الجمعة ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم جميل حمداوي

قراءة في ديوان" شاعر في بطن الحوت" لبوزيان حجوط

يعد الشاعر بوزيان حجوط من أهم الشعراء المغاربة الشباب المتميزين الذين يتحكمون جيدا في تحبير القصيدة النثرية وتجويدها تشكيلا ورؤية. ويعيش الشاعر في شمال المنطقة الشرقية(مدينة الناظور) بين وهاد الريف الأمازيغي ، يكتب بعشق وتفان ما يسمى بالشعر المنثور والشذرات الشعرية كما يبدو ذلك جليا في ديوانه الشعري ألا وهو" شاعر في بطن الحوت" الذي صدر عن دار تريفة بمدينة بركان سنة1998م. إذاً، ماهي المكونات الموازية والدلالية والفنية التي يتسم بها هذا المولود الشعري الجديد؟

أ‌- عتبات النــــص الموازي:

1- العنوان الخارجي:

إذا تأملنا الخطاب الغلافي للديوان سنجد على صدره عنوانا مكتوبا بخط أزرق يحمل بألوانه دلالات طبوغرافية ورمزية شتى. فالأزرق يحيل على الصفاء ويؤشر على الخصوبة والحياة والماء والمطر وأسطورة الموت والانبعاث، تلك الأسطورة التي نجدها عند الشعراء التموزيين(بدرشاكرالسياب، وعبد الوهاب البياتي، وخليل حاوي، وأدونيس). كما تحيل الصورة الكاليغرافية بأبعادها الهندسية وتموجات الماء والكائن على الطوفان رمز التطهير والثورة والتغيير رفضا لماهو سائد وموجود.

ويبين العنوان اللغوي الذي صيغ في جملة اسمية مركبة من الإسناد المحذوف (هذا شاعر) والظرف المكاني(في بطن الحوت) ثلاثية الذات والمكان وعقدة الديوان التي تتمثل في كون الشاعر مأسورا في سجن المكان سواء أكان ذاتيا نفسيا أم وجوديا حقيقيا. المهم أن الشاعر يعاني من الغربة الذاتية والمكانية بسبب الآخر الذي يلوذ بالصمت والرفض والهزيمة والموت ويعيش على إيقاعات الفراغ والعبثية والاستهلاك والانهيار الحضاري.

ويتحاور العنوان تناصيا مع قصة يونس ، ذلك النبيء الذي اختار الرحيل بعد أن يئس من قومه الرافض لدعوته التوحيدية، فكان جزاؤه أن وقع في بطن الحوت عقابا له. ولولا استغفاره المستديم في جوف الحوت لبقي في هذا المكان المظلم إلى يوم البعث. قال الله تعالى:"وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الملك المشحون، فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، فنبذناه بالعراء وهو سقيم"( الصافات ، من الآية142إلى الآية145).

يستوحي العنوان- إذاً- الخطاب الديني باعتباره نصا مناصيا وخطابا مرجعيا لصياغة ديوانه الشعري وقصيدته( شاعر في بطن الحوت)، تلك القصيدة التي تصور معاناة الشاعر بسبب جهالات قومه الذين يرفضون الشعر والثقافة والعلم وكل أنماط التفكير والوعي الروحي، ويطردون كل من يحمل رسالة الشعر أو بذور العلم أو يتصفح كتابا أو قرطاسا باسم الخطيئة والسياسة والجهر بالحق لإظهار الباطل وإحقاق العدالة ونصرة الحرية وإنارة المجتمع. وتجسد القصيدة صراع الشاعر مع مدينته الرافضة للقيم السامية، تلك المدينة الأفلاطونية التي لامكان فيها للشعراء وأنبياء الكلمة، تقتل أبناءها الشعراء وتدوسهم واحدا تلو الآخر. لأن المادة في المدينة تكمم الأشياء والروحانيات وملفوظات الفكر.

2- التعييـن الجنسي:

وتحت العنوان الأساسي، يوجد عنوان فرعي يؤشر على التجنيس النوعي، فالكتاب عبارة عن ديوان شعري يجمع بين دفتيه قصائد شعرية وشذرات نثرية موازية للقصائد، تحمل مواقف وردود فعل الشاعر تجاه ذاته وواقعه . وهذه الشذرات عبارة عن مقتبسات وانطباعات فكرية وفلسفية ومشاريع مستقبلية وصراخات واعترافات وانتقادات تحرك الكائن والممكن.

3- الصورة- الأيقونة:

وفي الغلاف الخلفي، نجد أنفسنا أمام صورة فوتوغرافية للشاعر الشاب أمام الميكروفون أو المكبر الصوتي تتحدد من خلالها هوية الشاعر الفسيولوجية والتعريفية ووظيفته التي تكمن في قول الشعر لكشف القناع وفضح المستور. وإلى جوار الصورة الفوتوغرافية، تتربع قصيدة شعرية تحت عنوان" وصية شاعر" وهي بمثابة نصائح لكل شاعر مبتدئ. فأن تكون شاعرا عند بوزيان حجوط يعني أن تتحمل المأساة بكل روح بروميثيوسية وتخوض الحرب الضروس بكل تضحية وإباء، وألا تستهين بها لشراسة المقاومة وعنف المعاناة التي تبلغ بالشاعر إلى درجة الجرح والموت.

4- حيثيــات النشر:

هذا، ويحمل الديوان إشارات قانونية وتسويقية تتعلق بحيثيات النشر التي توضح مكان الطبع وتاريخه وعدد الطبعات فضلا عن ثمن النسخة الذي يلمح إلى سوسيولوجية القراءة وخصوصيات التوزيع والاستهلاك وعلاقة القارئ بالكتاب . وقد أظهر لنا التحليل أن الكتاب الذي يبلغ عدد صفحاته(134) صفحة يستحق هذا الثمن الذي حدد في هامش الغلاف الخلفي(23 درهما) كما وجودة ؛ لأن قيمته الفنية والاستعمالية أثمن بكثير من سعره البخس، كما أن شعر بوزيان حجوط غني بالمتعة الفنية والفائدة التي تطرحها مضامين القصائد ومستنسخاتها النصية.

5- مقدمة الديوان:

وعليه، فالشاعر يستفتح ديوانه بمقدمة تضيء تمفصلات الديوان وتوضح عتباته وأبعاده الدلالية وسماته الفنية والجمالية. فالشعر لدى بوزيان حجوط وعي ومسؤولية، شهادة واستشهاد على حد عبارة الأديب المغربي عبد الله راجع، أو مواجهة وتأسيس على حد مقولة محمد بنيس، أو هو شعر لكشف المجهول وخبايا المضمر كما يذهب إلى ذلك أدونيس، أو تصوير ملحمة الموت والانبعاث كما يتصور ذلك الشعراء التموزيون. فالشعر لدى الشاعر معاناة ومغامرة وبوح بالألم وكشف للزيف وفضح للكائن واستشراف أحلام الممكن ويقظته ونهضته. إنه كتابة الشعب في طرح الأسئلة، لأن الأسئلة كما يقول الفيلسوف كارل ياسبرز أهم من الأجوبة. وتنبني أسئلة الديوان على الشك قصد الوصول إلى اليقين عبر مسارات الوضوح والكشف واستنطاق الواقع المحلي والوطني والقومي لنقد الذات لمواصلة البناء وتحقيق الوحدة وتفادي الانكسارات والهزائم المتتالية.

6- العناوين الداخلية:

يضم الديوان بين دفتيه (52) قصيدة أو مقطوعة شعرية. وعناوينها في بنيتها التركيبية محمولات اسمية أكثر مما هي فعلية؛ لأنها تختزل ماهو دلالي في بنيات موضوعاتية تلخص النصوص في شكل عقد سردية أو أحداث درامية أو صيغ التهكم والسخرية أو حالات نفسية وموضوعية( ملحمة الشخير- من يجرؤ؟- نزيف داخلي- جميل همسك- ...). كما تجمع هذه العناوين الداخلية بين ماهو حسي( لافتات مغربية)، وماهو مجرد (كلمات سابحة)، وتفوح أيضا بأبعاد رمزية وأسطورية. إذ نجد عناوين ذات رموز دينية(شاعر في بطن الحوت- قابيل يعتذر- أيوب في الصبر- إسراء شعري- فردوسها ذروة الجحيم...)، ورموز أسطورية( سيزيف يقرأ الجريدة- طائر الفنيق يموت في بلاد العرب- هروب سيزيف- ....)، ورموز صوفية( الحلاج يفيض من كأسه- التسامي...)، ورموز أدبية( ليلاي تصلب في قيسا- بثينة المطر..)، ورموز تاريخية(محاكم تفتيش شعرية-...).

7- المقتبسات النصية:

وتوجد تحت العناوين الرئيسية الداخلية مقتبسات موازية في معظم قصائد الديوان على النحو التالي:

إهداء: " إلى كل شاعر مات، وفي أعماقه شيء من الحزن، رحل دون ضوضاء، ولم يعرفه أحد"( من قصيدة أرفض)؛

مقتبس في شكل قولة مفكر : " الأمريكيون على سطح المريخ، فمتى يهبط العرب على سطح الأرض؟ لإدوارد سعيد" . (من قصيدة تحت المجهر يقبع جلاد)؛

مقتبس في شكل سؤال:" هل فكرت يوما أن مرآتك تدون كل أسرارك القبيحة؟ فحذار لدى رؤيتها!"( من قصيدة ثوب العالم لايكفيني)؛

مقتبس في شكل انطباع:" كثيرون هم المطعونون بخنجر علبة. وسهام بثينة. وكثيرة هي القلوب الدامية. من قصيدة (ظلك الآخر)؛

مقتبس في شكل حكمة:" عش عربا...ترى عبثا" من قصيدة(هل تملك رخصة الرقص؟)؛

مقتبس في شكل تداعيات:" من تداعيات انهزامنا الحضاري؟"( من قصيدة فانطازيا عربية)،

مقتبس تجنيسي:" نثر عاطفي عندما تنطق العاطفة..ويرقص العالم معي"،(من قصيدة وهيبة الأمل)،" ملحمة شاعر برومبثيسي" (من قصيدة شاعر في بطن الحوت)؛

مقتبس في شكل صيغة سردية:" زعموا أنه كانت في سالف العصر والأوان أمة تسمى العرب تأخرت عن الركب، وتعطل فيها المنطق والزمن..."، (من قصيدة ملحمة الشخير).

ب- دلالات النــــص:

من خلال هذه العناوين الدلالية السالفة الذكر، يعزف الديوان على إيقاعات موضوعاتية مختلفة، إذ تداخل عبر أنغام القصائد الأبعاد الذاتية مع الأبعاد الموضوعية، كما تتقاطع الأبعاد الوطنية مع الأبعاد القومية والحضارية، وتحضر تيمات متنوعة يمكن إجمالها في: المدينة والشعر- العرب بين الكائن والممكن- لعنة السلام والحرب- الحب والمرأة- الوجود بين التيه والضياع- الموت والانبعاث- المعاناة والألم- التراث- الذات بين الألم والأمل- الغربة الذاتية والمكانية- التصوف- الحرية والاستعباد - القمع والاستبداد- الذات والشعر- الوطن السياسي.
هذا، ويتميز شعر بوزيان حجوط بعدة سمات على مستوى المضامين، فأول ما نلمحه في الديوان هو تخطي الشاعر لماهو وطني وقومي إلى ماهو حضاري وإنساني، بله عن انفتاحه واطلاعه على التراث الإنساني بما فيه التراث الغربي واليوناني الذي استوحى منه أساطيره ورموزه(سيزيف- بروميثيوس- جمهورية أفلاطون- بورخيس- محكمة التفتيش- گودو...)، والتراث العربي القديم والحديث(ألف ليلة وليلة- عنترة وعبلة- بثينة- قيس وليلى- الحلاج- الفنيق- العنقاء- كيليطو...).

و يتبين من خلال تعامل الشاعر مع الموروث امتصاصا وحوارا أنه شاعر متمكن من أدوات الشعر المعاصر بطريقة فنية رائعة. ويتضح لنا أيضا أن شاعرنا متأثر بوعي أو عن غير وعي بالشاعر الفرنسي جاك بريڤر Jacques Prévert صاحب ديوان الكلمات Les Paroles، وبشعراء الرمزية ولاسيما بودليرBeaudlaire صاحب ديوان أزهار الشر.

ويميل الشاعر في أقنعته الرمزية والأسطورية إلى الوضوح المقبول فنيا دون الإغراق في الالتباس والغموض غير المبررين كما نجد عند كثير من الشعراء أمثال: أدونيس ومحمد بنيس وغيرهما.
وتهيمن السخرية الكاريكاتورية على قصائد الديوان بروح تهكمية تفضح السائد وتنتقد الواقع لمسخه وتشويهه قصد بنائه من جديد كما نجد في ( ملحمة الشخير، ص90)، و(محاكم تفتيش شعرية، ص10)، و(تحت المجهر يقبع جلاد، ص17).

ومن سمات الديوان حضور البعد الفانطازي حيث يتقاطع الوهمي/ الخيالي مع الواقعي في صيغة نبوءات وأحلام وإفرازات لاشعورية حيث يتحول الشاعر إلى نورس في قصيدة( التسامي)، أو يتحول إلى ريح وعاطفة في( إسراء شعري)، أو يصير حلميا جميل بن معمر في قصيدة( بثينة المطر)، أو يتحول إلى طائر الإسراء في قصيدة (فانطازيا عربية).

ويشير هذا الطابع الفانتازي إلى غرابة هذا العالم ورداءته ووقاحته ودناسته؛ لذا يبحث الشاعر عن عالم طاهر لايوجد إلا في الفضاءات العلوية عبر التسامي والتحليق الروحاني في شكل أحلام ونبوءات ورؤيا صوفية.
وعلى الرغم من فانتازية القصائد، فالشاعر ملتزم بقضايا وطنه وأمته وهمومها الحضارية معتنقا للواقعية الانتقادية، إذ ينطلق من الكائن والسائد المتردي نحو الممكن الذي صاغه الشاعر في أحلام الانبعاث والنهوض بعد طول السقوط الدامس والانتظار العابث . فرؤية التغيير المستقبلية حاضرة في الديوان من خلال التسامي الصوفي والتحويل الروحاني وكشف أقنعة الزيف وإزالتها عن وجوه الذوات العابثة من أجل التحلل في ذوات صافية مؤمنة عاملة.

ج- جماليات القصيدة:

1- طبوغرافية الديوان:

من الناحية الطبوغرافية، تتخلى قصائد الديوان عن نظام الشطرين وصرامة الوزن وإيقاعات التفعيلة الصافية والمركبة وعن نظام القافية الموحدة، ويستبدل الشاعر كل هذا بفضاء القصيدة النثرية ذات البناء المقطعي الأبجدي( جنون شعري)، أو الرقمي( قصائد تبحث عن عنوان)، أو البناء الانسيابي الطويل( ملحمة الشخير- شاعر في بطن الحوت...)، أو البناء ذات المقاطع الجملية القصيرة(دمعتي في القسم الجنائي...).
وقد أضفت عناوين القصائد على النصوص الشعرية أبعادا دلالية ونسقية، إذ وفرت لها وحدة موضوعية وعضوية واتساقا وانسجاما، كما ساهمت الجمل البسيطة والمركبة في نسج هذا الترابط النصي.

2- الإيقــــــــــــاع:

تنتمي قصائد الديوان إلى الشعر المنثور الذي يتمرد عن القوالب الجاهزة والإيقاعات المقننة كلاسيكيا وحداثيا، فهو شعر مشاغب يرفض قيود العروض الخليلي وتقنينات الشعر المعاصر ليعانق الحرية الإبداعية بكل فسحاتها الواسعة وجنباتها العريضة. وقد عوض الشاعر الوزن الخارجي بإيقاعات داخلية تتمثل في خاصية التكرار كما نجد في كثير من قصائد الشعرية مثل قصيدة (محاكم تفتيش شعرية؟!):

فتشوا ثوبي
فتشوا جيبي
قالوا: أين القصيده؟!
ماوجدوا القصيده
صعاليك جدد،
يحرقون المكتبات، ونفائس المعلقات
فتشوا جوفي للمرة الألف
لم يدركوا
في صدري...
كانت تنام القصيدة
في قلبي كانت تتنفس
القصيدة
تغمر قلبي
تهمس في أذني
عن مشروع حلم قصيده؟

ويلتجئ الشاعر إلى استخدام اللازمة الشعرية مثل: آآخ....آآخ....آآخ...آآخ... في قصيدة ملحمة الشخير، والمدينة في قصيدة شاعر في بطن الحوت، والنرد في قصيدة ارم النرد بقوة...إلى جانب المماثلة الصوتية والتجنيس النبري من خلال المشاكلة الصرفية والتركيبية وترديد الصوت الصفيري ( السين) في قصيدة حلم من الداخل:

عند حلول المساء
أتسرب عبر الحلم
أحفر ثقبا في الحائط
ألمح قمري، قنديلا منطفئا
وحسامي رأيته منكسرا
ألمح كتبا ممزقة وزنزانة
وجثة تاريخ مهترئة
أبصر جثة، تشبهني
كانت جثتي.
كانت ترحب بي...!!

يتكرر في هذا المقطع الشعري حرف السين المهموس الدال على المعاناة والحزن والألم الأسود لينسج عالما من الوجود الأخرق والموت العبثي. ومن هنا، فالشاعر يزاوج بين الأصوات المهموسة الدالة على السقوط والانتظار والاغتراب الذاتي والألم، والأصوات المجهورة المعبرة عن الأمل والممكن، وإن كانت الأصوات المهموسة هي الغالبة على الديوان؛ لأنها تعزف أنشودة الانهيار والعبث والسأم الوجودي والاضمحلال الذاتي والموضوعي.
وعلى مستوى التقفية، يستعمل الشاعر القافية الموحدة كمافي الأسطر التالية:

دققت المسمار

في الجدار

لم يسقط الحجر

سقطت السماء كلها

ولم ينهمر المطر

أهي القيامة قامت

أم

هو تجريب ليوم البعث/الحشر( قصيدة جنون شعري ص:85)؛

ويستعمل الشاعر أيضا القافية المرسلة التي تبدد الرتابة ووحدة القافية كما في قصيدة (طائر الفنيق يموت في بلاد العرب، ص:75)، إذ لايلتزم الشاعر بالروي وتكراره إلا في اسطر نادرة أو معدودة.
كما يستعمل الشاعر القافية المتعانقة (أ- ب- أ- ب) كما في الحالة التالية:

أتذكر...
من يقرأ أشعاري؟
لا أحد
وكيف حملت للناشر أوراقي
قال لي: هات
وفي صباح الغد
رأيت قصائد
في سلة المهملات(ص:75).

وهذا الإيقاع كله سواء أكان خارجيا أم داخليا ينسجم مع أجواء القصائد الشعرية موسيقيا ونفسيا ودلاليا.

3- المعجـــــــــــــم:

تمتاز الخاصية التعبيرية للديوان بالوضوح والبساطة والموسيقية، بيد أنها موحية وذات طابع رمزي شاعري مكثف، كما أن هذه الخاصية حبلى بالإيحائية والتجريد الانزياحي الذي يجمع بين ماهو ذاتي وماهو موضوعي. ويمتح المعجم الشعري من مناهل مرجعية عدة: الطبيعة- التاريخ- الدين- التصوف- الأسطورة- الأدب- السياسة- الوطن- الأمة. ومن ثم، فاللغة تطبعها جدلية الواقع والخيال وفانتازيا الحقيقة والوهم.

4- التركيـــــــــب:

يزاوج الشاعر بين الجمل الاسمية والفعلية، ويسمي العناوين بالاسمية ويحكي القصائد ويوترها بالجمل الفعلية ليخلق دراميتها وبؤرتها المتأزمة. وبالتالي، يهيمن الخبري ذو الطابع التعييني المرجعي على الإنشائي المتنوع في الأساليب. وعلى الرغم من ذلك، فهذا الخبر التقريري يتسم بالشاعرية والوجدانية والإيحاء الرمزي والقناعي.
ومن يتأمل معمارية القصائد سيجدها ذات بناء معماري غنائي ودرامي وقصصي. فالبناء القصصي يعتمد على عناصر القصة والسرد وتعدد الأصوات والمزاوجة بين المناجاة الذالية، و يستند البناء الدرامي إلى الحوار المعبر عن التناقضات الداخلية والخارجية ، بينما يتكئ البناء الغنائي على الانسياب الشاعري والعواطف المتدفقة والتأملات الذهنية والمناجاة الوجدانية.

وهناك في الديوان أيضا قصائد ذات بناء جدلي متموج ينطلق من الكائن نحو الممكن مثل: قصيدة( شاعر في بطن الحوت)، وقصائد ذات بناء دائري حلزوني كقصيدة( أرفض) التي تبتدئ وتنتهي بنفس الخطاب والإيقاع على غرار ( قصة البشر)، والبناء النفسي في ( ومضة شك)، والبناء الفارغ في ( أحدث قصيدة تجريبية)، والبناء الغنائي / الوجداني في ( جميل همسك).

5- الصورة الشعرية:

وإذا انتقلنا إلى الصورة الشعرية سنجد تعابير مجازية وصورا إيحائية تقوم على الصورة – الرؤيا والفانتازيا والتناص وتشخيص الجمادات في صيغ إنشائية تتجسد في الاستعارة والمجاز والأنسنة، إذ عوض الشاعر نثرية القصائد بصور الاستعارة كهذه الصور التي تضمنتها قصيدة ( تكتبني القصيدة) حيث جعل الشاعر القصيدة امرأة تتوحد مع الشاعر بطريقة شبقية جنسية:

انتظرتها طويلا
دقات على الباب
أفتح الباب
تأخرت عنك
جئتك الآن
تقبلني في حنان
ود عينيها يناديني
منحتني ريشتين هديتين
جلست تضحك قربي
في دلال
دفء غموضها يغريني
نسدل الستائر
أشعل المصابيح الخافتة
قالت:" اغترف مني ماتشاء"
لنبدأ الآن
عضت، واختفينا
ذبت فيها
وتوحدنا
فاض القلب
وسال الحبر
فصرت القصيده
وصارت الشاعره!!(ص12).

ويوظف الشاعر في قصائد ديوانه الشعري الترميز الطبيعي(مطر- النورس- الطوفان- الشمس...)، والترميز الأدبي( ليلى- قيس- عنترة- عبلة- گودو- درويش..)، والترميز التاريخي( نيرون- محاكم تفتيش...)، والترميز الإعلامي( تحت المجهر...)، والترميز الديني( آدم- طوفان- نوح- قابيل- يوسف- يونس...)، والأساطير اليونانية( سيزيف- بروميثيوس...)، والأساطير العربية( العنقاء- الفنيق- شهرزاد وشهريار...).

وهكذا نكون أمام شاعر ينوع في صوره الشعرية بفنية شاعرية انزياحية يعود بالشعر إلى فطريته الأسطورية وطبيعته الإنسانية الأولى ويبتعد بأقنعته عن التعبير المباشر ليغمس ريشته في التراث العربي والإنساني لمحاورته قصد نقد الذات واستشراف المستقبل.

6 – التـــــداول:

وتداوليا، يشغل الشاعر عدة ضمائر تتراوح بين التكلم والخطاب والغياب من خلال النقر على خاصية الالتفات لصهر الذاتي في الموضوعي والعكس صحيح أيضا. وينتقد الشاعر في رسالته التداولية الواقع ويكشف زيفه ويعري عوراته ويشخص أزماته وعيوبه ليطهره بالطوفان منددا بدنسه المادي معتنقا التسامي الروحاني من خلال التغيير واستطلاع الممكن الآتي المشرق. إنه شعر المعاناة والأمل وأنشودة التطهير والتغيير.

خاتــــمـــة:

وأخيرا ، فديوان ( شاعر في بطن الحوت) للشاعر المغربي بوزيان حجوط لديوان طافح بالتناص ومحاورة الإرث الحضاري العربي والغربي والإنساني في شكل أقنعة رمزية وأسطورية للتعبير عن الواقع الرديء ونقده كشفا وتعرية قصد تغييره والسمو به إلى عالم الطهارة بعد إزالة المسخ عنه وكل مايربطه بالعالم الأرضي الملوث بالماديات والقيم الكمية. وقد صاغ الشاعر تجربته الشعرية في قالب شعري مرسل أو مايسمى في رأيي بشعر الانكسار أو القصيدة النثرية. وهذه القصيدة مطعمة لدى الشاعر بالصور الشعرية الانزياحية التي قد تمتد عبر القصيدة كلها والتي أسميها القصيدة – الصورة ، كما يستعين الشاعر بالعتبات والمقتبسات والشذرات الدالة واللغة الموحية المعبرة وإيقاعات داخلية متوازية ونبرية، علاوة على التنويع في البنى التركيبية والبلاغية واللغوية.
وإلى جانب كل هذا، يسمو الديوان بشذرات موحية، و قصائد رائعة وجيدة التصوير نابعة من صدق المعاناة ووضوح الرؤية والمصدر، ونتمنى للشاعر التوفيق والنجاح في الدواوين الشعرية المستقبلية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى