قليل عائدي، سقم فؤادي
إن الانسان يسير في غابة من الرموز تحدق به
بودلير
عندما نقرأ العبارات التالية في مسرحية هاملت لا بد وأن تتبادر الى اذهاننا علاقة المتنبي بكافور، أو بالأحرى هجاؤه له:
" هاملت: أحسِن وفادة الممثلين واقامتهم، انهم خلاصة العصر وموجز تاريخه. خير لك ان يُكتب على قبرك بسوء بعد موتك من ان يذكروك بالسوء في حياتك".
(ترجمة جبرا إبراهيم جبرا) [جميع الاقتباسات التي ساوردها من المسرحية هي بترجمة جبرا إبراهيم جبرا]
فالفن بشكل عام هو "خلاصة العصر وموجز تاريخه"، كما ورد، والسلطة المعنوية الممنوحة له تجعله سلاحا لا يستهان به بالنسبة للمخاطَب من قبل هذا الفن، سواء بالسلب او بالإيجاب. فهجاء كافور - على سبيل المثال – وصمه في حياته ومستمر في وصمه الى ما شاء الله. أقول هذا رغم ان طه حسين في كتابه "المتنبي" يدافع عن كافور واصفا إياه بالسياسي المحنك، حيث أتيح له تولي الحكم بفضل دهائه ورجاحة عقله في تسيير شؤون الدولة، وان المتنبي قد جاوز الحد في هجائه بسبب ملابسات العلاقة بينهما. وتعجبني عدة قصائد للمتنبي، لكني اخص بالذكر ميميته التي وصف فيها الحمى التي اصابته وهو في مصر. حيث تحدث طه حسين في كتابه الانف عن خلفيتها والظروف التي أحاطت بالمتنبي اثناء تواجده في مصر، خاصة بعد ان يئس من إمكانية تحقيق كافور وعوده له. فوصف طه حسين هذه الظروف، وحصرا النفسية منها، قائلا:
" اما في مصر فنحن نحس ان شيئا قد انحطم في نفس هذا الشاعر العنيف، فاذا حزنه لا يصطنع لغة الغضب ولا لغة الثورة. وانما يصطنع لغة الشكوى والانين، وكأنه العاجز لا يستطيع ان يقبض على السيف ولا ان يبطش به، ولا يملك الا ان يئن انين العاجز الكليل."
وأثنى على ميميته التي اشرت اليها بقوله:
" وهذه الميمية التي قالها الشاعر حين اصابته الحمى في مصر سنة ثمان وأربعين وثلاثمئة من ارق الشعر العربي كله، واعذبه وارقاه، واشده استثارة للحزن، وتحريقا للقلوب الحساسة الشاعرة. وقد اعجب القدماء بهذه القصيدة، لان الشاعر قد برع فيها حين أراد وصف الحمى، وليس في هذا شك. ولكني احب هذه القصيدة واكلف بها، لا اكاد احفل بهذه البراعة الفنية او اقف عندها، لان حزن هذا الشاعر العظيم قد تجاوز الفن وصار اعظم منه وابعد مدى، وانفذ الى القلوب والنفوس. فانا لا أرى شاعرا يصطنع الشعر ليصور ما يجد من لوعة وحسرة ويأس وانما أرى اللوعة والحسرة واليأس تتخذ من الشعر لها لسانا لتبلغ اسماعنا وتنتهي الى قلوبنا".
على ضوء هذه الظروف النفسية القاتمة التي يشير اليها طه حسين، يمكن تعليل إصابة المتنبي بالحمى الشديدة من ناحية طبية، فمناعة الجسم تضعف كثيرا في حال الاضطراب النفسي، وارى المتنبي في هذه القصيدة يحاول اعاده ترتيب أوراقه لتخفيف حدة هذا الاضطراب. فهو في برزخ ما بين البقاء رغم انفه في مصر، او مغادرتها خفية بعيدا عن اعين الرقباء، لذلك فان اعصابه تالفة. وفي ظل هذا التلف اصابته الحمى والتي اتاحت له سبر اغواره النفسية والاتصال بلا وعيه. فالحمى بهذيانها تنقل الانسان الى حالة وعي مغاير، عبّر عنه بقوله انه "شديد السكر من غير مدام". وتحت تأثير هذا الهذيان كتب هذه القصيدة الجميلة، والتي استهلها بـ:
ملومكما يجلّ عن الملام – ووقع فعاله فوق الكلام
فهو يبدأها بذكر اللوم، بمعنى ان هناك ظلا ثقيلا يلازمه، لكن على خلفية معرفتنا بوقائع حياته في مصر قريب هروبه، يمكن القول انه يعبّر أساسا عن الصراع الداخلي في نفسه. فاللوم الحقيقي هو لومه لنفسه على سوء اختياره، وقراره القدوم الى مصر والاتصال بكافور، والذي صب غضبه عليه لاحقا، وقال انه ليس انسانا بل "مخازيا" صرفة. القصيدة شهيرة لكني سأتوقف عند اول خمسة ابيات منها وآخر أربعة ابيات. هذا لا يعني انتقاص قيمة الابيات الداخلية فهي بارعة حقا، لكني وجدت هذه المقدمة والخاتمة جديرتين بالتطرق اليهما. الابيات الخمسة الأولى التي سأتوقف عندها هي:
ملومكما يجل عن الملام – ووقع فعاله فوق الكلام
ذراني والفلاة بلا دليل – ووجهي والهجير بلا لئام
فاني استريح بذي وهذا – واتعب بالاناخة والمقام
عيون رواحلي ان حرت عيني – وكل بغام رازحة بغامي
فقد ارد المياه بغير هاد – سوى عدّي لها برق الغمام
في البيتين الثاني والخامس يتحدث عن دليل وهادٍ، وهذا يشير الى حيرته وتفكيره الطويل بما يمكن ان يعينه على الخروج من محنته. اما في البيت الرابع فيصوّر الالتحام بينه وبين ناقته (والتي يسميها راحلته، وهذا يدل انه لا شعوريا يهجس بالرحيل فاختار هذه التسمية دون غيرها)، وكأنه اصبح جزءا منها. فهو يقول ان عينها صارت عينه وبغامها (صوتها) اصبح صوته. الدليل الذي يحاول الاهتداء اليه أتاح له هذه العودة الغريزية المتمثلة في تصوير التحامه بالناقة، فالحيوان يمثل الغريزة اللاواعية. وهكذا يتصل المتنبي بلا وعيه علّه يهتدي، فهو حائر ورازح تحت أعباء واقعه.
في شرح ديوان المتنبي لعبد الرحمن البرقوقي نجد ما يلي كشرح للبيت الرابع:
" الرواحل: جمع راحلة وهي الناقة. وبغام الناقة: صوت لا تفصح به، وبغمت الناقة تبغم بغاما: قطعت الحنين ولم تمده. ورزحت الناقة: سقطت من الاعياء. وقال الواحدي قال ابن جنى: معناه: ان حارت عيني فانا بهيمة مثل رواحلي، وعيني عينها وصوتي صوتها، كما تقول: ان فعلت كذا فانت حمار، وانت بلا حاسة. وزاد ابن خورجة هذا بيانا فقال: يريد انه بدوي عارف بدلالات النجوم في الليل فيقول، ان تحيرت في المفازة فعيني البصيرة عين راحلتي، ومنطقي الفصيح بغامها. وقال التبريزي: عيون رواحلي تنوب عني اذا ضللت اهتدي بها، وصوتها اذا احتجت ان اصوّت ليسمع الحي يقوم مقام صوتي، وانما قال ’بغامي‘على الاستعارة".
واراني هنا اميل الى الشرح القائل " انا بهيمة مثل رواحلي وعيني عينها وصوتي صوتها". فهذا النكوص الى المرحلة الحيوانية (المتمثل أيضا بفقدان النطق) يعني الدخول الى اللاوعي، فهو ليس بلا دليل تماما، فدليله قائم في اعماقه وهو يتلمس طريقه اليه. فهو يعرف بعقله الباطن ان بامكانه التوصل الى حلول (وهذا ما حصل فعلا لاحقا على ارض الواقع)، لكن عليه الخروج من وعيه الضيق الأفق الى لاوعيه الارحب حكمة ومقدرة على استشراف الأمور.
الطريف ان لشكسبير في مسرحية هاملت فقرة شبيهة بقضية الالتحام بالحيوان، فالملك بالمسرحية يتحدث عن فروسية رجل فرنسي قائلا:
" فروسية هذا الرجل كانت السحر بعينه، فكنت تخاله ينمو من صهوة الجواد. فيحفّز حصانه لكل فعل عجيب، كأنه بعض من اوصال جواده الجميل، او نصف جسده: لقد فاق تصوري، وجاء من الحركات والالاعيب بما يعجز عنه خيالي".
هنا أيضا يتحدث شكسبير عن التحام الفارس بجسد جواده وكأنه قطعة منه، لكنها تبقى براعة فنية لاثبات الفروسية، اما بالنسبة للمتنبي فالالتحام مسألة حياة او موت، فهو يغيب وتحضر الراحلة كامتداد عضوي له يهديه الى الطريق.
ويكرر المتنبي موضوع النكوص بحثا عن الدليل الهادي في البيت الخامس:
فقد ارد المياه بغير هاد – سوى عدي لها برق الغمام
حيث يقول البرقوقي شارحا هذا البيت:
"لا احتاج في ورود الماء الى دليل يدلني سوى ان اعدّ برق الغمام، واستدل بذلك على المطر فاتبع موقعه، على عادة العرب في عدها برق الغمام. وذلك ان العرب كانوا اذا لاح البرق عدوا سبعين برقة، وقيل مائة، فاذا كملت وثقوا ان البرق برق ماطر، فرحلوا يطلبون موقع الغيث".
هنا يستلهم الشاعر اصوله البدوية في الصحراء لتحقيق المعرفة – ضالته الشريدة. وهذه حالة نكوص أيضا ينطبق عليها ما قلته آنفا، فالبدوي اقرب الى الغريزة والطبيعة منه الى التحضر العمراني الذي يعاني فيه المتنبي الامرين.
اما الابيات الأخيرة التي سأتوقف عندها فهي:
فان امرض فما مرض اصطباري – وان احمم فما حُم ّاعتزامي
وان اسلم فما ابقى ولكن – سلمت من الحِمام الى الحِمام
تمتع من سهاد او رقاد – ولا تأمل كرى تحت الرجام
فان لثالث الحالين معنى – سوى معنى انتباهك والمنام
ويعلق طه حسين على هذه الابيات بقوله:
" ثم انظر آخر الامر الى هذه الابيات التي تصور اذعانه للقضاء وصبره على المحن، ولكنها تنتهي به الى انه هي اليأس القاتم الذي ليس وراءه امل ولا رجاء".
ويضيف لاحقا:
" والمتنبي في هذه الابيات الأخيرة يبلغ الفلسفة العليا، ويرتفع عن نفسه وسجنه ومرضه وما يحيط به من الاحداث، الى طبيعة الموت وما يكون وراء القبر. وهو هنا يائس، وما اراه الا منكرا للبعث جاحدا للحياة الثانية، ولكنه يؤدي هذا الانكار في تحفظ واحتياط شديدين، واهون حاليه ان يكون شاكا مرتابا، كما رأيت في بائيته التي رثى بها اخت سيف الدولة".
كما يتطرق طه حسين الى رثاء المتنبي لابن سيف الدولة في معرض حديثه عن موقف المتنبي من الموت.
والابيات المقصودة في رثاء ابن سيف الدولة:
اذا ما تأملت الزمان وصرفه – تيقنت ان الموت ضرب من القتل
وما الدهر اهل ان تؤمل عنده – حياة او ان يشتاق فيه الى النسل
وفي رثاء اخت سيف الدولة:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم – الا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلُص نفس المرء سالمة – وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكّر في الدنيا ومهجته – أقامه الفكر بين العجز والتعب
ومن الطبيعي ان نصل هنا الى رأي المتنبي بالموت، فقريب ختام القصيدة يعلن بحماس "فان امرض فما مرض اصطباري – وان احمم فما حم اعتزامي" المفعم بالحياة والامل، فاذا به يتحول فجأة الى اليأس في البيت الذي يليه، لانه يتذكر الموت الذي يتربص بكل كائن حي. ويخلص الى انه حتى وان سلم فلن يبقى، لان الموت هو النهاية المحتومة، واصفا إياه بانه "ثالث الحالين" (حال اليقظة وحال النوم).
يقول البرقوقي في مقدمة شرح الديوان: "حدث علي بن حمزة قال: بلوت من ابي الطيب ثلاث خلال محمودة وذلك انه ما كذب ولا زنى ولا لاط، وبلوت منه ثلاث خلال مذمومة، وذلك انه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن". وهذه الملاحظة هامة لانها تظهر المتنبي كشخص لا يلعب الدين أي دور في حياته، الامر الذي يفسر تساؤله عن مصير الانسان بعد الموت، وهل "تخلص نفس المرء سالمة" على حد تعبيره ام "تشرك جسم المرء في العطب" على حد تعبيره أيضا.
طبعا مسألة الموت شغلت الانسان وعبّر عنها على مر العصور والثقافات، ففي العصور الوسطى في أوروبا مثلا، كانت هناك عادة وضع جمجمة على الطاولة، وذلك تحت شعار "تذكَّر الموت". فالجمجمة تذكر الانسان بكونه فانيا، الامر الذي يجعلنا نتساءل ماذا يفعل وعي الموت بالإنسان؟ يقول يونغ ان لقاء الانسان بلا وعيه، المتمثل في وضع الجمجمة والتذكير بالموت، يكون في الكثير من الأحيان بمثابة موت السيطرة على الانا، وهي تجربة هزيمة صارخة. لكن فقدان السيطرة على الانا حمال أوجه، فهو من ناحية قد يؤدي الى الإحساس بالخوف من اللامتناهي، الامر الذي قد يوصل الانسان الى الورع الديني والايمان بالغيبيات. وفي هذه الحالة فان هزيمة الانا والاحساس بانتقاص قيمتها يمكن ان يكونا مصدرا للتطور النفسي والتجدد، حيث يرى الانسان نفسه جزءا من الذات اللانهائية ويشعر بالتالي بالامتلاء (تماما كمقولة جبران "لا تقل ان الله في قلبي لكن قل انا في قلب الله"). لكن من ناحية أخرى اذا تسرب الى الانسان الفزع والاحساس بضآلة القيمة بدون هذا التحول الى الوازع الديني، فانه سيشعر بالعدمية والخواء. وفي مسرحية شكسبير يحمل هاملت جمجمة بيده، ويعلن كالمتنبي عدميته والاحساس بانحطاط قيمة الانسان المصاحب لها:
"هاملت : اتعتقد ان الاسكندر آل الى مثل هذا في التراب؟
هوراشيو: لا ريب.
هاملت: وخبثت رائحته كهذه. أف! [يضع الجمجمة من يده]
هوراشيو: لا ريب يا مولاي.
هاملت: ما احط ما قد نؤول اليه يا هوراشيو! افلا يجوز للخيال ان يتعقب اثر الاسكندر وترابه النبيل الى ان يلقاه سدادا لدن؟
هوراشيو: انه لتأمل غريب تأملك على هذا الشكل.
هاملت: لا ابدا! فبامكاننا ان نتعقبه الى غايته دون مبالغة قد تفسد الاحتمال، هكذا: الاسكندر مات, الاسكندر دفن, الاسكندر عاد الى تراب، ومن التراب نصنع الطين، فلما نستبعد ان يسد بعضهم بذلك الطين (الذي تحوّل الاسكندر اليه) دنا من دنان الخمر؟"
شكسبير بعباراته الانفة يعبّر عن هزيمة الانا، والاحساس بانحطاط قيمتها، تماما كما يورد جورج اورويل على لسان ممثل الحزب في روايته "1984". حيث يخاطب البطل قائلا:
" انت تعرف شعار الحزب ’الحرية هي عبودية‘. هل فكرت يوما بانه حمال أوجه؟ العبودية هي حرية. وحده الانسان – عندما يكون حرا – محكوم بالهزيمة دائما وابدا. وهذا امر حتمي لان نهاية كل انسان هي الموت، وهذه هي الهزيمة النكراء".
وبالعودة الى المتنبي فانه ينضم الى شكسبير وجورج اورويل في مسأله هزيمة الانا، لكنه يعبّر عن هذا الامر بطريقة مميزة، تذكر بما يسميه لاكان "نقاط التزرير". فنقطة التزرير هي النقطة التي يؤدي فيها الدال والمدلول المترابطان الى دلالة محددة. فعندما نقول "موت" هناك دال وهي الاحرف م.و.ت. (سواء كانت مقروءة او مسموعة)، والمدلول هو التمثل النفسي للموت كتوقف النَفَس وفقدان العنفوان وما الى ذلك. المتنبي بعبارته "سلمت من الحمام الى الحمام" يتحدث عن مفارقة، فالسلامة رديفة الحياة، اما هنا فانه يراها رديفة الموت - فالانسان يتخلص من الموت ليقع في براثن الموت، ولا خلاص. فالحياة/السلامة بيّنة والموت/عدم السلامة بيّن أيضا, لكن السلامة/الحياة لديه تؤدي الى الموت/عدم الحياة، وفي هذا انزلاق للدال عن المدلول على حد تعبير لاكان. مصطلح نقاط التزرير مأخوذ من عمل المنجّد الذي يثبّت ازرارا على امتداد فرشة من الصوف لمنع انزلاقه بشكل فوضوي، وبهذا فانه يضمن ان تبقى الفرشة متوازنة من حيث امتلائها بالصوف. وعندما يتواجد الدال والمدلول المتعارَفين في رباط محدد فمن المفروض بهذا الرباط ان يبني دلالة ثابتة تكون بمثابة نقطة تزرير في الواقع، تساعد على الاهتداء والتواصل فيه. فالرباط بين الدال والمدلول ليس فوضويا كيفما اتفق بحيث يحمل المعنى ونقيضه مٍثلا، او مضطربا يحمل عدة معان في آن معا لا رابط منطقي بينها، لذلك عندما نقول لشخص انه يخلط شعبان برمضان فاننا نقول له انت تفقد نقطة تزرير في الواقع بمصطلحات لاكان. ويضيف لاكان ان وجود حد ادنى من نقاط التزرير ضروري لكي يكون الانسان سويّا، وعندما تنهارهذه النقاط نصل الى حالة الذهان العقلي. من هنا يجدر التوقف عند صيغة "ثالث الحالين" في البيت الأخير، فهي تمثل فقدان نقطة تزرير أيضا، بدليل الجمع بين معنيين لا رابط بينهما، فالاثنان اثنان، والثلاثة ثلاثة، اما في هذه الصيغة فهناك ثالث للاثنين. وهي برأيي انعكاس لهذيان الحمى، فوضع المتنبي في حينه كان ثالث الحالين أيضا، لذلك فقد اختار لا شعوريا هذه الصيغة. وهكذا فقد وجد نفسه يفقد نقاط تزرير في سياق حياته ويكاد يفقد عقله، فمجريات اموره متناقضة تسرح وتمرح على غير هدى. هذه الفوضى والاضطراب نجد صداهما في البيت الأخير ادناه:
يقول لي الطبيب اكلت شيئا – وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبّه اني جواد – اضرّ بجسمه طول الجمام
تعوّد ان يغبّر في السرايا – ويدخل من قِتام في قِتام
فأُمسك لا يطال له فيرعى – ولا هو في العليق ولا اللجام