مباضع لتشريح جسد الثوابت النظرية
ترك بحث مفردة التأمل اوجد التباسا لدى النقاد والمفكرين في أهم البنى المضمونية والعمارية للنظريات، والمناهج المعرفية في النقد . وليس لهذا الحد فحسب بل قفز إهمالها على بعض المفاهيم لا لتحجيمها والتغاضي عنها ، وانما لكونها تحولت إلى بديهيات تنشط البحث، وتدعم النظريات المستجدة .
ان عدم تناول هذه المفردة بدقة يفسر لنا مدى الإشكالية والخطأ النظري المتبع في مساندة الأطروحات الفكرية والثقافية الموثقة أكاديميا ، والمأرشفة مكتبيا ، والمبرمجة كمناهج تدريسية في الجامعات والمرافق التعليمية ، كما في التفسير الوظيفي للقوى الباطنية ( العقل ، الخيال، الحس) الذي سنتناوله في هذا البحث. والذي حملنا لهذا الرأي ؛ هو الاعتقاد بأن جميع النظريات ما هي إلا توليفات ذهنية واستنتاجات ، الغرض منها تفسير الظواهر والمشاهدات ، فتكتسب صحتها بقدر مطابقتها للواقع وتقبل نتائجها عقليا. وإذا ما أثبتت فردانيتها في الامتداد والهيمنة ، لا يعني انها متكاملة ومعصومة عن الخلل والنقص ، طالما انها صادرة من ذهنية محدودة ، لذا فهي دائما معرضة للدرس والمناقشة . وسنقتصر في بحثنا هذا على فتح نافذة ذهنية إلى مفردة التأمل ، وتحديد مكانها ، وعملها ، وتجريدها من مواضع - سنختار موضعا واحدا- نعتقد انها أفرزت نتائج نظرية مصادق عليها- بتأثيرها - مبنية على مقدمات مجردة منها ، وسنترك المجال لآخرين في توسيع البحث بعد الاطلاع ومناقشة رأينا في هذه المفردة الحساسة .
لقد كان الاشراقيون يتعاملون مع التأمل بانضباط خاص، وتتخذ رجالاتهم نظاما قاسيا لممارسته يوميا ( من يصل إلى التأمل يصبح ملح الارض).1 وهكذا نهج الرومانطيقيون ( ان العمل هنا ليس إلا شكلا من اشكال التأمل )2 وتوسع عند الكتاب والنقاد ( ان النزوع من الأشخاص والحوادث إلى افكار ترتقي منها وتمثليها او ترمز إليها في المطلق ، لا يتيسر إلا للحضري الذي خبر التأمل الطويل )3 . وكذلك تعامل معه رواد الفلسفات بالصبر ، وجلد أنفسهم بغية ارتقاء عقائدهم . فقد شمل استخدامه جميع المباحث الفلسفية والاشراقية والعرفانية والمنطق الاستقرائي والمعارف الأخرى . هذا الاستخدام المكثف للمفردة ، كما انه صائب في جوانب ، فأنه أوقع البعض في اخفاقات واضحة في جوانب أخرى . لنقرأ ( ولئن كان الدين يدعو الإنسان الى ( التأمل ) ويهيب به ان يستغرق في العبادة ، الا ان التأمل الفلسفي يختلف أختلافا كبيرا عن (التأمل) الديني ، فليس للتأمل الفلسفي أي موضوع للعبادة أو أي مكان مقدس)4 . هذا الرأي الصارم ، يتمظهر بالقطع والجزم والنفي المطلق. في حين يؤكد المبدأ الديني ، عدم وجود تعارض بين التأمل الفلسفي والعبادة . فالتأمل بالخلق والمجتمع والإنسان للوصول إلى استنطاق الأشياء وتوجيهها نحو غائيات الدين ، يمثل نوعا آخر للعبادة ، وطقسا روحيا وفكريا لها . كما ان معرفة علل الأشياء ومعلولاتها بتجاوز الشك المنهجي ، تجذر الاعتقاد الصحيح بالمبدأ، وتساهم في تأصيل الارتباط بالمطلق. فالتأمل ؛ هو الكف المحملة بمفاتيح طرق الذهن التي تعصم حركة التفكير من الانزلاق إلى السكونية والثبوتية المبطنتين بالتحجر والمغلفتين بالغباء .
وقد ورد في الحديث الشريف ( تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة ) . لقد اتخذه الفلاسفة المسلمون كقناة فكرية موصلة الى الحقيقة، وندمجوا معه بكل جدية ، وذلك للكشف عن المخزونات الهائلة للأفكار المرنة والصارمة ، المعاصرة والمستشرقة، المؤولة والمفسرة ، لتغذية الحركة الإنسانية الصاعدة ذهنيا ، والمتجهة أفقيا مع حركة الزمن. بعبارة أخرى ؛ تعاملوا مع التأمل بكل قوة ، وأرسوا ممارسته في التفكير المنهجي الهادف ، وجعلوا المحايثة مع هذا المفهوم أساسا لتقوية المعتقد والكشف عن الحقيقة ، فهو يتمفصل في السور القرآنية ايماءا ويشع إشاريا، في تفكيك وحل أحزمة الشك والريب (أفلا يتدبرون القرآن ، أم على قلوب أقفالها)5 ، ففي هذه الآية الشريفة تأكيد واضح على تحجر أفكار الكفار، كنتيجة لعدم تدبرهم بما في القرآن ؛ أي عدم تأملهم في حقائقه واحكامه المعجز. فقلوبهم مقفلة ، أفكارهم مقفلة وراكدة ، لا تتأمل . فالتأويل - الذي هو نتيجة منطقية للتأمل - يكسر الأقفال ، يوسع الفكرة ، يدفعها بقوة ، فتتسع عموديا حين تمتلأ من الحقيقة ، وأفقيا بأتجاه الهدف المغذي لها .
ان انزياح هذا المفهوم وتوجيهه معرفيا لشحذ الأفكار لمعتقد فردي او فئوي او حزبي، لا يلغي دوره كمحرك وموقد للفكرة، مهما كانت مضللة ، باعتباره ( حالة من الاستغراق الذهني..)6 ، ولا يمكن للفكرة ان تحتل مساحة اجتماعية إلا اذا انبثقت من هذا المفهوم. ففائدته لا تقتصر عند طرف دون الآخر ، ولا ينفعل في تيار ، ويفتر في تيار . فهو يسبق الفكرة ، او يندمج معها. يحاور الاحتمال ويجزئه . يشحذ المقدمات ويخلق النتائج. يقرر الحقيقة او يشوهها . حسب قصدية المفكر ، واعتناقه الأيديولوجي، وتأثير نفسيته ومزاجه في توحده مع مناخ البيئة وطقسها الأعتقادي ، او انعزاله وتعريته لصخب محيطه ، او لنفسه ، أو لذات الفكرة المعتنقة . وهنا يمكن ان يوصف التأمل بالتجاوز، الاندكاك، الانفلات من قبضات الفراغ ، او العاصفة غير المباغتة ، المحطمة للحواجز الوهمية والعوائق المتعملقة على بطء المغامرة ، او سكونها ،او ارتدادها في الذهن . تعطيله يعني ؛ قتل الفكر، تبيس الوعي ، تجذير التكرار، تناسل الملل ، تقعيد ما هو راهن وتخلفه غدا. وهذا يؤدي إلى اضطراب النفس. أي ينعكس سلبه في الذات ، فيأكلها أو يأكل جزءه بجزئه ، مما يكشف عن خواء ، فراغ يمتد موازاة الحركة الخارجية المغايرة ، المتولدة والمتوالدة بكل ما هو محدث ومتجدد، فلا يقدر عندها الإنسان ان يحاكي ، او يجاري ، بل تبقى رؤاه القديمة مقيدة في ذيل الفراغ المتسع في الذهن والمنعكس أفقيا وعموديا في الذات ، فيشعر بالهوة ، الفصل، العزلة عن الواقع الموضوعي، فيستسلم، ويتبع، والنتيجة الأكثر مرارة، يشكل وفق الفكرة المغايرة مهما كان انحطاطها، فيفقد إنسانيته ووجوده كمغير. ومن هنا نخلص ان التأمل ؛ شرايين جسد الفكر. هذا التعريف المكثف والمجازي، يفضي بنا إلى طرح الخيال ودوره التعارضي أو الاتفاقي مع التأمل.
ان الخيال، المخلية ، التخيل، اشتقاقات لمعنى واحد، ولمغزى إشاري متفق عليه. فمنهم من يستعيض عن الخيال بالمخيلة او التخيل والعكس وارد ايضا. فأدونيس يقول( التخيل درجة متوسطة بين الحس والعقل). وغيره يذهب إلى (قوة المخيلة ، التي تتوسط القوى الباطنية ، فتتوسط بين الحس والعقل)7. ومنهم يذكر الخيال ضمن نظرية الخيال( الخيال دون مرتبة العقل) أي فوق مرتبة الحس. ومهما يكن من تجزئة هذه المفردة اشتقاقا، فأن لها علاقة مع العقل والحس كقطبين متصارعين ومتفقين بين الحين ولآخر. وحسب هذا التقسيم المقطعي والوظيفي للقوى الباطنية، يكون الخيال المزود والمغذي للذهن بجميع التصورات الاولية، باعتباره مستودعا لجميع المعاني والصور التي يقدمها الحس. فإذا ترك دون رقابة عقلية، فأنه يجر الإنسان للوقوع في الرذيلة: ( الخيال الذي لا يعمل تحت سلطان العقل، ان يصور المعاني في غير انتظام، ويمليها على اللسان كما صورها فإذا هي أقوال تلبس صاحبها المهانة، او تضعه موضع من يسخر به او يثير عليه غضبا)8. نستشف من هذا الرأي ومن ( الخيال المبدع)9 و( الصور المتخيلة: ما ينتهي من تصويره الخيال)10 وغيرها من الآراء ، ان للخيال قوة مستقلة، تركب المعطيات الحسية المستلمة من الواقع الخارجي، او تقوم (بعملية تشكيل مصورات ليس لها وجود بالفعل )11 وتبعا لذلك، تصور للإنسان إملاء لغرائزه ونزواته بكل المعاني غير المهذبة. فالخيال مقابل العقل، فكما ان العقل هو المدقق والمصحح للصور والمعاني الخاطئة التي يقدمها الحس، كذلك يقوم الخيال على طرفي نقيض؛ فهو يستقبل الصور الخارجية، ويحاول ان يثبتها، ويضفي عليها هالة من القناعة المتناغمة مع الغرائز وحيونتها. فهو قوة مقابل قوة- مبدع مقابل مبدع- الأولى راشدة، والثانية مضللة. الأولى تحول وتغير وصعود، والثانية اتباع للغرائز ومحاكاة وانحطاط. وإذا كان وجود هاتين القوتين فاعلا ومتأصلا ومستقلا ومتصارعا، يجعلنا قبالة السؤال التالي: هل لقوة التأمل علاقة مع التخيل؟
ان المعاينة الدقيقة لما هو محدث ومتولد، لموضوع الذات ولموضوع الواقع الخارجي، لا يقود إلى جواب ونتيجة حاسمة لاسيما النقد الإحيائي، على مستوى نظرية الخيال ومن سبقه، لم يواجه هكذا سؤالا، ولم يتطرق إلى ماهية التأمل، بل كان الطرق على هذه المفردة أشبه بالعابر وتبعه الآخرون. بعبارة اخرى ؛ اذا كان الخيال خارج قبضة العقل، يتعامل مع المحسوسات مباشرة او (يستعيد الصور التي شاهدها صاحبها من قبل...، او تعتمد صورا سابقة فتولد منها صورا جديدة )12 وفق رغبة الغرائز، فيصور للإنسان ما يشبع هذه الرغبة، سنرى أنفسنا أمام احتمالين لاثالث لهما:
1- كما ان للعقل قوة تأمل كذلك للتخيل، وهذا يعني ان الخيال يتحرك للتعامل مع الصور بالتركيز المفضي إلى الفصل والتركيب والتوليف. والتركيز هو وجه آخر للتأمل. والتأمل صفة عاقلة، وعصب الفكر. فسيكون الخيال عندئذ قوة عاقلة اخرى، لانه يقوم بعملية ادراكية، وانشطة سينمائية متطورة يعززها التأمل بحركته وقوته و ألوانه النافذة، وتقطيعه للصور المستلمة وربطها بنحو مؤثر ومتجانس ومتوافق نصفي لقطبي النفس( فجورها وتقواه)؛ أي لفجورها . واذا ماتم تقرير هذه النقطة، نصطدم بثنائية عاقلة موجهة لعملية تفكير واحدة، وهذا غير ممكن من الناحية العملية المتعارف عليها، وغير مقبولة طبقا للمشاهدات العينية للسلوك البشري ووفق فسلجة الاعضاء. حتى وان تم تبرير هذه الازدواجية بان ( الخيال دون مرتبة العقل) ما دام للاثنين - كموضوعين- محمول واحد هو التأمل.
2- نقرر ان الخيال يفتقر بذاته إلى توليد وتركيب المعاني والصور من التصورات والمعاني المندفعة من الحس مباشرة. وهذا يؤدي إلى بطلان التقسيم الوظيفي للقوى الباطنية المتمثل ( بالعقل، والمخيلة، والحس) والمنحصر بامكانية العقل، ومقدرة الخيال في استحضار الصور الحسية وابتكار صور جديدة مبدعة؛ فالاستحضار هنا مقابل (التصورات الأولية ) ، والابتكار مقابل ( التصورات الثانوية) وهما صفتا الإدراك العقلي حسب نظرية الانتزاع، ومن المغالطة ان نهب عملهما الى الخيال ( وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسنا، فان الاحساس بكل واحد منها هو السبب في تصوره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري، وتتشكل من هذه المعاني القاعدة الاولية للتصوير، وينشئ الذهن بناءا على هذه القاعدة التصورات الثانوية فيبدا بذلك دور الابتكار والإنشاء، وهو الذي تصطلح عليه هذه النظرية بلفظ الانتزاع)13.
. ونخلص من ذلك انه يجب إعادة النظر في هذا التقسيم الوظيفي على أصعدة البحث المنهجي والطرح المعرفي في دراسة النصوص الثقافية والأدبية والفكرية ، ولحل هذه الأشكالية المنطلقة من هذه النظرية المهيمنة، يتمثل بإقصاء صفة العقل(التأمل) عن التخيل. والانطلاق من ان التأمل مندمج مع الأفكار الراكنة على بلاط الذهن. والخيال بدوره يمثل الفضاء المحيط بها. مع إبقاء على وظيفة الحس. فالتأمل والخيال هنا هامان؛ الأول باطني والآخر خارجي ؛ التأمل باطني داخل الفكرة، والخيال خارجي حول بؤرتها. والفكرة لكي تتقدم بحاجة إلى حركة خارجية متمثلة بالمعاني والصور التي يقدمها الحس، وداخلية متمثلة بحركة التأمل الموازية لحركة الفكرة الجوهرية. وهي أشبه بحركة الإلكترونات والنيترونات داخل ذرات المادة. هذه الحركة التأملية مع الحركة الجوهرية للفكرة تساعد في تعجيل وزيادة الحركات السطحية المستجدة للفكرة. وإلا كان التحرك التطوري للفكرة بطيئا إذا اعتمد على الحركة الجوهرية فقط. فقوة التأمل هي التي تساعد الفكرة على الاتساع والانتقال سريعا. ولما كان الخيال هو المحيط والفضاء لها فيكون عندئذ بمثابة الهواء والمجال الذي تتنفس وتتحرك علية الفكرة، باعتباره مجالا يمتد لكل الأرشيفات والمستودعات الصورية والحسية والحوادث القديمة المجردة والساقطة في حوض اللاشعور. هذا الطرح النظري الجديد لا يتعارض مع مفهوم الخيال في القرآن الكريم. والذي أكدت عليه الآية التالية( .. فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى)14 ؛ فالخيال هنا لم يقم بفعل التمثيل الصوري، وانما بدور الناقل للصور والمعاني الخارجية المتمثلة بفعل قوة السحر والمنطبعة في الحس، والذي يتطابق مع ما ذهبنا اليه. فالخطأ الذي جعل الخيال يستقبل صور الافاعي بدل الحبال والعصي الى الذهن هو خطأ البصر وقصره عن بلوغ الحقيقة كما هي. لانها ( لم تكن تسعى )15 . اما دور التأمل في هذه الآية، فهو معطل بفعل استسلامهم للصور الخارجية المهولة والمضللة. والاستسلام يعني التعطيل؛ وتعطيلهم للتأمل اوقعهم في تصديق كون العصي والحبال افاعيا. فلم يوضفوه للعمل، او يجعلوه مهيئا لمسك أفكارهم والسيطرة عليها من التشتت والانفلات او الانقياد للمعطى الحسي الخادع. كما ان عدم اعتماد فكرهم على ظواهر مسبقة او معارف تساعدهم في كشف ضبابية الصور زاد في إشكالية عدم التمييز وعدم وضوح الرؤية. وهذا يجعلنا نقرر ان الفكر كما انه يتراجع في تفسير انكسار القضيب في الماء عند الكثيرين- لضعف التأمل والفقر المعرفي - ويستقبل صورة خاطئة عنه، فأنه تراجع عن تمييز الحبال والعصي عن الأفاعي، كصور يشحنها الحس، عند قوم فرعون.
فالفكر بقوة التأمل يحدد ويستقبل الصور العميقة والمعاني الدقيقة من الحس ويتحرك في فضاء الخيال، فيؤلف ويركب ما يلائم وما يتجاوز كل راهن ومتجدد. بعبارة اخرى ؛ التأمل يحفز الفكر للتوثب والانطلاق والتجاوز؛ انه قدحة مركزة لايقاد حركة الفكر الكامنة للتدفق بصيرورات متعاقبة. والخيال قنوات مؤرشفة تعتمد قوة الفكرة وحركتها ونفاذها على عمقه واتساعه. فكلما كان الفكر اكثر تأملا كلما شغل اكثر مساحة من الخيال. وتصعد هذه النسبة حتى تبلغ ذروتها عند العبقري. فبأقل زمن ربما - دقائق او لحظات - يمكن ان يحصل على ارقى الاستنتاجات العلمية والفكرية والثقافية، او يصوغ قصيدة عصماء اذا كان شاعرا.
ووفق هذه النظرية الجديدة تكون الجمل التقييمية الآتية في النقد مثلا( ..سعة الخيال مع صفاء السليقة) و(قوة التخيل ) و ( ليبرم الصورة التي يرسمها الخيال) و ( لمعة خيالية ..) غير دقيقة. وبسهولة نستعيض عنها ما يلائم وينسجم مع رؤيتنا ، فتصبح:( سعة التأمل..) و( قوة التأمل ..) و ( .. التي يرسمها التأمل ) و (لمعة تأملية ..) . وكذلك نستعيض عن الخيال العلمي بالتأمل العلمي..الخ.
لهذا نعتبر المتنبي اكثر من غيره تأملا في الصياغة والمحتوى الشعري، وأوفرهم تأملا في تعجيل افكاره المطوي لامتداد الخيال ، واحصاهم أبداعا.
ان هذه النظرة المغايرة لما هو ماضوي متجذر وراهن سائد، تتمحور وتدخل في صميم النقد التأويلي، فتفسر لنا النص - بفعل قوة التأمل واحتمالاته - بمطاطية ومرونة يتمفصلان في أعماق الثيمة دون النزوع إلى تمظهرات مفتعلة، وانحيازات مسبقة مقصودة او عفوية لجانب النص. وعلى ضوئها نستطيع معاينة وتبيان ما هو خفي. وبالاعتماد عليها نوضح ونصحح جميع ما فسرته وأقرته أو أخفقت في تعليله نظرية التوظيف الثلاثي السابقة. فمثلا بالاعتماد على التأمل يمكننا ان نحدد اين يتحقق الإبداع.
فالإبداع يتحقق في الواقع المموه الذي يمكن حمله إلى الواقع الموضوعي. فإحساسنا بالواقع الخارجي وحتى إحساسنا باعتلاجاتنا الباطنية هو الممول للذهن بالصور والمعاني؛ وهي عبارة عن لقطات فوتغرافية او معان مباشرة تنتقل كما هي مجردة، فتتراكم في اشرطة الذهن.
. ان الاعتماد عليها مباشرة في توليف النص الادبي يضعنا في كماشة المحاكاة والتسجيل؛ أي اعادة كتابة الواقع كما هو، لكونها طريقة تصويرية ساذجة ( استقبال فقط ) ، واذا ماتم الانفلات من التقعيد بفعل قوة التأمل ؛ أي بتحريك الفكرة، بانتزاع معاني وصور جديدة بالتركيب والانشاء والابتكار من هذه الصور الأولية، مع انتشال صور قديمة ومفاهيم متوافقة مع الفكرة، ودمجها وتركيبها بالتجريد، والتشخيص ، والتحجيم ، والتضخيم ، بحيث يمكننا حمل هذا الواقع الجديد إلى الواقع الموضوعي، عند ذلك يتحقق عندنا الإبداع؛ أي في الواقع المشكل في الذهن.
واخيرا لابد ان نؤكد ان هذه الآراء الانقلابية تنسف دكتاتورية التقسيم الوظيفي القديم لتؤسس منهجية لا نزعم انها تحيط ، لكنها ستفتح طرقا جديدة للبحث والنقد.
1 - ر.م ألبيريس/ الاتجاهات الأدبية الحديثة 2 - ر.م ألبيريس/ الاتجاهات الأدبية الحديثة 3- حاوي / فن الوصف/ ص 69 4 - الدكتور اراهيم زكريا/ مشكلات فلسفية / ص 95 5 - سورة محمد: الآية 24 6 - جبور عبد النور/ المعجم الأدبي 7 - جابر عصفور / الخيال المتعقل ، دراسة في النقد الاحيائيمجلة اقلام العراقية العدد الخاص بالنقد 8 - المصدر السابق 9 - مجدي وهبة / معجم مصطلحات الادب/ ص 166 10 - المصدر السابق ص166 11 - المصدر السابق ص 166 12 - جبور عبد النور/ المعجم الأدبي/ ص 244 13 - السيد محمد باقر الصدر / فلسفتنا / ص62 14 - سورة طه / الآية 66 15 - الطبرسي / مجمع البيان