الأربعاء ٦ أيار (مايو) ٢٠٢٠
شعرية العالم الداخلي للمرأة ..
بقلم محمد سمير عبد السلام

قراءة لرواية العاشق الأخير لفاطمة الناهض

قد يكشف السرد الروائي عن خصوصية وعي المرأة، وعالمها الداخلي بصورة أدبية تنبع من صوتها الخاص، وعلاقته بتحولات الواقع، أو تنبع أحيانا من شعرية صور المرأة الأخرى، وأخيلتها في وعي الآخر، والآخرين في بنية النص الروائي.

وتتقاطع التحولات في بنى الشخصيات، والأحداث، والفضاءات – في النص الروائي – مع كل من السياق النصي، والثقافي، فقد يؤجل الخطاب السردي مركزية المدلول في احتمالية تكوين الشخصية، أو الحدث في الوعي، إذ يلتبس اختفاء الشخصية بانتشار صورها المجازية الآخر في الآخر، أو في آثار المكان، وتفاصيله، ويمكننا ملاحظة استراتيجية تفكيك مدلول الغياب في رواية العاشق الأخير للروائية الإماراتية المبدعة فاطمة الناهض، وقد صدرت عن دار إي- كتب بلندن سنة 2019، فالساردة تقيم تعارضا بنائيا بين عبثية الحرب، وحالة الاتصال الروحي بالآخر، والمكان، والأشياء الصغيرة، والذكريات، ويحيلنا العمل – بدرجة رئيسية – إلى بواكير أزمة الكويت منذ سنة 1990، أي في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وإن ارتكز خطاب الساردة على الكشف عن الأثر الداخلي للحرب في وعي، ولاوعي البطلة / غنيمة، ومن ثم كانت الانطباعات، والذكريات، والأخيلة أكثر حضورا في الرواية من تداعيات الحدث، وتسلسله، وكأن الساردة تومئ إلى علاقة البطلة / الأنثى الوجودية بالمكان، وأصالة الهوية الثقافية، إذ نعاين – في خطاب غنيمة – رفضها للهروب من المكان، وتناقضاتها الذاتية الإبداعية إزاء نخلتها التي تشير إلى أصالة المكان، وأخيلة الآخر الممثل للهيمنة الرمزية في النص، فهي ترتبط بالنخلة، وتريد تدميرها بصورة أدائية غير واعية، لأنها ارتبطت في ذاكرتها بأصالة الهوية، والاتصال الوجودي بالمكان، بينما بدت – في لحظة الحضور المتناقضة – كأنها الآخر الذي يستبدل بنية المكان، وصوره، وأخيلته في الوعي، ويقوم بتغريبه عن ذاكرة البطلة، وتأملاتها الأنثوية، فقد ولد حدث الحرب نوعا من الإعلاء المضاعف للهوية عبر الاتصال بالمكان، وذاكرته، وأخيلته، وبدا ذلك واضحا في هجوم البطلة / غنيمة على جارتها التي اتهمتها بالتعامل مع الجنود الغرباء، ورفضها لعرض ناصر خليل بأن تترك المنزل مع أختها ليلى تحت هذا الوضع، ثم حادث غيابها الذي يمكن أن يؤول بالانشقاق الأنثوي الخيالي عن مناخ الصراعات، والتعارضات البنائية بين الذات، والآخر، وتواترها في الذاكرة الجمعية، وفي لحظة الحكي في النص، ويذكرنا الغياب وفق هذا التوجه التفسيري لغياب غنيمة المفاجئ بتصور باشلار لطاقة الأنيما، وتأملاتها الأنثوية الشعرية في كتابه شاعرية أحلام اليقظة، فغنيمة تتصل روحيا بالمكان، وتتجاوز بنية الصراع في آن، عبر اختفائها الخيالي في النص، وقد آثرت الساردة أن تؤجل سبب اختفاء غنيمة، وأن تستعيد طيفها الشعري من داخل خطاب زوجها / العاشق الذي كان يقوم بتخييل صورتها في الذكريات، والتفاصيل، وفي لحظات الحضور حتى حدوث الانفراجة الملتبسة في السرد، حين عاد ناصر خليل في صمت، وكأن الساردة تريد أن تظهر لغز غياب غنيمة في سياق احتجاب مضاعف للشخصية، هذا الاحتجاب الذي يؤسس لبدايات ظهور مجازي، وطيفي آخر للشخصية في بنية النص، وفي وعي المروي عليه، والقارئ، فالساردة تمنح إشارات للمروي عليه ببدء الظهور الذي يحمل بداخله احتجابا آخر، وولادة جديدة لصور غنيمة المحتملة، وهو ملمح تجريبي في رواية فاطمة الناهض، فالمتواليات السردية المتعلقة بالغياب قد انطوت على بروز غنيمة في خطاب الزوج العاشق، وخطاب الأخت ليلى، بينما جاءت متوالية الكشف الأخيرة ملتبسة بغياب آخر، أو بظهور مجازي، أو واقعي لغنيمة، فمتوالية الكشف السردية توحي بالصيرورة، والإكمال، وبتعددية مصائر غنيمة المحتملة في وعي القراء، وفي عمليات القراءة، أو الإكمال التي قد تشير إلى بنية العودة للمكان، أو إلى دائرية الغياب، والحضور الفني التصويري للشخصية في ذاكرة الآخر.
إن الساردة تجمع بين تأويل الحدث التاريخي في الوعي، وفي عالم البطلة الداخلي، وتحولها الشعري في صيرورة النص الروائي، وتداعياته فيما وراء حدث غياب غنيمة الملتبس بولادات نصية جديدة في وعي الآخر، والمتلقي.

ولعتبة العنوان – في الرواية – دلالات ثقافية، وفنية، فالعاشق الأخير يجسد الوعي بطيف غنيمة، وحياته الأخرى المتجاوزة للغياب، ولآلية الحرب العبثية العابرة للأزمنة، وكأن طيف غنيمة يؤجل اكتمال الصراعات، والتعارضات بين الذات، والآخر في حالة التعاطف بينهما، والتي تكمن في الأحلام، والذاكرة، ويشير العنوان أيضا إلى تعددية الخطاب الروائي في نص فاطمة الناهض، إذ نقرأ شخصية غنيمة من داخل خطاب الزوج / مبارك الذي يعيد إنتاج صورها بين الذاكرة، ولحظة الحضور، وكذلك من خلال خطابها الشخصي، وخطاب ليلى في النصف الأول من الرواية.

وترتكز الساردة على التبئير الداخلي وفق تعبير جينيت في استبطانها لشخصيات مبارك، وغنيمة، وليلى، وتمزجه أحيانا بتعليقاتها على الشخصية، او الحدث، وقد أسهم الاستبطان الذاتي للشخصيات في إبراز الإيقاع الداخلي لحدث الحرب، وأثرها في عمليات الوعي، وفي تطور الشخصيات الداخلي، فشخصية غنيمة تطورت من الاتصال بالمكان، والذاكرة إلى الغياب في البنية الاستعارية المتخيلة في الفضاء الحلمي المتعلق بالمكان الأول نفسه، وهو تطور تجريبي للشخصية الفنية في العمل، فالذات تنتقل من حالة الحضور المباشر إلى الحضور الطيفي في الفضاء، وفي أصوات الآخرين، وأخيلتهم، أما مبارك / الزوج فقد انتقل من مركزية حضوره الشخصي إلى تخييل غنيمة بداخله، واستنبات طيفها في لحظة الحضور في سياقات تصويرية، يستعيد فيها صوتها الخاص ضمن كينونته.

لقد أعاد مبارك تخييل غنيمة في لحظة سطوع البرق، وزمجرة الرعد التي شبهها بعمود ناري يشق السماء، فهو يعلم كم تفزع من البرق، ويريد أن ينزل إلى الشوارع، كي ينقذها، وتشير الساردة إلى بحثه عن أثر غنيمة في الخزائن، وفي مقتنياتها النسوية، وفي الأشياء الصغيرة، مثل طرف اللحاف، وبعض الأغراض المتناثرة.

إنه يقوم باستعادة تصويرية لغنيمة عبر الحوارية الداخلية من جهة، وإعادة تفسير الوجود، وعلامات الحياة اليومية من داخل صوت غنيمة الآخر المتخيل من جهة أخرى، فروحها الأنثوية الشعرية - في النص - تكمن في التفاصيل، وفي فضاءات المكان الخفية سواء أكانت فيزيقية، أو حلمية.

وسنعاين أطياف غنيمة أيضا في خطاب ليلى، ومونولوجها الداخلي، فهي تتساءل عن عبثية اختفاء غنيمة في المخزن بسبب آلام ركبتيها، وكأنها تسخر من بحثها المستمر عنها في أماكن الاختباء المظلمة.

إن ليلي تطرح إشكالية سؤال الوعي نفسه، وكأنه لا يستطيع إدراك حدث الاختفاء، فهو يسعى للبحث، بينما يدرك عبثية عمليات البحث طبقا لحالة غنيمة، فالمتوالية السردية هنا تراوح بين غياب غنيمة، وموتها، وتحولها إلى أثر جمالي في الوعي، وفي البنية العلاماتية للفضاء المظلم/ المخزن المحمل بأصوات الحرب.

وتستعيد ليلى صورة غنيمة مرة أخرى بين التخييل، والتذكر، والاستعادة الطيفية الأنثوية لصوتها في حالة من التعاطف، والاتصال الوجودي، والحوارية الذاتية التي تحتمل حضور صوت الآخر ضمن بنيتها، إذ ترى أن كابوس غنيمة يبدو مثل وحش متعدد الرؤوس، وأن معاناتها تتجاوز حدث الحرب، كما تومئ إلى محاولات تدمير غنيمة للنخلة كلما ازدادت الفظائع بالخارج.

لقد أعاد خطاب ليلى إنتاج أزمة الهوية لدى غنيمة في صورة التنين الأسطورية، وعلامة التنين تقع هنا بين وعي الذات/ ليلى، والآخر /طيف غنيمة، فهي تومئ إلى التناقض الداخلي إزاء أصالة الهوية التي تجسدت رمزيا في النخلة، وحالة التدمير الأدائية التي قامت بها غنيمة في اتجاه مضاد لذاكرتها، وارتباطها الوجودي بالمكان، ومضاد أيضا لأخيلة الحرب، وتداعياتها، وهواجسها التي تضع الوجود الذاتي نفسه في موضع السؤال.

وتذكرنا نهاية العمل بمدلول الاختفاء طبقا لتصور جان بودريار، فالاختفاء عنده ملتبس بالأثر، فحضور ناصر خليل ابن صديقتها سليمة التي ارتبطت بالبطلة في موسم الحج، يستعيد الأسئلة، والتوقعات حول إمكانية معرفة مصير غنيمة من جهة، والتباس غيابها بالأثر الجمالي، أو الواقعي من جهة أخرى.

لقد تطور ناصر خليل من داخل تشكيل الساردة لهوية غنيمة حين اقترنت روحيا بسليمة في موسم الحج، ومحاولة بحثه عن مخرج لها وقت الحرب، ثم اقتران علامته بعودتها المحتملة، أو غيابها المضاعف، إنه يؤسس لدائرية أثر غنيمة الجمالي، وامتداده في الآخر، وفي مسافة ممكنة بين الفيزيقي، والحلمي معا خارج بنى الصراعات، والتعارضات بين الذات، والآخر، والتي تجاوز النص مركزيتها في حالات التعاطف، والتداخل بين الأصوات، وتجليات الأثر الجمالي في الوعي، والفضاء بمدلوله الواسع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى