الاثنين ٢٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
دراسة تحليلية في بنية النص

قصائد مجنونة لقيس قوقزة

د.عمر أحمد عبد الكريم
خمسون عاما والفرار دربنا
إلى المفرْ
خمسون عاما لا نجيد غير لمسة
التوقيع والتنازلْ
عفراؤنا تزوجت من فارس الأسطورة
الحمقاء ... كي يعيد للقبيلة البلهاء (نكتة) يسمونها وثيقة التفاؤلْ
أطفالنا توارثوا هزائم الآباء قبل أن يغادروا المنازلْ…..

حينما أردت الكتابة عن الخطاب الشعري في ديوان قصائد مجنونة جدا للشاعر الأردني قيس قوقزة ….ترددت بين أمرين ـ العكوف على ما كتبه في كل الديوان، أم اختيار نصوص معينة من قصائد الديوان.استوقفتني هذه العبارات :

لم يعدْ لي في هواي اختيـار ُ
قاربي ضاع واعتـــراهُ الدُّوار ُ
وجهاتي تبو للبحر ســرِّي
فاليسار اليمين ... واليمين اليسارُ
أنا ضيـَّعتُ كل شيءٍ ولكن
ليس في الشــعر رجعةٌ واعتذار ُ

استوقفتني لأنها تحمل الهم العربي والنزيف العربي بكل أبعاده المؤلمة ،فهي أشعار تحاكى صيرورة الذات في زمن أصبحت الرؤيا الإبداعية مرهونة بالأحدث ،والشعراء الشباب يبدؤون هكذا من خلال ذاتهم،يتلون إنتاجهم بالطابع الرومانتيكى الحاد العميق أحياناً والهادئ أحياناً أخرى.

وإذا أجرينا ما قلنا على قصائد (مجنونة جدا) لوجدنا أنفسنا أمام شاعر حكم على نفسه بالنضج العاطفي رغم صغر سنه،وبالتوازن السياسي ،والعمق الفني. هذه المجموعة تمثل مرحلة البداية الممتلئة بطابع إنساني حميم.

فإذا سئلت عن الذي
نثر المواجع في الدفاترْ
قولي لهم: أنجبته ـ
في زحمة الأموات ـ شاعرْ!

فميلاد الشاعر كما كان عند الجاهليين يمثل ضجة كبرى عند القبائل وفرحة اكبر للعشيرة، كان ميلاد(قيس) الشاعر يمثل مرحلة جديدة في أروقة الشعر والأدب ، وهو يقدم نفسه من خلال ديوانه (قصائد مجنونة جدا)ـ وتقديم أسلوبه الذي يريد له أن يبدأ من خارج اللغة من فوق الكلمات المستعملة أو التي أجهدها الاستعمال حتى أبعدها عن المعنى وجعل الصمت أكثر قدرة ودلالة على التعبير عنها :

كان بإمكانه أن يصبح مثل جميع
رجال القصر من الشعراءِ
وكان بإمكانهِ ….
لكن الشِعر لديه أجل وأسمى
من أن يصبح مثل الأرصفة
الملقاة على الطرقاتْ !!!
كان بامكانه ِ
لكنه لما سمع القصر يناديه ِ ...
أسبل عينيه ومات ْ

ومن هنا نبدأ وقفتنا مع الشاعر،وتحليل نصوصه الشعرية التي أصدرها بعنوان(قصائد مجنونة جدا) حيث جاء في مقدمة الديوان إن هذا الديوان يضم مجموعة من القصائد الحديثة يختلط فيها الحس الوطني بالرؤية الاجتماعية بالمعاناة العاطفية ..ويمتزج فيها الذاتي الخاص بالموضوعي العام..ليضئ تجربة شاب مملوء بمعاناة ناجمة عن إحساس بالقهر والظلم الاجتماعي ويفيض حماسه بقدر ما تملأه الرغبة في أن يكون شاعرا يشار إليه بالبنان …. بهذه الكلمات قدم للديوان الأستاذ: محمد ناجي عمايرة . وللقارئ أن يؤيده في رائه أو يخالفه، ولكن يبقى السؤال_ لماذا قصائد مجنونة جدا؟

من خلال العنوان – المدهش والمثير يمكننا أن نقف على مجموعة من الأشعار ذات الموضوعات الممتلئة بهموم الآخرين .. عاطفيا واجتماعيا وسياسيا .. وحينما حاولت أن أصنف تلك الإشارات المترامية هنا وهناك في خمس وأربعين قصيدة هي جملة قصائد الديوان، وجدت أن أول ما يلفت انتباه القارئ و الناقد لتلك العناوين القصيرة ذات الملول العميق، الذي تحمله في ثناياها إذا ما أجرينا عليها التحليل البنيوي أو الأسلوبي، ومنها على سبيل المثال:

•بيان عاطفي رقم صفر*
•همسات
•الدخول إلى قاعة العزف
•مابين النكبة والنكبة
•هوس
•هلوسات
•خروج عن النص.

هذه العناوين وما تحمله من رؤية إبداعية لدى الشاعر، تمثل منعطفا لدى شعراء الحداثة ربما يمثل عندهم دلالات رمزية أو إيحاءات نفسية ترتبط بتفكيرهم تارة وبعواطفهم تارة أخرى. فيما يرى الشاعر (قيس قوقزة)( أن غرابة العناوين لديه تشبه إلى حد ما القنبلة المثيرة للأعصاب، عليك أن تلقيها في وجه جمهورك قبل أن تبدأ .. عليك أن تشدهم إليك.. والشعر والجنون لم ينفصلا أبدا، فعبقر والقصيدة أب وابنه والشعر والبطولة هما وليدا لحظة جنون ومغامرة ، تدرك فيها أنك في أشد اللحظات قربا للسماء وأنه لا مجال للعودة والاعتذار.. تكون فيهما في أشد لحظات اتصالك بالأرض والحياة والناس البسطاء الطيبين الواقفين على العتبات. الشعر يشبه المصابيح في العتمة الحالكة علينا أن نبقيها مشتعلة حتى نستطيع الأبصار.. وبالتالي متابعة السير.. فلو قلت لك لماذا كانت عناويني هكذا ؟وولدت هكذا ؟ لما كنت جديرا بلقب شاعر.. لا أستطيع تفسير هذه الأشياء.. هكذا ولدت وهكذا كتبتها)؟"1"

فالقصيدة التي كتبها (قيس) كما يقول :كأجمل امرأة تتاح له فرصة لقاءها لمرة واحدة .. ومعنى هذا أن الشاعر تربطه علاقة عاطفية بكل قصائده.. جعلت القصيدة تأخذ المظهر الإنساني القادر على مساعدة القارئ لاكتشاف ما وراء اللغة حينما يريد الشاعر نقل تجربة الحداثة إلى مستواها الإنساني الجوهري من مستواها الشخصي.. ففي قصيدة(هوس) يقول:

هل أنجبت عيناك مثلي شاعراً
صلبا يموت.. ولا يبوحُ؟؟

• ظلي هناك قصيدةً منفيةً
• عنى ….فصوت قصائدي مبحوحُ
• فلربما حمل الحمام رسائلي
• ولربما حملت غرامي الريحُ
• فإذا عجزت عن الكلام حبيبتي
• يكفى عيوني الصمت والتلميحُ !

وهنا يشير إلى ميلاده كشاعر لا يبوح بكل أسراره لما يحس به من موت معنوي.فبح صوته ، وتنفى قصائده وحينها يكتفي بالتلميح والإشارات والصمت المتحدث عنه بلغة العيون وما الى ذلك إلا أن القصيدة (هوس) تمثل هوسا داخليا يحمل عاطفة مضطربة بين الإفصاح والتلميح، وماذا ننتظر من الشاعر أن يقول إذا أحس بأنه مبحوح الصوت في زمن تعد فيه الكلمة قنبلة، وأن قصائده منفية مصادرة في زمن تعد فيه اللغة المباشرة قذيفة .. هكذا تعامل الشاعر مع قصيدته (هوس). فالعنوان كلمة ولفظة لها مدلولها العميق في النفس، وربما يكون الهوس شيئا من الجنون يعمق الدلالات التي أشار إليها الشاعر في عنوان ديوانه . فالرمز هنا له قيمة إبداعية عالية جدا، وإن لم نقل له قيمة فلسفية يرمى إليها الشاعر في معظم عناوينه، فهو رمز له صلة بالذات الشاعرة والأشياء المترامية حين يقول:

•فلربما حمل الحمام رسائلي
ولربما حملت غرامي الريح ُ
 
وهنا تداعى يلجأ الشاعر به إلى نقل صوته عبر وسائل ناطقة ولكنه استفاد من دلالاتها .
 
فالحمام رمز للسلام
والريح وسيلة لإخبار المحبين
 
- هكذا عرفت عند المحبين ،فكان العذريون يقولون:
 
ريح الصبا تهدى إلىً نسيمُ
من بلدة فيها الحبيب مقيمُ
يا ريح فيك من الحبيب علامةٌ
أفتعلمين متى يكون قدوم؟
 
- أو كما قال عباس بن الأحنف:
وأني لاستهدى الرياح سلامكم
إذا أقبلت من نحوكم بهبوبِ
وأسألها حمل السلام إليكمُ
فإن هي يوما بلغت فأجيب

والقصيدة تشكل صورا كلية للمستوى البلاغي.

عيناك تسألني وكحل رموشها
ثملٌ
كمنديل الوداع يلوحُ !

فعبارة (وكحل رموشها ثملٌ) استعارة مكنية / كمنديل الوداع يلوح..تشبيه.

ونلاحظ أن الاستعمال البلاغي في الاستعارة ذو دلالة معنوية قوية حينما فسرت بالتشبيه (كمنديل….) رغم أن الاستعارة أبلغ من التشبيه إلا أن الشاعر وظَف موهبته أولا ، ثم ثقافته ثانيا لإخراج النص من إطاره الضيق (لفظا) إلى رحاب الدلالات العميقة (معنى).

فإذا عجزت عن الكلام حبيبتي
يكفى عيوني الصًمت والتلميحُ,
لا ترحلي فالنار حولي أحرقت ثوب
البنفسجِ …
ضيقت جرحى فصاح بداخلي وجعُ
السماء وأيقظ الأرض التي لم تبك..
خوفا من بكاء الياسمينْ..
مدى يديك
تكلمي
لاتصمتى …
مدى يديك وقايضيني رعشة
كحي أكمل
الدرب التي لن تنتهي الإ بموتى
فالقرار الآن في كفى أنا..
إما نكونْ
أو لا نكونْ

نلاحظ العلاقة الوثيقة بين النصين ..وكأن النص الأولفإذا عجزت,’عن الكلام حبيبتي يمثل مطلعا للنص الآخر من بكائيات عشتا ر وهذه العلاقة المترابطة بين مقاطع النصوص,هي التي عمقت رؤية الشاعر في كثير من قصائد الديوان، وأن اختلفت العناوين..فالمطالع تبدو ذات انفعال واحد متشابه في أكثر الأحيان.. ولنضرب مثلا لذلك من خلال عناوين القصائد ومطالعها0

• ( عنوان القصائد ) ( المطالع)
1. بروفا تصبُ الحزن في أقداح يملؤها احتراق الليل والثمل
 
2. خروج عن العزف المنفرد كيف العزاء إذا تثار قراحى
خفاقات قلبي أم أنين جراحي
3. ما بين النكبة والنكبة تساقطت مواسم الأحزان ،يا عمر
4. بيان عاطفي رقم صفر(تسع مقاطع) المقطع(1) من يا (مها)يبكى على وجعي(م)
المعتق في المحابرْ
الوقت مرّبلوعتى
والشوق في قلبي يهاجرْ
والحزن يزرع أضلعي
بين الخناجر ..والخناجرْ
المقطع(9) حاولي لو مرة أن تفهميني
كل هذا الحزن جزء من شجوني
....
5.بائع الأحزان: رصاصات الأسى تجتث صبري
ويمتص الظلام وهيج فجرى
6.مقامة بغدادية: من بغداد يطل قطار الأحزان
على شرفات السفر ويبدأ
قصتنا مع موج البحر
7. أقتلتني: أقتلتني...وارتحت من سهدي؟
كي تحتفي بلقائها...بعدى
8.طعنة: أنا قتيلك فأمشى على عيوني ونعشى
9:بكائيات عشتا ر: تتقصدين مواجعي
بحثا عن اللاشيء في وجهي المسافر
منك كي:يمضى إليك مع الجراح !
10:هوس: يا—(نينوى)...
وحدي وراء الباب مذبوح أصيحُ
هل أنجبت عيناك مثلي شاعرا
صلبا يموت.....ولا يبوحُ!
11.توابيت: أنى قتلتك واقترفت جريمتي
ونصبت في عينيك بيت حدادي
12.نهايات: مدّى بديتك الجميلة في دمى
مدّى بها لا تشفقي أو ترحمي
13.إلى امّى: في طقوس الياسمين لك دمعة
14.المرثيةالآخيرة لجنازة لم
يصلَّ عليها (1) رمادٌ هو الشعر يزرعني بين جمر الحياة
وموج الضياعْ
عروس الياسمين تزف مواسم أوجاعنا للبكاء
وتزرعنا بين فكّ اليتامى وفكّ الجياعْ!!
(2) تنام الجراحُ,,,
وتصحو الجراحْ,,,
تهدى الجراحُ,,,,,,,
تطيرا لجراحْ . .
(3) أصبّ احتراقي
تصبين نارك في شرخ صبري!!
(4) تنام جراحي بعينيك حين يطلّ مساء
انتظاري من الشرفاتْ...
فمن أي جرح أطل عليك,لكي تبعث
الروح في الكلماتْ!!
.

إن القراءة الأولى تجعلنا ندرك أن تشاكل (الحزن) هو الأساس الذي يرتكز عليه الشاعر في مجموعته –قصائد مجنونة جدا- ..وهذا التشكل"اللفظي" متعدد الدلالات "المعنوية" حسب المواقف التي تمثلها النصوص.

فعلى مستوى اللفظ نلاحظ تكرار الحزن والبكاء والأسى والقتل..متشابه في عناوين القصائد من حيث الدلالة الرمزية التي يربد الشاعر تسميتها"مجنونة جدا".

وفى سؤالي المباشر للشاعر عن قصيدته"مابين النكبة والنكبة" قال(مابين النكبة والنكبة هي إحدى القصائد التي حصلت بها على جائزة شاعر الجامعات العربية لعام1998م إنها المشاهد الحقيقية للتاريخ في خمسين عاما حصدت فيها امتنا رصيدا كبيرا من الهزائم والانكسارات ..هي انكسارات أجدادنا وآبائنا..وانكساراتنا...إنها الواقع المكتوب والتاريخ الحقيقي الذي أريد أن يقرأه الجيل القادم)..

الكل مبسوطو ن....
يكتبون بالدموع قصة الهزيمة "المليون"
في أصابع الحجرْ!!
خمسون عاما يا عمرْ/ أهم إنجازاتنا
بأننا ندلك التاريخ بالخطايا
ونشنق القمرْ...
ونزرع الأشواك ثم نطلب الثمرْ...

فيها تتكرر لازمة-التاريخ- خمسون عاما...مما شكّل صورا واقعية أراد الشاعر إثباتها لجيل قادم,عسى أن تجعله هذه النكبة يحقق عكس ما أشار إليه الشاعر في قوله:-

نزرع الأشواك ثم نطلب الثمر!
ليتحول إلى ـــ (نزرع التفاح)
ثم نطلب الثمرْ!

وقد تجلت رمزية العناوين التي أشرت إليها سابقا..في معينات الضمائر(المتكلم- المخاطب) وضمن إطار زماني ومكاني...وهو توظيف يوحى بحالة نفسية أو شعورية, وبالتالي تمتزج العاطفة الشعورية(الحزن)غالبا, والصراخ الذي سال من شرفة"المرثية الأخيرة لجنازة لم يصل عليها"..

(رماد هو الشعر)يزرعني بين(جمر الحياة)
(وموج الضياعْ)....
عروس من الياسمين تزف مواسم أوجاعنا
للبكاء..
وتزرعنا بين فك اليتامى وفك الجياعْ!!

فالشاعر يضيق ذرعا بما تمور به الحياة من مظاهر مليئة بالحزن والتشاؤم. فيصفها بأنها "جمر" والمعروف أن الجمر لا يحدث إلا إذا التهبت النار التي تترك ما اشتعلت عليه جمرا ورمادا.. وهنا عبّر الشاعر عن نار الحياة تعبيرا متكاملا فكان الشعر "رمادا" وكانت الحياة "جمرا" فما الذي يطفئها ...الموج بالطبع.ولكن الشاعر رمز للموج بأنه "ضياع" إذ هي نار مشتعلة في ذاته لا تجد موجا يطفئها ولا ماء تكون بردا وسلاما, مما جعل الرؤية الشعرية التصويرية للشاعر في هذا المقطع بالذات مليئة بالأسى حتى في لحظة أفراح العرس والزقاق,لأن عروسه "الياسمينة" زفت للبكاء... انه فضاء جنائزي مأتمي فضاء الموت والأحزان..ففي المقطع الثاني يقول:-

تنام الجراح
وتصحو الجراح
تهدى الجراح
تطير الجراح

نلمس عمق الأحزان من التكرار اللفظي لكلمة "الجراح" حيث جعلها في دلالاتها المعنوية بين ثنائية :____ تنام وتصحو ___________ وتهدى وتطير
وهذه الثنائية تشكل طاقة ترميزية ممتلئة بالانفعالات الوجدانية. لذلك سمعنا صوته المبحوح حين قال:. هل أنجبت عيناك مثلي شاعرا

صلبا يموت.......ولا يبوحُ
ظلي هناك قصيدة منفيةَ
عنى..فصوت قصائدي مبحوحُ!

كما سمعنا صوته الممتلئ بالمواجع في قصيدته"بكائيات عشتا ر"

تتقصدين مواجعي
بحثا عن اللاشئ في وجهي المسافر
منك كي....
يمضى إليك مع الجراحْ...

فالمواجع...ذات علاقة وثيقة بالجراح, تدل على تشاكل معنوي وصفه الشاعر بقوله::

هذا هو الوجع الذي شغل المكان
فأضربت كل الحروف عن التقدم للقصيدة
وانتهت صيحاتنا في باب سرداب الجحيم

وهذا ما جعل الشاعر يكتب فصائدا تحمل ذات الدلالات ... فكتب قصيدته "توابيت"ص142 القصيدة رقم"35" في الديوان: أنى قتلتك واقترفت جريمتي

ونصبت في عينيك بيت حدادي

وكتب قصيدته "نهايات"ص146 رقم(36)

مدّى بمديتك الجميلة في دمى
مدّى بها لا تشفقي أو ترحمي

إن جوهر القصيدتين الصراعى ولّد توترات متلاحقة بين عناصر بنية القصيدتين ظهرت في التقابل بمعناه العام من حيث المعنى, وتكرار صيغ الأفعال من حيث التركيب اللفظي.

فالأفعال "قتل ---اقترف ---نصب ---" أدت إلى نمو قصيدة توابيت نموا بكائيا يوحي بمعاناة الشاعر وتأزم الموقف عموما , وتكرر نفس المشهد في قصيدته "نهايات " لذا أشرنا في هذه الدراسة إلى العلاقة التي تربط بين النصين بأنها علاقة تعلن عن ميلاد شعر حديث جدا من حيث الالتحام المعنوي لجملة قصائده والتي أشرنا إليها في الجدول المرفق.. ففي قصيدة "توابيت " تلاحظ أن البنية الصوتية الإيقاعية جاءت عاكسة لمقاصد الشاعر.. "ونصبت ,حملت ,وأخذت ,وسبيت ,وذبحتهم ," بنسبة الأفعال إليه بإسناد "تاء المتكلم" ثم النتيجة المتوقعة من تلك الأفعال ..وهى:

وجلست وحدك في الظلام كسيرة
مثل العرائس في ثياب سوادِ

فالشاعر استعمل صيغة "الماضي" استمرارا لما سبق ولما سيلحق... ولكن الذي يلفت الانتباه, اشتراك الأبيات في – الحركة – الحركة المتوازية اللامحدودة .. وذلك حينما انتقلت _ حركة القتل_ إلى حركة اقتراف الجريمة والانتقال منها مباشرة إلى إقامة المأتم الذي تنصب له سرادق العزاء .. فجاء بتعبير أكثر تأثيرا على النفس حينما جعل إقامة المأتم معنوية بقوله :.

ونصبت في عينيك بيت حدادي

وفي هذه المواقف تنم القصيدة عن موسيقى سريعة هادئة تتناسب مع نفسية الشاعر المعذب بجراحات ومواجع ربما مصدرها القضية العربية, باعتبار أن الشاعر يحمل قضية أمته , وربما تكون معاناة خاصة. ثم إن هذه – التوابيت – فيما يبدو, بمثابة الأموات المحمولين على نعش لا يعرف أين سيدفن , حيث لا امن ولا استقرار.

اسمي على الجدران ينزف واقفا
في الشام في عمان في (بغدادِ)
سيّان عندي أن أموت مسافرا
أو أموت على ذراع سعادِ !!

فالموقف في جميع هذه المقاطع – حزين, قاتم, يمثل وراءه لوحات تزخر بالشقاء والهم والذل والظلم والفقر والاضطهاد.

في كل شبر ألف جرحٍ غائرٍ
متغلغلٍ شوقاً عليك ينادي
يا رب إن لكل جرح غائرٍ
بعداً وجرحى... تائه الأبعادِ!!

فالتكرار اللفظي لعبارة " جرح غائر" – "ألف جرح غائر"- "لكل جرح تائه"- تعميق للمعنى وتقوية للفظ من حيث دلالاته التعبيرية. ويختم النص , وكأنه لما ضاق بنفسه وبرم بوجوده و ترك بحره –وهو إشارة للحياة, وقرر أن يهجر حيّز الحياة لاتسامه بالبؤس واتصافه بالشقاء, فاختار "الموت" الفناء – قبل خطيئة الميلاد, وكأنما أراد أن يقول أن الخطيئة متوارثة في بنى الإنسان:.

وفي قصيدته سفر الشنفرى حيث يقول:
حين انتهيت إلى البحر وحدك
وحدك يأخذك الموج..
وحدك يذبحك الموج..
لا حزن يشبه حزنك
لا جرح يشبه جرحك
جرحك كالورد, حين يفّتح يصبح
أحلى مذاقا....
وترا عانق الدمع لحن هواه .. عناقا

!

فأن هذا النص يجسّد معاني العذاب والحزن , النفي والدموع, التشرد والوحدة , والضياع, فإنما يعكس حال ما توجد عليه الأمة العربية التي لا ينبغي لأحد أن يجسدها على ما تضطرب فيه على عهدنا الراهن. فالنص إذن ترجمة لهموم الأمة التي ينتمي إليها الشاعر "الشنفرى" ومنها ينبثق الشاعر "قيس".. ومثل هذا الحزن لابد من تعليله, وما ذلك على أي دارس يتعمق نصوص هذا الديوان الذي منه هذا النص, ويتأمل أمر هذه الأمة العربية الممتحنة في نفسها , والشقية بزمانها العصيب ..فإنما يعكس بؤس المجتمع الذي نشأ فيه , كما يعكس هموم الأمة العربية بشكل عام..وهو (بائع الأحزان) حينما كتبها نصا دمويا تجلّت فيه المأساة العربية بكل ما فيها من حروب ودمار..

رصاصات الأسى تجتث صبري
ويمتص الظلام وهيج فجرى
وألغام تحيط بكل دربي
رجوعا أم مسيرا لست أدرى!!

فمدخله لهذه البكائية ذو إيقاع خفيف وموسيقى رنانة , فالشعر عنده عزف منفرد, يعزفه أنّى شاء, ولكنه عزف حزين تمتلئ به الساحة العربية "بغداد الجريحة" مع انحياز الشاعر الشديد لبغداد وجراحاتها لدرجة أنها استحزذت على معظم قصائد الديوان وقد سئل الشاعر في أكثر من مناسبة عن سبب انحيازة لبغداد وكان دائماً يردد أن صحوة الأمة وبداية كل حركة للتحرر والحرية لا بد وأن تمر ببغداد .. بغداد عودتنا على حبها وعودتنا كيف نصبر وكيف نقف حينما يظن الجميع أننا انكسرنا بغداد حبيبة الشعر والشعراء والشرفاء لا يمكن لاي شاعر أن يكتب الشعر دون مروره ببغداد ولا يمكن لأي عاشف أن يتعلم الحب دون أن يقبل يد بغداد ويتغزل في عيونها بغداد محطة كل شاعر وعاشق ان لم يمر بها فلا يكون شاعراً أو عاشقاً.

أيا بغداد يا جرحا ينادى
بكل رصاصة في كل ثغرِ!!

إنها صورة حيّة لواقع محسوس ومشاهد, وهذه الصور هي التي تجعل الشخصية الشعرية تحيا تحت رحمة مجموعة من العناصر لا تعرف إلا زمن الموت .. فتحملها على شحن توابيت الموتى, فلا شيء اشقّ على المرء من أن يحمل جثث الموتى ولا سيما إذا أصبح هذا الحمل إلى غير دفن."1"
هكذا يضيف الشاعر رؤية لمثل قضية الحرب التي لا تتبدل جوهرية حيث تعتمد طاقات الفعل التنويري, وقد أعطى الأشياء التي لا تتبدل بعدا متناميا وغير جامد, لأن التاريخ كشف ما ضوى ,, في قوله:

خمسون عاما يا عمرْ/ أهمّ إنجازاتنا
بأننا ندّلك التاريخ بالخطايا
ونشنق القمرْ.....
ونزرع الأشواك ثم نطلب الثمرْ..

فجاء دور الشاعر الذي وظّف في شعره المعاصر الخلفية المعرفية لدى القارئ – المخاطب "عمر" فعمل على فرز بنية معرفية بأنساق معرفية مسبقة, ودور الشاعر كفنان جلي الحقائق و انه يستفيد من المواقف "التاريخية" ليصور لغة حاضرة لواقع مأساوي تعيشه الأجيال المعاصرة التي قد تتخاذل في الدفاع عن أرضها, وتغرق في المناسبات والأعياد والحفلات التي تشكل نسقا معرفيا مفروضا, وتقابلها بنية "لاتصالح" التي تبقى رغم كل الأنساق حولها لتنقش نفسها في الذاكرة وتترجم على الواقع. وهذه الصورة التي رسمها "قيس" نجدها عند الشاعر أمل دنقل حين قال:

كيف ترجو غدا...لوليد ينام
كيف تحلم أو تتغنى بمستقبل لغلام
وهو يكبر بين يديك...
بقلب منكسر؟
لا تصالح ..
ولا تقسم مع من قتلوك الطعام
وأرو قلبك بالدم
وأرو التراب المقدس..!
وأرو أسلافك الراقدين
إلى أن ترد عليك العظام!! "1"

والصورة المأساوية التي رسمها أمل دنقل" لا تصالح, ولا اقتسام مع من قتلوك الطعام – هي معادلة عادلة رسمها "قيس" في أكثر من نص.. ولكن برمزية أكثر بعدا في دلالاتها ومضامينها.. فهو حين يصور تلك الدماء , وذلك الدمار, إنما يخاطب فينا الإنسانية ... فكل الخطاب الشعري عنده في رأيي يمثل أسلوبا متفردا في بناء الحكاية , كما فعل في قصيدته-إلى طفلة عراقية- ص74.

لاتعبرى خطّ الحدود صغيرتي
خلف الحدود عساكر وجنودُ
 
وبنادق تغتال حتى نفسها
ومنازلٌ فيها القريب بعيدُ ,,
لا تكثري التغريد في أقفاصهم
ما عاد ينفع طائرا تغريدُ!!

إن أعجب ما في هذا النص أنه يبتدئ بشئ من الحزن والتحذير ومحاولة إثارة البكاء بمخاطبة الطفلة العراقية , وهى رمز الطفولة المستلبة والمضطهدة ثم ينتهي بمتلازمات التفاؤل وانبعاث الأمل..

قولي لهم مع كلّ خفقة عاشقٍ
مع كل جرح في العيون يميدُ
سنعود يا بغداد رغم رحيلنا
سنعود رغم رحيلنا سنعودُ
كل الأسود تغيب عن أوطانها
لكنها فوق العرين أسود ُ!!

فبنية القصيدة يتحكم فيها الثابت السردي المعبر عن صيرورة الإنسان ويكون في حالتي ملكه وقوته وجبروته, وفقده وضعفه وهلاكه, وقد رويت حكاية الطفلة العراقية بأسلوب الإخبار تارة,والذات تارة أخرى.

فالإخبار الظاهري يبتدئ من قوله:- ( خلف الحدود عساكر وجنود/وبنادق تغتال حتى نفسها/ ومنازل فيها القريب بعيد).وينتهي أسلوب الإخبار بقوله :- ( سنعود يا بغداد رغم رحيلنا/ كل الأسود تغيب عن أوطانها/لكنها فوق العرين أسود).

أما أسلوب الذات..فيتمثل لنا في صيغة النهي أولا: لاتعبرى..../لاتكثرى.....,
ثم في صيغة الأمر ثانيا:- قولي لهم..مع كل خفقة عاشق ,

وهذه الحركة التي يمتلئ بها النص , حركة الرحيل والعودة, جعلت القصيدة دائمة النبض, طرّية الإيقاع تشع بالحيوية "الحركة الدائبة" وهى برغم أنها تقوم على صراع دائم في الحياة- الصراع الذي لا يتوقف بين الحركة والسكون , إلا أن الشاعر جعل السكون يسيطر على النص رغم أن القصيدة تحمل انفعالات ثائرة...فأنها أحدثت إيقاعا داخليا من خلال التكرار لعدد من الألفاظ, والعبارات,,كتكرار النهى في قوله:

لاتعبرى.../لاتكثرى
وتكرار الاستفهام--- أين الشواطئ / أين الأحبة
وتكرار شبه الجملة--- مع كل خفقة../ مع كل جرح

فالمتلقي حين يسمع "النهى" بإيقاعه السريع, يقف مندهشا ويتساءل عّما ينهاه الشاعر عنه, فيجيبه بصوت مجلجل ذي نبرة قوية على حرف الراء في- لاتعبرى- لاتكثرى/ فالنهى جاء مطلقا تحسبا للخطر المرتقب المشار إليه بأدوات الحرب(عساكر-وجنود-وبنادق) ومغزى هذا النهى أن الشاعر إما أن يقصد إلى حثّ(الطفلة العراقية) رمز الطفولة المذبوحة- على ترك شئ مهم, وإما أن يهدف إلى إظهار عواطفه ونواياه تجاه الطفولة العربية عموما, وعلى هذا , فان الذاتية والتفاعل هما جوهر الخطاب الشعري عنده . ولهذا فان الشاعر بحسب ما جاء في قصائده يبقى كلامه إنجازا فعليا كلاميا في حالات كثيرة, وقد يتحول إلى فعل اجتماعي إذا وقع الكلام موقعه الذي من أجله قيل,وأحسب أن هذا الصراع اللامتكافئ هو الذي ولّد في الشاعر,وبالطبع في كل عربي يحس بموت أمته واغتيالها- ولّد فيه هذا الإصرار على "العودة"-سنعود يا بغداد/ سنعود رغم رحيلنا –سنعود!

فهي مؤشرات للانتصار وان لم تدل على زمن محدد.
ولقد جاء التركيب متناميا ليساوق حالته النفسية ,وهو- فعل مضارع+فاعل مستتر<سنعود>
فعل مضارع +فاعل مستتر <سنعود>

مكررة ثلاثة مرات,وهذا التكرار في مبنى الجملة يؤكد الزيادة في معناها على ما سبقها,متمثلا في قوله:- سنعود يا بغداد رغم رحيلنا "الجملة الأولى" سنعود رغم رحيلنا سنعود"الجملة الثانية" تكرار يفيد زيادة المعنى, ثم إن التعبيرين معا جمعا في حيّز واحد,الشاعر, ومتلقيه لان المصير نفسه يهددهما(الشاعر والطفلة العراقية) . وأصوات هذا البيت أو المقطع توحي بهذا الجو المأساوي وترسم إطاره(الرحيل والتشرد) وما يترتب عنه من ضياع , ثم الإصرار على العودة رغبة في الاستقرار النفسي والبدني, وهذا ما أكده الشاعر في نهاية القصيدة بحتمية العودة.

ويتبين من هذه المفاهيم التي أشرنا إليها في العلاقة بين نصوص الديوان, أن هناك انسجاما بين مظاهر لغوية,استعارية – مجازية – متعددة توحي بأن الحدث اللغوي عند الشاعر ليس منبثقا من عدم, وإنما هو متولد من أحداث تاريخية ونفسانية ولغوية.

خمسون عاما كيف نرضى
بفكرة البقاء في دوامة التاريخ
والمزا بلْ؟؟؟
خمسون عاما يا عمرْ....
بغداد لم تزل مدينة الآلام
واليتامى....
بغداد لم تزل برغم صبرها
مدينة الأحزان والأراملْ,,,,

فهذا الزمن الكامن في هذا النص, ما هو الا زمن بائس, ضجر بنفسه, وضاق بعصره, وإنما الذي نلاحظه في هذا الزمن ,القسوة والتعاسة, فهذه الكآبة أصبحت معروفة العنوان , تعرف طريقها إلى الناس . وأول ما يمثلها العنوان "نفسه" قصائد مجنونة جدا _ باعتباره علامة لغوية إجرائية ناجعة لمقاربة النص الأدبي, ومفتاحا أساسيا للولوج إلى عوالمه وسبر أغواره وتأويلها من خلال استكشاف بنياته التركيبية والدلالية والرمزية, أما الصورة الشعرية التي تميزّت بها قصائد الديوان, فهى تقوم على إعطاء الحركة والحياة إلى الشيء الجامد, غير العاقل,فيرتد متحركا حيا مثيرا. كمثل قوله:

وجه الرمال يخيفني
أيخيف مقتول قتيلْ؟؟
الأرض تبكى نشوةً
تحتل ذاكرة الصهيلْ
والموج يسبقني إليك
وأنت يسبقك الرّحيلْ...

إن الصورة هنا تحيا بالاستعارة تكثيفا وتوليدا, ومن ثم تفجير الأزمنة الاستعارية التقليدية بأزمنة استعارية جديدة من خلال إبداعه فضاءات جديدة للتخيل تثير الاندهاش في نفس القارئ, فكان الشاعر قد أبدع علاقات لغوية وسياقات لم يعهدها القارئ من قبل, كما في قوله:

(أيخيف مقتول قتيل/ الأرض تحتل ذاكرة الصهيل/ الموج يسبقني إليك/ أنت يسبقك الرحيل) فالصورة بهذا العمق _عنده_ بتركيبها الأنزياحي تحدد علاقة الأشياء بالناس متوسلة بالاستعارات لاكتشاف هذه العلاقات كما تحدد من خلال رؤيتها للواقع وتفاصيله, كما في المقطع التالي:

لا ترسمي وجعي أمامي
من يقاسمني رغيف كآبتي
في رحلتي من مقلتيك إلى
الظلامْ؟.
من يرتدى عنى جراحي
من يرتدى عنى جراحي
يا جرحا مسافر
لا ينامْ
سبحاننا
كم ننتقى ألم الّدخول إلى
الخروج من الزحامْ....
 
كم صفّقت عيناك حين تراقصت
في حفلة الأوجاع في نفسي
العظامْ..

فاللغة هنا إيحائية, تترك لتخيل القارئ, إذ يفد النص دلالات جديدة في ذهنه- بإكساب الأشياء المعنوية حركة حسية مشاهدة,"فالمواجع ترسم" والكآبة رغيف يؤكل" والجراح قميص يرتدى" والجراح لا تنام". وهذه الصورة الجمالية لا تظهر إلا إذا تكامل بناؤها من خلال رؤية كاملة للأشياء حتى لا تتبعثر الألفاظ وتتوه المعاني.

وهذا الترابط اللفظي والتوافق المعنوي, تمّ خلقه وإبداعه بوسائل فنية متنوعة, أهمها الانزياح والرمز, وتنوع الإيقاع..نلاحظه وبصورة عامة في جميع القصائد مما جعل الديوان يمثل نصا شعريا متكاملا تظهر من خلاله البنيات المتجانسة سواء أكانت لغوية أو نحوية أو صوتية أو نفسية, أو غيرها.إضافة إلى العناصر الخارجية للنص والإدراك الشامل للرموز والإشارات, وبالتالي ينفتح الديوان على كينونة الكشف والإيحاء ما دام الشعر عنده يحتوى طاقات متجددة وعوالم خصبة ورؤى ملونة تتنامى لغة وخيالا , وواقعا, وعلى هذا دأب الشاعر "قيس قوقزة" في الديوان على توظيف طاقات اللغة الشعرية وجعل لتركيب الكلمة والجملة الشعريتين وعلاقاتهما الداخلية أبعادا جديدة.

ومن هنا فثمة إيحاءات رجولة مهزومة, وإيحاءات إلى زمن ضائع وعمر ممعن في الصمت والرحيل,وإيحاءات إلى موت ويباب متربص بالإنسان والحياة. ومن هنا أمكن القول إن الشعر لغة مكتوبة تعبر عن لغة مكبوتة في تراجيديا الوجدان الفردي الممتد في الوجدان الجماعي الهامس بتباريح التراجيديا الوجودية)

وعلى هذا يرى الباحث إن التجربة الشعرية في ديوان "قصائد مجنونة جدا" تجربة شعرية حديثة جاد ومميزة تنم عن شاعر قوي ومتمكن ...تجربة ناضجة تميزت بالحداثة التي أخرجت الشعر من نمطيته إلى حقل الإبداع والابتكار.

عندما يغوص الشاعر في أعماق النص ليستخلص التجربة الشعرية التي عنده، يرى الناقد أن هذا الغوص يستمد جمالياته وتصوراته من فضاءات اللغة الدلالية ومدى مرونتها في تشكيل الصورة البلاغية، والتي بعمقها يحتاج كلٌّ من الأديب والناقد إلى إعمال الفكر وتدقيق النظر كلٌّ حسب مجاله،للوصول إلى المتعـة التـي ينتظرها(القارئ) وهنا تظهر مقدرة الأديب في الإبداع ومقدرته على إيجاد لغةٍ متفردة – شعرية – إيحائية – داخل لغة لسانه، وهذا هو ما يجعل شاعراً ما يتفوق على آخر، وناقدٍ ما يتقدم على آخر.

وفي ديوان(قصائد مجنونة جداً ) يُمثِّل الشاعر (قيس قوقزة) أحد أولئك المبدعين الذين حملوا راية الحداثة، من أجل الخروج بلغة الشعر(صوره البلاغية) إلى دلالات مبتكرة يكون المتلقي فيها مشاركاً، ومشاركة المتلقي أعني بها تذوقه للغة النص وأبعاده الدلالية من واقع ثقافته ،والتي يكون للأديب المبدع الدور الأكبر في تكوينها من خلال كتاباته وأساليبه.

وقيس قوقزة خرج بلغة الشعر من المباشرة إلى الإيحاء، ومن التقليد إلى الحداثة – ولا أعني بالحداثة – الخروج عن أوزان الشعر وتفاعيله إلى ما يُعرف الآن (بقصيدة النثر) وإنَّما أعني المواكبة للأحداث ومرونة اللغة وسُهولة النظم الذي يخوض به الشاعر معركته الكلامية.ففي قصيدته (بائع الأحزان) يتأمل القارئ المواقف التاريخية والأحداث المتكررة منذ عصور الشعر قديماً إلى العصر الحديث، الأحداث هي نفسها متكررة منذ أن قال أبو تمام قصيدته (فتح عمورية) :

السيف أصدق أنباء من الكتب
في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ
إلى أن قال (قيس):
ودمعاتُ الحبيبةِ....عطر أميِّ
تُعرِّجُ في سماواتي وتسري
فأسمع فوق صدري هدهداتٍ
وينطقُ من عميق الصَّمتِ شعري

بهذه الكلمات عبَّر (قيس) عن مأساة أمة. وهي صورةٌ حيَّة لواقعٍ محسوسٍ ومشاهد، حاول الشاعر أن يُعطيها خصوصية في التعبير، فنراها ترمز إلى مجموعة من الأحداث ومجموعة من القيم. وهي صورة وثبتْ من زمنيتها التقليدية القاصرة إلى معنى أرحب ، ومدلولٍ أوسع ،(فأمسى الزمن الماضي رماداً وهو بقايا الاحتراق، فكأن هذا الزمن هنا رمزٌ للفناء والعدم...إنه رمزٌ لوجودٍ كان ثم لم يكنْ )

خمسون عاماً لم نَعُدْ بضمةٍ من
الورود من مخَّيم الثُّار
والمحاجرْ...
خمسون عاماً نرْتقي بسلِّم الجراح
نحو صفعةِ العراقِ والجزائرْ...
بيروت لمْ تَعُدْ أنشودةَ الرماحِ
والسماء والدفاترْ...
كمانُنَا المجروح قد تخلَّى..
عن فكرةِ الوترْ!!

فالجراح التي أصابتْ الأمة العربية، من فعل الحرب المضطرمة،مرتبطة بأزمنة مختلفة، لا بزمن واحد – إذا صرفناها إلى معجم الدلالة الرمزية التي لا حدود لها، فهي دلالة على ضياع الأمة العربية عند ما تبحث عن
( السلام ) المشار إليه في القصيدة ب (الورود )وهي سجينة المخيمات الثورية، في قوله:-
خمسون عاماً لم نَعُدْ بضمةٍ من
الورود من مخيم الثوار
والمحاجر..

أما ( المحاجر) فذات دلالة معنوية لما فيها من إيماءات إلى تساقط الخوف، وذلك إذا أخرجنا – المحاجر – عن المقطع الذي قبلها باعتبار ( الواو ) للاستئناف وليست للعطف.. وهنا يقوى المعنى، بأن المحاجر قد ترمز إلى الكآبة التي تؤرق الإنسان العربي الذي يبحث لوردةٍ من مخَّيمٍ ثوري... وبهذا تكون الصورة الفنية في النص، ذات أبعادٍ دلاليةٍ لواقعٍ ملئ بالأحزان واليأس والخضوع، هذا الواقع نفسه الذي أشار إليه الشاعر في قصيدته (مقامة بغدادية )ص82.

من بغداد يطِّلُ قطار الأحزان
على شرفات السَّفر، وتبدأ
قصتنا مع موج البحرْ...
من بغداد تعود بنا الأيام إلى زمن
الأحلام... وندخل قوقعة الذِّكرى...
كي نشرب كأس الزمن المُرْ....!
 
فالحُزن الذي نتوهم من ذكره أنه قائم، ممتد عبر الأمكنة، يُسرع الخُطى وكأنه قطار.
..(قطار الأحزان)
صورة حسية (للقطار) صورة معنوية (للأحزان)
وهي دلالة عن (امتداد الحزن)

فالعلاقة التي أراد الشاعر الإشارة إليها عندما شبه (الأحزان) بأنها (قطار) يطل على الشرفات.. علاقة معنوية تدل على ضخامة الأحزان وكبرها عند إنسان بغداد، حيث لم تك غاية هذا التشبيه في الشكل المظهري للقطار، وإنما في محتوى القطار وتعدد غرفه وتنوع محتوياته، فالحزن عميق ومتنوع، حزنٌ لضياع وطنٍ غالٍ،وحزنٌ لموت حبيب، وآخر لوداع من ترقب في البقاء معه.. وهكذا تعامل الشاعر مع الأحزان حينما وصفها بـ (قطار الأحزان) وكما أن القطار وسيلة للسفر والترحال، كذلك(الأحزان) وسيلة لرحلةٍ مع الأحلام، أحلام لتغيير الحزن إلى فرح، وتغيير الدمار إلى نهضة، ولكن الصورة الشعرية التي رسمها الشاعر تتوارى خلف أزمنةٍ ثلاثة أشار إليها الشاعر بشفافية ووضوح.. وهي:

• زمن الأحلام..
• قوقعة الذكرى.. فما العلاقة بين هذه الأزمنة؟
• الزمن الـمُر..

والذي نعرفه في علم النحو العربي أنَّ الزمن يكون (ماضٍ ،وحاضر، ومستقبل)..فما هو الزمن الذي أشار إليه الشاعر في قصيدته هذه؟ رُبما أجد الإجابة ،في أن الشاعر بدَّل في الاستعمالات وأشار إلى الزمن في مستوياته الثلاثة بصيغٍ أدبية رفيعة..

فالحاضر ـــــ الزمن الـمُر
الماضي ــــــ قوقعة الذِّكرى
المستقبل ــــــ زمن الأحلام

فأمسى الزمن المُر في نظر الشاعر هو زمن ( الحرب) وزمن (الحزن ) إنه يُمثِّل تعاسةً تعرَّض لها هذا المجتمع الذي تنتمي إليه الشخصية الشاعرة، و(زمن الأحلام ) وهو زمن ينظر إليه الشاعر بأنه زمن الغد المشرق.. ولكن استعمال الشاعر جاء مشيراً إلى ( الماضي ) في قوله: (تعود بنا الأيام إلى زمن الأحلام) فالفعل (تعود) فعل مضارع ذو دلالة مستقبلية ، أما إشارته إلى( زمن الأحلام) فربما قصد بها ما كان عليه ماضي الأمة من رُؤى يريد أن يحققها مستقبلاً، فهو يحلم باستقرار وسلام ووحدة عربية... حيث جاءت أسماء عدد من الدول في الديوان تشير إلى

(زمن الأحلام

)...
• أمُرُّ أسأل يا (بغداد) عن ولهي
• فتصرخ(الشام) قد كانوا،وقد رحلوا قصيدة"مدخل"ص23
• تبكيكَ (بيروتُ)...يا الله، ما عرفتْ
• للحزن يوماً على أفواهها القُبلُ
 
• لها(بيروت) كلَّ مواجعي، وأنا
• سيكفيني... قصيدة " بروفا "ص27
• قميصٌ اسمه الجمرُ...
 
• بيروت لم تَعُدْ أنشودة الرياح
• والسماء والدفاترْ....
 
• خمسون عاماً يا عمر.. ما بين النكبة والنكبة ص35/38
• بغداد لم تزل مدينة الآلام واليتامى..
• مدينة الأحزان والأراملْ..
 
• بغداد يا حبيبتي..
• يا نغمة الأحزان حين ترقص العِظام في المفاصلْ
• بغداد يا معزوفةً سمتْ بها الأناملْ.. ما بين النكبة والنكبة ص38/39
• بغداد مَنْ يُعيد لي عيوني
• بغداد مَنْ يُعطِّر الجراح
• بغداد إنني احترقت من كتابة القصائد..

هذه الصور الحزاينة جعلت ديوان (قصائد مجنونة جداً) يتميز بمسحةٍ بكائية متوغلة في نصوصه مما جعل مفرداته تنتج نوعاً من الحزن والبكاء على ضياع أمجاد أمةٍ مزقتْ الحرب أوصالها، وفتتْ وحدتها. والشاعر في ذلك يوظِّف كل مفرداته التي تُصِله بأمته ومدينته، وطفولته. وظَّفها لتكون قصائده المجنونة جداً – لسان حاله الذي ينطق به للآخرين، مشيراً في معظم نصوص الديوان إلى تلك الأحداث حيث تكثر في الديوان مفردات توحي بهذه الأجواء الكئيبة: هذا الوجع المؤكد/ تصرخ الشام/ تبكيك بيروت../ تصُّب الحزن../ بغداد...يا نغمة الأحزان../ رصاصات الأسى تجتث صبري../هذا هو الوجع الذي شغل المكان../ وألغامٌ تحيط بكل دربي../ لا ترسمي وجعي أمامي../ من يقاسمني رغيف كآبتي../من يرتدي عني جراحي../ العظم يجرحه الاهتزاز على باب بحر من النار......).

وهي كلها مستمدة من الواقع الذي يعيشه الشاعر، بل تعيشه الأمة العربية، والذي ركَّز الشاعر على تتبع عناصره بوصفها مظاهر تشترك فيه ( بغداد/ بيروت/ فلسطين..) كرموز لإثارة الإحساس إزاء الانتماء العربي.لذلك أكثر الشاعر وهو يرسم لوحة (الأحزان) من استعارة أدواته الفنية التي أشرتُ إليها سابقاً،حيث ينتقي منها مُعادِلاً فنياً استعارياً، أو قريناً مجازياً يُوحي بمواصفات ( الحرب) و (البكاء) ....كقوله:

فأسمعُ فوق صدريَ هدهداتٍ
وينطق من عميق الصَّمتِ شعري
أيا بغداد يا جُرْحَاً يُـنادي
بكلِّ رصاصةٍ في كلِّ ثغرِ
حصار الظلم يردي كلَّ حلمٍ
يُراودُني بمدٍّ أو بجزِ
وتُمْطرُ كربلاءُ عليكَ دمعاً
ويضحك صيفُ (تموزٍ) بكبْرِ
فأجسادٌ ممزقةٌ وشيخٌ
يجرَّ الليلَ جبَّاراً ليشري
رغيف الخبز من جوف الأفاعي
ولون الموت في عينيه يَسْرِي!
وفي مواضع أخرى، يقول:-
أمشي إليك..أم أبكي؟!! كيف يا وطناً
يكاد من كثرة الشطان لا يصلُ
وردٌ هي النارُ في كفيكَ أعصرُها
كأساً...وأكتب أنهضْ أيها البطلُ

وهو توظيفٌ يُوحي بحالةٍ نفسية أو شعورية، يتنازعها صراعٌ مرير يمتزج بعاطفة الوعي، يتضمن دلالات ذات أبعادٍ إنسانية في زمنٍ ... (أطفالنا توارثوا هزائمَ الآباء قبلَ أن يغادروا المنازلْ...) .
ولعل الشاعر يُحسُّ بنوعٍ من الإحباط – فأفكاره – التي أقرأها –تتماوج بين حالةٍ مكتوبة وأخرى مكبوتة في لغةٍ شعرية، وبين اللغة والحلم والواقع المعايش. وبذلك يقرأ الأحداث بعقلانية واعية،حين يضيق ذرعاً بما يمور به المجتمع من مظاهر الدمار من حوله..

• لا تعبري خطَّ الحدود صغيرتي
خلفَ الحدود عساكرٌ وجنود إلى طفلة عراقية ص74
 
• والقلبُ بارودةٌ تكتمُ الصَّوتَ في ضلعِ أغنيةٍ
تذبح الرُّوحَ في
عتباتِ المواجعِ والالتياع
المرثية الأخيرة لجنازة لم يصل عليهاص161
• فهل يا تُرى أعبر الجرحَ أم أنني سوف أبقى 163
نزيفاً لجرحٍ تباركه كلُّ هذي الجراحْ؟

وما نلاحظه، أن الاستخدام المجازي للألفاظ والصور قد أدى دوراً أساسياً في تشكيل التجربة وتعميقها، فكلمات مثل (والقلب بارودة../ضلع أغنية../تذبح الروح../عتبات المواجع والالتياع../أعبر الجرح../تباركه كل هذي الجراح...) إنها كلمات واستعمالات مجازية تخرج عن مدلولها المباشر وتكتسب دلالات أخرى ترتبط بنفسية الشاعر. فالمشهد هنا يُبْرِز اضطراب تُؤمِي إليه صورة الطفلة وهي تريد العبور لا تعبري خطَّ الحدود صغيرتي.ويتنامَى المشهد حينما يكون( القلب باروده) تكتم الصوت، دلالة على أنه يواجه (موتاً) يختلط فيه ذبح الروح ونزيف الجراحْ. والشاعر في قصيدته(ما بين النكبة والنكبة)ص39 يضع حداً لهذا القلق يطوي به تلك الأحزان، عندما أراد أن يُوقِّع (وثيقة التنازل) وهو يطوي مأساة خمسين عاماً كانت بغداد فيها (مدينة الأحزان والأرامل) ويختتم تلك الرحلة المأساوية بقوله:

بغداد إنني احترقت من كتابة القصائد
الحمقاء من تعويذة يسمونها/نقاتلْ
أرجوك تعذريني...
إذا وقعَّتُ مثلهم وثيقةَ التنازلْ..

والذي نقف عليه، أن البنية الإيقاعية في معظم نصوص الديوان متوازنة حيناً ومتنوعة حيناً آخر. وتجئ خاصية التكرار ملازمة لحركة النص،وما أفصده بحركة النص،استعمال الشاعر لأفعال المضارعة التي تدل على الاستمرارية،(يكبروا....نذوب...نبكي..نسير..يرتاحوا..ونخبِّئ..يرتاح..ولا تشفى) هذه ثمانية أفعال مضارعة في نصٍ واحدٍ بعنوان(من مذكرات شاعرٍ جاهلي)ص18،وإذا أردنا الإشارة الدلالية التي أرادها الشاعر، نجد الأفعال تتابع متلاحقة دون أي فواصل،حيث استخدم طرائق الوصل ب(واو العطف) مما يوحي بترابط الأحداث من غير توقف أو استرخاء كما جاء في النص..

كلَّ العصافير الذين أردتهم
أن يكبروا خانوا الغرامَ وباحوا
كنا نُعلِّم دائماً أطفالـنا
إنَّ الحياة بنفسجٌ وأقـاح
ونذوب لو ذابوا..ونبكي لو بكوا
ونسير فوق الجمر كي يرتاحوا
ونخبئ الدمع الجسور لأنهـم
لو هُمْ رأوه تعلموه وناحـوا
وإذا أتوا التاريخَ داسوا فوقـه
لا مثلنا داستهمُ الأقـداحُ
صُّبي...فقلبي لم يعد يرتاح
أبداً ولا تشفي غليلي راحُ

أما البناء الأسلوبي(ونذوب لو ذابوا...وتبكي لو بكوا..ونسير فوق الجمر كي يرتاحوا) ..يشير إلى العلاقة الإيجابية بين الذات الشاعرة التي أشار إليها بضمير الجمع /نذوب..نبكي...نسير/ وبين(الأطفال) الذين أراد الشاعر أن يعلمهم حلاوة الحياة المشار إليها بقوله(إن الحياة بنفسجٌ وأقاحُ) خوفاً عليهم من البكاء والنواح. وهذه الحال تُجسِّد أحوال الاضطراب تجسيداً دقيقاً، وتعبر عن استجابة الحالة الشعورية للمواقف التي حكا عنها الشاعر الجاهلي – بدءاً من مطلع القصيدة(صُبِّي فقلبي لم يعد يرتاحُ) كعادة الشاعر في عصر الجاهلية يبدأ بذكر الكأس والخمر ليرتاح قلبه..كقول ابن كلثوم:

ألا هُبِّي بصحنك فأصبحينا ولا تُبْقِي خمور الأندرينا

ويقوىَ البناء التعبيري حينما تتآزر الجُمل الفعلية في تحقيق صفة المساواة في العلاقات والأحاسيس التي تقوم على مبدأ التكافؤ..فإذا ذابوا ذُبْـنا / وإذا بكوا بكيـنا/ ورغم هذا التوحد تجئ المفارقة في قوله: (ونسير فوق الجمر كي يرتاحوا ).فهذه الصورة الكلية في دلالاتها العميقة تُمَثِّل الشقاء الطاحن الذي أصاب الكائن الحي _إنسان / حيوان / نبات، متمثلةً في هذه اللوحة الجنائزية _ إن صحَّ التعبير _ التي رسمها الشاعر للإنسان العربي وهو يتوجس خيفةً من الذوبان..والبكاء..والسير على الجمر، رغم أن السير على الجمر من أجل إحياء الآخرين ، وهي صورة توقظ وتُحرك الكوامن الشعورية عند القارئ من خلال الإيحاء بالدلالات التي تميزَّت بها قصائد ديوان( قصائد مجنونة جداً).
وهذه الصورة هي نفسها التي عبَّر عنها عددٌ من شعراء الحداثة مؤخراً، تحدَّثوا عن زمان الحرب وعن المأساة والبكاء، وأن الشاعر دائماً يُنَّمي في ذاته حُبّ التوحد، والانتماء لأمته، وإحساسه بإحساسها، وفناءه بفنائها.

ففي قصيدة (زمان الحرب) للشاعر القطري(علي ميرزا) تجئ صورة الانتماء التي وجدناها عند (قيس قوقزة)

أينما سرتمْ أنا سرتُ
وما ذقتمُ فذقتْ
كل شبرٍ من بلادي
لي عليه ثمَّ بيتْ

مع ملاحظة الفوارق الأسلوبية لكلٍّ منهما..وهي ملاحظة سأحاول دراستها لاحقاً.
وإذا حاولنا الوقوف على الصور (بلاغياً) نجد صوراً استعارية وتشبيهيه وكنايات عميقة وموغلة في الغموض، ولعل ذلك يرجع إلى عنوان الديوان( قصائد مجنونة جداً).فإطلاق – الجنون – للقصائد هو نفسه إطلاق على سبيل الكناية حيث وصف قصائده بأنها (مجنونة جداً) وسبق لنا في الجزء الأول من هذه الدراسة أن أشرنا لتحليل العنوان من منظور بنيوي، ولربط هذا بذاك يُعلل الشاعر لِمَ قصائده مجنونة، حينما يقول: ( وأبحث عن صوتي في صوت النَّوارس الجريحة وعن قلبي في قلوب كلِّ العصافير التي ثارتْ وتثور على قوانين القفص...وتقول لكلِّ الجبابرة والطغاة..لا.. في الوقت الذي يقول فيه الجميع نعم) .

أنا المجنون في حُبِّي لأرضي
بنرجسةِ الحنينِ بنيتُ قصري
أبيعُ الحُزنَ للعشاق شعراً..
وأروي النَّاس من أبياتِ شعري
وأشرب إن عطشتُ من القوافي
وما جفَّتْ ينابيعي وبحري..
ففي جسدي المحطَّمِ ألفُ جرح
وألفُ قصيدةٍ في كل شَّبْرِ

.....

هذا هو الوجع الذي شغل المكان
فأضربتْ كلُّ الحروفِ عن التقدم للقصيدة
بهذا الجنون، كتب (قيس) قصائده الغرامية، حيث تعامل مع الرومانسية بشفافية أفضت به لبكاءٍ دائم،وحزنٍ موغلٍ في الأعماق، وجراحٍ ندر أن يحمل الرومانسيون مثلها..

يا جُرْحاً يُسافر
لا ينامْ...
سبحاننا...
كم ننتقي ألمَ الدُّخولِ إلى
الخروج من الزحامْ..
كم صفقتْ عيناك...حين تراقصتْ
في حفلةِ الأوجاعِ في نفسي
العظامْ....
ولنتصور هذا _ المسافر_ الذي لا ينام، فتراكُمْ المواجعُ عليه زاده جراحاً حين يقول:
تتقصدين مواجعي....
بحثاً عن اللاشئ في وجهي المسافر منكِ كي
يمضي إليك مع الجراحْ....

فالصورة التي رسمها الشاعر (للوجه المسافر ) منِكِ كي يمضي إليك، نلمس فيها تعبيراً فنياً شديد التعقيد عندما نُبْعِد الوجه بمعناه ( الحسَّي ) المُشاهَد. فالوجه( رسول القلب، والناطق باسم الجسم، والمعبر عما يلتعج في الجنان، والمترجم لما يضطرب في الفؤاد – إرسالاً ثم المُعَبِرُ الأمين لما يجري في الخارج من أجل تلفيه وبثه نحو الداخل...) .

فالوجه، قيمة إنسانية نبيلة، وتعبير فياض، وجمال طافح خلاب. وقد يكون عكس ذلك . وما نراه في هذا النص، إنَّ الشاعر جعل ( الوجه) يمضي مع الجراح..لا ينام، ثم جعل ( العيون ) تصفِّق حين تراقصتْ في حفلة الأوجاع....العظام.

ومما يدهش القارئ – حقاً – تَمكُنْ الشاعر من ربط النص بوحدة عضوية شديدة التآلف، مما يُفْسد معناها إذا حاولنا الفصل بين وحداتها..فالألفاظ (الوجه ، العينان ،الدمع، لم تبك ،في رحلتي من مقلتيك، كم صفقت عيناك ،تراقصت العظام، ملء إرادتي العمياء...) هي ألفاظٌ لها علاقة عضوية متلازمة، ووظيفة كل عضو مرتبطة بوظيفة الآخر عبر منظومةٍ منسجمة متظاهرة فيما بينها في كل الأطوار...( فالوجه الإنساني ) له عينان، ومن وظائفهما / النظر../ الدموع../إظهار الفرح بالابتسامة،وإظهار الحزن بالبكاء.. وما نلاحظه في النص – استعمال الشاعر لكل محتويات الوجه في أسلوبٍ تعبيري ملئ بالمواجع والتي عادة ما تبدو على الوجه.. ثم إذا أشتَّد هذا الوجع /الحزن..أشتد انعكاسه على صفحة الوجه وملامحه..ثم تتجاوب أعضاء الوجه وأكثرها حساسية (العينان) تتجاوب لإخراج هذا الوجع..فتدمعان،إما لفقد حبيب،أو مفارقة صديق أو إهانة كرامة وجرح عزة الإنسان..فيكون (الدمع) قيمة للشجن والهم والأحزان.وهي عند الشاعر تشير إلى ذلك في مواضع
كثيرة.

• .عيناك في صحراء قلبي أنهُرٌ
تغتالني وأنا إليها الصَّادي. .ص143 (توابيت)
 
• عيناكِ أجمل لحظتين
لقصيدتين...
عيناكِ أشهى طعنتين
لقصيدتين... ص148 (هلوسات )
 
رقِّص دموعكَ..
حين تأخذك الهواجس
عُنْوَةً للموتِ...
 
• من أول النظرات ص149 (هلوسات )
تفضحه العيونُ...
 
• عيناكِ ليست قصَّةً عاديةً
عيناكِ ألفُ قضِّيةٍ بحياتي.. ص155 (هذيان )
أسطورتان...حديقتان...رصاصتان
هما..خَلَدنْ بذاتي
• لعليِّ أُضئُ الوجوهَ فيضحك ثغرُ الصباحْ
 
• تنام جراحي بعينيكِ حين يطِّلُ مساءُ انتظاري
..من الشرفاتْ
 
• ومن أي بابٍ سيدخلُ شوقي عليك/ليلمح رِمْشَكِ ص162/ص166 (المرثية الأخيرة بين ضلوعي... لجنازة لم يصل عليها)
وبين انهيار النهايات في الزفراتْ..
 
• على وجنتيكِ تنام مواسمُ حزني

• لمن بعد عينيك سوف تدق القلوب..

بهذه المعاني،وقف الشاعر على العيون في عوالمها المختلفة، فهي التي تعبر عن كل الانفعالات التي يحسها الإنسان،وهي أشبه ما تكون بـ (معزوفات حزينة ) تناسب الموقف المفجع الذي يعيشه الشاعر.
فالدموع المنهمرة التي تستحيل إلى نارٍ مُحْرِقة، هي التي رسمت صورة الحزن على ( العيون ) التي رددها الشاعر في أكثر من مقطع.وهنا نلقى صورة شعرية شديدة القتامة والحزن، حيث تتألف من محاورٍ ثلاثة
العيون/ الدموع / الوجع(الحزن)..فالوجع والحزن يمثلان (العذاب) الذي عبَّر عنهما بأساليب مختلفة..فتارةً
يقول:-

يا جرحيَّ الذي طعنَ
الدموع على المآقي
ضمَّي دمعي....
وتذوقي روحي..
وصبِّي نخبَكِ المشتاق في
نفسي..فقد رحل التلاقي..
 
وتارة أخرى يردد..
على وجنتيك تنام مواسم حزني
مواسم جوعي..
ارتجافات قلبي..
وترتاح قيثارتي في يديك/
وأغفو على ساعديك كطفلٍ يُطَّل من الياسمين
على الأمنياتْ...
لمن بعد عينيك سوف تدق
القلوب...
وتعزف من كلَّ هذا الضجيج صهيلَ
التمرد والأغنياتْ!!

(فالعين ) في مفهومها الدلالي..هي أداة الحب الأولى..ووسيلة التذوق للجمال، كما هي أداةٌ لقياس الانفعالات العاطفية التي قد لا يُعبِّرُ عنها الصوت، ولا باقي الحواس، فتعبِّرُ هي عنها في بلاغةٍ عجيبة بإرسال الدموع.فالإنسان يبكي حين يحزن..ويبكي حين يفرح، وفي كلَّ حال يتخذ الدموع دلالة لا يتخذها في غيرها.
وسبق أن أشرنا إلى أن قصائد الديوان كلها تقوم على هذه النغمة الحزينة، عيونٌ دامعةٌ باكية، حزنٌ ووجع، قتلٌ ودماء...إنها قصائد مجنونة حقاً كما يسميها شاعرها.

فالحزن يستبِّدُ بخطاب هذه النصوص استبداداً شديداً، ثُّم لأن الحزن لا ينبغي أن يكون إلاَّ شيئاً من ملازمات – العين – وذلك لاتخاذها موقعاً متميِّزاً في التعبير الحي ، التعبير باللغة الخارقة التي يفهمها الناس جميعاً.ُ و قدرتها على التبليغ الصادق لما في النفس الإنسانية من كوامن...عن طريق الدموع..وهي هكذا عند كثيرٍ من الشعراء.

وهي عند ميخائيل نعيمة :-

دموعُ العينِ قد جَمدتْ وريحُ الفكر قد همدتْ
فلِمَ يا قلب، لِمَ يا قلــ بُ فيكَ النارُ في لهب
وكنت أظنها خمدتْ
وكم عينٍ لديكَ بكتْ وكم روحٍ إليك شكتْ
فسالتْ مُهْجة الشاكي وجفَّتْ دمعة الباكي
ووسماً فيكَ ما تركتْ
 
أما المقالح فيقول:-
صار الدمع بعيني وطنا
شربتْ عيني ماء الحزن
انفجرتْ

وهذا الحزن هو الذي يُفْضي إلى إفراز العينُ الدموعَ..ولكلٍّ في ذلك أسلوبه. وبهذا المفهوم استطاع (قيس قوقزة) أن يترجم ما بداخله هو – كفرد من الأمة – ومن ثَّم استعمالها كأداة حيَّة فعَّالة لربط الصلات العاطفية والاجتماعية والجمالية بين الناس عبر كل المجتمعات.
كما نجد صورةً فنية أخرى تتسم بالصراع الشديد المحتدم بين الشخصية الشاعرة ( كاتب النص ) وبين قوى عاتية خارجية، تتمثل في حال تشبه (السُكْر).. وإنَّ الشخصية لتصارع هذه الحال وتصارع، ولكنها في آخر الأمر تذعن للخطب الداهم، ثم تحاول أن تنسى هذا الخطب، أو تُغَيِّبُ نفسها في اللاوعي عن هذا الواقع القاسي بالاستسلام إلى تسكاب الدموع.

أو فانتقي موتي/ولكنْ
أتركي ليَّ الكأس مع سُمِّ الخيارِ
لكي أصبَّ براءتي نخباً لألام
اليتامىَ في سباق الجائعينْ

ولقد تكرر نفس المقطع مع تغيير عبارة(لآلام اليتامى) إلى (لآثام اليتامى). والكأس هنا يمثل حالةً من غياب الوعي، أو ضياع الحقيقة أمام الذهن الحائر، أو غروب الرؤية أمام حالة عدم التوازن التي عبَّر عنها الشاعر بـ(أو) و (لكن).. فهي حيرة تهَّز المشاعر إذا نظرنا إليها من خلال الاضطراب وعدم التوازن الذي تعيشه الأمة العربية،وانعكاس هذا الاضطراب على منظومة القصيدة العربية التي تتكئ على الأحداث المتغلبة بين حربٍ وسلام، وبين وحدةٍ وتفكك.

أمَّا حديثنا عن الصورة الفنية في ديوان (قصائد مجنونة جداً ) ناتج في مستواه الأول عن طاقة (الكلمة ) و(الصوت ) وارتباط الألفاظ بدلالاتها – الصوتية – يدل على الإيماءات التي تحملها الكلمة المفردة، والكلمة مع ما جاورها من كلمات. كقوله مثلاً:

عيناك في صحراء قلـبي ( أنْهُرٌ) علاقة معنوية
تغتالني وأنا إليـها ( الصَّادي) فالنهر = الماء /صحراء قلبي=جفاف/الصادي=حالة من العطش الشديد.
وفي قوله: لعلِّي أُضئ الوجوهَ فيضحك ثغرُ الصباحْ
يضحك علاقة بين الضحك والثغر /الصباح تجسيدا معنويا يشير إلى دلالة(الإشراق)
ثغر الصباح أضئ الوجوه وضاءة الوجه لها علاقة بالضحك وابتسام الثغر.
فالتبسم أو الضحك لثغر الصباح، ذو دلالة معنوية على سبيل الاستعارة المكنية.

ومثل هذا التخيُل لا يكون إلاَّ لمبدعٍ كفؤٌ، فالصورة الأولى(عيناك في صحراء قلبي)تختلف عن الصورة الثانية(لعلي أُضيء الوجوه فيضحك ثغر الصباح) نتيجة لاختلاف الجو النفسي العام الموجود خارج النص. فرغم وجود علاقة ضمنية بين العنوانين (توابيت) و (المرثية الأخيرة لجنازة لم يُصل عليها)هذه العلاقة تُحقق وحدة عضوية تربط موضوعات النصوص ببعضها(فالتوابيت) مكانٌ لوضع ( الجنائز). فالجو النفسي في العنوانين متشابهٌ لحدٍّ كبير، وهذا ما قصدتُ به (اختلاف الجو النفسي العام خارج النص) فداخل النص شيءٌ من البكاء تشير إليه( التوابيت) وشيء من الإشراق والتفاؤل تشير إليه(المرثية الأخيرة...)

لأصنع من شمعتي شمسَ وقتٍ جديد..
لعلِّي أُضئ الوجوه فيضحك ثغر الصباحْ
ولكنه لا يمكن فصله عن الجو العام المُتَفاعَلُ به في الحالتين.

والشاعر وهو يرسم لوحاته اللفظية استعار أدواته الفنية من الطبيعة في أكثر من نص، وسبق أن أشرنا في هذه الدراسة إلى عناوين النصوص ذات الصلة الموضوعية، أما النصوص نفسها ولكثرتها اكتفينا بالإشارة إلى بعضها حتى نجعل للقارئ نوعاً من التشوق لاكتشاف مضامينها من الديوان.
ومقياسنا الذي حدَّدنا به الوحدة العضوية في موضوعات ديوان ( قصائد مجنونة جداً) هو ترابط النصوص ترابطاً معنوياً قوياً وكأنما جميع نصوص الديوان نصاً واحداً موزعاً على وحدات حسب الأحداث ، وخاصةً في الجزء الذي تناول فيه الشاعر مأساة الأمة العربية حسبما جاء في قصائد :-

 ما بين النكبة والنكبة.
  إلى طفلة عراقية.
 بائع الأحزان.
  مقامة بغدادية.
  همسات.
  سفر الشنفرى.

وفيها يقرر الشاعر أن قيمة المقطع(الشعري) تتمثل في الصلة التي بين معانيها في المقاطع الأخرى، (وهذا ما يُسلِّم به دعاة الوحدة العضوية في القصيدة أنفسهم) .

ونمثِّل لمرونة الوحدة في القصيدة بقول ( قيس قوقزة) في قصيدته ( مقامة الزبرجد ) ....

ألوان عينيك في المرآة تنتحرُ
مرَّتْ هنا قبل أن يغتالها السَّفرُ
مرتْ هنا بين أنفاسي...وقافيتي
مثل"الزبرجد" فوق السطر يحتضرُ
مرَّتْ على قمر الدنيا تُراقصه
فاحتارت الشمس مَنْ ذا منكما القمرُ
سربُ العصافير في دمعي يُرافقها
نارٌ هو الدمع في العينين ينكسر
نامتْ على وجعي عيناكِ فاحترقتْ
بوابة ُ الفجر وأغتال السما المطر
نارٌ برمشيكِ إن أطفأتها اشتعلتْ
نارٌ بعينيكِ لا تُبْقي ولا تذِرُ
لك البنفسج والياقوت فاحترقي
وليَّ المواجع والآلامُ والصُّورُ
خلف الحدود حصانٌ يعتليه دميِّ
وخلفَ عينيكِ يغفو الليلُ والشجرُ

وما نلاحظه في النص، التكرار اللفظي لعددٍ من المفردات، كتكرار الأفعال ( مرَّت / يغتالها /...) وتكرار الأسماء( قمر / نار / عينيك / خلف ) حيث أدَّى هذا التكرار إلى الاستمرارية – استمرارية الأحداث واستدامة الأحزان التي عبَّرتْ عنها الأسماء – النار – الدمع – الوجع .حيث نلاحظ المجازات اللغوية والاستعارات،

  نارٌ هو الدمع....
  نامتْ على وجعي عيناك...
  نارٌ برمشيك....
  نارٌ بعينيك.....

ولا شك أن الصورة التي رسمها الشاعر للدموع، بأنها ( نار) في دلالتها الإيحائية تشير إلى الشعور بالجزع والخوف من خلال الصور الإيحائية الدالة على هول الموقف، دون تصريحٍ قد يُضْعِف من شأنها، و(الدمع) هنا نارٌ تُحْرِق، ولك أن تحسُّ بحرارتها.
وما نقف عليه في هذه النصوص، أنها ذات طابعٍ قصصي تظهر فيها الأفكار والأحاسيس متدرجة المواقف، إذ ينمو الموقف بنمائها، ويموت بموتها. وذلك لأن الصورة التي يحملها خيال الشاعر للأحداث، جعلته يُحلِّق بها على أجنحةِ اليأس والبكاء، حتى أحال الدمع ناراً..فالتهبتْ الرموش، واشتعلت العينان..فصار كلُّ شيء في قصائده يحكي عن حزنه ووجعه..

والحزن يزرع أضلعي
بين الخناجر....والخناجرْ
والصبح يشرب من دمي
وجعاً تلملمه البيادرْ...
والجوع يأكل رغبتي
وقصيدتي مني تُصادرْ...

وهي هكذا..حتى هممتُ أن أُعَنْوِنها بـ ( قصائد حزينة جداً) ولكن مثل هذا الحزن لا بدَّ من تعليله، وما ذلك على أي دارس يتعمق نصوص هذا الديوان،و يتأمل أمر هذه الأمة العربية الممتحنة بنفسها، والشقيِّة بزمنها العصيب، فإنما يعكس بؤس المجتمع الذي نشأت فيه هذه المجموعة الشعرية حتى وكأنها تتلذذ بالشقاء وتتمتع بالموت رغم أنها خير أمةٍ أُخرجتْ للناس.
فإذا كانت هذه النصوص – المجنونة جداً – تُجسِّد معاني العذاب ، والحزن ، والذل والخوف، والموت، والنفي والدمع والنار، والجفاف والتشرد، والضياع والحيرة. فإنما تعكس حال ما نحن عليه..

خمسون عاماً أصبح المهديُّ
من عجائب الزمان..
من تقلُّب الأدوارِ
ينتظر...
عزاؤنا الوحيد دائماً بأننا، نقدِّسُ
الأحزانَ، نكتمُ
الأسرار في الحفرْ...

فالنص ( ما بين النكبة والنكبة) يطول الحديث عنه، لأنه يُمثِّل المحور الذي تدور حوله قصائد الديوان، فهو مرآة حيَّة للأحداث وترجمة لهموم أمةٍ ( لا تجيد غير لمسةِ التوقيع والتنازل ).
والذي خرجنا به في هذه الدراسة _ أن قصائد الديوان تمثل مرحلة متقدمة في منظومة الشعر الحديث الذي يتخذ من الإيحاء دالة ذات أبعادٍ متعددة المعاني والرؤى. والشاعر بشفافية المتأمل استطاع أن يقول ما لا يُقال..وتمكن من عكس ما تعانيه النفس من أوجاع وآلام لا يمكن السكوت عليها.وها نحت نردد معه:-

فما أقسى بأن تحيا عزيزاً
وترجع بعدُ كي تحيا بأسرِ!!
د.عمر أحمد عبد الكريم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى