كالتي هربت بعينيها
كيفَ تتكون الأجواء الحاضنة لبذور انطلاقة جماعةٍ جديدة؟ بأي الوسائل تُدغدغ مشاعر الأفراد الذين تطمح إلى استقطابهم للانضمام إليها؟ ما السُّبُل التي تنتهجها لغرس مبادئها في عقولهم ومن ثم الاستحواذ على أرواحهم؟ تساؤلاتٍ قد تختلف إجابتها من منظور كل فردٍ يخوض تجربة الانصهار في بتوقة جماعة دينية أو سياسيَّة، ومن خلال كتاب "كالَّتي هربَت بعينيها- جماعة الأمر وتشكُّلات الذات المُغلَقة" للمؤلفة البحرينيَّة باسمة القصَّاب يجد القارئ نفسهُ أمام إجاباتٍ تنطلق من تجربةٍ حقيقيَّة عمرها ستة عشر عامًا تبدأ بالتوق واليقين وشغف الروح الشَّابة منذ عام 1988م، مرورًا بالتشكُّل الفكري داخل الرحم الرمزي الجماعات الدينيَّة غير التقليديَّة، وصولاً إلى الشك الذي يفتح أبوابًا نحو الانشقاق عن خط سير الجماعة بعد حيرةٍ وقلقٍ معرفيين طويلين امتدا لأكثر من عامين قبل إعلان الانفصال الرسمي عنها عام 2004م.
تبدأ الحكاية في نهاية سبعينيَّات القرن الماضي، عندما كانت المؤلّفة ترقُبُ من نافذة المنزل المواجهات اليوميَّة بين رجال الأمن والشباب المُتجمهرين عند أحد الجوامِع هاتفين: "الله أكبر، النصر للإسلام، الموتُ لأمريكا"، مُستمدّينَ حماستهم من حركة الصحوة الإسلاميَّة، وعن تلك البداية تقول: "كان الحماس أوَّل وعيي بالعالم. وعيتُ على عاصفة انتصار الثورة الإسلاميَّة في إيران، أو ما عُرِفَ بالصحوة الإسلاميَّة. صاغتني هذه المرحلة وشكَّلَت وعيي الجمعي، والشخصي، والفِكري. تأثَّرتُ بالمد الثوري والعقائدي الذي رافقَ انتصار هذه الثورة.. صـ 21"..
*تأثير على حياة المرأة
وكان لهذا المد تأثيرهُ التاريخي على حياة المرأة في المُجتمع، وهو ما أشارت إلى أحد جوانبه بقولها: "بدأ الحِجاب يصيرُ ظاهرة جيلنا من الفتيات دون النساء، لم يكُن الحِجاب معروفًا ولا مألوفًا بصورته الحاليَّة، عباءة الرأس وحدها تفي بغرض الستر، على الأقل هذا ما كان في العاصمة المنامة، قبلَ أن يصير الحجاب دلالة الستر ومفتاح الدين.. صـ 25"، ثم تُكمل في صـ 27: "ورغم تديُّني الذي قد أُعبّر عنهُ بالمُتشدد حينها؛ إلا أن التمثيليَّات المُكررة التي لا تفتأ تستحضر الموت، والقبر، والحِساب، والعِقاب، والنار، أجدها أشبهُ بأفلام رُعبٍ سمجة تُكرّس وجهًا كريهًا للدين وعلاقة مخنوقة مع الله. لم يُقنعني أيضًا الخِطاب الذي بدأ يغزو الفضاء العام بوجوب تغطية المرأة وجهها، وتحريم الاختلاط، وجدتهُ يُصغِّر الإنسان، ويشوّه نظرته إلى نفسه والآخر".
*مجموعة الآنِسة (ش)!
خلال الإجازة الصيفية الجامعية عام 1988م؛ تعود قريبتها الطالبة في جامعة القاهرة لتُخبرها عن جلسةٍ أخلاقيَّة تُقام في السكَن هُناك بقيادة طالبة تُدعى (ش)، وتم تنظيم جلسات مُماثلة في البحرين من تنظيم وإدارة (ش) التي كانت تتمتع بشخصيَّة سُرعان ما جذَبَت المؤلّفة، ما أدَّى إلى توطُّد العلاقة بينهما لتتطور إلى لقاءاتٍ خاصَّة، وبعد شهور قليلة دعتها للانضمام إلى حركةٍ أطلقَت عليها "سرًا عظيمًا من أسرار المولى"، وفي دخول تلك الحركة – التي تستهدف تحرير الأرض من الفساد- ولادةٌ جديدة وتطهيرٌ من كُل ما سبق من الذنوب! وأنها قد تم ترشيحها والإذن بدعوتها من (فوق) لأنها تمتاز بمؤهلات شخصية وفكرية تمكنها من حمل ثقل هذا السر! وهُنا طارت البطلة الشَّابة فرحًا لهذه الحظوة وذاك الاصطفاء النادر، واستجابت مدفوعة بالرغبة في النصرة والفوز بالحياة الفاضِلة.
فيما بعد تم اكتشاف أن تلك الحركة تشكَّلَت داخل السجن في ظل تصدُّع العلاقات بين السجناء السياسيين المُنقسمين بين خطين، وأن الإمام اختار أحد الخُلَّص المغمورين ليؤلّف بين قلوبهم من خلاله، فخصَّهُ بـ (الرؤيا) و (النصوص المُقدَّسة) التي يوصلها له عبر خواص أصحابه في المنام، ثم انتشرَت أفكارها خارج السجن عبر من أُخلي سبيله من أفراد الجماعة واحدًا وراء الآخر، وعبر زوجات بعضهن اللاتي آمنَّ بما آمن به أزواجهن، ومع انكشاف سر الحركة "بدأت ردود أفعال الناس تجاه أفراد الجماعة تأخذ منحى عنيفًا، وصل إلى تحطيم سيَّارات بعضهم، والبصق في وجوههم، وضربهم. أصرَّت بعض العوائل على تطليق بناتها من أزواجهم.. صـ49".
لأعوام استحوذت الجماعة على تفاصيل حياة العضوة الجديدة فيها معنويًا وماديًا، وهو ما عبّرَت عنهُ بقولها: "تمكَّنَ غلاف الجماعة منّي، وصرتُ حصاة ساكنةً في عُمق بحيرتها، لا أحد يعرف شيئًا عن حركتي، ولا قراءاتي، ولا قيامي، ولا قعودي غير جماعتي، ولستُ بحاجة لأن أُعبّر عن أفكاري أمام أحدٍ آخر.. صـ 56"، وتسترسِل في صـ 57: "لم أعُد اسأل كيف؟ ولماذا؟ إلا بالقدر الذي لا تُخالف إجابته يقيني ولا تخدشه"، إلى أن جاء اليوم الذي نظَّم فيه (مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث) زيارة للمفكر محمد أركون إلى البحرين عام 2002م عنوانها: "كيف ندرس الفكر الإسلامي اليوم؟"، ومن هناكَ كانت الأفكار التي ضربَت بجناح فراشتها مُحرّكة فضولاً معرفيًا في أعماق بطلة الحكاية، داعيًا إياها لقراءة مزيد من كتبه، ثم صارت أكثر ميلاً إلى القراءات التي تتقاطع مع أسيجة مُختلف الجماعات والثقافات والعقائد والحقائق والنصوص والإنسان، وبعد فترة من الشد والجذب والصراع بين الثابت والمتحوّل بدأت ترى كيف كانوا كجماعة يتحرَّكون بطريقةٍ واحدة، ويتحدَّثون بطريقة واحدة، وينظرون إلى العالم بطريقة واحدة وكأنهم نُسخة بأشكالٍ مُختلفة، ومع تصاعُد البحث والمعرفة تنامى النفور والرغبة في الفرار من ضيق القوالِب والسياج التي تحد الذات من حُرية الانعتاق، وهو ما انطلَقَت تساؤلاتها منه لتُرسلها نحو فضاءٍ أكثر رحابة: "كل جماعة عقائديَّة تُشكّل حولَ نفسها سياجًا يفصلها عن الآخرين، يفصل عقيدتها وأفكارها ويقينياتها ومُسلَّماتها، ويعمل على حصر أتباعها. كل جماعةٍ تصنع سياجها الخاص داخل سياج مُجتمعها العام.. تُرى كم سياج يحدُّ ذاتي؟ سياج (الدين)، ثم سياج (المذهب)، ثم سياج عقيدتي الأخصُّ داخل جماعتي الأصغر؟ هل هُناكَ أسيجة أُخرى تُحاصرني؟ كم من السياجات تفصلني عن العالم؟" صـ 79.