قصائد الحب في «عناق الأصابع» لعادل سالم
في روايته «عناق الأصابع» أعادنا الكاتب عادل سالم سنوات طويلة إلى الوراء، أعادنا إلى أيام تأبى النسيان، تظل ذكراها عالقة في الذاكرة راسخة في الوجدان، لا يتخطاها التاريخ ولا يتجاوزها الزمان، إنها الايام الطويلة التي قضيناها وراء القضبان وفي غياهب السجون، بكل ما تحمله من ألم ووجع، صمود وعنفوان، حزن وغضب، فرح ومرح، حب وعشق .. إنها الأيام التي فيها تبلور الفكر وتهذبت النفس وصقلت الشخصية وتفولذت الإرادة وتعززت قوة الشكيمة وأخذت فيها المواجهة طابع (أن تكون أو لا تكون).
في روايته «عناق الأصابع» ينكأ الكاتب عادل سالم جروحنا التي اعتقدنا خطأ أنها اندملت ويثير فينا الأحاسيس، والمشاعر التي كانت حبيسة، ويرسم لنا بريشة فنان الحلم الوردي الذي كان يراودنا في ليلنا ونهارنا، نفرح له ونستلذ به وتختلج له شغاف قلوبنا .. الحلم بزوجة تعانقها، وام تدفن رأسك بصدرها ووطن يسكنك ويحميك.
في «عناق الأصابع» تكتسي التجربة طابعها الانساني ، ويظهر الحب كمحفز أساسي للصمود، ومصدر ملهم للقوة، والعنفوان، وعنوان للحلم، وهدف يستحق الحياة . وكانت خولة شاهين المرأة التي ترتسم على شفتي علي النجار حتى وهو يتعرض إلى القسوة والتعذيب، والعبق الذي يفوح في أجواء الزنزانة النتة العفنة والأمل الذي لم يدع مكانا لليأس والقنوط في قلب الاسير الذي امضى عقودا من الزمان في الظلمة الحالكة.
ربما تكون «عناق الأصابع» هي الرواية الاولى التي تحطم القيود أمام الحب وتظهره باسمى تجلياته، وهي، لذلك، تكون الرواية الأولى التي تعاملت مع الأسير الفلسطيني، كإنسان أولا وقبل كل شيء، إنسان يحب ويكره، يحزن ويفرح، يبكي ويتأوه، إنسان يحتاج إلى الحب مثلما يحتاج إلى الغذاء ومثلما يتوق إلى الحرية، وكان الحب الذي منحه الكاتب لعلي النجار، الشخصية الرئيسة في الرواية ، حبا سخيا، صادقا، لا يعرف الحدود ولا القيود، تخطى السجن والسجان واخترق فتحات " الشبك " وسكن الروح واستوطن في القلب، وارتفع بعلي إلى اسمى درجات الانسانية والرقي، وجعل منه القائد الإنسان الذي يقاتل دون هوادة، ولا يتنازل عن قضيته وكرامته ولم يهزمه السجن، والسجان وكلما مر الوقت كلما كبر الحب وتفولذت عزيمته.
وإذا كان حب خولة يشكل مصدرا ملهما لصمود علي في الاسر فان حب الأم، والاب، والأخ، والأخت، والصديق والقريب، والبعيد للأسير والحركة الأسيرة كان أحد اهم مصادر صمود الاسرى وانتصاراتهم على السجن والسجان . لقد وثق الكاتب مرحلة تاريخية كان فيها التعاطف والتضامن مع الحركة الأسيرة لا يقتصر فقط على زوجات وأمهات وأبناء الأسرى بل يشمل كافة الفئات الشعبية في الوطن والخارج شيبة وشبانا أطفالا ونساءا، فقد غمرت الجماهير االحركة الأسيرة بالحب، والتعاطف، والتضامن الفعلي، ونظمت الفعاليات، والمظاهرات، والاعتصامات التضامنية وشكلت بعدا رئيسا في نضال الحركة الاسيرة.
أما مصدر الحب الأهم في عناق الأصابع فهو العلاقة الإنسانية الوشيجة التي يتميز بها الأسرى فيما بينهم، لقد أبدع الكاتب في التركيز على تفاصيل دقيقة للحياة الداخلية في الاسر يظهر في الحب الصادق والاخوة المتينة والتفاني والتضامن وحب الجماعة والتضحية من اجل الآخر. هناك، في الاسر، حيث الحرمان والقهر، يفرح الاسير لفرح رفيقه ويحزن لحزنه ويشاركه لباسه وطعامةهويسهر على راحته ويداوي مرضه ويقاسمه لقمة الخبز و«حبة التين». هذا الحب لا يميز بين الابيض والاسود، بين الغني والفقير، بين المتعلم والجاهل، بل يخترق كل الفوارق الطبقية والتنظيمية ويضع الجميع في خندق واحد.
وربما يكون الكاتب قد أدرك ان علي النجار الذي امضى «٣٨» عاما وهو ينعم بهذا القدر من الحب، لا يستطيع ان يتأقلم ويتكيف في واقع حياتي تغلب عليه الأنانية والسعي وراء المصالح الشخصية والزيف والنفاق لذلك أغدق عليه بمزيد من الحب وجعله ضحية عملية اغتيال إسرائيلية بعد أسبوع فقط من الأفراج عنه كي يسقط شهيدا ويفارق هذه الحياة قبل أن تتلوث روحه.
عناق الأصابع ليست رواية بل قصائد حب خالدة، سنغنيها نحن والأجيال القادمة على ألحان الوجع والالم.
ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع