كلاشي يسقط..
فندق بارون في حلب من أعرق الفنادق في سوريا؛ لقد مرّ على إنشائه مئة عام، وقد سُمي الشارع باسمه لشهرته، وكان يرتاده عِلية القوم من الميسورين، والشخصيات ذات الشهرة العالمية؛ مثل الجنرالات الفرنسيين إبان احتلال سوريا من قبل الفرنسيين، وحتى بعض الرؤساء والزعماء كان ينزل به. مازال قائما حتى الآن، إلا أن أغلب رواده من السياح، أو المواطنين محدودي أو ضعيفي الدخل.
كان من يملك المال من البُداة أو الريفيين يقيم في فندق بارون عندما يأتي إلى حلب زائرا، أو عند تجهيز بنات وأبناء الذوات من عِلية القوم، أو من شيوخ العشائر، أثناء اختيار تجهيزات العرس أو كما يسمى باللهجة البدوية "الزَهَابْ".
كان أحد البُداة يقيم في ذلك الفندق، وهو على ما يبدو من أناقته وهيئته من ميسوري الحال، مرت مظاهرة ضخمة من شارع بارون منددة بوعد "بلفور" الذي سلـّم فلسطين لإسرائيل لقمة سائغة.. يهتف الجميع بصوت عال: " يسقط وعد بلفور ..يسقط وعد بلفور"، والحشد سائر من أمام فندق بارون، دفع الفضول صاحبنا البدوي للنزول والوقوف على الرصيف، كي يشاهد المظاهرة ويستطلع الأمر، مرتديا حلته القشيبة؛ (كلاشه) أي نعاله الجديدة، و (جمدانته) الأنيقة، يعني كوفيته، يعلوها عقال (المرعز)، الذي طالما تغنت به فتيات القبيلة.. ما إن رأى الحشد صاحبنا بمظهره ذلك، حتى حملوه على أكتافهم، للتدليل على وحدة الشعب، حيث أن أغلب المتظاهرين يرتدون سراويلا مدنية، بمجرد حملهم لصاحبنا على الأكتاف تنبه إلى أن (كلاشه) يوشك على السقوط، فصاح بأعلى صوته: "كلاشي يسقط.. كلاشي يسقط"، فردد المتظاهرون مبتهجين، وبأعلى أصواتهم: "كلاشي يسقط .. كلاشي يسقط..." ظنا منهم أن هذا هتاف تنديد أيضا، لأنهم لا يفهمون لهجة صاحبنا وساروا به محمولا على الأكتاف باتجاه ساحة سعد الله الجابري، من خلال شارع القوتلي، والهتاف يتعالى، وصاحبنا، أسقط في يده، أو أسقط في "كلاشه".. الجميع يردد الهتاف بحماس، وقد ازداد التدافع، وقد سقط عقال البدوي، وتكاد (جمدانته) أن تقع أيضا، فصاح بأعلى صوته: "جمدانتي تسقط.. جمدانتي تسقط"، فردد المتظاهرون بقوة: "جمدانتي تسقط .. جمدانتي تسقط..." ظنا منهم أنها إحدى الشخصيات العالمية التي ساندت المغتصبين الصهاينة وآزرتهم.
وصل الحشد إلى ساحة سعد الله الجابري وأنزلوا صاحبهم، فاقدا لنعاله وكوفيته، وقد أعياه الحر، يمشي حافيا، عائدا إلى فندق بارون، متمنيا أن: "كلاشه لم يسقط أبدا"، كي تراه زوجته.