الأحد ١٢ أيار (مايو) ٢٠٢٤
في مواجهة الحيوانات

نحو مقاربة نفسية اجتماعية

محمد الشاوي

توطئة

نروم في هذه القراءة والمقاربة الكشف عن المسعى العلمي التجريبي لإشكالية الآتية:

كيف يمكن تفسير ازدواجية عواطفنا ومشاعرنا تجاه الحيوانات؟

بتعبير آخر: ما السبيل إلى فهم السلوك الإنساني في علاقته بطبيعة المعاملة للحيوانات؟

ولماذا نُحبُّ الحيوانات ونعطيهم الأشياء الكثيرة من وجداننا وأحاسيسنا، وفي الآن نفسه نستخدم معهم القساوة والوحشية؟

الإنسان في مواجهة الحيوانات

تشكل العلاقة الرابطة بين الإنسان والحيوانات، الإشكال العلمي الأساس لمجموعة من التجارب العلمية التي أنجزها الباحث وأستاذ علم نفس الاجتماعي بجامعة غرونوبل بفرنسا لوران بيج- شانكلاند Laurent Bègue-Shankland في كتابه: "في مواجهة الحيوانات: عواطفنا، أحكامنا المسبقة، وازدواجية مشاعرنا". والكتاب صادر عن دار النشر أوديل يعقوب Éditions Odile Jacob بباريس سنة 2022. وقام بتقديمه الطبيب النفسي والعصبي بوريس سايرولنيك Boris Cyrulnik، وجاء في هذا التقديم قوله: "في اليوم الذي سنَفهم فيه أن الفكر بدون لغة موجود عند الحيوانات، لا شك أننا سنخجل من أنفسنا، لأننا حبسناهم في حدائق خاصة بهم، وقُمنا داخلها بإذلالهم وبالضحك عليهم".

يتخذ الكتاب من المقاربة النفسية الاجتماعية التجريبية مُنطقاً علميا يكشف به عن المشترك الوجداني والمُختلف بين الانسان والحيوان، حيث يدفعنا إلى استنباط الشيء المُزدوج في سلوكنا وتصرفاتنا. وهنا تتجه هذه المقاربة إلى فهم واقع الإنسان وتفسير سلوكه داخل محيطه الاجتماعي وفي سياق حياته اليومية وباستحضار الغير من منظور ثلاثي داخل هذه الحياة عن طريق: معرفته، ورصد تأثيراته المتبادلة، وتفاعلات الاجتماعية. وذلك إنْ على المستوى الخارجي الصريح للسلوك، أو على المستوى الداخلي المضمر. ويعتبر علم النفس الاجتماعي من "العلوم الحديثة ذات الاهتمام بالإنسان في سياق واقع حياته اليومية. وهو العلم الذي أسس لمنظور منظم ومنهجي يتخذ له كموضوع ما هو اجتماعي Social le خاصة في بعده النفسي. وتجليات هذا الموضوع تتسع لتعكس ما يحيل على الفرد وعلى المجتمع. فما هو اجتماعي بهذه الصيغة يفيد أيضا الواقع العلائقي في طبيعته وأنماط تعبيره المختلفة (الحياة الأسرية، الحياة في العمل...)".

وقد خاض الباحث بيج - شانكلاند في طرح علمي معاصر، نجد من بين تجاربه المطبًّقة على عينة الدراسة، تلك التي استوحاها من التجربة الشهيرة حول "الخضوع للسلطة" l’autorité à La soumission التي أجراها عالِم النفس الاجتماعي الأمريكي ستانلي ميلغرام Stanley Milgram خلال ستينيات القرن العشرين. وتقوم تجربة بيج - شانكلاند على دفع العينة للتأكد من صدقِ فرضيةِ "الحاق الأذى بسمكة وقتلها من أجل العلم"، وذلك وفق الاستفهام الذي يُخاطب فيه العينة، وهو: "هل تجرؤ على تعذيب وقتل سمكة من أجل العلم؟". وفي هذه التجربة تُطرح على العينة التي بلغ عددها 750 ذكورا وإناثا، مسألة القَبول بفعل الحاق الأذى بالحيوان في حوض مائي داخل المختبر، والسبب وراء ذلك توجيه بيج - شانكلاند العينة قصد الخضوح للسلطة، ومدى الامتثال لها، وإلى أي مدى يمكن رفضها. وفي الواقع ليست السمكة حقيقية، بل إنها على شكل سمكة-روبو Poisson-robot ثَم إعدادها بدقة وإتقان لمحاكاة السمكة الحقيقية.

اختار العديد من المشاركين في التجربة تنحية تعاطفهم Empathies مع السمكة وتغيير اتجاهاتهم Attitudes، والخضوع لسلطة العلم من أجل إلحاق الضرر بها، وتكون النتيجة أنها تتألم وتموت، ومن أجل هدف مشروع ومقبول من طرفهم. وهنا يتوقف التعاطف الإنساني مع الحيوان لهدف من الأهداف رغم إحساس العينة بالذنب، ويتم أيضا الامتثال للسلطة بالخضوع لها من أجل تبرير هذا الفعل بالمنفعة العلمية.

ازدواجية عواطفنا ومسألة الخضوع لسلطة العلم والطاعة "غير العمياء"

إذا كانت المسألة بالنسبة لـ: ستالي ميلغرام ترتبط بالخضوع للسلطة و"الطاعة العمياء" للأوامر في العديد من تجاربه، والتي كانت تستهدف فهم الطاعة المُدمرة L’obéissance destructrice في السلوك الإنساني. وأيضا الكُلية Totale، دون أدنى تفكير في مآل هذه الطاعة، والتي قد تصل إلى قتل البشر، فإن الدراسة التجريبية الخاصة بتعذيب وقتل السمكة التي أنجزها لوران بيج - شانكلاند ضمن سلسلة تجاربه النفسية الاجتماعية في الكتاب، تتقاطع مع هذه الفكرة، وتختلف معها فيما يخص طبيعة الطاعة المُتبعة من طرف العينة. فهي ليست حسب نتائج التجربة ب"العمياء"، بل "غير العمياء" لكونها ترتبط بمسألة تعطيل مشاعرنا نحو الحيوان. ومادام الهدف هو أن يكون الحيوان بمثابة كبش فداء "Bouc émissaire"

بالنسبة للمعرفة العلمية، فإن مآله الموت خدمة للبشر. ونستحضر هاهنا كيف يتغير سلوكنا اتجاه الحيوان بالبطش والقتل والتعذيب، عندما يملك الإنسان السلطة ويحتكرها لنفسه وفق المرامي والأهداف البرغماتية التي يُسطرها، ويهدف أيضا إلى تحقيقها على المدى البعيد.

إن أطروحة كتاب: "في مواجهة الحيوانات" تقوم على إماطة اللثام عن طبيعة تعاملنا مع الحيوانات، وذلك بتحليل تأثيرات سلوكاتنا فيها عبر التوجيه الذي يُمارَسُ في سلسلة التجارب، بحيث تبيَّن في الكتاب الطبيعة الغريبة للسلوكات البشرية المختلفة تجاه الحيوانات، وكيف يمكن أن يختفي التعاطف البشري في ظروف معينة، لاسيما عندما تكون السلطة الموجهة التي نتخذها نحوهم هي التي تُثبت سوء معاملتنا لهم. وهنا نلمسُ العلاقة الرابطة بين عنف الإنسان للحيوانات، وطبيعة العدوان الذي يسري في السلوك البشري ويدفعه نحو القساوة والوحشية. ولماذا نحب أنواعا بعينها من الحيوانات فنتقرب إليها ونتباهى بتَربيتها وملازمتها لنا بالمنازل، ونكره في نفس الوقت أنواعا أخرى فنستخدم معها سوء المعاملة وعنف السلوك.

ومن بين المباحث التي تطرق إليها لوران بيج - شانكلاند في الكتاب نذكر على سبيل المثال لا الحصر: "في اتصالية علاقة الإنسان بالحيوانات ومع بني جنسه"، "في حيادية النظرة"، "أصل أحكامنا المسبقة عن الحيوانات"، "حول وحشية السلوك الإنساني مع الحيوانات ومسألة الانحراف"، "لماذا تعاملت المجتمعات البشرية بقساوة مع الحيوانات؟"، "جدال حول أجساد الحيوانات"، وَ"في روح التعاطف والقسوة"...

على سبيل الختم

تأسيسا على ما سبق ذكره، يتبيّن أن لوران بيج – شانكلاند استطاع أن يكشف لنا وبحق عن الملامح والظروف الفردية داخل السياق الاجتماعي المشترك الذي ينقلنا إلى الروابط التي تدفعنا إلى الوعي بهويتنا وبصميم علاقتنا بالآخر (الفردي أو الجماعي). إنها تلك الروابط التي يحضر فيها السلوك الإنساني ونظيره الحيواني بدءا من التعاطف والحب، وانتقالا إلى القسوة وسوء المعاملة؛ وذلك بتحليل ازدواجية عاطفة الإنسان نحو الحيوانات من منظور علم النفس الاجتماعي التجريبي المعاصر. وتحديدا بتركيز الاهتمام على الاستراتيجية التي يَنْظُرُ فيها الإنسان إلى نفسه خارج مملكة الحيوانات، بل وفي درجة أعلى منها مرتبة ومكانة، تلكم التي تمتاز بها الفرادة الإنسانيةLa singularité humaine . لذلك فالطريقة التي نتعامل بها مع الحيوانات ترتد بالأساس إلى المعايير الاجتماعية التي تُحدّدُ سلوكاتنا، وكذلك القيم الاجتماعية التي تضعها المجتمعات السابقة على اللاحقة؛ لتؤطر طبيعة تعاملنا مع الحيوانات، بحيث يتم اكتساب هذه المعايير والقيم من التأثيرات الثقافية التي تُمارس عينا منذ نعومة أظافرنا إلى مرحلة رشدنا وكُهولتنا إنْ على مستوى الفروق في الكرامة والحقوق الطبيعية أو على مستوى إعادة الاعتبار للحقوق الواجبة علينا نحو عالَم الحيوانات. وهو الشيء الذي يجعلنا نشعر في آخر المطاف بأن رغباتنا ونزواتنا يجب أن تَحترم حقوق الحيوانات بالتوقف عن الأعمال الوحشية نحوهم والعمل على إنصافهم قدر الإمكان. فهل استطعنا فعلا اليوم كبح جماح عدواننا نحو عالَم الحيوانات بالعمل على إعادة الاعتبار لها من منطلق البديل الحضاري والكوني الذي تقوم عليه المدنية المعاصرة؟

محمد الشاوي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى