن رفاق الطريق"
وتنتهي رواية الجرذان بالبناء وزرع الحب بين الناس، ونشره بين سكان المعمور؛ لأن الحب هو أساس الحياة، ينبغي تصديره إلى كل أقطار الأرض، لتعويض لغة الحرب والإبادة والحقد والمسخ والكراهية، على الرغم من أن الرواية تبدأ بالهدم والفساد والتحول الغريب والمسخ المشوه. وهذا ما يجعل بناء الرواية جدليا تتحكم فيه ثنائية الفضيلة والرذيلة " لقد نجح الإنسان، عبر تاريخه الطويل، في إنتاج ما يبيد به الناس جميعا... فلم لا يفلح في إنتاج ما يحيا به الناس جميعا؟!"
وإذا كانت الحبكة الروائية مشدودة بخيوط عجائبية وسحرية وأسطورية، فإن البنية الزمنية محكمة كذلك بنسيج عجائبي(في القديم، ومنذ عقود، وأمدا من الزمن...)، ونسق واقعي (اليوم...).ويعني هذا أن زمنية الواقع الطبيعي والواقعي مغلفة بزمنية أسطورية من الصعب تحديدها.أي: إن هناك زمن المسخ والتحول، وزمن الحب والصداقة والتضامن للوصول إلى الحقيقة، وبناء الجزيرة من جديد.
هذا، وتتركب الرواية من ثمانية فصول، وترتكز إلى الرؤية السردية المطلقة منظورا لها. أي: إن رؤية النص هي رؤية من الخلف؛ لأن السارد يعرف كل شيء عن شخصياته من الداخل والخارج. كما يشاركهم في إنجاز الأحداث، ويشهد على أفعالهم. وقد تتحول هذه الرؤية المطلقة إلى رؤية ذاتية باستخدام ضمائر المتكلم القائمة على البوح والاعتراف.
ومن جهة أخرى، ينوع الكاتب أساليبه السردية، إذ يوظف المسرود الذاتي، والخطاب غير المباشر، والأسلوب غير المباشر الحر، والخطاب المعروض. وتتميز اللغة بالرمزية والإيحائية والتشخيص المجازي والكنائي. ويعني هذا أن الرواية رمزية حبلى بالعلامات السيميائية. ومن ثم، يحيل عنوان الرواية على بشر النفاق والكذب والرياء الذين يستغلون البسطاء، وينهبون خيرات البلاد نهارا وليلا، ويمتصون عرق الفقراء، ويعبثون بالقيم، ويعيثون في المجتمع فسادا وظلما وزورا. وبكل اختصار، إنهم رجال الرذيلة والمجون والمسخ والقبح. وتشير الجزيرة السحرية العجائبية إلى دولة القوة والاعتساف والاستغلال.
ومن ناحية أخرى، تعج الرواية بخطابات تناصية متعددة، كالخطاب الفلسفي(زينون الإيلي، وبنتام، وهيجل، والجدل...)، والخطاب الصوفي(المجذوب والبركة...)، والخطاب الديني(الآيات القرآنية المتضمنة أو المحورة)، والخطاب التاريخي (ثورة ضباط الأحرار)، والخطاب الأسطوري(الفكر الخرافي، والشعوذة، والسحر)، والخطاب العجائبي، والخطاب العلمي، والخطاب السياسي، والخطاب الاقتصادي، والخطاب الاجتماعي، والخطاب الإعلامي (قصاصات الجرائد)، وخطاب الرسائل، والخطاب الحلمي...
ونستنتج - مما سبق ذكره - أن رواية (الجرذان) رواية رمزية إيحائية تنبني على المسخ والتحول وأسطرة الحبكة السردية؛ مما يجعل هذه الرواية تندرج ضمن الروايات ذات المتخيل العجائبي ، وتبدأ الرواية بالهدم، وتنتهي بالبناء، عبر صيرورة جدلية قوامها الطرح والنفي والتركيب. أما رؤية الكاتب في هذه الرواية، فهي رؤية إصلاحية أخلاقية ومثالية قوامها الحب والفضيلة، ونقيضها المسخ والرذيلة.
ويمتاز الخطاب السردي للرواية بهيمنة المكون العجائبي؛ لأن الأحداث والشخصيات والأفضية والأزمنة والأسلبة خاضعة لقانون الامتساخ والتحول الفانطاستيكي، ناهيك عن وجود المفارقة والسخرية والانزياح عن العقل والواقع معا. ويريد الكاتب من وراء ذلك التنديد بواقع الكراهية والحقد والشر والظلم. وفي المقابل، يدعو إلى عالم الفضيلة والحب والقيم المثلى. إنها أفلاطونية جديدة ويوطوبيا الخير التي لا توجد إلا في اللاشعور الذاتي والمخيلة الحلمية.
التخييل الميتاسردي في (أفيون الذاكرة):
يتبنى يحيى بزغود الشكل الميتاسردي في روايته (الأفيون والذاكرة) الذي يستكشف عوالم الكتابة السردية ، ويفضح أسرارها الإبداعية، ويميز بين ماهو إبداعي وماهو ميتاسردي. لذا، فالميتاسرد أو الميتاقص(Métarécit) هو ذلك الخطاب المتعالي الذي يصف العملية الإبداعية نظرية ونقدا، ويعنى برصد عوالم الكتابة الحقيقية والافتراضية والتخييلية، واستعراض طرائق الكتابة وتشكيل عوالم متخيل السرد، وتأكيد صعوبات الحرفة السردية، ورصد انشغالات المؤلفين السراد ، وتبيان هواجسهم الشعورية واللاشعورية لاسيما المتعلقة بالأدب وماهيته ووظيفته ، واستعراض المشاكل التي يواجهها المبدعون وكتاب السرديات بشكل عام. ويحقق الخطاب الميتاسردي وظيفة ميتالغوية أو وظيفة وصفية (Fonction métalangage) تهدف إلى شرح الإبداع تشكلا ونشأة وتكونا، وتفسير آلياته وتقنياته الفنية والجمالية قبل الإبداع، وأثنائه، وبعد الانتهاء منه.
هذا، و يتضح الميتاسردي بينا في استهلال الرواية حينما يقول الكاتب:"عبثا حاولت إقناع يحيى الخالدي بأهمية نشر محتويات دفتره، فالرجل كان قد كفر بكل شيء، وخبا ما عرفت فيه من حماس، بعد الإحباطات التي عانى منها، وخيبات الأمل المتتالية التي مني بها، فلم يعد ينتظر من المستقبل شيئا، وألزم نفسه بالتردد على المسجد للقيام بأمر دينه!
فلما ألححت عليه، أفحمني بسؤال قائلا: " ماعساها تفيد مثل هذه الأشياء؟ ولمن تذيعها؟ ثم أضاف:" أنت تعرف( أننا قضينا سنوات طفولتنا جميعا، وعبثنا جزءا من شبابنا وكهولتنا معا...فإذا كان يهمك نشر ما بهذا الدفتر، فهو لك، غير أن لي شرطين" قلت: ماهما؟
قال:" أن تستشير صديقنا عاشور القصاب، فهو أهم شخصية في هذه الصفحات، وأنت تعرف أن علاقتي به لم تنته إطلاقا حتى اليوم، على العكس منكم أنتم جميعا، وثانيا ألا تغير من وقائعه شيئا"
قلت: " أعدك أني سأفعل، ولكني أرى أنك قد شددت علي بعض الشيء"
فعاد يقول:" لاتمسس من ذاكرتنا المشتركة شيئا، وافعل ما شئت بعيدا عنها!
لذلك وجدتني- وأنا أعتزم نشر محتويات هذا الدفتر- ملزما بنقل ما كتبه يحيى الخالدي بكل أمانة، ولا أتصرف إلا في حدود ما تفرضه المقتضيات الفنية والأدبية.
ويبدو أن بعض فقرات الدفتر كتبت في لحظات متباعدة، على إيقاع ما تجود به الذاكرة، لذلك قضيت وقتا غير يسير في ترتيبها وبذلت جهدا في افتكاك كلماتها من أسر خطه الرديء الذي لازم خربشاته منذ أن تعلم الكتابة فلم يستطع منه فكاكا.
وإني أعترف أنه قد حز في خاطري ألا أجد في الدفتر أثرا لذكري شخصيا، أنا الذي قاسمت صاحبه أغلب اللحظات وكنت شاهدا على غير القليل من الأحداث منذ عهد الصبا!
فلقد تسكع بيراعه في أعطاف الذاكرة رهوا واجترح الحكاية بدءا من عهد طفولتنا المشتركة."
تندرج الرواية بشكل من الأشكال ضمن أدب الحدود؛ لأنها تعالج موضوع العلاقات السياسية والاجتماعية والإنسانية بين دولتين جارتين شقيقتين هما المغرب والجزائر، بينهما حدود مشتركة لم ترسم بعد منذ فترة الاستعمار؛ مما سبب ذلك في تأجيج الصراع بينهما من فينة إلى أخرى. فترتبت عن ذلك مآس إنسانية كثيرة انتهت بطرد كثير من المغاربة من الجزائر بدون وجه حق. لكن الرواية لم تقف عند علاقات الجوار بين البلدين، بل استعرضت مختلف المراحل التي مر بها تاريخ المغرب السياسي حتى فترة الاحتقان السياسي، وصراع اليمين مع اليسار، وتشكل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، وتزييف الانتخابات المحلية والبرلمانية. لذا، تحولت الرواية إلى وثيقة تاريخية وسياسية في استكشاف صراع الذات مع الموضوع، واستعراض مختلف المشاكل السياسية التي كان يعاني منها المغرب بعد الاستقلال سيما في سنوات السبعين من القرن الماضي. كما تدين الرواية خيانة ساسة اليسار بشدة كما فعل عمر والقاضي من قبل في روايته (رائحة الزمن الميت) ، وتنتقد أيضا انتهازية مرشحي الأحزاب السياسية الذين يرجحون المصلحة الشخصية على المصلحة العامة.
علاوة على ذلك، تستند الرواية إلى السيرة الذاتية بتوظيف ضمير المتكلم، والانطلاق من الرؤية الداخلية التي تشرك السارد والشخصية الرئيسة معا في بناء الأحداث تسريدا وتحبيكا وتخطيبا، واستعمال الزمن الهابط لاسترجاع أحداث الماضي القريبة والبعيدة، واستثمار الوصف الواقعي الذي ينقل لنا الشخصيات والأمكنة والوسائل والأشياء انتقاء واختصارا وتركيزا وتلوينا. ولا ننسى أن السارد في هذه الرواية يقوم بوظائف عدة كالسرد، والميتاسرد، والتخييل، والتوثيق المرجعي، والتناص، والأدلجة، والتبليغ، والتأثير، والإقناع،...
هذا، وقد التصق الكاتب ببيئته المحلية وواقعه المغربي أيما التصاق بتصوير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والثقافية والدينية والحضارية، مع رصد مختلف العادات والأعراف والتقاليد، والتقاط صور متنوعة للذات الإنسانية في صراعها التراجيدي مع الطبيعة والجهل والفقر والاستعمار . وقد وظف الكاتب في ذلك لغة البوح والاعتراف والتأريخ والاسترسال الشعوري واللاشعوري، مازجا بين مجموعة من اللغات الإبداعية: الفصحى، والعامية الوجدية، والدارجة المغربية، والعامية الجزائرية، واللغة المفرنسة، مع التقاط كل ما يدور حول الحدود بين الإخوة الأشقاء.
وباختصار، فرواية (الأفيون والذاكرة) هي سيرة ذاتية تقوم على التذكر والاعتراف واسترجاع الذاكرة المترهلة، وتخصيبها بالتخييل الميتاسردي والتاريخي؛ وهذا ما يجعل الرواية تتأرجح بين التوثيق والتخييل، بين النسيان والتذكر، بين الماضي والحاضر، بين الذاتي والموضوعي.
التخييـــل السياســي في (ريح الكناسين):
ترصد رواية (ريح الكناسين ) ليحيى بزغود الثورة العربية في مرآة الزمن، وتعالج أيضا السياسية الشرعية أو الإمامة السياسية أو علاقة الراعي بالرعية اعتمادا على نماذج سياسية قديمة (الحاكم بأمر الله الفاطمي)، ونماذج سياسية معاصرة ( زين عابدين، ومبارك، والقدافي...).وينضاف إلى ذلك أن الرواية تشتغل على تيمة السلطة السياسية تحبيكا وتخييلا وترميزا، مع تحليل ظاهرة الاستبداد والتجبر والظلم عبر مجموعة من الأمثلة السياسية التي تعبر عن تضخم الذات والصورة على حد سواء ، وذلك عند مجموعة من الحكام المتسلطين على رقاب العباد والشعوب:" قليل من الناس...قليل جدا من لا تغره السلطة، فيمتنع عن إغرائها. فقامات الرجال لا تتحدد بما يواجهون من الشدائد والصعاب بقدر ما تتحدد بقدرتهم على مواجهة الإغراء وصد الشهوات. ويكون الامتحان أشد صعوبة، حين تتعالق الشدة بالإغراء تعالق البديل بالبديل، فيكون الرجال على قدر من العظمة كبير، حين يختارون سبيل الشدة بدلا عن الإغراء الذي يلوح لهم به، مقابل التخلي عن مبدإ أو الحياد عن حق. وبدايات الزعماء والقادة ليست كنهاياتهم، فقد يقدم بعض الناس حين يجبن آخرون، فيصبحون مؤهلين للقيادة بحكم الإعجاب الذي أحرزوه في لحظة الإقدام هذه المنفلتة من لحظة الجزر العام. وقد يغدو بعض الناس قادة بالصدفة، بالطريقة التي أصبح بها شارلي شابلن زعيما لمظاهرة حاشدة في بعض أفلامه.
هكذا تكون البدايات، أما النهايات فيصنعها المداهنون لينو الظهور، الباحثون عن النفع بأي ثمن! ...ونهاية المطاف على أي حال، إما في مصاف الرجال العظام أو في ركن من مزبلة التاريخ العاتية.
ورجال الحكم هم عموما في مواجهة الإغراء باستمرار إذ غالبا ما يحف بهم الانتهازيون الذين لا يترددون في المصادقة على كل ما يصدر عنهم والثناء عليه بالتهليل والتبريك، فينتهي الأمر بالحاكم، إلى الاعتقاد في سلامة ما يوتيه من أفعال وأقوال، حتى ولو كان أتفه شأنا مما يوتيه البهاليل الأشد بلادة!
وحين يتكرر الثناء والإطراء على بلاهة الحاكم وحماقاته، ما يلبث أن يخامره الشعور بالعظمة، ثم تتضخم الذات وتزداد انتفاخا، حتى تصل إلى الحد الذي لا يمكن لجمه! وقد يدعي الألوهية فيجد من يسجد بين يديه إجلالا."
وهكذا، يسبر يحيى بزغود أغوار التاريخ السياسي العربي قديما وحديثا نبشا في سير المتسلطين الذين وصلوا إلى درجة الحمق والجنون والبلاهة، وقد اعتمد في ذلك على التخييل التاريخي والسياسي، وتوظيف الفانطاستيك في قراءة مرآة التاريخ السياسي العربي القديم، ونقل نتائج الثورة العربية المرتبطة بالربيع العربي.
وتزخر الرواية كذلك بملامح خرافية وأسطورية ورمزية تتمثل في استحضار شخصيات فرعونية وتخييلية فانتازية وسحرية، والاستعانة بعلم الفلك في تقديم الأحداث وتفسيرها . ويعني هذا أن الكاتب قد تأثر كثيرا بالرواية التجريبية بما فيها الرواية الواقعية السحرية، والرواية الفانطاستيكية، والرواية الأسطورية، والرواية السياسية المعاصرة عند صنع الله إبراهيم، وعبد الرحمن منيف، وجمال الغيطاني، وعمر والقاضي... وتأثر أيضا بالرواية التراثية ذات التخييل التاريخي كما عند بنسالم حميش في روايته (مجنون الحكم).
هذا، وتتراوح روايات يحيى بزغود بين التخييلين: السياسي والتاريخي، بين التوثيق المرجعي والتخييل الفني والجمالي، بله عن الانفتاح على مجموعة من الخطابات البوليفونية لغة وأسلوبا وشكلا، مثل: الخطاب التاريخي، والخطاب الأدبي، والخطاب الأسطوري، والخطاب الفانطازي، والخطاب السياسي، والخطاب السحري، والخطاب الديني، والخطاب اللغوي والمعجمي...ومن جهة أخرى، يلتجئ الكاتب إلى التهجين، والأسلبة، والتنضيد بغية خلق رواية متعددة الأصوات. وأكثر من هذا، فهي رواية متعددة الحلقات والمتواليات السردية (متوالية الحاكم بأمر الله، ومتوالية ميمون الطيار، ومتوالية الحكيم بهلول، ومتوالية زين النساك...)؛ لكنها تنصهر كلها في بوتقة دلالية واحدة تتمثل في إدانة الاستبداد السياسي العربي.
خاتمـــة:
يتبين لنا من خلال هذه الروايات أنها متعددة الأنماط التخييلية، فهناك التخييل الأسطوري، والتخييل العجائبي، والتخييل السياسي، والتخييل الميتاسردي. كما ينوع الكاتب تيماته ومواضيعه السردية، فهناك تيمة الامتساخ، وتيمة الخرافة، وتيمة الذاكرة، وتيمة الاستبداد.
هذا، وينفرد يحيى بزغود بمجموعة من الخصائص الموضوعية والفنية التي تميزه عن باقي كتاب المنطقة الشرقية. ومن بين هذه المميزات ارتباط الكاتب ببيئته المحلية على مستوى العادات والأعراف والتقاليد، وتوظيف اللغة المحلية بكل لهجاتها سيما العامية الجزائرية، والاهتمام بأدب الحدود، فضلا عن خاصية الراهنية التي تتمثل في رصد ثورات الربيع العربي بالتخييل والتحليل والمعالجة الأدبية والنفسية والاجتماعية والتاريخية، فينتقد معظم الأنظمة السياسية المعاصرة الجائرة.
لكن ما يميز يحيى بوزغود أكثر هو التنويع الدلالي والفني والجمالي، والاشتغال على الميتاسرد، والانفتاح على التجارب السردية العالمية من خلال الاستفادة من الرواية الواقعية، والرواية الأسطورية، والرواية الفانطازية، والرواية الميتاسردية، والرواية الأوطوبيوغرافية، والميل الكبير إلى التجريب تحبيكا وتخطيبا وتسريدا، والتأرجح بين التوثيق التاريخي والتخييل الفني والجمالي...
مشاركة منتدى
27 آذار (مارس) 2014, 19:14, بقلم د محمد صالح الحافظ
جهد تحليلي مفيد.. وأنا من المتابعين لمثل هذه التحولات الإبداعية في المغرب الشقيقة... تحياتي