الثلاثاء ١١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
رسائل تتحدى النار والحصار
بقلم زكية علال

لست وحدي

لأوَّل مَرَّة في تاريخي ـ العامر بالخراب ـ أشعر برغبة ملحة في البكاء..

لأوَّلِ مَرَّة أُحِسُّ أني وحدي داخل محرقة كبيرة أشعلتها إسرائيل في غزة وباركتها أمريكا، وصمت عنها العرب..

كنت يتيمة داخل ألسنة اللهب..

بعض العالم يبتسم لصراخي..

وبعضه يقهقه لاضطرابي..

وبعضه الآخر يتفرج دون ألم..

الغارات تتواصل، وأنا أقفز بضعفي بين دمي وأعضائي المتناثرة هنا وهناك.

بين غارة وغارة تتناسل عشرات الغارات.. وفي كل واحدة أفقد بعض جسدي..

مع أول غارة على غزة فقدت يدي اليمنى أمام دكان متواضع نقتات منه في زمن الحصار.. أسرعت إلى يدي المنفصلة عني.. أسْنَدْتُها إلى جسد طفلة مرمية على الرصيف وفي شقها الأيمن فراغ يدها المبتورة.. سيارة الإسعاف أسرعت بها وبيدي المتألمة إلى أقرب مستشفى..

الغارة الثانية استهدفت يدي اليسرى ففصلتها عني.. أسرعتُ لأسندها إلى جسد شيخ التهمت النار ملامحه.. قلت في نفسي: "أن تُدفن يدي مع شهيد خير لها من أن تتقاذفها الأرجل وتنهشها الكلاب.."

الغارة العاشرة استهدفتني وأنا أقف عند خيمتي.. فصلت عن جسدي قدميه، فوجدت نفسي أزحف على بطن فجيعتي نحو صراخ رضيع عبثت المدفعية ببراءته وأحرقت نصفه الأسفل.. أسرعت إليه برجلي المبتورتين علّهم ـ في المستشفى ـ يصلونها بجسده الصغير، فيجد ما يتكئ عليه عندما يكبر ولو كانت ساقي امرأة من الغابرين...

الغارات تتواصل على غزة وجسدي..

قال أخبثهم وهو ينظر إلى جسدي المنزوع الأطراف ودمي الذي يلون الأرصفة والشوارع:

ـ مازال قلبها.. هو الذي يحرض على كل العمليات الإرهابية التي تستهدف أمننا وتعرقل خريطة إسرائيل الكبرى... يجب أن نُكثّف الغارات..

...........

وكانت الغارة الألف التي استهدفت صدري وأصابت قلبي..

كان يئن وهو ينفصل عني..

في صمت الليل عبر به المخلصون الحدود.. نقلوه إلى مستشفى العريش بمصر وهو يحتضر..

كنتَ غائبا كعادتك يا عبد الله..

وكان هو حاضرا كعهدي به..

كان في القاهرة يمارس عادته المكشوفة متصفحا الجرائد، في انتظار أن تحضر له زوجته فطور الصباح..

في أول جريدة لفت انتباهه خبر بخط عريض بارز "قلبٌ من غزة يرقد في مستشفى العريش، يصارع الموت ويتشبث بالحياة"

رمى الجريدة وخرج مفزوعا وهو يحدث نفسه "هو قلب فاطمة.. وحده الذي يتشبث بالحياة"

وسافر.. سيارته كانت تلتهم المسافات الطويلة وتطوي الطريق بسرعة غريبة.. وصل في الساعات الأولى من الليل..

أسرع إلى غرفة العمليات.. استوقفته الممرضة تسأله عن قرابته، فرد دون أن يلتفت إليها:

ـ إنه نبضي..

لم تفهم جوابه... بينما هو دفع الباب ودخل... رآه محاطا بجمع من الأطباء والجراحين.. قال له أحدهم وهو يتخلص من أدوات الجراحة التي كانت بين يديه:

ـ وصلت متأخرا سيدي.. فقد توقف عن النبض.. مات منذ لحظات، وسنتركه مسجى على هذا السرير مدة ساعتين كإجراء طبي قبل أن نكتب مفارقته للحياة بصفة رسمية.

ردّ وهو يسجد أمام هذا المسجى في غرفة العمليات:

ـ هذا القلب لا يموت.. هو لا يعرف الموت..!!

ابتسم الأطباء رغم رهبة الحدث، وكأنهم يسخرون من صدمته التي وضعته عند عتبة الجنون، ولسان حالهم يقول: الجهاز لا يخطئ.. والأموات لا يعودون..!!

بينما هو انحنى أمام صمته الجليل..

مسح بيده على ملامحه.. فَتَمَلْمَلَ..

تَمْتَمَ له ببعض الكلام، ففتح عينيه..

طَبَعَ على صفائه قبلة حانية، فابتسم..

حمله بين ذراعيه وخرج من المستشفى أمام حيرة الممرضين ودهشة الجراحين..

....

قلبي لم يمت كما أرادوا له...

داخل المحرقة:

فقدت أطرافي العليا والسفلى، وأصبحت أزحف على بساط السخرية الذي فرشه لي زعماء العالم...

فقدت عينيَّ، فأظْلَمَت الدنيا أمامي..

انفصل عني رأسي فلم أعد أميز هل الخلف أمامي، أم الأمام خلفي..

أُصيب قلبي، لكنه لم يمت..

إنه يتماثل للشفاء داخل صدر رجل لا يشبه كل الرجال..!!

ولا يشبهك يا عبد الله..!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى