السبت ١٤ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

كلام الله!!

يقول الله- سبحانه وتعالى -: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرضِ مِن شَجَرَةٍ أَقلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) "لقمان/27" ..

ويقول- سبحانه وتعالى -:

(قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً )

"الكهف /109" ..

ويقول- جلّ جلاله -:

(.. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ..)

"النساء/171" ..

جملة آيات تجمع بينها دعوة في غاية الجمال إلى إعمال هذا الفكر، للخروج من هذه المساحات الفكرية الضيقة الموروثة، الجامدة حركة، عسانا بها نستشراف تلك الآفاق الرحبة الواسعة من التأمل الإيجابي المفيد، هذه الآفاق التي تبادرنا أول ما تبادرنا بالسؤال التالي:- هل يعقل أن تحتاج كتابة المصحف إلى كل هذا المداد الذي ينفد به ماء البحار والمحيطات؟! وبالتالي إلى كل هذه الأقلام التي تنفد بها أشجار الأرض؟! ونحن نرى أن كلمات المصحف محدودة معدودة؟!

▄ أعتقد أنه يجب علينا أن نضع في أذهاننا- بادي ذي بدء - وكمفهوم ثابت - بأن "كتاب" الله- المقصود هنا - ليس هو هذا المصحف الموجود بين أيدينا فحسب، إنما هو هذا الكون الفسيح الخاص بنا، وكلماته هي كل ما في ملكوت السماوات والأرض (من شيء) محسوس من عالم الخلق، أو معقول من عالم الأمر!! بل كيف تنفد كلمات الله- كما قالوا ونقول - وكل ذرة من مياه البحار والمحيطات، وأشجار الأرض، وخلايا الكائنات، هي من كلماته، وما في الكون من ذرات وعناصر، ونظم وقوانين، ونسب وروابط، وعلائق وأقدار، وسكنات وأوضاع، وأجناس وأنواع وأصناف، كلها من كلماته؟!!

▄ وإن الإنسان منَّا- جراء هذا التأمل – ليتساءل كثيراً وطويلاً بينه وبين نفسه، كما تساءل بعض الذين من قبلنا عن هذه الأمور التي تحتاج إلى خيال إيماني ثر – فإن كان لا بد من هذا التأمل فها نحن ومع أحد هؤلاء الذين تساءلوا من قبلنا - وفي شيء من الضرورة والتصرف نقول معه:-

(هل هذا المصحف الذي بين أيدينا، هل هو حقاً عين كلام الله؟!! ) ..

أي يقوم مثل كلامنا على علاقة دالٍ ومدلول ؟! ..

يقيننا أن كلام الله ليس كذلك، إنما هو المدلولات نفسها، وإلا، فليس لله جنس؟! ..

فكلمة "الأرض" عند الله تعني عين الأرض، وكذلك الشمس والقمر، الخ .. فالوجود الكوني بأسره - كما قلنا - هو كلمات الله، وأنه وجود حق، مثلما أن كلماته حق: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ..) "الأحقاف/3" .. و (.. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ..) "الحج/62" .. و (.. قَوْلُهُ الْحَقُّ..) "الأنعام/73" .. ولا نجد في أسمائه الحسنى اسم "المتكلم" ، إنما نجد اسم "الحق" ، وكل هذه الكلمات إنما اشتقت من هذا الاسم، لهذا نجد أن الله قد صاغ لنا هذه الحقائق المطلقة صياغة لسانية تناسب عقولنا- "جعلناه" - ولأننا لا نستطيع أن نفهمها كما هي أوجد الله لنا هذه اللغة العربية المطواعة- كلغة وسط - لتعيننا على هذا الفهم النسبي عن طريق التشابه- مثلما أوجد لغيرنا لغاتهم - أي أن الحقيقة المطلقة ثابتة، والفهم النسبي متحرك، لذا كان لا بد من ضرب الأمثلة، فنحن أمام أمر يشير إلى الإطلاق، وبهذا الفهم العميق يجب أن نتناول هذا القرآن، وليس بهذا الفهم التقليدي الموروث، وبما أن هذا الإنسان هو هذه الصورة المنقحة لهذا الكون، وجب أن يكون فيه قبس من هذا الإطلاق الممكِّن له من الإحاطة ببعض العلم عن نفسه وعن كونه وعن إلهه الخالق، فبقواه النفسية وبصيرته اللامحدودة يستطيع أن يتعالى ويتسامى على هذا الإطار المادي الضيق، وهو بهذا النزوع اللامتناهي، يصير أكبر من كل هذه الطاقات المادية الطبيعية المعروفة!! فلا متشابه ولا مترادف في تلك الحقيقة المطلقة الثابتة، أو تأويل باطني، أو تناسخ، إنما يوجد هذا كله في هذا الفهم النسبي المتحرك، الذي لا بد فيه من ضرب الأمثلة- كما أشرنا - فالمطلوب- إذن - هو الفصل- أي التفكيك - لهذه الكلمة وللآية وللسياق، ثم إعادة التركيب- بعد هذا - لكليهما، فبلاغة حقيقة القرآن لا ارتباط لها أصلاً ببلاغة العرب!! ..

وفي هذا تتفاوت مدارك الأفراد والأجيال في أرضيتها المعرفية!! ..

ويتضح لنا من خلال كل هذا أن اللسان العربي هو آخر الأوعية وأوسعها عمقاً لحمل هذه الحقيقة المطلقة والفهم النسبي، ولعل في ذلك- أيضاً - يتجلى إعجاز القرآن لجميع العصور وحتى قيام الساعة، علماً بأن اللسان الإنساني يتألف في الظاهر من صوت مسموع (دلالة) ، وفي الباطن من صوت غير مسموع (مدلول) ، وفي هذا الظاهر- كأداة اتصال - يظهر بوضوح مدى ارتباط الدال بالمدلول، إلا أن في الباطن لا يظهر إلا المدلول، والتفكير الإنساني- كما نعلم - يتم في الباطن!! ..

فهل يمكن أن نقول بأن عين كلام الله ينطبق عليه ما انطبق على كلام الإنسان؟! للإجابة على هذا السؤال علينا أن نورد بعض الآيات القرآنية التي توضح لنا بما لا يدع مجالاً لشك أن هنالك فرقاً واضحاً بين معاني بعض المفردات، وما انطبع في أذهاننا من فهمٍ لها، فإننا نجدها تأتي معرَّفةً أحياناً، وغير معرفة أحياناً أخرى، كقوله- تعالى -:

(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) "الحجر/87" ..

وقوله- تعالى -:

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ) "البروج 21/22" ..

وقوله- تعالى -:

(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ..) "الزمر/23" ..

فحينما ننظر إلى كلمة "كتاباً" في الآية أعلاه، نجدها منكرة، مما يعني أنها لا تعني كل محتويات المصحف، بل هنالك صفتين له هما: التشابه والمثاني!! ..

أما "القرآن" إذا جاء منكراً فهذا يعني أنه جزء منه، فليست عبارة: "قرآنٌ مجيد" هي بالضرورة تعني: "القرآن العظيم" ولكنها من ضمنه، وتعني جزءاً منه، لا كله .. والقرآن فيه المتشابه، وأنه هو الحق، والمقصود بقوله- تعالى -: (بلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) "يونس/32" .. هو أن هنالك "معلومات" في هذا القرآن لم يحط الناس علماً بها بعد، لأن أوان تأويلها لم يأت بعد، ولا يكون التأويل إلا للمتشابه!!..

وسبق أن ذكرنا أن القرآن يحتوي على صفة الثبات، وذلك في قوله- تعالى -: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ) ، وهو الجزء الخاص بكل قوانين الوجود والمنسق له ابتداءً من لحظة الانفجار الكوني الأول، وإلى حين الدخول إلى الجنة، أو إلى النار، أي تضمن كل قوانين التطور والتغير، والنفختان، والجنة، والنار، وكل شيء داخل فيه، وهو لا يتغير ولا يتبدل من أجل مخلوق، بل هو الجزء الخاص بـ (.. لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ..) "الكهف/27" .. - أي القديم - وهو جزء مطلق لا يمكن اقتحامه أبداً إلا عن طريق الفلسفة- أي الحكمة - بمعناها النبوي الشريف- والتي هي - أم العلوم، وحقاً: (.. َمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } "البقرة269/" .. الحكمة المعرِّفة للإنسان بكل هذه القوانين الناظمة للوجود ، وهذا أمر لا يتأتى إلا بتوفيق من عند الله- سبحانه وتعالى - !!

أما الجزء الآخر الغير ثابت من القرآن فهو ما تحدثه هذه القوانين الثابتة من أفعال في الطبيعة والكائنات، بما في ذلك الإنسان- أي هذا الواقع المعاش كما هو - وهو يعمل ضمن الثابت ولا يخرج عنه: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) !! ..

وهذا هو كلام الله المحدث !! ..

وكلمة "قرآن" جاءت من هذا القرن بين الخاص والعام، وهي على وزن فعلان، ووزن فعلان يُفهم في اللسان العربي على أنه وزن ثنائية ..

وهكذا نفهم بأن الإعجاز لا يوجد إلا في هذا "القرآن" فقط، وليس في "أم الكتاب" لأنها ذاتية، أما الأحكام فلا توجد فيها آية مبدوءة بعبارة: "قال الله" ، هذا مستحيل!! إنما نرى آيات الأحكام تتميز بصيَّغ الأمر والنهي والفرض والوصية، فلو افترضنا مثلاً أنها جاءت بصيغة: "قال الله صلوا" أو "قال الله صوموا" ، علماً بأن قول الله- كما أسلفنا - هو الحق: (قَوْلُهُ الْحَقُّ) ، فهذا يعني أن الصلاة والصوم حقائق موضوعية موجودة خارج الوعي الإنساني، ولأصبحت الصلاة والصوم كعملية هضم الطعام ونبض القلب يلتزم بأدائهما جميع الناس آلياً!! ..

ولكنَّا في هذه الحالة نقول: أمرنا الله بالصلاة، ونقول: أمرنا الله بالصوم، ونقول: أمرنا الله بصلاة الجمعة، ولا نقول: قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاة ..) "الجمعة/9" .. فإذا قلنا: قال الله صلوا، وكان هنالك أناس لا يُصلون- وهم كُثر - فهذا يعني أن قوله غير نافذ، وهذا يناقض قانون: (قَوْلُهُ الْحَقُّ) ، هذا إذا أردنا أن نتقيد بالمصطلح القرآني البحت، أما قولنا عن كل آية وردت في الكتاب: "قال تعالى .." فهذا مصطلح مجازي بحت يُقصد به الصياغة اللغوية للكتاب كله، الذي أُنزل من عند الله وهو من صياغة رب العالمين ..

إننا نؤمن بأن كلمات الله نافذة، لا يمكن تبديلها أو تحريفها، لأننا لا نملك خيارين أمام تنفيذها أو عدم تنفيذها، لأن كلماته- كما سبق القول - هي عين هذا الوجود بنواميسه العامة والجزئية حين وقوعها- أي هذا الواقع - لذا قال عن القرآن: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً) "الكهف/27" .. وهو قول يؤكد بأن كلمات الله لا مبدل لها، وليست قابلة لمثل هذا التبديل، ولا يمكن لمخلوق أن يحيد عنها، فلو كانت الآية التي تقول: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ..) "النساء/11" .. هي من كلمات الله، ورأينا أُناساً لا يلتزمون بها ويبدلونها، لكان ذلك يعني كذب ما جاء في الآية: (.. لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ..) ..

وهكذا نفهم معنى قوله- تعالى -:

( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً )

"الكهف/109" ..

لأنها الموجودات بعينها، والنواميس العامة والخاصة، حين وقوعها، وكلنا يعلم مدى اتساع هذا الكون وبقية الأكوان حسب معلوماتنا القليلة، فلو شاء الله أن يصف لنا كل هذه الأكوان من خلال كلامنا المعهود لما كفت جميع بحار الأرض ومحيطاتها مداداً لهذا الوصف ..) !! ..

لهذا جرت- فيما مضى- مبايعة حكى عنها أبو الوليد عبادة بن الصامت- رضيَّ الله عنه - في الحديث المتفق عليه حين قال:- "بايعنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرةٍ علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم" ..

وجاء- أيضاً - في الحديث الذي رواه الحاكم عن عبدالله بن عمر- رضيَّ الله عنهما - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال:- "من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يوحى إليه، لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد، ولا يجهل مع من جهل، وفي جوفه كلام الله" ..

وقال سيدنا علي- كرَّم الله وجهه - لعبد الله بن عباس حينما بعثه إلى الخوارج: " .. فلا تخاصمهم بالقرآن، فإنه حمَّال ذو وجوه، ولكن حاججهم بالسنة، فانهم لن يجدوا عنها محيصا" ..

وهذه الوجوه المحمول عليها معاني هذا القرآن- كما فسروها - تعطي تجويزاً لتعدد الفهم والإحساس، رغم أنها جمع، والجمع لا بد أن يُرد إلى الأصل الواحد!! ..

وفي هذا الصدد نذكر هذا الحديث: فقد جاء في صحيح البخاري عن أبي جحيفة، قال:- قلت لعليٍ- كرَّم الله وجهه – "هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله ؟! " فقال: "لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا "فهماً" يعطيه الله رجلاً في القرآن" !! ..

هذا وقد أورد ابن الجوزيه في كتابه "إغاثة اللهفان" ، أن ابن تيمية سُئل عن معنى دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم-: (اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَدْ) - وهو حديث صحيح - كيف يطهر الخطايا بذلك؟ وما فائدة التخصيص بذلك؟ وقوله في لفظ آخر: (.. والماء البارد) ، والحار أبلغ في الانقاء؟! ..

فقال : ـ

(الخطايا توجب للقلب حرارةً ونجاسةً وضعفاً، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه، فان الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها، ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه، والماء يغسل الخبث ويطفيء النار، فإن كان بارداً أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبَرَدٌ كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا) ..

وكما يقول تلميذه ابن الجوزيه في معنى كلامه، وهو- كما أضاف قائلاً - محتاج إلى مزيد بيان وشرح، قال:

(.. فاعلم أن ههنا أربعة أمور: أمران حسيَّان، وأمران معنويان، فالنجاسة التي تزول بالماء هي ومزيلها حسيان، وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار هي ومزيلها معنويان، وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا، فذكر النبي- صلى الله عليه وسلم - من كل شطر قسماً نبه به على القسم الآخر، فتضمن كلامه الأقسام الأربعة في غاية الاختصار، وحسن البيان، كما في حديث الدعاء بعد الوضوء: "اللهم أجعلني من التوابين، ومن المتطهرين" ، فإنه يتضمن ذكر الأقسام الأربعة، ومن كمال بيانه- صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - وتحقيقه لما يخبر به، تمثيله الأمر المطلوب المعنوي بالأمر المحسوس، وهذا كثير في كلامه، كقوله في حديث علي بن أبي طالب: "سل الله الهدى والسداد" ، حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته، كونه مسافراً، وقد ضلّ عن الطريق، ولا يدري أين يتوجه، فطلع له رجل خبير بالطريق، عالم بها، فسأله أن يدله على الطريق، فهكذا شأن طريق الآخرة، تمثيلاً لها بالطريق المحسوس للمسافر، وحاجة المسافر إلى الله- سبحانه وتعالى - إلى أن يهديه تلك الطريق أعظم من حاجة المسافر إلى بلد إلى من يدله على الطريق الموصل إليها، وكذلك السداد: وهو إصابة القصد قولاً وعملاً، فمثله مثل رامي السهم إذا وقع سهـمه في نفس الشيء الذي رما، فقد سدد سهمه وأصاب، ولم يقع باطلاً، فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله بمنزلة المصيب في رميه ..

وكثيراً ما يقرن القرآن هذا وهذا ..

فمنه قوله- تعالى- : (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) "البقرة/197" .. أمر الحاج- المسافر - بأن يتزودوا لسفرهم ولا يسافروا بغير زاد، ثم نبههم على زاد سفر الآخرة، وهو التقوى، فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه، فكذلك المسافر إلى الله- تعالى - والدار الآخرة، لا يصل إلا بزاد من التقوى، فجمع بين الزادين ..

ومنه قوله- تعالى - : ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ..) "الأعراف/2" .. فجمع بين الزينتين، زينة البدن باللباس، وزينة القلب بالتقوى، زينة الظاهر والباطن، وكمال الظاهر والباطن ..

ومنه قوله- تعالى- (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) "طه/123" .. فنفى عنه الضلال، الذي هو عذاب القلب والروح، والشقاء الذي هو عذاب البدن، فهو منعم القلب والبدن بالهدى والفلاح ..

ومنه قول امرأة العزيز عن يوسف- عليه السلام - لما أرته النسوة اللائمات لها في حبه:

(فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) "يوسف/32" .. فأرتهن جماله الظاهر، ثم قالت: (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ) "يوسف/22" .. فأخبرت عن جماله الباطن بعفته ، فأخبرتهن بجمال باطنه، وأرتهن جمال ظاهره ..

فنبه- صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد" على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما، ويبردهما ويقويهما وتضمن دعاؤه سؤال هذا وهذا، والله- تعالى - أعلم ..

وقريب من هذا: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا خرج من الخلاء، قال: "غفرانك" - حديث صحيح - ، وفي هذا من السر- والله أعلم - أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، مؤذيان مضران بالبدن والقلب، فحمد الله عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه، وخفة البدن وراحته، وسأل أن يخلصه من المؤذي الآخر، ويريح قلبه منه ويخففه ..

وأسرار كلماته وأدعيته- صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - فوق ما يخطر بالبال.. ) !! ..

الغيـث والأرض ونختم بحديثه- صلى الله عليه وسلم - المتفق عليه، والذي رواه البخاري، والذي جاء فيه: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيثٍ أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى، إنما هي قيعان، لا تُمسك ماءً، ولا تُنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلِمَ وعلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به" ..

نسأل الله أن يهدينا سبل العلم المفضي إلى دار الكرامة والخلود، وأن لا يزيغ قلوبنا عن حبه وحب رسوله الأمين .. آمين0


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى