قراءة في أنثى الريح لحياة الرايس
«أنثى الريح»، كان عنوانا لمجموعة الكاتبة القاصة والشاعرة حياة الرايس، أين جاءت بعض القصائد على شكل لافتات، كالتي توعدناها في شعر أحمد مطر، فقط حياة الرايس لم توظفها للتمرد، بقدر ما كانت تشرح بها الحياة، بسريالية عميقة ومدهشة، يتم فيها المزج بين حالة النرفانا الدائمة- التي تحتوي كل النصوص- وذلك الإختصار، الذي يوحي بترسبات التجارب الذاتية، والإسقاطات الحياتية لتجارب أخرى في المحيط والعالم.
كلما توغلنا في نصوص أنثى الريح الشعرية النثرية، نجد بعضها لوحات فنية، مشحونة بصور تكاد تأخذنا من أيدينا لتمضي بنا حيث فضاء القصة القصيرة جدا، في أحد أجمل ألوانها وهو الخواطر الشعرية، جاءت هذه اللوحات طافحة بالشعرية والصور المكثفة، أين نجد ذلك الإختصار الشديد، والكلمات المحسوبة بدلالاتها العميقة، ومفارقاتها ودهشتها.
حين نقرأ قصيدة «قدر» وكأننا نرسو على شاطئ أنثى الريح، لنسترق من عروس البحر، لحظة ظهورها على الماء، ثم تعود من جديد إلى خيالات تسافر بها الريح، ويرويها الحكواتي بجمال الأساطير؛ ويمكن ملاحظة ذلك في نص القصيدة:
"..إنك لست شباكاأفتحه وقت الصحووأغلقه وقت المطرإنك لست شباكا أسدل ستائرهوأزيحها متى أريدإنك حياتيالمشرعة أبدا على الريح..".
كما يبدو تـأثر الكاتبة بالجانب الفلسفي الشاعري الوصفي الملحمي، وهي ترسم لوحة اللوم في نص " أيها الرجل " ثم الحضور والغياب في نص "الفراق" وبعدهما خيالات الريح في نص قصيدة "الحلم".
من قصيدة : أيها الرجل
(...)أيها الرجل المتكتمعلى جميل حكايتنالماذا تحرم نساءالقريةمن توشيحخيوط نسيجهنبتفاصيل حكايتنا؟فمن أين سيأتين بألوانالخيط والرسم والوشمفي غياب الحكايات؟(...).قصيدة : الفراقترددت الدمعةطويلاعلى عتبةالعينتـُرى إذا نزلتهل أعود ثانية؟قصيدة: الحلمدفعت الشمس النافذةووقفت عند رأس الطفلالنائم هيّا:نتبادل الحلم
وفي قصيدة "رسالة لم يقرأها أحد" راحت الكاتبة حياة الرايس، تضع رسما لمراحل العمر، وأنت تقرأ النص وكأنك تسمع المغني ليو فري وهو يغرد برائعته مع الزمن.
أما في الجزء الثاني من أنثى الريح، المعنون برسائل أخطأت عنوانها ( رسائل حب رومانسية) ؛ تنتقل بنا حياة الرايس لتحسس اللحظة ( الإنتظار/ الإرتباك/ القلق)، في الرسالة " طقوس الرسائل القديمة " تتناول الكاتبة بالحديث تلك الرسالة المكتوبة والتي تختلف حتما عن الرسالة الأثيرية الإفتراضية والسريعة، ونجد الكاتبة توضح هنا ذاكرة الشعور وحياته وموته؛ ذاكرة الرسالة المكتوبة التي تشير إليها بكيمياء كاتبها وآثار أحاسيسه فيها وعليها وهي تنفخ الروح في كل حرف فيها بتناغمٍ على سوناتا الحزن والفرح، وكأن القاصة والشاعرة حياة الرايس، استوقفتنا قليلا، لتذكرنا بروح الحرف ودرجته ومرتبته، لتزيد في عمر الرسالة المكتوبة وتجدد لها الحياة بعد كل قراءة، وتربط وجودها بواقعية الذاكرة، تبحث في أدق التفاصيل حتى نجد أنفسنا أمام تلك الصورة المنطقية لمفهوم الآلية داخل حركات الكون؛ التي تشترط في شرح عللها وإدراكها، معرفة الخصائص الكيماوية والفيزيائية بين العناصر،
من نص: طقوس الرسائل القديمة
(...)أحب أن أمسك بيدي الورقة التي كانت بيدك، لتصلني كيمياء جسدك، وأترك لعيني لذة ملامسة الأحرف، التي أودعتها بصماتك وهمساتك ورائحتك(..).
كما يبدو أنها ، وبشكل سهل ممتنع، وُفقت إلى حد بعيد في وصف سلوك العاشق الواقع تحت سحر المعشوق
من نفس نص الرسالة (طقوس الرسائل القديمة):
(...) ثم في الآخر أحب أن أطويها- رسالتك- وأضعها في حقيبة يدي وأخرج، تعويذة أقاوم بها يوما غير آمن الشرور والمجهول..".
أما في رسالة : نوستالجي، والتي تعني بالعربي حنين؛ تتأرجح خيالات الكاتبة بين موجتين وشاطئين؛ باريس ومعالمها، وتونس بسنابلها وخضرتها، وكم كانت دقيقة في رسم سيكولوجية الحنين، بلغة منتقاة ومضبوطة، ويمكن ملاحظة ذلك لمّا وصفت كاتدرائية نوتردام دو باري القول:
".. أسند لها ظهري (وتقصد هنا كراسي السفينة الراسية على نهر السين)، وأقبّل وجهي نحو كاتدرائية نوتر دام دو باري، المنتصبة أمامنا كغابة من الحجارة الداكنة القريبة من لون السحب الشتوية، تحمل لون الأبدية، تبعث على الرهبة والعظمة في نفس الوقت .." .
كما يبدو تمكنها من مزاوجة الألوان ببراعة، كما يفعل الفنان التشكيلي على اللوحة
من نفس الرسالة(نوستالجي)
(...)اشتقت إلى الأزرق البحري في روابي قرطاج وإلى التراب الأسمر المصهود بحرقة الشمس(...).
تعصرني نزعة الرجوع إلى الفطرة الأولى، ومعانقة الحياة في فجرها الأول، هناك في تلك الأزقة حيث صرخت صرختي الأولى..".
في رسالة "كلما تدثرت بالسفر يعرّيني الحنين"، يمكن قراءة شيءٍ من شخصية الكاتبة القوية والعادلة حيث لا تدخل في متاهات الذكورة والأنوثة ؛ تقف موقفا سويا حسب الظاهرة الواقعة، حين تقول حياة الرايس:
(...)كان الوقت غروبا، وكانت الشمس تتباطأ في لمّ أشعتها والرحيل، لا تريد أن تفارق النهار بسرعة، وأنا كيف فارقتك بتلك السرعة؟
ما زال عتابكَ يرّن معذبا في أذني : "ببساطة ترحلين وبصعوبة تعودين.
أذكر أيضا أنكَ كتبتَ لي في إحدى رسائلكَ: "..الآن منتصف الليل، أستمع إلى رخماتوف، أرى عينيكِ، وهما أجمل ما رأيتُ في هذا النهار، غدا صباحا اتصل بكِ، اشتقت إلى سماع صوتك، أنتِ يا من لا تشتاقين إلى شيء.."
هكذا ختمتَ رسالتك(...).
ثم وكأنها لتشرح نوبة العشق، تلك التي تحتوي العاشق وتذيبه في دهاليز المعشوق، فيحاول المحِبّ التمرد والثورة بالتيه على شيء يسكنه ويحتل تفكيره وإحساسه،
من نفس الرسالة(كلما تدثرت بالسفر يعرّيني الحنين )
(...)أبتسم !أصحيح أني لا أشتاق إلى شيء؟ أم أني أمتحن بك الإخلاص، وأُكـَذب بك ذلك المثل الفرنسي القائل" بعيد عن العين بعيد عن القلب
ثم تنوب حياة الرايس عن العشاق في شكل جوقة موسيقية بدل الملايين منهم، المظلومين بحبهم، وتقول:
(...) نسافر لنبلغ الذين نحبهم أننا لا نزال نحبهم، وأن البعد لا يقوى على دهشتنا، وأن المنافي لذيذة وطازجة كالأوطان، نسافر ليكون الوداع مليئا بالوعود(...).
ثم تعود حياة الرايس إلى ذلك الإعتراف الجميل والشاعر المشبع بموسيقى موزار الليلية و بالي بحيرة البجع لتشيكوفسكي، ورسالة إليز لبتهوفن، جميل أن تكتب امرأة لرجل رسالة عنوانها" كلما أنكسر أقرأ رسائلك"
(...) أشرب القهوة وحدي. هذا المساء يعود فيتناعس فيما يشبه الخدر اللذيذ، على وقع ذكريات خطواتك وجلساتك و حكاياتك وهمساتك ووميض عينيك يفيض ببريق يزهر المكان(...)
(...) أفتح رسالتك وأستند على سطورها، أبحث في طياتها عن تفاصيلك، عن وجهك عن يدك تدفئ يدي الباردة، فتبعث الدفء في أوصال هذا المساء(....)
(...)أنا أيضا ومثلما كتبتَ لي ذات رسالة: "كلما أنكسر أقرأ رسائلكِ".