الجمعة ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
بقلم حسن عبادي

قصة خريف

في حينه شاهدت عشرات العروض المسرحية في لندن، بمسارح صغيرة تتسع للعشرات ومسارح تتسع للمئات، وكلّها ابتدأت بالوقت المحدّد لها، وما رسخ في ذهني من "تجربتي" المسرحية في لندن أننا حجزنا في إحدى الأيام تذاكر لعرض السابعة مساءً، ولاستغلال الوقت قمنا برحلة إلى أوكسفورد، وفي طريق عودتنا بالقطار إلى لندن تعطّلت مراحيض القطار مما اضطره للوقوف في محطتين إضافيتّين احتراما للمسافرين ومتطلّباتهم، فتأخر الوصول بعشرين دقيقة!، لذلك وصلنا المسرح متأخرين 7 دقائق، فوجدنا الأبواب مغلقة، أجلسونا في باحة الانتظار لنشاهد العرض عبر شاشات خُصِّصت لذلك، وفي الفرصة الأولى أمسكوا بأيدينا واقتادونا إلى مقاعدنا المحجوزة كي لا نشوّش سيرعرض المسرحيّة!

يوم السبت 20.01.2018 سنحت لي الفرصة لمشاهدة مسرحية "قصة خريف" على مسرح "الكرمة" الحيفاوي، وكانت هذه المرّة الثانية، فقد كنت شاهدتها يوم الجمعة 29.04.2011 على خشبة مسرح الميدان للمرة الأولى، وكان لها مذاق آخر. ابتدأ العرض بتأخير 17 دقيقة عن الموعد المحدد، وهذا مأخذ يُدان عليه المنظمون، فعليهم احترام التوقيت لبناء ثقافة وآداب المسرح واحترام الفن كثقافة مُذوّته، فالتأخير هو "عقاب" لكل من حضر بالوقت تمامًا و"هديّة" لمن تأخّر.

"قصة خريف" عمل أدبي للكاتب الإيطالي ألدو نيكولاي ترجمها للعربية سليم ضو وقام أمير نزار زعبي بتصميمها وإخراجها ومسرحتها لتعرض على خشبة مسرح الكرمة الحيفاوي المتجدّد بإدارة مديره الفني الممثّل سليم ضو، الذي ما زال يحاول بخطى حثيثة ودؤوبة تعريبه ليأخذ موقعه الريادي الوطني على الساحة الفنية في البلاد ليملأ فراغًا صارخًا في وسطنا، يقوم بتمثيلها الفنانون مكرم خوري، سليم ضو وسلوى نقارة.

تتناول المسرحية قصّة مسنين أرملين في أواخر سنوات السبعين من عمريهما، يلتقيان صدفةً على مقعدٍ في أحد أحياء المدينة، يقتلان الوقت بانتظار الموت الحتمي. يعيش أحدهما مع عائلة ابنته والأخر مع عائلة ابنه، تتناول موضوع الشيخوخة بأسلوب كوميدي ساخر، يتماوج بين الكوميديا والدراما، بأداء مميّز لثلاثة ممثلين من الرعيل الأوّل، ولهم معًا تجربة ما يزيد على المائة عام في المسرح العبري.

يكشف ليئو (مكرم خوري)، موظف حسابات متقاعد، عن الاهمال والمعاملة المهينة من أولاده وعائلة ابنته التي يعيش معها بفضل مخصصات التأمين والتقاعد التي تتقاضاها بدلًا منه بينما يحاول بوكا (سليم ضو)، منغلق المشاعر، التستر على معاملة أولاده له، عامل مطبعة متقاعد، يرفض الحديث عن تلك المعاملة أو سماع أيّة انتقاد لها. يؤلمهما وضعهما والتخلّي عن خدماتهما، فحاول ليئو العودة لمكان عمله السابق ولاقى التجاهل الصارخ، أما سليم، منعته عزّة نفسه من العودة إلى هناك :"قلتلهم إذا بدكم إياني إتصلوا بي...ولم يتصلوا بعد!" ويعيش مجده في صف عنوان الصحيفة حول إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، فكان مركز الحدث... والأن الكل في غنى عنه، وما يربطه بعائلة ابنه، مخصصات التأمين، لا غير! وهنا "تهبط" على حياتهم أُمبرا (سلوى نقارة)، عزباء و"حاضنة " متقاعدة، كلها حيوية ونشاط، متمسكّة بالحياة، تهتم بأناقتها وتصميم شعرها، وطبيخها، تبحث عن قطتها لتطعمها، وتحاول إدخال الحياة لحياتهما فيحاول بوكا إبعادها عنهما لئلا تتعلق بمكرم وتُبعده عنه، هل هو حسد أم أنانية! أم غيرة؟

تتناول المسرحية حياة المسنّين في خريف عمرهم، الوحدة والاغتراب، العلاقة بينه وبين عائلته ومحيطه، وصراعه مع الجيل والشيخوخة... وخوفه من ملجأ العجزة! فتظهر على وجوههم ملامح الألم والشقاء والتعاسة في مواجهتهم ومحاربتهم للنسيان والإهمال، ويبقى الأمل مع سلوى والبهجة التي تُدخلها لحياتهما.

يقترح بوكا على صديقه ليئو الهروب من عالم الأبناء إلى قرية إمه التي هجرها قبل سبعين عامًا، فالناس هناك طيّبون، يحجز تذكرتا سفر ويحضّرا الحقائب للسفر قُبيل إدخال ليئو لملجأ العجزة بيوم واحد، ولكن سكتة قلبية مفاجئة أصابت بوكا في طريقهما لمحطة القطار لرحلتهما صوب الحرية المنشودة حالت دون ذلك ... وسدّت باب الأمل... فالحياة لا تتوقف إلا بالموت.
إنها حياة المسنين والشيخوخة في كل زمان ومكان، وخاصة في عصرنا هذا (رغم أن ألدو كتبها قبل عشرات السنين) إلا أن المسرحية تُحاكي الجميع، ببساطة سلسة، ولغة محكيّة انسيابية، ويظل السؤال حول الرهان على الأبناء مفتوحًا، هل هو رهان خاسر؟

تماهى مكرم خوري مع دوره فرأيناه منفعلًا، لغة جسده وتعابير وجهه كانتا كفيلتين بالتحدث فخاطبتا كوميديّة سليم ضو المعهودة، وجاءت سلوى نقارة بحركاتها الدرامية ولهجتها لتُبهج "القعدة" وتبعث فيها روح الحيوية والنشاط.

ديكور المسرحية بسيط، عبارة عن مقعد خشبي وأوراق شجر يابسة مصفرّة خريفية مكوّمة على أرضية خشبة المسرح، تصبغ الجو بنكهة أخرى إضافية. المكياج كان موفّقًا أظهر كهولة ليئو وشيخوخته و"شبوبيّة" أمبرا. الملابس ملائمة للمسرحية وأجوائها. الموسيقى الخلفية أدخلت الجمهور إلى أجواء المسرحية، فكلّها كانت مميّزة ببساطتها ومهنيّتها.

أعذروني يا من قمتم بهذا العمل الرائع، ولكن، بما أن القائمين على العرض لم يوزّعوا مطويّة ببرنامج الأمسية وأسماء المشاركين وطاقم العمل، فلم أنصفكم ولم أعطكم حقّكم فردًا فردًا، فحبّذا لو نال اهتمام المسؤولين، وتعاملوا معه بدرجة أعلى من المهنيّة، كما هو متبّع في المسارح العالمية (فهناك، إضافة لأسماء المشاركين، لمحة قصيرة عن كل منهم، كما ويُضاف عرض موجز المسرحية).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى