الأربعاء ٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٨

مالُ الثقافة

سماح إدريس - الآداب اللبنانية

كميةُ النُّسخ المطبوعة من غالبية الكتب العربية (باستثناء كُتب الأبراج والأحلام والدين والجنس) في تراجُعٍ مطّرد: من عشرةِ آلاف، إلى خمسةٍ، فثلاثةٍ، فألفيْن، فألف...
عشراتُ المنابر الثقافية التي لعبتْ أدوارًا طليعية، أو حَرّكتْ بعضَ المياه الراكدة، توقّفتْ أو تعثّرتْ: الطريق، دراسات عربية، دار الطليعة، مؤسسة الأبحاث العربية...

ومع ذلك نقرأ عن مشاريع ثقافيةٍ ضخمة، وجوائز ثقافيةٍ هائلة. ونَسْمع عن مراكز أبحاثٍ تُفتح، متخصِّصةٍ في شتّى الموضوعات المتشابهة.
أفيكون ذلك دليلَ خيرٍ وعافية؟
للوهلة الأولى نقول نعم. ثم نتوقّف ونسأل: مِنْ أين لهم هذا؟

من المؤكَّد أنّ معظمَ أصحاب المشاريع الثقافية الضخمة الجديدة لم يأتوا بأموالهم من سُوق الثقافة، أيْ من القرّاء كما يُفترض. وإنّما جاؤوا بها من علاقاتهم الوثيقة بأنظمتهم، أو من وسائل ملتبسة نَسْمع بها همسًا، وقلّما نقرأ عنها شيئًا: تجارة سلاح، رقيق أبيض، سَرِقات،...
وأما المشاريع الثقافية الأصغرُ حجمًا، فبعضُ أصحابها يُعْلنون أنّ مصدرَ تمويلها هو المنظّماتُ الدولية، كالوكالة الأميركية للتنمية الدولية ومؤسسةِ فورد. يقولونها من دون أيّ شعورٍ بالخجل أو الشكّ في نوايا المموِّلين، وكأنَّ الشاعر توفيق صايغ (ابنَ العائلةِ الوطنيةِ العريقة) لم يمتْ كمدًا وحياءً بعد افتضاح ارتباط تمويل مجلّته حوار بالاستخبارات الأميركية.

بعضُ التجّار الناجحين الذين انتقلوا إلى عالم الثقافة لا يُمْكن، على ما يبدو، التشكيكُ في دوافعهم. ولكنّ علينا أن نسأل كثيرين آخرين: مِنْ أين لكم هذا؟
نعم، هذا سؤالٌ ثقافيٌّ بامتياز، لا علاقةَ له بالغيرة أو الحسد، كما قد يتبادر إلى أذهانِ ذوي النيّات السيِّئة.
قُلْ لي مِنْ أين أموالُكَ، أقُلْ لكَ مَنْ أنتَ، أو أقُلْ لكَ مَنْ تَخْدمُ "ثقافتُكَ"!

سؤالُ الوسيلة، يا سادة، هو في صميم الثقافة. الغايةُ وحدَها لا تهمّ... هذا إذا افترضنا جدلاً أنّ الغايةَ هي خدمةُ الثقافةِ والجماهيرِ وتوعيةُ الناس، لا الدعايةُ للمموِّلين، أو لمن يقف خلفهم من أنظمةٍ عربيةٍ أو غيرِ عربية. ولعلّ هذا الأمر ينطبق على كلّ مجال آخر، بما في ذلك المشاريعُ "الخيريةُ" و"الإنسانية": كأنْ يرتكبَ نظامٌ مجزرةً ضدّ الفلسطينيين في بلده ثم يرمي بعضَ أمواله على مهجَّري مخيَّم نهر البارد، أو أن يضع متموِّلٌ كبيرٌ بلدًا بأكمله تحت الديون ثم يبني مشاريعَ تربويةً تفيد بضعةَ آلاف من الناس!

ونقول أيضًا إنّ سؤالَ الوسيلة هو في صميم الثقافة ليس من منطقٍ مثاليّ يَرْفض الماكيافيلية بعناد، بل لأنَّ أحدًا حتى الآن لم يستطع أن يُقْنعَنا بأنّ قبولَه التمويلَ الخارجيَّ (من الأنظمة المستبدّة أو "الديموقراطية" أو المؤسسات الدولية) لم يؤثّر في حريةِ أن يقولَ ما يشاء وأن يَنْشرَ ما يشاء.
أَعرف أنّهم سيقولون إنّ أحدًا لا يَفْرض عليهم شيئًا، لا الأمير الفلاني ولا النظام العلاّني ولا المؤسسة الفلانية ولا الصناديق العلاّنية. ولكنْ هل يستطيعون أن يَشْرحوا لنا أمرًا واحدًا فقط: كيف تخلَّوْا بهذه السرعة القياسية عن مصطلحات "تحرير فلسطين من النهر إلى البحر" و"الكفاح المسلّح" و"الصراع الطبقي" و"كنْس الاستعمار" و"الوحدة العربية" و"الاشتراكية"... لصالح مصطلحاتٍ أخرى من قبيل "تمكين المرأة" و"الديموقراطية" و"نبذ التطرُّف" و"وقف الختان" و"حوار الحضارات" و"التعايش" و"الحثّ على الاعتدال"؟ أنا، طبعًا، لا أعارض شعاراتهم الجديدة بالمطلق، ولكنْ هل زال الاحتلالُ والاستعمارُ والظلمُ الطبقي مثلاً؟ بل هل يُمْكن تحقيقُ شعاراتهم الجديدة، ولاسيّما الديموقراطيةُ وحوارُ الحضارات وتمكينُ المرأة، مع بقاء الاحتلالِ والهيمنةِ الغربية واستشراسِ المحافظين الجدد؟ وهل انقلابُهم السريعُ على مبادئهم القديمة معزولٌ تمامًا عن تمويلهم الجديد؟

وأَعرف أنَّهم سيكرِّرون أنّ قبولَهم التمويلَ لا يَمْنع إصدارَهم ما يشاؤون من الأفكار. ولكنْ، فليقولوا لنا كيف نؤْمن بأفكارهم الديموقراطية والحداثية حين نجد على كتُبهم وأكياسِهم ويافطاتِهم صورَ الوليد بن طلال وسوزان مبارك... وشعارَ الوكالة الأميركية للتنمية الدولية التابعةِ لوزارة الخارجية الأميركية، مصدِّرةِ الفِتنِ والجرائمِ المتنقّلة من أفغانستان إلى العراقِ ولبنان؟
وأَعرف أنَّهم سيؤكِّدون أنّ نشرَ المزيد من الكتب، والقيامَ بالمزيد من النشاطات الثقافية، وإنشاءَ المزيد من المشاريع الثقافية... ستَرْفع من مستوى الوعي عند الجماهير. وهذا غيرُ صحيح بالضرورة، كما نرى. ولكنَّنا لو سَلَّمْنا بصحّته، فإنَّنا نسألهم: هل فكّروا، ولو هنيهةً، في أنّ الفكرةَ الديموقراطيةَ والحداثيةَ التي يقدِّمونها هي محضُ ورقةِ شوكولاطة تغلِّف مشروعًا أعظمَ لا علاقةَ له تمامًا بهذه الورقة اللمّاعة البرّاقة ما دام المموِّلُ جزّارًا أو نصّابًا؟

يُنْسب إلى النازيّ المعروف غوبِلْز أنَّه قال: "كلّما سمعتُ كلمةَ مثقف تحسّستُ مسدسي." أخشى اليوم أن أقول إنَّني كلّما رأيتُ تلك الشعاراتِ الجديدةَ، وصورَ الأمراء والزعماء وزوجاتِهم وأبنائهم، تحسّستُ قلمي. بل كلَّما رأيتُها على أغلفة الكتب الخلفية، والواجهات الكبيرة، رحتُ أَدورُ على جميع الأقلام في غرفِ بيتي، وفي منازل أصدقائي الطّاهري الأكفّ، فأَجْمعُها وأَضَعُها بعنايةٍ في علبةِ تعقيمٍ شبيهةٍ بتلك التي يَضعُ فيها حلاّقي "المعلِّم خميس" عُدَّةَ حلاقته (من شَفراتٍ وأمواسٍ وأمشاط ومقصّات) تطهيرًا لها من القمل والجراثيم!

إنَّ سؤالَ المال، اليومَ والبارحةَ وغدًا، هو السؤالُ الأهمُّ في الثقافة العربية المعاصرة، لأنَّه سؤالُ الحريّة، وسؤالُ الفكر النقدي الحقيقي. فلا ثقافةَ عربيةً نقديةً حقيقيةً من دون استقلالٍ ماليّ عن الأنظمة، وعن المؤسَّسات الدولية، ولاسيّما التي تَجْهر بارتباطها بأَجَنْدات سياسية (كالديموقراطية المسيحية، ومعاداة الإرهاب، وتمكين "الديموقراطية"). ونضيف أيضًا: لا ثقافةَ عربيةً نقديةً حقيقيةً، مهما تكاثرتِ المنابرُ ومراكزُ الأبحاث والمجلاّتُ ودُورُ النشر والأنديةُ الثقافيةُ، ما لم تكن هذه جميعُها جزءًا لا يتجزّأ من مشروعٍ وطنيّ عربيّ حرّ معادٍ للاحتلال والاستعمار والاستبداد والعنصرية.

سماح إدريس - الآداب اللبنانية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى