قراءةٌ في «تنمو أيادٍ لفينوس» لعلي غدير
مضتْ أشهرٌ طوال قبل أن تحملَ يدايَّ روايةً من جديد، ليس لضيقِ الوقت كما يدعي البعض وليس كما يبررُ البعض الآخر حينما يقول أن عصرَ السرعة الذي نعيشه راح يجعلنا ننشدُ كل ما يختزلُ الوقت وإنما لأني لم أعدْ أتذوق الحروف وليس العيبُ في حواسي فهي سليمة لا تعاني من علة كما يؤكد الطبيب، وإنما لما انتشر اليوم على الساحة الأدبية من أعمال روائية فكلّما زرتُ معرضاً للكتاب وجدتُ التصاميمَ الطباعية المبهرة تغلّفُ الأعمال الأدبية الضعيفة فلا عناوين تشدني ولا فحوى تداعبُ حواسي فأكتفي بتقليبِ صفحاتها الفقيرة واتركها حيث كانتْ على الرف علّها تحظى بمن يقتنيها بعدي.
عزفتْ نفسي عن المطالعة الطويلة لذلكَ السبب ورحتُ أغذي الروحَ الجائعة ببعض الأعمالِ القصصية القصيرة، فكنتُ تارة أجدُ ما أسد به رمقي بعد عناء وتارة أخرى كنتُ أرغم على الصيامِ لأسابيعٍ طوال!.
حتى وقعتْ عيني قبل أيامٍ على رواية (تنمو أيادٍ لفينوس) لكاتبها أ.علي غدير، استفزتْ حواسي جميعاً ما أن التقينا أنا وهي وكأنه حب من أول نظرة!،اسمها الجذاب أول الأمر،فالتمهيد الذي كتبه علي في أول صفحة من الرواية والذي أسر عقلي، ثم الشروط التي راح يشددُ على توفرها في قراء روايته (تنمو أياد لفينوس) قبل الإبحار في محيطاتها البعيدة.
قرأتُ الشروط وابتسمتْ فهو يشترطُ أن يكون القارئ قد بلغَ سن الحرية!، شرطٌ غامض وصارم بعض الشيء كذاكَ الذي خطته أحلام مستغانمي فوق غلاف كتابها الأخير(نسيان دوت كوم) عندما نوهت ب( يحضر بيعه للرجال)! فكما استفزتْ أحلام الرجال لاقتناء كتابها للتلصص خلسة على ما كتبتْ في حوار خاص للنساء فعلي غدير جعلني أنقبُ في ذاكرتي وحاضري عن مفهوم متقن للحرية، حرية الروح البعيدة عن أي قيدٍ أو أسر، المتنصلة عن أي تبعية، والتي تتمتعُ بقدر رفيع من الموضوعية.
قرأتُ الشروط بإمعانٍ وأقسمتُ مع نفسي أن التزمَ بها أمام أوراقه وان أخفقتُ قررتُ أن اتبعَ نصيحته وأعود لأقرأها مرة ثانية فهو وحده من يرسم خريطة الكنز في الرواية فلكي أصل إلى جوهر الرواية الدفين وغايتها المرجوة وأتذوق شهدها كما تذوقها هو سأتبعه إذن وليكن هو مرشدي الوحيد في هذه الرحلة.
ما أن وقفتُ أمام ( تنمو أيادٍ لفينوس) حتى شعرتُ أني أمام أمر جليل،كأنني رائدة فضاء ستقلعُ إلى كوكبٍ جديد غامض بعد قليل!، فوجب عليَّ أن أرتدي البزة الفضائية المناسبة وأتزودَ بمجموعةٍ من العدد وأخوض نوعاً معيناً من التدريبات السريعة حتى لا أعاني ويلات انعدام الجاذبية واعتاد العيشة في الفضاء الخارجي لساعات تماماً هذا ما حصل معي، فشروطُ علي غدير كانتْ تهيئني وتدربني لأخلقَ حاسة سادسة وسابعة وعاشرة لو لزم الأمر فروايتهُ لن يجدي معها نفعاً أن اختزلَ حواسي كما لو كنتُ أطالعُ صحيفة بل أن أخلقَ فوق حواسي الخمس حواساً أخرى جديدة فعالة لأحلّقَ روحاً وجسداً في فضاءها اللا منتهي.
وما أن تهيأتُ لذلكَ وشرعتُ بالسفر ترافقني سطوره حتى وجدتهُ يفتح لي أولَ باب كأنه يكافئني فجاءتني أول هدية بليغة حين قالَ: (أن تحب بلا حريةٍ، يعني أن تتحرّر بلا حب، وفي كلتي الحالتين؛ أنتَ ميْتٌ... والبقاءُ في مماتك) ابتسمتُ مجدداً وتساءلتُ: ما الذي أنا مقبلةٌ عليه يا علي؟!
استوقفتني طويلاً جملة ( أن تحب بلا حريةٍ، يعني أن تتحرّر بلا حب) ورحتُ أخطها على ورقة جانبية بقربي لأني وجدتُ فيها عمقاً وفهماً لاقترانِ الحب بالحرية أو ربما اقتران الأخيرة بالأولى لم اقرأ مثله منذ دهر لكني لم أكنْ عندها أعلمُ أني سأملأ تلكَ الورقة وأربعة أخرى غيرها بسطور أكثر روعةً، خلبتْ لبي وهي تتحدثُ عن الحب والحرية والنضال والتحرر والظلم والقسوة والطموح والصبر والخلود والإرادة والثقة بالنفس والانتماء)، كنتُ في كل مرة أقفُ وأقولُ : هذه الفكرة أجملُ ما قرأتُ، فأجدُ أني بعدها أضع جملة أخرى تسبقها في المكانة وتعتلي العرش كأميرة واستمرَ الحال معي هكذا حتى السطر الأخير من الرواية!
في ( تنمو أيادٍ لفينوس) هنالكَ المحور الأساسي حيث قصة الحب الاستثنائية التي تجمع بطلي القصة (غادة وبهاء) ومع أنها استثنائية إلا أني لم اشعرْ لحظة واحدة في أنها خيالية أو أنها لا تمتُ إلى واقعنا بصلة، كنتُ أرى أمامي بكل وضوح (غادة) بجمالها البهي وسحرها الأنثوي الأخاذ وذكاءها المتقد وجرأتها في الحب وتحررها في الثياب وبلاغتها في الكلام والجدال، شعرتها واقفة أمامي بدمها الساخن لوعة واشتياقاً وولعاً وحباً تتحركُ وتتمايلُ بغنج وهي تهمسُ بالحب قربَ أذني بهاء الذي كنتُ أرى بعيني أيضاً تقلباته الداخلية جميعاً ومعاناته النفسية وهو يحاربُ كل ما زرع في رأسه منذ خلقه من مفاهيم قديمة متوارثة في الحب، وهو القادم من بيئة صحراوية عتيقة جرداء من الحب العاصف والشغف بالمحبوب ليقع مجنوناً بحب غادة المستديم.
حب (غادة وبهاء) وان كان يأخذ الكثير من المساحة على طول الرواية لكني لا أجدُ أن علياً كاتب الرواية قد زاد فيه وصفاً أو بالغ في السرد وإنما كنتُ أجده ضرورياً حتى تكتمل اللوحة التي أشاهدُ بكل أركانها وأبعادها وتفاصيلها وألوانها وكان الأسلوبُ الذي نهجه وهو يتحدثُ عن الحرية في الحب أو الحب في الحرية منهاجاً لا يكل ولا يمل منه، كنتُ أمام مدرسة عظيمة في الحب تعرضُ دروسها أمامي، لا تفرضُ عليَّ الحضور الإجباري ولا الإنصات إلى محاضرات تقليدية في الطرح فأنفرُ بعد أول حصة وإنما تشدني بما تحمله من إبهار وواقعية تجعلني ألتزم الحضور وأنهم منها ما استطيع، لذا لم تكنْ مشاهدُ الحب التي جمعتْ البطلين كلما التقيا إلا القالب الذي تصبُ فيه باقي الأحداث فقصة حب تدوم سنوات ستكون بلا شك ثرية بالأحداث وتتطلبُ من كاتبها نقلَ الإحساس وما أصعبُ الكتابة في الأحاسيس والمشاعر فالقارئ يدرك سريعاً إن كانت الحروفُ أمامه تنبضُ بالدماء أم أنها خرجتْ من براد الثلج للتو!.
وحب (غادة وبهاء) لم يكن نبتة بلا جذور بل كان شجرة معمرة تمتد جذورها في تاريخ العراق الحديث المعاصر وتلامس بقوة عقوداً من الزمن مرتْ بها بغداد وكركوك وكردستان فوجدتُ نفسي أتحركُ مع الأبطال وأعايشُ مرة أخرى تسعينيات القرن الماضي كمرحلةٍ مهمة في الأحداث وما تحمله من أوجاع وأحزان وآلام لشخوص الرواية مروراً بمرحلةٍ جديدة تمثلُ ما تلتْ لأحداث العراق عام 2003 م وكان عليٌ ذكياً في الطريقة التي راح يسردُ بها التاريخَ فكانت التواريخ ذائبة مع الشخوص ولم أعدْ أعلم هل هو استذكار لحياة كركوك من خلال شخوصها أم أن التواريخ النابضة في القلب تلكَ راحتْ تجسمُ لي واحدةً من أجملِ قصص الحب وهي تتحدى بصلابة كل ما يواجهها من سنواتِ بعادٍ وخصامٍ ومفاهيم اجتماعية مغلوطة مفروضة عليها بقسوة.
وأنا اقرأ عن غادة وبهاء وأعايشهم كنتُ اشعرُ أني أمام ملحمة من الحب والنضال والثورات المتكررة في النفس والمجتمع على المستوى السياسي والاجتماعي والفكري ومنذ الفصول الأولى كنتُ اشعرُ بذات الإحساس الجميل الخفي الذي شعرته يوماً حين قرأتُ سطور كاتبتي المفضلة أحلام مستغانمي في رواية (ذاكرة الجسد) فلقد شممتُ الرائحة الزكية ذاتها مع (تنمو أيادٍ لفينوس)، رائحة الحروف الشهية وطعمها اللذيذ عند التذوق وابتسمتُ بغرور فيما بعد وأنا أجدُ أن (بهاءً) بطل الرواية في إحدى فصول الرواية اللاحقة يتذكرُ مع معشوقته غادة كيف أهداها قبل سنواتٍ ثلاثية أحلام مستغانمي ومن ضمنها (ذاكرة الجسد) وأثبتَ لي ذلك أمراً مهماً وهو أني انصهرتُ كلياً مع شخوص الرواية حتى بتُ واحدة منهم بعد بضع صفحات فحسب!
في ( تنمو أيادٍ لفينوس) كانت المفاجآت حاضرةً طوال النص وهذا ما يبعثُ في النفس الترقب المستمر والمتعة المتجددة، فكانت الشخوص تتلونُ وتنضجُ ولم تكتمل بشكلها النهائي إلا مع السطور الأخيرة من الرواية، فالشخوصُ في الثلث الأخير منها يرتدون حلية جديدة فنجد إننا نتعرفُ على بهاءٍ جديد لم نكن قد ما ألفناه في الفصول الأولى، كما تتغيرُ شخصية غادة ايجابياً بعد ذلك فنجد فيها بعداً جديداً في الانتماء للوطنِ وهي ترتقي مستوى إنسانياً مختلفاً فتتحولُ من ثائرة في الحب إلى ثائرة لأجل الوطن وربما هذا ما كان عليٌ قد لمّح له في أول روايته حين كتبَ يدعونا إلى أن لا نقفَ موقف المتفرجين على الحياة لأننا سندفع الثمن.
وأنا انهي قراءة الرواية كنتُ انظرُ في وجه فينوس وجسدها البهي الفتي المتفجر سحراً وأنوثة وأتذكر غادة بثرائها الجمالي والروحي وكنتُ أفكر بالرمزية العظيمة التي أستعارها علي وهو يصوّر الحرية في جسد فينوس، فأن لم أكن مخطئة فهو لم يكن يقصدُ التحرر من الثياب وإنما كان ينظر عميقاً إلى داخل حواء من خلال شخصية غادة المتحررة وحبيبها القروي الذي يمثل المجتمع بقصوره وضعفه ورغبته العارمة بالانتفاض والتحرر والحب والسلام بعد أن عانى ما عانى لعقود من الكبت في قريته الصغيرة ضيقة التفكير ومجتمعه الذائب في التقاليد البالية والذي عانى هو الآخر بما عانى منه البلد ككل من كبتٍ مزمن واختناقات متكررة.
خرجتُ من الرواية أحملُ مفاهيمَ جديدة عن الحب والحرية تعلمتها من معلمي علي من خلال (غادة وبهاء) مدركة أخيراً لما قرنَ طويلاً بينهما في المقدمة –الحب والحرية- ولا أخفي على أحد أني كنتُ في بعضِ الأحيان وأنا أغوص في محيطات الرواية أتوقف لالتماسِ بعض الأمور عليَّ وتضاربها في رأسي وقلبي فأتذكر سريعاً الخريطة التي رسمها علي غدير في أولِ روايته فيزولُ عني التشويش الذي ضربني فوجدتني أشبه (بهاء) بطل الرواية بعض الشيء فكلانا كان بحاجةٍ إلى التدريبِ المكثف للخروج إلى النور، نور الروح والنفس الإنسانية التي تسمو فوق كل شيء وهي تتخلى كلياً وبشكل تامٍ عن أي قيدٍ يكبّلُ المعصمين ورثته لأنها احد سكان هذا الكوكب المتناقض، وربما ستجدونَ أنفسكم أنتم أيضاً تعانونَ الأمر ذاته فلا تتوانوا أن تأخذوا استراحة قصيرة وبعض الأنفاس وتعيدوا قراءة الشروط في المقدمة ثم تعاودوا استكمال الأحداث.
علي غدير، صديقي العزيز...لم اقرأ منذُ أن قرأت (ذاكرة الجسد) رواية تفوق روايتكَ جمالاً، مبروكٌ لكَ ولنا وليدكَ (تنمو إيادٍ لفينوس).
– علي غدير: كاتب عراقي ومدير تحرير صحيفة عراقية.
– إيمان اكرم البياتي: كاتبة قصصية عراقية وناقدة