لا جديد تحت السماء
خلف أسوار مدينة وجـدة الجميلة. العريقة. في وسط المدينة المزدحم. وتحديدا ساحة باب سيدي عبد الوهاب. الصخب.. الحر.. الأوراق المتناثرة هنا وهناك .. الجمهور بعضه صامت والبعض الآخر من شيوخه.. شبابه.. أطفاله يتوسد جدار الحديقة القصير، حتى صار واحدا منهم. ليبقى الشارع الوجدي يحتضن كل الجراح .. جراح الكبار.. الصغار.
هنا وجدة الخالدة وهي تزدرئ نفسها. تتضور جوعا وتتلوى عطشا. تجف أوصالها وتختنق تحت غبار ريح الشرقي .
ليس بالبعيد يعج موقف الحافلات بالزحام الذي يتكاثف. يلتحم الرجال بالنساء / النساء بالرجال. بسرعة وبراعة عيون بعضهم في عيون البعض الآخر معلنة بداية الحملة. عيونهم تكاد تلتهم النهود المنتصبـة عينـا كارلا في عيون الجمهور. عيون الجمهور في عيني كـارلا رفيقتي الاسبانية في هذه النزهة. لم يحدث أن كان لي رفيقة اسبانية من قبل. إنها أول مرة كما هي أول زيارة لها. إذن، أنا محظوظ أم محظوظة هـي..
مد لها يده المرتجفة .. نحيل .. فقير.. متسخ.. رائحة العرق.. الاغتصاب الطفـولـي ..
الشمس الحارقة أخفت حقيقة بشرته البيضاء. البراءة القاتلة. لا معنى لوجود كل هذا وذاك إلا سخرية القدر، أو كما يحلو لخالد البارودي أحد سكان المدينة أن يسميه بغربة الوطـن.
مدام تسأله بلغتها الاسبانية السليمة طبعا:
– ما إسمـك ؟
أترجم ما يقال
– إبراهيم
كم عمرك؟
– عشر سنوات
– خذ
بحب كبير وابتسامة أكبر تعطيه ورقة نقدية. أحس الطفل – الطفل الوجدي – وهو يختطفها من يدها الناعمة بفرحة عارمة. اختطفها من يدها. هرول بسرعة. نسي أن يشكرها. عاد. فعل. ابتسم. ابتسمت.
لا زال الحر .. الصخب.. القلق.. ملامح الفقر هنا و هناك. لا تزال ساحة باب سيدي عبد الوهـاب تحوي الأشياء الكثيرة من مخلفات التاريخ الأصيـل.
اثنان يتعاركان. أنا. لا أنا. يدنو منهما ثالث بدرهم ألمع حذائك سيدي.
إنهم ممن احترقوا مسح الأحذية في وجــدة الجميلة .. العريقة في سن مبكرة. والشارع الوجدي. ساحة باب سيدي عبد الوهاب يتحملان أخطاء التاريخ باستسلام مطلق.
كـارلا صامتة. تتأمل .. لا تنبس ببنت شفة. لا تسعفني لغتي الاسبانية المتواضعة لحوار بناء، حين تقطع شرودي بحديثها عن بريجيت باردو. حقوق الحيوان. الإنسان...
أوقف سيارته بالقرب منها. يغامزها شاب يقابلها. نظرت إلى الأول باسمة. استولى منظر نهديها تحت قميصها الشفاف يجانسها في أحلامه.. تفتح باب السيارة .. تركب السيارة. يشمئز الأول. يبتسم الثاني .. يلبس نظارته السوداء .. يقلع .. يختفي. نسي الأول ما كان يدور في خلده من حب.. جنس ....
تمر أخرى فأحس برغبة في اختطافها حتى لا يشاركه صاحب سيارة أخرى. لكنه لا يستطيع. العيون. العيون. لا تدع أحدا بسلام هنا. يشتهي. النهدان المنتصبان. الخصر الممتلئ. انه عالم الورد ومجنون الورد.
صور مألوفة. مناظر عادية لا تثير في المارين أدني إحساس بالعالم الأخر. الشارع الوجدي يحتضن كل الذئاب المتسللة من خارج الحضيرة. قال بعضهم وهو يغتصب الشقراء على مقربة منه. يقول عز الدين وهو واحد منهم اللحوم البيضاء. ليلحق بها إلى الحافلــة والزحام على أشده. يزدحمان كما الجميع لركوب الحافلة. يخاصرها. يهيجان. تنظر خلفها بلطف. يتأملها. يبتسم. وكذلك تفعل. يجمعان قوامهما. يتبادلان الابتسامات. لا للعنف. انه الصيف بحرارته الشمسية. الجسدية.
في وجـدة صار البؤس أكثر صداقة للصغير. الكبير. حتى الشيوخ لم يسلموا من الحر.. وحلقات دخان السجائر المهربة من خلف الحدود الشرقية تآزر وحدتهم. ضيـاعهم أمـام
صناديق كارتونية صغيرة تحوي أنواع السجائر المهربة، و الشارع الوجدي يتسع لكل الجراح .
نغادر المكان وليس بالبعيد. انه مركز الشرطة وسط المدينة. صراخ عارم يشق جدرانه لينقل حقيقة ما يجري هناك. لا احد يجرؤ على تحديد الجاني أو الضحية. اعتاد الأهالي على سماع نهيق الحمير وأنين الرجال وأحيانا الصغار أتباع الرجال.
اعتادوا أن يسحبوا وحيواناتهم أمام الملء إلى مركز الشرطة. انه عبث الحياة بالإنسان الذي أصبح رديفا للحيوان. لقد أضحى والحيوان سواء في مركز الشرطة في وجــدة. إذن الشرطي إنسان. الحمار إنسان. الشرطة في خدمة الشعب. الشرطة في خدمة الحمير. فهنيئا لحمير وجــدة إذن.
أخذت كـارلا تسألني عما يحدث هناك فلم أجد من قول سوى إنها الديمقراطية الجديـدة .
أثقلتنا المناظر. والشارع الوجدي يحتضن الديمقراطية بأسلوب وجــدي بحت. بمفهوم المساواة. الأخوة. باحتضانه كل الجراح. جراح الكبار .. الصغار .. الحمير .....