الأربعاء ٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
صدام حسين.. تاريخ الانقلابات!!
بقلم سليمان عبدالعظيم

قراءة في رواية "عالم صدام حسين" لمهدي حيدر، منشورات الجمل، ألمانيا

رغم أن رواية "عالم صدام حسين" تنطلق من خلال عنوانها إلي رسم عالم صدام حسين، مع مايحمله ويشي به هذا العنوان من دلالات وإيحاءات مختلفة، فإن القاريء يجد نفسه في سياق، وإن كان في أجزاء كبيرة وكثيرة ومتناثرة منه صنيع لهذا العالم الخاص بصدام حسين، عالم مترام أوسع بكثير من أن يكون هو عالم الشخص الفرد، صدام حسين. مع مفتتح الرواية يعلن الكاتب مهدي حيدر، سواء أكان هذا هو الإسم الحقيقي لكاتب الرواية، أم هو مجرد اسم منتحل لكاتب يتواري خلف أطلال ماتشهده منطقتنا العربية الآن، وما تثيره شخصية صدام حسين ذاتها من أقاويل واختلافات وتعارضات ونفور واختلاط، إن هذه الرواية عمل من نسج الخيال يرتكز علي التاريخ يقول مهدي حيدر:

"هذه الرواية ليست نصاً تاريخيا، بل هي عمل من نسج الخيال، يستغل الواقع لبناء عالم خيالي مواز للعالم الواقعي، يتطابق معه أحياناً ويختلف في أحيان أخري، فتعطي شخصيات معروفة مصائر مختلفة عن الواقع التاريخي بحسب ما تقتضيه الحاجة الفنية كما يحوي هذا الكتاب اقتباسات عربية وأجنبية من أعمال أدباء ومؤرخين وصحفيين وسسياسيين وشعراء."

تحدد الرواية منذ البداية رؤيتها لذاتها، كما تحدد طبيعة النص الذي تبغي إيصاله للقاريء، برسالة محددة، وتوجه معين، وكأن الرواية ذاتها تبتغي منذ البدء مواجهة أي نقد قد يوجه لها بخصوص طبيعتها وارتباطها بالسياسي والأيديولوجي، الآني والمعيش . فهي ، نتيجة لذلك ، تبادر منذ البدء إلي تحديد طبيعة التشكيل الفني الخاص بها، وتحديد النوع الأدبي الذي يمكن أن تندرج تحته. فهي رواية، وليست نصاً تاريخيا، وهي نتيجة لذلك عمل من نسج الخيال مادته الواقع، شخصياته معروفة بشحمها ولحمها ووجودها المتعين التاريخي. وهذا الاستدعاء لايتم بغرض السرد التاريخي ، لكنه يتم فقط بحسب ما تقتضيه الحاجة الفنية، حسب مفتتح الرواية.


إذا ومنذ بداية المفتتح تثير هذه الرواية الكتاب العديد من الاشكاليات الخاصة ببنية العمل ذاته وتحديد ماهيته، والإمكانيات الخاصة بتصنيفه، هل هي رواية، أم مجرد عمل سريع يتلاقي مع الحدث الراهن، وحدة الانفعال به، وفي هذه الحالة يمكن وصفه بالكتاب، أو الدراسة التاريخية، أو التحقيق الصحفي. وبالطبع فإن القراءة السريعة والعابرة أو غير المتأنية للعمل الراهن، سوف تثير مسألة التصنيف هذه، بشكل متسرع في غير مصلحة العمل ذاته، بحيث تصمه بالضحالة والخفة والمباشرة، لكن القراءة المتأنية سوف تحيل في النهاية إلي عكس هذه الصورة السريعة وغير المتمهلة. فالرواية، وإن بدت ذات صلة بالآني، المباشر، تضرب بجذور حقيقية في عمق التاريخ المعاصر للعراق، بشكل يربط ربطاً حقيقيا وعميقاً، وفنيا في الوقت ذاته، بين أسباب اللحظة الراهنة، وخلفياتها التاريخية والاجتماعية و السياسية؟ إن الهدف الكامن من وراء ذلك هو التأكيد علي أن اللحظة الراهنة، بكل تداعياتها، التي أوصلت إلي احتلال العراق في عام 2003، وإن كان الكاتب لم يصل إلي هذه اللحظة التاريخية من حياتنا المعاصرة، غير منبتة الصلة بمعظم تاريخ العراق في القرن العشرين.

تستثمر الرواية الراهنة طبيعة الاحداث التي مر بها العراق عام 1991 بدون مواربة، وبدون اختلاق شخصيات جديدة تفرضها علي العمل، فمعظم الشخصيات التي نطالعها في الرواية هي شخصيات حقيقية لعبت أدوارها المتفاوتة في عراق القرن العشرين. فنحن نعرف ونطالع أسماء مثل ساجدة زوجة صدام حسين، ونطالع أسماء أولاده الذكور عدي وقصي، والإناث رغد ورنا وحلا، كما نعايش عمه حسن ابراهيم، وخاله خير الدين طلفاح، وابن خاله وشقيق زوجته عدنان، كما نطالع تاريخ العراق، بشكل متواصل ومتتابع، ربما وفي بعض الأحيان، بشكل خطي. هذا التاريخ الذي يغطي العديد من الأسماء والشخصيات التاريخية، هو في الأساس، وفي الجوهر منه، تاريخ الانقلابات العراقية المتواصلة، والتي بدأت مع أول انقلاب عسكري في العراق علي يد الجنرال الكردي بكر صدقي في عام 1936 . ويندهش المرء حين يجد أن تواريخ الميلاد تحسب للأطفال بحسب ولادتهم قبل أو بعد أو حتي أثناء هذه الانقلابات، في مفارقة تدل علي أن هذه الأنقلابات في هذا الجزء من العالم، أقصد العراق، هي العامل الثابت والمطلق، وماعدا ذلك هو المتغير والنسبي .

التاريخ إذا هو تاريخ الانقلابات بغض النظر عن صانعيها، وبغض النظر عن ضحاياها، المهم أن تستمر هذه الانقلابات لتأكل صانعيها وتلتهم ضحاياها. عبر كل هذه الانقلابات لايحاول المؤلف أن تفلت شخصية صدام حسين من يديه، فهي المركز الذي تلتف حوله الرواية، والهدف الذي يرمي إلي رسم تفاصيله بعناية بغية الكشف عن دقائق واقع العراق/ العالم العربي، الذي لايمكن له سوي أن يفرز مثل هذه العوالم وهذه الانقلابات.

تحرص الرواية علي ذكر الانقلابات والتأكيد علي الطابع الدموي لها، ففي انقلاب 14 يوليو (تموز) 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم، ومساعده العقيد عبد السلام عارف، تمت الإطاحة بالأسرة الملكية (الهاشمية) حيث انتهي الانقلاب بمقتل الملك ونوري سعيد، وما صاحب ذلك من أعمال سلب ونهب واسعة النطاق. ولا يعقب هذه الانقلابات العسكرية أي تطور طبيعي يرتبط بالتغير الاجتماعي والتنمية والتحولات السياسية والاقتصادية، بقدر ما ترتبط هذه الانقلابات بتوليد وتفريخ المزيد من الانشقاقات والعديد من الانقلابات فبعد أسبوعين من انقلاب 1958 دب الخلاف الحاد بين طرفي الانقلاب، عبدالكريم قاسم رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد الأعلي للقوات المسلحة، والعقيد عبدالسلام عارف نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية ونائب القائد الاعلي للقوات المسلحة. وهو ما أدي في النهاية الي عزل عبدالسلام عارف من جميع مناصبه، من خلال محاكم الثورة التي رأسها ابن عم الرئيس قاسم، فاضل عباس المهدوي، في اغسطس "آب" 1958 .

في هذا الاطار لا يبتعد صدام حسين عن طبيعة هذه التحولات فقد قام بالمشاركة في تصفية فؤاد حيدر التكريتي الموظف الحكومي البارز المقرب من عبدالكريم قاسم والمرشح لدخول المكتب السياسي للحزب الشيوعي، حيث سجن لمدة 6 شهور في أعقاب ذلك، كما شارك في المحاولة الفاشلة لاغتيال عبدالكريم قاسم، وهي المحاولة التي ادت الي اقتحام أوكار البعث ومداهمتهم خلال ساعات من العملية الفاشلة حيث اعقب ذلك هروب صدام حسين الي دمشق ومنها الي القاهرة لمدة ثلاث سنوات.

لا تبتعد الرواية في اطار ذلك عن الانقلابات فهي المتغير الرئيسي والجوهري الذي يمكن من خلاله رصد عالم صدام حسين وطبيعة ملامحه المختلفة ومن خلال هذه الانقلابات لا تحاول الرواية فقط الوقوف عند السرد التاريخي الخاص بالشخصيات التاريخية الكبري، لكنها أيضا تقف بنا عند طبيعة تحولات القاعدة الشعبية بدون أن تقدم المبرر لمثل هذه التحولات الأيديولوجية والسياسية وكأنها، أي الرواية، تريد من طرف خفي أن تقدم تفسيرها الخاص لمثل هذه التحولات السياسية والايديولوجية من خلال ارتباطها بالانقلابات ذاتها. وكأن هذه الاطر السياسية والأيديولوجية المرتبطة بالجماهير وبالمستفيدين منهم هي الشكل الآخر الموازي لعالم الانقلابات اللامنطقي والحاكم لجوهر تغييرات المجتمع العراقي( انظر الرواية ص 69 ، ص 71) . في ظل هذه الانقلابات والتحولات الأيديولوجية والسياسية الحادة والعنيفة لايعني الكاتب كنه وتفصيلات هذه الانقلابات والتحولات، بقدر مايعنيه النتائج الدموية المرتبطة بمثل هذه الأحداث.

ففي أعقاب انقلاب 8 فبراير (شباط) 1963 يؤكد الروائي علي عمليات القتل والتعذيب المصاحبة لمثل هذه الأحداث، حيث يشير إلي مقتل آلاف الشيوعيين في أعقاب هذا الانقلاب، بل يؤكد علي مقتل خمسة آلاف شخص في ستين ساعة، حيث لعب الحرس القومي دوراً ضخماً ومتعاظماً في قتل آلاف الشيوعيين. ولا تقف هذه الانقلابات بنتائجها الدموية علي الأعداء فقط، لكنها تتعدي ذلك أيضا لتشمل حتي أبناء الحزب الواحد، وأبناء الانقلاب الواحد. يرتبط كل ذلك بازدياد حدة القمع إلي الدرجة التي يتم بها الإعلان عن الحروف الأولي لأسماء المطلوب منهم تسليم أنفسهم عبر شاشات التليفزيون. وترتبط بذلك أيضاً الأخبار والتقارير المتواترة عن حدة عمليات التعذيب في العراق ومدي البشاعة المرتبطة بها، فبالإضافة إلي المجازر المتواترة ضد الأكراد يطالع المرء التقارير الخاصة بعمليات التعذيب من خلال العملاء العراقيين المنشقين، مثل الإحراق بالغاز النفطي، الإحراق بخاتم الكهرباء، التعليق من السقف، البتر، الغلق، المثقاب الآلي، الحبس في برميل، التعليق من الشعر، كباسة الرأس، الابر، الحرق، التمزيق، التعليق من الأذنين، والتعليق من المعصمين.

ترسم الرواية ظروفاً تاريخية لاتفرز سوي شخصيات علي شاكلة صدام حسين، فنحن نعلم منذ الصفحات الأولي مطاردات الاطفال وضربهم له في قرية شويش قرية أمه. كما نعلم أيضا ضرب عمه المتواصل له بالعصا/ المليسة بالزفت الصلب، وتكليفه له بالقيام ببعض السرقات الصغيرة. كما أن وحدته وهروبه من براثن هذه القيود العائلية لم تكن تتم إلا في حقول الشوك المهجورة، حيث يقضي وقته بين الحيوانات القارضة والسامة ويتسلي بملاعبة العقارب وصنوف النمل.

في ظل هذه الظروف التاريخية لنشأة صدام حسين، تحاول الرواية أن تبين تفاصيل القسوة والشراسة المرتبطة بشخصيته، رابطة ذلك بسياقية التحولات المجتمعية والتاريخية فهي قدمت تفسيراً ووصفاً لعالم صدام حسين غير مبني علي التفسيرات البيولوجية للشخصية، بقدر ماحاولت أن تجعل من القاعدة التاريخية والمجتمعية الأساس الرئيسي والمركزي لهذا التفسير لشخصيته.


في هذا السياق الاجتماعي المدعم للقوة واستخداماتها، والذي يؤكد ويكرس في ذات الوقت أهمية القوة، تبدو شخصية صدام حسين ذاتها أكثر ارتباطاً بالبنية وامتدادا لها. "فالأهم، والأهم من كل شيء، الأهم علي الأطلاق: القوة، ألا تضعف أبدا، أن تكون دائما أشرس من الآخرين، حتي الموت، ذلك الحدث المفاجيء يمكن التحكم فيه وارجاؤه من وجهة نظر صدام حسين الذي أكد لخاله خير الدين طلفاح أن الأنسان لايموت إلا إذا أراد ذلك."

تشكل الرواية من وراء كل ذلك عالماً مترامياً من القمع الفيزيقي والأيديولوجي الذي لاينتج سوي أمثال صدام حسين،ولايقود إلا إلي مثل هذه الطبائع والتكوينات الشخصية. ولايتيح السياق التاريخي لأي شخص إمكانية الهرب من وطأة القوة والعنف والاستبداد، فحتي المناطق البعيدة النائية مثل الأهوار قد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من عنف التحولات وسيادة التاريخ، حيث تلوثت تلك القري أيضاً وتحول صيادوها البسطاء إلي أدوات في يد قمع العاصمة والقادة المستبدين. فالأخوان يونس وموسي، يتركان حرفة الصيد، وينتقلان من الأهوار ليمارسا القتل والتعذيب، ويصبحا من دعائم السلطة السياسية في بغداد .ولايجب أن نفصل هذا التحول في طبيعة وشخصية المواطن العادية عن محاولات النظام العراقي المستمرة، وبشكل خاص تحت إمرة وهيمنة صدام حسين، تدجين المجتمع وتدمير وحداته المتعارف عليها، وبشكل خاص الأسرة، بحيث يصيرالفرد في النهاية مجرد رقم في إطار انتمائه لحزب البعث/ حزب السلطة. وفي هذا الإطار تستخدم السلطة التعليم كأحد أهم الأدوات التي يمكن من خلالها تغيير أنماط التفكير، والولاءات والانتماءات، بل وحتي القضاء علي التفكير ذاته.

لا تهتم الرواية بالعوامل الخارجية والدور الأمريكي في العراق قدر اهتمامها بالعوامل الداخلية الاجتماعية والسياسية والتاريخية التي أدت إلي التدخل السافر للولايات المتحدة في العراق عام 1991، وتدخلها الأكثر سفورا وتبجحا عام 2003. وهي في كل ذلك تستدعي التاريخ بشكل عميق في أحيان، ومباشر في أحيان أخري، بغية إنارة الآني والمعاش .ربما يختلف الكثيرون مع طبيعة النص الراهن ووطأة التاريخي المعيش، بل ووطأة شخصية صدام حسين ذاتها والشخصيات المحيطة به، لكن سيبقي للنص حضوره وإنارته التاريخية، بل وربما سيزداد هذا الحضور وهذه الإنارة مع مرور الزمن وتلاشي تأثير شخصية صدام حسين، بحيث يقارب قاريء المستقبل، العربي بالأساس، بين طبيعة حكام المستقبل وعالم صدام حسين، بدون أن يدري حتي من هو صدام حسين، ودون أن يتساءل هل صدام حسين ذاته جزء من الواقع التاريخي، أم أنه من اختراع النص الروائي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى