الثلاثاء ١٢ حزيران (يونيو) ٢٠١٨
رُؤى ثقافيّة «310»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

في مجلس ابن جِنِّي: 6 (التفسير بقلم المرور!)

إذا كانت معجزةُ «القرآن الكريم» لغويَّةً، كما فهم الناس عبر العصور، وأقاموا علوم العربيَّة وبلاغتها على هذا الأساس، فإن مَن لا يمتلك اللغة غير مؤهَّل للتفسير، ولا لاستنباط أسرار النصوص. هكذا قال (أبو الفتح ابن جِنِّي) في المجلس السابق مع صديقه، وهما يتحاوران حول بعض تأويلات «القرآن» المعاصرة. فقال صديقه:

 الحقُّ أن صاحبنا المهندس، المشتغل بتأويل «القرآن»، لا يبدو له شأن باللغة العربيَّة، حتى في أدنى درجاتها! بل على الرغم من اشتغاله الطويل بـ«القرآن»، فإنه يلحن في قراءة الآيات القرآنيَّة، يرفع وينصب كما يحلو للسانه.

 سبحان الباري! كيف لا يُحسِن قوانين العربيَّة ثم يدَّعي عِلْمًا خارقًا بها؟! وكيف يتسنَّى له، إذن، أن يفهم العلاقات بين بنيات النص، وهو لا يُميِّز الإعراب، الذي هو أساس فهم التركيب في العربيَّة ومن ثَمَّ فهم الدلالة؟!

 حتى لقد قال (عبدالقاهر الجرجاني): «واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تُخِل بشيء منها. وذلك أنَّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كلِّ بابٍ وفروقه.»

 أجل، إنها قضيَّة عِلْم، ونزاهة، ومنهاجيَّة، لا قضيَّة عواطف. غير أنها الجُرأة على اللغة العربيَّة وعلى كتاب الله! ولا مندوحة للتذرُّع بالاجتهاد؛ لأن للاجتهاد شروطًا عِلْميَّة، مَن استخفَّ بها ضلَّ وأضلَّ.

 ماذا تعني، يا أبا الفتح، بقضيَّة عِلْم لا قضيَّة عواطف؟

 أعني لا يكفي أن يُظهِر المرء الدفاع عن العقيدة، أو عن الإسلام، أو عن «القرآن»، أو يقدِّم خطابًا ضِدَّ الإلحاد، أو مع الحداثة والمعاصرة والتجديد وضِدَّ الجمود والسلفيَّة والتقليد. لا تكفي هذه الغايات التي يَطرب لها بعض الناس، لموافقتها أهواء في أنفسهم، إنْ هي جاءت بآليَّات خاطئة، فإذا هو يُدافع بالجهل عمَّا يزعمه عِلْمًا، وإذا هو يهرف بما لا يعرف. وما أضلَّ الناس إلَّا أمثال هؤلاء. لقد اشتُرط في أُولَى مؤهِّلات المشتغل بتفسير «القرآن» العِلْم الدقيق باللغة العربيَّة. لأن اللسان العربي مادة هذا العِلْم. أمَّا العامَّة، فيتعلَّقون بالشعارات، دون إدراك الآليَّات. ولو أن كلَّ متخصِّص اشتغل في مجاله واجتهد في تخصُّصه، لكانت الأُمَّة بخير!

 صدقتَ؛ فالمهندس صار ينبغ فجأة في علوم «القرآن»، وينسى الهندسة، والطبيب يترك عيادته ويخوض في الإعجاز العلمي في «القرآن»! هناك عُقدة لدى المسلمين اليوم لانحطاطهم المعرفي والعِلْمي والحضاري، فيسعون إلى تعويض ذلك بكثرة الادعاءات والمعاجز، والتبرُّؤ من الذات، وتقليد الآخَر.

 كلُّ هذا في تفسير «القرآن»؟

 لا، هذه العقدة مستشرية اليوم كالطاعون في خلايا الثقافة العربيَّة. تظهر في مستويات أخرى مختلفة، ومجالات متعددة، كما يظهر التعويض عنها بطرق فجَّة ومتخلِّفة. في الفنِّ، مثلًا. نحن لكي نثبت أننا متحرِّرون، أو بالأصح متحلِّلون، نقدِّم سوءاتنا أمام العالم بأساليب بدائيَّة سمجة، ينبو عنها الذوق. ولا نقدِّم فنًّا، في نهاية المطاف، بل إسفافًا تعبيريَّا، مع خطاب من «الرَّدْح» الإديولوجي البليد. وإنْ لم تكن لنا سوءات مشرِّفة، وَفق المقاييس العالميَّة المعاصرة للسوءات، اختلقناها ومثلناها، لكي يحترمنا العالم!

 أبمثل هذا تُحترم الشعوب؟

 هذا معيار الاحترام، كما يعتقد سواد معاصرينا.

 ما أتعسكم، يا بُني!

 ولكي نُثبت أن لدينا أعمالًا دراميَّة لا تقلُّ فُحشًا عن الدراما العالميَّة الساقطة، لا مانع من أن نعرض أهلنا بصُوَر مقزِّزة، لا تحترم في عُنفها وانحطاطها شيئًا، حتى الطفولة! أمَّا لكي نكسب جماهيريَّةً أكثر، فمن الجائز أن نشتغل على أعمال فنيَّة نوعيَّة جِدًّا، مشتقَّة من عالم الجنِّ والعفاريت وأوكار الدعارة والمخدرات. ولا بُدَّ هنا أن يعرض مخرجونا العباقرة أدقَّ التفاصيل، مهما كانت غير أخلاقيَّة، أو كانت مؤذية للمشاعر، وغير مقبولة قانونيًّا للعرض في المجتمعات التي تحترم الإنسان؛ لأن المشاهد العربي، في اعتقاد مخرجي تلك الأعمال، من الغباء بحيث لن يفهم قصَّة الفيلم أو المسلسل إذا لم تُشرح له التفاصيل، وبالتفصيل المُمِل، والمغري أيضًا لمرضى النفوس!

 لِـمَ يفعلون هذا؟! ثمَّ إن تلك صناعة رديئة أصلًا، منحرفة، فنًّا وأخلاقًا، خَبِرها العرب قديمًا يوم أن تكسَّب الشعراء بفنِّ الشِّعر، فأفسدوا الشِّعر وأفسدوا أنفسهم ومجتمعاتهم.

 ثمَّة مكمن الإثارة والرواج والكسب، يا أبا الفتح. ويا لرسالة فنوننا القبيحة من رسالة حضاريَّة راقية هنا! على حين تحدث (أرسطو) عن رسالة الدراما التربويَّة (التطهيريَّة Catharsis) للمجتمعات، حوَّلتها دراما العربان إلى رسالة تربويَّة تخديريَّة، لا طاهرة هي ولا تطهيريَّة.

 كُلُّ أناءٍ بما فيه يَرْشَح!

 لو عشتَ عصرنا، يا ابن جني، لرأيت العجب العُجاب! لرأيت ثقافتنا تتعرَّى حيزبونًا في إنائنا، كأبشع ما تكون، ولا سيما في شهر رمضان!

 شهر رمضان؟

 نعم شهر رمضان، يا عمِّي، شهر المسلسلات والتجارة السنويَّة لتخفيف وطأة الصيام عن الصائمين وغير الصائمين! في هذا الشهر الفضيل يشتهر المجاهيل. يشتغل صاحبنا المهندس في هلوساته التي يسميها تفسيرًا للقرآن على جبهةٍ من جبهات القنوات التلفزيونيَّة، وتشتغل المسلسلات الرمضانيَّة على جبهات أخرى لا تُحصى من القنوات. تَشُنُّ جميعها على العرب والمسلمين حملتها الرمضانيَّة الشعواء التي لا تُبقي ولا تذر. هنا ترى ألوان التعامل الرديء مع الهويَّة، والتراث، واللغة، والمجتمع، والتاريخ، والثقافة، تزييفًا للوعي، وانتهاكًا للمشاعر، وازدراءً للمشاهدين، عقولًا، وقِيَمًا، وعواطف، كأفظع ما تكون الحملات البربريَّة. فهذا «عاصوف» هنا يعرض مواقف الغرام بين الأطفال، وتلك «عوالم خفيَّة» هناك تعرض مشاهد العنف الصادم وتعذيب الأطفال، وبينهما ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، من العبث والتهريج وتطبيع المجتمعات على الانحرافات والرعب والإرهاب. يقال إن من أسباب جنون الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه، -1900) مشاهدته حصانًا يُجلَد، في (تورينو) عام 1889! أمَّا في عالمنا المتوحش، فباسم الفن يُصنع مسلسل فيه يُجلد الأطفال، يُعرض على الناس في شهر الرحمة! وهنا تتجلَّى الهُوَّة الأخلاقيَّة بين إنسان الحضارة وإنسان الغابة!

 حقًّا، إن عوالمكم عوالم خفيَّة وعجيبة. لكن لماذا تفعلون بمجتمعاتكم كلَّ هذا؟

 لتقديم شحنة من الفساد تكفي إلى رمضان المقبل، على أقل تقدير!

 لله دركم! في سبيل الشهرة والمال، تُداس كل المبادئ والقِيَم! لكن دعنا نعود إلى صاحبك المهندس المفسِّر على الجبهة الحربية الأولى، فأنا بذلك أحفى وبه أحرى. لا بد أن وراء هذا الرجل حكاية.

 صدق حدسك، فلقد بدأت قصَّة صاحبنا مع «القرآن» بدايةً عاطفيَّة حماسيَّة تلفيقيَّة، بعد هزيمة 1967. ربما كان مؤهَّلًا للعمل مفسِّرًا للأحلام، وهي مهنة رائجة أيضًا في عصرنا، لكنه اختار مجالًا يتناسب مع مؤهِّلاته العِلْميَّة، فأمسى فجأةً مفسِّرًا للقرآن! بعد الهزيمة اختلف التياران الإلحادي والمتأسلم، كما قال، الأوَّل يعزو الهزيمة إلى الدِّين، والآخر يعزو الهزيمة إلى التقصير في الدِّين. فأراد الرجل، بهدفٍ مبيَّتٍ، وقبل البحث والاستقراء والاستنتاج، أن يخرج بنظريَّة توفيقيَّة، تُرضي الطرفين، فيؤسلم العِلْم ويُعلمن الإسلام. ولمَّا اصطدم بأن النصَّ لا يطاوعه، واللغة لا توافقه، شرع يحذف ويضيف، ويقلِّب اللغة عن معاني هلاميَّه يرتضيها، ويفترض أمورًا وإنْ أدَّى به الأمر إلى اخترع لغةٍ جديدة لا صلة لها بلغة العرب. فينفي الترادف تارةً، ويتوسَّع في الفهم الرمزي لكلمات «القرآن» تارةً أخرى، أو يفتح مجال المشترك اللفظي على مصراعيه، أو يربط بين كلمات لا رابط بينها لا في المبنى ولا المعنى. بل قد يفسِّر «القرآن» ببعض الاصطلاحات الدارجة الحديثة، كلجوئه لتفسير «القلم» في كتاب الله إلى القول: إنه التمييز، مستشهدًا بأنهم يستعملون في سوريا عبارة «قلم المرور». فالقلم- كما يقول- هو «التمييز»، أو ما يسمى بالإنكليزية (IDENTIFICATIONN). وكأنه لو لم يستعمل لنا (IDENTIFICATIONN) ما عرفنا معنى «التمييز»!

 مِن صاحبك لا ينقضي العجب! القلم هو القلم، وهو وسيلة التعلُّم والتمييز. ما هذا الشطح، والإبعاد في النجعة، ولَيُّ أعناق الكلمات. نحن نعلم طوال التاريخ أن «القرآن» نزل بلسان قريش، لسان قوم النبي.

 لا، يا أبا الفتح، هذا لديكم أنتم، أيها القدماء المتخلِّفون، لقد طلعَ اليوم بـ«قلم المرور السوري»!

[للحِوار بقية].


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى