الثلاثاء ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
دينا سليم في (رواية تراتيل عزاء البحر)

محاولة لاستشراف أفق غامض معتم في بحر مدلهّم

* د. عدنان الظاهر

ربما لم تنتهِ الكلمة في روايتي الأولى الحُلم المزدوج وتأخرت النهاية [1].
 واظبتُ على عمل متكامل ومنفرد في آن كما واظبتُ على استمرارية الحدث ومعايشته بشخصياته بتغيير الأسماء فقط [2] .

معنى كلام السيدة دينا في هذين المقطعين أنَّ على مَن يود قراءة رواية التراتيل أنْ يقرأ روايتها الأولى المسماة الحُلم المزدوج ، وأن لاعبي الأدوار الرئيسة في الرواية الأولى هم أنفسهم لاعبو الأدوار الرئيسة في الرواية الثانية ... رواية تراتيل عزاء البحر !!
ثم َّ :
( ... أما بالنسبة للغرقى في ( تراتيل عزاء البحر ) فأرجو أنك لاحظتَ مناشدتي للعدالة الكونية ومخاطبتي لها فيما يخص موضوع غرق المهاجرين غير الشرعيين والتي بدأت تتفاقم وتتكاثر وهو موضوع يجب التحدث عنه . فأصلاً كتابة ( التراتيل ) جاءت عندما سمعتُ الأخبار تتحدث عن غرق عبّارة كانت تقل بعض الهاربين النازحين من إفريقيا إلى أوربا . وهكذا حصلت لديَّ " مشادة " فكرية بدمج أحداث ٍ كونية مع أحداث المحبين الذين هم أيضاً كونيين . وعندما وصلتُ أستراليا تفاجأتُ بهذا الموضوع من أول لحظة . عندما أوصلني سائق تاكسي عراقي من المطار إلى الفندق وحدثني بما جرى له وللعشرات الذين نزحوا بصورة غير شرعية ووصلوا عن طريق البحر ... منهم مَن لقي َ مصرعه ومنهم مَن إنتظر عدة سنوات وهم يتأرجحون بين قرارات الحكومة الأسترالية بقبولهم أو رفضهم . البارحة سمعتُ بخبر غرق مهاجرين غير شرعيين من إفريقيا إلى اليمن . / 21 ديسمبر 2007 / دينا سليم / مقطع من رسالة خاصة تعليقاً على بعض إستفساراتي حول الرواية ) .

لقد سلمتنا السيدة الروائية مفاتيح َ نفكُّ بها أبواب الكثير من الألغاز سيما تلك التي تتعلق بأدوارها منتحلة ً أسماءَ متباينة ليست هي في واقع الأمر إلا الكاتبة نفسها لا غيرها . ثم ، نقرأ عنوان الرواية موضوعة الدرس فنكتئب ونجزع ونتشاءم حتى لكأنَّ الروائية تصارحنا منذ البدء بالقول إنَّ أمامكم حزن كثير وفضاء معتم يغطيه السواد . رتلوا عزائي وعزاءكم يا قرّاء !! في البحر نهايتكم وإن كانت نهاية غير أكيدة . عبرَ البحر أناس بائسون مشردون يلتمسون الوصول إلى بلد يمنحهم اللجوء مغامرين بحيواتهم وحيوات أطفالهم وقد تركوا أوطانهم التي أجاعتهم وأذلتهم فأُضطروا لبيع كل ما بحوزتهم وما يملكون من حطام الدنيا دفعوا أثمانها أجوراً للمهربين المغامرين الذين تعهدوا بإيصالهم إلى بلد أمين يؤيهم ويمنحهم حق اللجوء . صراع هؤلاء الناس التعساء مع مخاطر وأهوال البحر وهم في مركب قديم متآكل ( عبّارة ) يذكر القارئ من بعض الوجوه إبتلاء وصراع الشيخ في عرض البحر مع سمكة قرش عملاقة تهاجم وتقضم سمكة كان قد إصطادها ... في قصة ( الشيخ والبحر ) للكاتب الأمريكي إرنست همنكواي . الإنسان في مواجهة أقدار قاسية والبحر الذي أمّل فيه النجاة بالوصول إلى بر الأمان يغدو عدوه اللدود رقم واحد .

الأمواج فيه عاتية والماء مضطرب ووسيلة الوصول مهترئة قديمة
والمهرِّب الذي ابتز نقودهم إختفى ، طعامهم ينفد والماء يغمر سطح المركب فأين المفر ؟ تحت هذه الظروف المتطرفة في قساوتها تجري أكثر وقائع الرواية مأساوية ً وشدة ً وتوتراً . وهنا في هذه الفسحة المحدودة مكاناً وزمانا ً تجتمع كافة شخوص الرواية متدرجةً في أهمية وخطورة ما تلعب من أدوار . ( زينة ) و ( حازم ) هما القطبان الأهم في مجمل سياق أحداث الرواية . هما هنا زينة وحازم في حين كانا في الرواية الأولى ، الحلم المزدوج ، شموس وصارم ( واظبتُ على إستمرارية الحدث ومعايشته بشخصياته بتغيير الأسماء فقط / دينا سليم ). مع زينة وحازم نقرأ إسم إمرأة أخرى هي ( نشوى ) . من هي نشوى ؟ نجد الجواب على الصفحات 75 - 78 من الرواية . كما قرأنا مرات ٍ قليلة إسم أو نعت ( نادل الشاي ) والمقصود بالطبع نادل المقهى . يروم هذا النادل كذلك الخلاص من بلده باللجوء إلى بلد آخر ناء ٍ علماً أنه سبق وأنْ تدخل ( في عمان ؟ ربما ) في شؤون زينة وحازم الشخصية بشكل مقرف (( - هل آتيكما بجدتي تكشف لكما الحظ ؟ يرد حازم (( - لماذا لا تعقد قراننا أيضا ً وتنتهي المسألة حالاً ! ستدّعي أينما ذهبنا أنَّ نادل الشاي في مقهى الرصيف قام بتزويجنا ! / الصفحة 18 )) . نعم ، نجد في عبّارة طلب اللجوء المتهتكة البناء حتى هذا النادل الصفيق . ما كان قصد الروائية من إستحضار رجل تافه فضولي صفيق يشارك حازم رحلة الخطر والجنون التي كان حازم بطلها المتميز في حين لم تلحْ حبيبة حازم ( زينة ) إلا من خلال إحلام هذا وأحلام يقظته ومن خلل ضباب وأبخرة ماء البحر والغيوم الكثيفة الداكنة السواد . زينة الحقيقية والجسد لا وجودَ لهما في هذه العبّارة لكنها موجودة شبحاً وذكريات ٍ وأخيلة ً وروحاً في صدر ورأس الحبيب حازم ! لا يستطيع مغادرة خيالها خاصة ً إذا ما عرفنا إنه ما غامر بحياته وبكل ما يملك في الحياة إلا في مسعى للحاق بها هناك في البلد البعيد الذي سبقته في الوصول إليه ربما على متن طائرة مريحة عابرة للقارات .

تراكيب لغوية ساحرة

حوارات زينة مع نفسها أو مع حازم أو حوارات هذا المتخيلة مع حبيبته وسالبة لبه من أروع ما كتبت دينا سليم في هذا الكتاب . أسوق نماذجَ منها زينة تسترجع بعض ذكرياتها مع حازم:
( ... تحوَّل الهدوء الخانق إلى سكون بشوش ، لمحة حنين ونظرة متوهجة من عينيك َ الساهدتين ، لم أجرؤ على الكلام ، عُقدَ لساني وبمكابرة غاصت نظراتي في أعماقك َ ، داخل صدرك َ المحمَّل بأعباء البعاد . أشعر بك ولا أستطيعُ رؤيتكَ ، قريب ٌ وبعيد ، موجود ٌ ومفقود ٌ ، يقين وربما كانت كذبة !! تناديني بإسمي وبسحر فائق أتفوق عليك ، أناديك َ باحثة ً عن طيفك في أركان غرفتي وزوايا نفسي ، عقلي يتحدث عنك وشفاهي تمتنع عن ذكرك ، أعودُ إليها خاضعة ً مستسلمة ً ولم يكنْ فيها سوى حبر صوتي المجروح على الورق / الصفحة 20 ) .

كيف نجحت البطلة زينة في توزيع نفسها بالتساوي بينها وبين حازم الذي تحب ؟ كيف أقامت هذا الميزان ؟ كيف تداخلت مع حازم وقاسمته الذكريات ؟ كيف وظّفت تراكيب لغوية جديدة إخترعتها هي ووظفتها في مكانها الصحيح ؟ ( تناديني بإسمي وبسحر فائق أتفوق عليكَ ) . ما سر ميلها أو إصرارها على أن تتفوق على مَن تعشق كل هذا العشق الروحاني الصوفي ؟ ما تركيبة هذا السحر وما فعله الكيميائي في عملية التفوق ؟
( وبسحر أتفوق عليكَ ) ... في أي مضمار وحقل وميدان تتفوق عليه ولماذا وقد علمتنا وتعهدت أنْ تقيم الميزان العادل المستقيم بينها وبين حبيبها حازم ؟ قفزة ، أجل قفزة تطوّح بالقارئ وتقذفه في واد ٍ سحيق من سوريالية النص المقطوع وغير المتوقع حيث تحصل الصدمة ، صدمة الإدهاش والغرابة فينقلب سحرها في التفوق على صاحبها إلى سحر يشل أعصابنا نحن قرّاءها ويبطل مفعول أعصابنا وينيم يقظتنا . هل رأيتم سحراً ينتقل بالعدوى أو بالرنين الإهتزازي الفيزيائي ؟ ينتقل بين طرفين مختلفين تمام الإختلاف : أحدهما غارق في حب زينة أما الطرف الثاني فلا علاقة له لا بحازم ولا بزينة . إنه قارئ الرواية ، إنه غريب مجهول لكنه مع ذلك قريب موجود يمثل حلقة الوصل بين كاتبة الرواية الحقيقية دينا - التي قد تكون زينة الرواية وقد لا تكون - والحبيب حازم من خلال ما يقرأ على صفحات كتاب الرواية المطبوع . من هنا يتسرب سحر ( زينة = دينة ) من خلال الحروف التي كتبت في متن روايتها ( ... ولم يكن فيها إلا حبر صوتي المجروح على الورق / الصفحة 20 ) . هل سر السحر كامن في الحبر أم في الصوت المجروح أم في ومِن إجتماعهما ؟ تلك هي المعضلة ! تراكيب لغوية مذهلة عصية على الفهم لكنها رغم ذلك أليفة وحميمة ومقبولة تقتحم أنفسنا بأدب ورشاقة هامسة .

أقدم نموذجاً آخرَ على قدرات الكاتبة دينا سليم الخلاّقة في رسم صور الذكريات وجمع حبيبين مبعثرين متباعدين لا تجمعهما إلا الذكريات الغاربة . يلتقي حازم الحبيب في دارها المهجور مع لوحة معلقة على أحد جدران الدار تحمل صورة رسمها لها حازم هذا نفسه . ( زينة ) ترسم هذا المشهد وهي غائبة عن الإثنين : دارها الذي هجرت وصاحبها الذي فارقت . غائبة لكنها حاضرة ... حاضرة في اللوحة التي تحمل صورتها وحاضرة في رأس وقلب وذكريات حازم . مشهد معقد تحكمت (( زينة / دينة )) فيه وأجادت سرد ما فيه من وقائع بمنتهى الدقة حى لكأنَّ حرارة جسدها وهي الغائبة تمس جلود ونفوس قرّائها الذين لا يعرفونها ولا هي تعرفهم . إنها تتخيل ... إنها تحلم وتتمنى في وعيها ولاوعيها أن يحدث في الواقع ما كانت تتخيل وتريد . خيالها خصيب ممرع شديد السخونة يستمد سخونته من حرارة جسدها ورغباتها التي فاتتها ورفضت أن تمارسها مع مَن أحبت مفضلة ً أن تتعايش مع الحرمان وأن تحبس الجسد وتكبت بل تقمع غرائزها الطبيعية حتى لتكاد أن تتحول إلى راهبة متنسكة ولكن خارج أسوار أديرة الراهبات والرهبان . صراع الإرادة مع قوى الطبيعة الغاشمة فينا وفي أجسادنا المادية . أي ثمن تدفع بطلة الرواية ( زينة / دينة ) لكيما تحقق إرادتها الرافضة لعناصر الحياة النصرَ النهائي المؤزّر ؟ أية طاقات تستهلكها معركتها الشرسة هذه ؟ ما حجم معاناتها الداخلية وهي معاناة مركّبة من عناصر شتى تذبحها بالطول والعرض ليلاً ونهاراً في الشارع والمقهى ، في مكتب العمل وفي البيت ولا سيما خلال ساعات الليل الطويلة التي تقضيها وحيدة ً في سرير نومها لا من رجل يشاركها هذا السرير، قلقة ً مؤرَّقة ً تتقلب على جمر الغضى الجنسي وهي أولاً وآخراً ليست إلا إمرأة ً تركت أو فقدت زوجها لأسبابها الخاصة ؟ لنستمع بل ولنشارك جميعاً في حضور هذا المشهد المهيب المفعم بالحب والآيروس الذي تجيد الكاتبة دينا في رسم صوره وطقوسه وحالاته وألوانه بشكل يثير ما هو أكثر من العجب .
( ... إلتقت ْ عيناهُ لوحة ً يعهدها ، إنها أمامهُ ، رسمها بيده أيقن حينها أنه في المكان الصحيح ، إندفع نحوها وكأنه يندفع ُ نحو الشوق الغائر ينكسر أمامها ويتمنى لو يستطيع تطويقها بيديه اللتين خلدتا اللحظة وهدمتاها أيضاً . لو يلمسها ! يتذكر نعومتها ونضارة َ وجنتيها ، يمسحها بأنامله ، يفرش راحته على شعرها ويقرّبها إليهِ ، يتحسس كتفيها العاريين ، يُزيحُ بعض الخصلات من عنقها فترتبك ، يتقلص جسدها وتنز ُّ من داخلها أنفاس ٌ دافئة ٌ ، يلملمها ويقبض على همسات حيرى متعثرة .
 أرجوك - لاتدعني أضعف !
يشم ُّ شعرها فيتعربش عبيره ، يدثّر أرنبة أنفه ، عيناه تضيقان وعيناها ترفان ، تزدادان توتراً وبنبرة مبحوحة قال َ :
 أريدك أنْ تذوبي بين يديَّ ، أراك ترتجفين ... غوصي داخلي .
يحتويها دامية القلب ويجس بيده جسدها من تحت ثوبها ليصلَ إلى أسفل ظهرها ... صامتة مستسلمة ، تبعد بأحلامها ، تحرقها شفتاه ، يمكنه سماع دقات قلبها كما يشعر بإعياء روحه المنهكة ، تومئ له بصمت تبغي المزيد، يجذبها نحوه مغمضة العينين ، يحسها ذابلة ً بينما يبعث الروح َ فيها ويشعلها ناراً / الصفحة 26 ) .
أسوق نموذجاً مجتزءاً من بعض حوارات حازم مع المرأة الأخرى نشوى التي تمثل في الرواية دور حواء - الأفعى أو الأفعى حواء حيث حاولت جهد مستطاعها أن تغوي حازماً وأن تثنيه عن تعلقه وهيامه بزينة فلم تفلح
( - نحن إثنان ، مات الأول وضاع الثاني ... والباقي نحن إثنان ...
تقاطعه نشوى :
 أنك تتكلم عني إذا ً ؟
 واحد أخرس والثاني يتكلم ، معلقان بأطراف الغيم ...
 يبدو أنك تهذي
 واحد ثعلب ... والثاني أرنب ... واحد مسجون ويتعذب ...
 إننا الإثنان مسجونان
 أصبحنا ثلاثة ... والثالث ... لم أعد ْ أعرف إسمه ...
ضحكتْ نشوى ضحكة بلهاء أدّت إلى الخروج من نشوى الإستغراق فيستطرد :
 نحن إثنان ... وأنا وحدي / الصفحة 78 من الرواية ) .

نشوى هنا هي الشيطان الذي تراءى أو ظهر للسيد المسيح وحاول صرفه عن رسالته بأن عرض عليه كل مغريات الدنيا وكنوزها فأعرض المسيح عنه ورفضَ ما عرضَ . (( ... ثم أخذه أيضاً إبليسُ إلى جبلٍ عالٍ جداً وأراهُ جميعَ ممالكِ العالم ومجدِها . وقال له أُعطيكَ هذهِ جميعَها إنْ خررتَ وسجدتَ لي . حينئذ ٍ قال يسوعُ إذهبْ يا شيطانُ . لأنه مكتوبٌ للرب ِّ إلهكَ تسجدُ وإياهُ تعبدُ . ثم َّ تركه إبليسُ وإذا ملائكة ٌ قد جاءت فصارت تخدمه ُ [3] . ثم ، يذكرني حوار حازم هذا مع نشوى بحوارات ومنطق ( هاملت ) الخارج عن المألوف في رواية شكسبير الشهيرة سواء مع ( اوفيليا ) الصبية أو مع عمه قاتل أبيه أو مع أمه التي خانت أباه وتزوجت أخاه القاتل . تصرف هاملت هناك كمعتوه فتلاعب بالألفاظ وغيّر منطق اللغة حتى قال عنه والد أوفيليا الذي كان يراقب مقابلتها لهاملت ويسمع أقواله وردوده وأسئلته من خلف ستارة : مجنون ، مجنون حقيقي . السيدة دينا سليم تفهم الدين المسيحي بالطبع ، فضلاً عن درايتها الأكيدة وأطلاعها على روايات شكسبير وغيره من الشعراء الإنجليز . بل وإنها على دراية حتى بالسومريين في العراق القديم فتذكر جلجامش ( ص 80 ) وإنانا ودموزي ( تموز ) / الصفحة 85 .

لماذا خرج حازم عن المألوف من المنطق والكلام وهو يحاور نشوى / الأفعى حواء ؟ ألأنه أراد التخلص منها بإدعائه العته والجنون لعلها تزهد فيه فتنسحب ؟ هل أراد السخرية منها كما كان حال هاملت مع أوفيليا ؟ أم أنه كان بالفعل شبه مختل العقل وهو في ساعات المحنة والغم العظيم يصارع الموت غرقاً في عرض البحر ؟ قد يصاب المرء بالجنون الحقيقي تحت ظروف بالغة القسوة والشدة سيما إذا ما واجه مخاطر موت أكيد أو شبه أكيد .

من التراكيب اللغوية التي إستوقفتني طويلاً معجباً ما كتبت الروائية دينا سليم في الصفحة 114 ( تحاول زينة الخروج من إيقاعات خطواتها السريعة لتطغى عليها إيقاعات قلبها الثقيلة ) . للقلب إيقاعاته الخاصة ولخطوات الإنسان إيقاعاتها الخاصة ... ما علاقة دقات القلب بسرعة خطوات المشي ؟ لماذا تروم تغليب حركة القلب على حركة القدمين ؟ وضعت الكاتبة هنا فيزياء القلب في تضاد مع فيزياء الحركة ... فيزياء الحب مقابل فيزياء قوانين نيوتن للحركة . الحب ضديد العلم ... له قوانينه الخاصة به التي لا تخضع لقوانين ومعادلات الرياضيات والفيزياء . الفيزياء قوانين دقيقة صارمة خاضعة للقياس لكنَّ الحب جنون أو ضرب ٌ من الجنون لا قياس َ له ولا مقاييس ولا وسائل قياس ٍ . إسالوا المحبين منذ قيس العامري حتى نزار قباني الشامي الدمشقي .

لكل كاتب وشاعر من كلا الجنسين أساليبه السوريالية الخاصة به في الكتابة . ليست هناك سوريالية واحدة .
لا يسع قارئ كتابات السيدة دينا سليم إلا الأعتراف بعجزه عن أن يلم َّ بدقة بكافة تفاصيل ما تكتب على كافة الصُعُد : الفكري منها والنسيج الروائي الخاص بها وما تبتدع وتخلق من تراكيب لغوية غير مألوفة بالنسبة لما نعرف عن طبيعة لغتنا العربية فقهاً وفلسفةً . أجل أقف حائراً محتاراً لأنني إذ أحاول فك رموز أساليبها اللغوية أواجه أكثر من معضلة وأقع في أكثر من لغز تبدو جميعاً لي وكأنها جاءت عفوية ً ولم تتكلفها الكاتبة دينا سليم أبداً . هي جزء من طبيعتها كما إخالُ وطبيعة الإنسان قاهرة جبّارة غالبة . ماذا أعني من قولي هذا ؟ أعني أنَّ أسلوب ( دينا ) هو أسلوب متفرد متميز لا يشابه أيّ أسلوب ٍ آخرَ فيما أعرف من أساليب الكتابة والسرد القصصي والروائي . حيرني أمره وأمرها لأني وجدت هذا الأسلوب عصياً على التصنيف يشق طريقه مباشرة ً إلى عقل القارئ قبل قلبه . يخترق الجلد ليستقر في نخاع العظام . لا أقول يسحرني أو يبطل أحاسيسي وعقلي ولكن أجدني رافعاً يدي َّ كلتيهما مستسلماً أمام قوة خفية هي ليست قوة فيزيائية في نهاية المطاف . حاولت أن أجده بين صفوف المدارس السوريالية في الكتابة فلم أجد له مكاناً بينها . أين أضع أسلوب السيدة دينا سليم إذا ً بين مراتب ودرجات الأساليب المعروفة والمذاهب المختلفة في الكتابة ؟ لا أدري . لكني مع ذلك أستطيع المجازفة بالقول إنه أسلوب جديد إبداعي في آليات الكتابة السردية . إبداعي لأنه غير مسبوق وإبداعي لأنه جديد لا شبيهَ له ... إنه مذهب ونوع خاص من أنواع السوريالية . لكل كاتب وشاعر أساليبه السوريالية الخاصة في كتابة نصوصه ... أي إني مقتنع بل ومؤمن أنْ لا من شكل أو أسلوب واحد في فن الكتابات السوريالية . السوريالية في كتابة النصوص تختلف عن بعضها كما هو الشأن في إختلاف البشر بعضهم عن البعض الآخر . وجدت من بين ما وجدتُ من كشوفات تراكيب لغوية ليست مفرطة في الغموض والتعمية وليست واضحة كل الوضوح لا أعرف كيف إستطاعت دينا من صياغتها بكل عفوية ودونما أي تكلف تأتي سلسة ً متصلة ً غير منفصلة عن فكر وعاطفة الكاتبة . هي َ - هي ، هي والكاتبة كلٌّ واحدٌ غير قابل للتجزئة والإنفصام . جمل تحمل عفوية وبراءة الطفولة تضعها الكاتبة أمام قرّائها بدون تكلف ومن غير ضجة فيتقبلها القارئ شاكراً دون أن يقف طويلاً أمامها لإستجلاء أسرارها ظاناً إنها تراكيب عادية كتلك التي دأب على قراءتها كل يوم . كلا ، الأمر ليس كذلك . قفوا أيها القرّاء ... إبحثوا ... نقّبوا ... إكشفوا ستجدوا أغلى وأندر اللقى وستعجبون كيف ومن أين أتت هذه الموهبة لسيدة مارست كتابة الروايات ونشرها في عام 2003 وليس قبل ذلك . سأقدم لاحقاً نماذج من هذه التراكيب اللغوية العجيبة التي يحار القارئ كيف يفهمها ويحار أين يضعها في مدرجات أساليب الكتابة المعروفة.

ولكي أجّنب نفسي الغرق في بحر دينا سليم إخترتُ موضوعتين رئيستين لكي أشرح من خلالهما وجهات نظري في أساليب الروائية في فن الكتابة.
أولاً : اللوحة والفرشاة والرسم . ثانياً : الجنس / الحب / الرومانس .

أولا : اللوحة ... الفرشاة ... الرسم والألوان

سر أو لغز اللوحة :

الروائية دينا سليم على حدِّ علمي ليست رسّامة ، فهل لشغفها باللوحات والألوان من سر لا يعرفه القارئ وما هو هذا السر ؟ وجدتها تجنح بقوة لموضوعات الرسم والألوان حين تكون في أقصى درجات التوتر ... أعني حين تتعرض لذكرياتها مع مَن أحبت في سالف الزمان وخاصة ً تلك المتعلقة بأوقات الحب ومطارحة الحبيب الغرام ومداعباته الآيروسية ومن رغبة فيها ووصف لأدق أعضاء وتفاصيل جسدها . تستحضر هنا بطلتنا ( زينة ) فن الرسم وتمزجه بلحظات الحب والعشق والغزل والغرام كأنَّ هذه الأمور لا تستقيم إلا بوجود فن الرسم ولوحات الرسم يتمم بعضهاً بعضاً . فهل الحب فن وللغرام قواعد وأصول فنية عالية المستوى أم أن َّ هذه الظاهرة خاصة بطبيعة ( زينة ) فقط ؟ الحب فن إذا ً . يخيل لي إن َّ زينة تشعر بحاجة ماسة إلى عوامل مساعدة خارجية تخدمها في أمرين في الأقل : تصعيد الحالة الغرامية إلى أقصى مديات ممكنة ، الأمر الذي يدل في نظري على إنها جنسياً ذات طبيعة باردة يتطلب جسدها والعناصر المسؤولة عن تحفيزها أو تهييجها إلى ما يشبه الرجات الكهربائية التي توقظ هذه العناصر من سباتها وهمودها . أو ، وهو الإحتمال الثاني ، أن َّ قدرة جسدها الطبيعية وسعته لإستيعاب المحفزات والمنشطات الخارجية عميقتان وواسعتان جداً فلا يكفيها محفز واحد ولا تكون ردود أفعالها في مستوى الحافز المطروح أمامها وفي حوزتها . جسد مزدوج القدرة فهزة أو خضة واحدة لا تكفيه . تلزمه خضات متعددة قوية كي تتغلغل فيه وتلج سراديبه العميقة الشديدة الغموض وتحركه في الإتجاه الصحيح . ليست بطلة الرواية ( زينة ) مقتنعة وليست مكتفية بمن يغازلها ويطارحها الغرام في غرفة نومه أو في غرفة نومها . تتعرى له لكنها لا تسمح له بأكثر من مداعبة حلمتي نهديها وتمسيد ظهرها من الأعلى إلى الأسفل ولثم شفتيها . لا يمثل هذا الرجل حلمها ولا هو بفتى أحلامها ... لا يشبعها جنسياً حسب قناعاتها . ليس من وزنها والحب مراتب وأوزان كما هو الحال في المصارعة والملاكمة . تسمح له ولكن أن يلعب معها دوراً محدوداً تقول له قف حين تشاء وحين تبلغ الأمور حداً معيناً هي التي تخطط وتؤشر خطوطه الحمر التي لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال . ولي في وجهة النظر هذه دليل قاطع : عزفت عن الزواج بالرجل الذي بادلته حبه العاصف في إحدى العواصم العربية . وحين أقامت في مستقرها الجديد النائي إعتذرت منه وتركته يحترق وهو قريب منها. غامر بحياته مراراً في سبيل أن يكون قريباً منها وحين نجح في ذلك صدته وإعتذرت . نسمع إفادتها بهذا الخصوص ( ...لا تريد ُ أن تكون َ أسيرته ولا هو أسيرها ، ترفض ُ الإرتباط به ، تريد روحه فقط ، ستبقى روحاهما متصلتين وأحلامهما واحدة ، ماذا لو تحولت حياتهما إلى عادات تأخذها الرتابة إلى السأم ؟ يعيشان تحت سقف واحد ، يكونان مثل باقي الأزواج فتغيب نُدرة العلاقة ويُرزقان بأبناء . أيُعقلُ أنْ تُصبحَ أمّاً بعد هذا العمر ؟ ويكون أبا ً صالحاً بعد ما عاناه من عذاب ؟ هل يمضيان بقية سنواتهما بين صراخ الأطفال وضجيجهم ؟ يرجع منهكا ً متعبا ً كلَّ مساء حزيناً ، غلاء المعيشة والتهديد بعدم الأمان فيختلفان على نقاط كبيرة كانت أو صغيرة ، من يعلم ، ربما تسوقهما الخلافات أيضا ً إلى الفراق / الصفحة 113 ) . لو كانت عاشقة لصاحبها عشقاً عميقاً حقيقياً لما صدته وإعتذرت منه . لتزوجته بل ولشجعته بكافة السبل لأن ْ يتزوجها وعند ذاك ستحثه هي على أن تنجب منه أطفالا يشبهون أباهم طولاً وسحنة ً ولونَ عيونٍ وما شابه ذلك من سمات وأوصاف تحسن النساء تعدادها . كانت علاقاتها من حيث البدء بهذا الرجل ( حازم ) باردة وإن شبتها عواطف ومذكيات نار الحرمان الجنسي ف ( زينة ) إمرأة عازبة أو مطلقة أو ثكلى أي إنها خارج نطاق الزوجية . ما زال الإحتمالان السالفان واردين أحدهما يتمم الثاني . أعني ، أن ( زينة ) باردة جنسياً في الأصل وتلك ظاهرة معروفة في عالم الطب . وإنها مع ذلك وبسبب ذلك عميقة الإحساس الجنسي ، فمع مواصلة البرود والإعتياد عليه تتوسع وتتعمق الرغبة في إتيان الجنس وممارسة الجسد الناضج المهيأ والمتقد بالحرارة الغريزية . النار تحت الرماد كما يقولون . زينة عميقة العواطف دفينة المشاعر عالية القمم وأطوار التهيّج . أمواجها عميقة وواسعة فهي بحاجة ماسة لرجل يفهمها ويستطيع قراءة خارطة جسدها وهندسة بنائها الداخلي. رجل أصغر منها سناً لا يكفيها ... لا يلبي طموحات جسدها الملتهب ناراً وجنساً . تستصغره في لا وعيها إنْ جاملت وتنازلت وتحتقره واعية ً إنْ أسفرت عن طبيعتها وواجهتها كما هي بدون أقنعة ومجاملات .

أعود بعد هذه السياحة الطويلة من التكهنات الفرضية لأقدم أمثلة على موضوعة الرسم واللوحة والألوان وعلاقتها بأوج الحماس الجنسي حيث تختلط الذكرى بالعشق ومداعبة أكثر مناطق جسد المرأة حساسيةً . نقرأ :

( ... جسّد الحلم بفرشاته ، إنحنى أمامها بتلقائية كما ينحني لكل إبداع جديد . غذاها بألوان من روحه ، سمعها ، تحسسها وشعرتْ بأنامله ، أوقدَ وسكبَ نار عواطفه داخلها ، أُغرمَ بها وأسمعها آهاته ، لم يبخلْ عليها ، أبعدَ الأوهامَ عنها وألبسها الحقيقة ، غمرها وَلها ً وكحّل عينيها بسهاده ، أذابته وأذابها ، عاشا أجملَ لحظاتهما وعندما إنتهيا إكتشفا أنَّ للوحة وجهاً آخرَ لم يعهداه / الصفحة 26 ) .

لوحة رائعة فاخرة في بنائها وتعابيرها ومجازاتها ورموزها السوريالية ... لوحة يقف أمامها القارئ خاشعاً حيث يختلط الحب بألوان الرسم حتى نكاد أن نعجز عن الجزم هل الكلام في الرسم أم في العشق والتوله المفرط ؟ ( جسّد الحلم بفرشاته ... غذاها بألوان روحه ...كحّلَ عينيها بسهاده ... وعندما إنتهيا إكتشفا أن للوحة وجهاً آخر ) . مفاجأتان ... إثنتان أمامنا : الإنتهاء الذي لم تفصح الروائية عن كنهه أبداً ! أي إنتهاء وما طبيعته ؟ نهاية عمل جنسي بين زينة وحازم أم الإنتهاء من رسم اللوحة ؟ المفاجأة الثانية الأكبر والأعظم : أنَّ للوحة وجهاً آخر ! أي وجه وما طبيعة هذا الوجه وما طبيعة الخلاف بينه وبين الوجه الآخر أو المتوقع أو الوجه الأصل ؟ مفاجآت صاغتها الكاتبة بإبداع متميز يأخذ بمجامع القلوب ولب العقول. الأرجح أن النهاية المقصودة هي نهاية ممارسة جنسية عادية بين رجل وأمرأة بدليل قولها ( أُغرمَ بها وأسمعها آهاتهِ ، لم يبخل عليها ...أذابته وأذابها ، عاشا أجمل لحظاتهما ) . يبقى لغزالوجه الآخر للوحة لغزاً محيراً يصعب تفسيره !! فهل الممارسة الجنسية المفترضة غيرت علاقاتهما جذرياً بالطفرة النوعية إذ وضعا الحرمان جانباً ليبدءا عهداً جديداً من علاقات الحب المختلط : حب روحي - جسدي ؟ لا من بأس بالرجوع إلى بعض آيات القرآن الكريم لنرى تحولاً مماثلاً وقع بين آدم وحواء حين كانا في الأعالي ينعمان بجنات الخلد ( ... فوسوسَ لهما الشيطانُ ليُبدي لهما ما وُري َ عنهما من سوأتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أنْ تكونا مَلكين أو تكونا من الخالدين . وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين . فدلاهما بغرور ٍ فلما ذاقا الشجرةَ بدتْ لهما سوأتهما وطفقا يخصفان ِ عليهما من ورق الجنةِ وناداهما ربهما ألمْ أنهاكما عن تلكما الشجرة ِ وأقلْ لكما إنَّ الشيطانَ لكما عدو ٌ مبين . الآيات 20 - 21 - 22 - من سورة الأعراف ) . حصل التحول الأكبر في حياة آدم وحواء بعد أن (( ذاقا الشجرة المحرَّمة )) أي مارسا الجنس خلافاً لأمر ربهما ... الشيطان هنا هو قوة الغريزة الجنسية التي عصت الأمر الرباني أي المثالية الروحانية أو العفة الفطرية ... الجسد والغريزة أقوى من المثال . هذا هو وجه لوحة ( زينة وحازم ) الثاني ... مارسا الجنس فتحولا نوعياً كما حصل لآدم وزوجه حواء إذْ مارسا جسديهما فأصبحا رجلاً وإمرأةً ناضجين يعرفان خفايا جسديهما ويستجيبان لنداء وإغراءات الغريزة الجنسية الطبيعية وأدركا أنَّ مكانهما الطبيعي هو سطح الكرة الأرضية لا فوق في عالم خيالي لا وجود له أو ليس مصمماً للجنس البشري !! إستجابا لنداء الطبيعة القوي الجبّار فأنجبا ذرية ً بشرية لا مكانَ لها بين الملائكة في الجنان . الملائكة هناك من الذكور فقط فكيف يتوالدون وينسلون وينجبون ؟ الجنة عدم . الجنة فراغ أو صحراء مجدبة قاحلة من من ماء فيها ولا نبتة ولا شجر . الجنة موت . ( زينة ) تخشى عملية إنتاج أو إنجاب بشر يخلفونها ففضلت أن تختار لها مكاناً في الأعالي بين الملائكة وكلهم ذكور فأين المفر يا زينة ؟ أينما تولون لا بدَّ أنكم ستلاقون بشراً ذكوراً يسعون للقاء إناثهم سواء كنَّ من البشر أو من الملائكة فالأنثى هي أنثى على الأرض أو في السماء !!

كلما مضيناً عميقاً في قراءة رواية ( تراتيل عزاء البحر ) إكتشفنا أنَّ للوحة ( زينة ) وجوهاً أخرى متعددة لا وجهين . ( وعندما إنتهيا إكتشفا أن َّ للوحة وجهاً آخرَ لم يعهداه ) . التحوّ ل، نعم هو التحوّ ل ، التحول في الطبيعة والحياة ، التحول وليد التراكم . مارسا جسديهما فإنتقلا إلى مستوى آخر من العلاقات الروحية وذاقا وعانا من أصناف شتى من المشاعر والعواطف واللهفات . الحب الجارف أفرزه الجسد وقد تأسس عليه وبدأ به لكن بعد أن ْ مورس هذا الجسد إرتفعت نوعية الحب إلى مستويات أعلى في سلالم العشق والتوله . هذا هو أحد أبرز وجوه التحول في لعبة وملعب الحياة المتحركة .

ثمة مثال ٌ آخر على رمز اللوحة الخطير في علاقة الحب التي ربطت زينة بحازم ودلالاتها الجنسية الصريحة نجده في الصفحة 74 من الرواية. أنقله ثم أعلق عليه .

( إنطلقت حيث ُ فرشاتها تملي بواسطتها أعباءها وهواجسها كما في كل مرة . التعابير اللونية دعامة لوجودها ومنها تستمد البقاء ، بأناملها تصنع وتدوِّن الحدث ، وكلما أمسكت بالفرشاة إبتسمت لذكريات لن تنطوي أبداً : - لكنني مبتدئة فقط وكيف تريدني إنجاز ما بدأته بهذه السرعة يا ( حازم ) ؟
 بل أصبحتِ أستاذة تستطيعين تحويل الألوان َ إلى قدرة محسوسة بها لغة خاصة مميَّزة ، بلمساتك تصبح الوجوه ناطقةً ... هاتي يدكِ ... إلى هنا ... جسّي نبضات قلبي المشتعل ، صدري يحترق ...يتخبط ... لا يستطيع مجابهة أجمل إمرأة وأجمل أنامل ...لو تعيدين النظر إلى تلك اللوحة ...
وعندما أدارت وجهها تتأمل المكان غافلها بقبلة ساخنة طاف بشفتيه المحمومتين يُلهب عنقها فشفتيها ، وما كان منها إلا الإستسلام ، ترتجف كطفلة مدللة في حضن عشيق تعلم أنها ستفقده في يوم ما .
 أخشى الإستسلام لك
 ولِمَ ، ألستُ حبيبكِ ؟ لا تفوّتي لحظات لا عودة َ لها بالتردد .
إرتعدت بين يديه ِ كذبيحة ، مغمضة العينين ، كان قد شغلها بلثمة فما تبقى لها دموع ٌ، يبتلع من رحيق الهوى ويمتص بقايا حزن ، وبلمسة حنون يختلس بعض الدفء من عنقها ، يهمس بصمت ٍ في أُذنها :
 لن أدعكِ تفلتين مني / الصفحتان 74 - 75 ) .

يستوقفني طويلاً هنا مقطعان فأحار كيف أفهم مغازيهما العميقة المبتكرة التي تدل بقوة على قدرات عقلية غير عادية لدى الكاتبة دينا سليم ... تتمخض عن أفكار هي الأخرى غير عادية لا أتوقع حدوثها إلا في عالم الإبداعات الروائية والتحليقات الحائمة قريباً أو حول آفاق وبطاح وديان عبقر حيث سكنى ومُقام أنصاف المجانين من الشعراء والشواعر والكتاب والكواتب . المقطع الأول
( التعابير اللونية دعامة لوجودها ومنها تستمد البقاء ، بأناملها تصنع وتدوّن الحدث ، وكلما أمسكت بالفرشاة إبتسمت لذكريات ٍ لن تنطوي أبداً ) .
كيف نفهم هذا الكلام ؟ كيف تكونُ التعابير اللونية دعامة ً لوجود زينة المرأة العاشقة ؟ أفهم هذا التعبير المجازي - نصف السوريالي إذا ربطنا ألوان الرسم وفرشاة الرسم بموضوع الرسم : اللوحة ! اللوحة الفنية موضوعة مركزية في هذه الرواية وفي بؤرة خيال وتفكير الكاتبة وفي نسيج عدسة وشبكية مرآتها الداخلية ( حاستها السادسة ) التي ذكرتها بضعة مرات في متن الرواية . ما زينة إلا صورة ملونة حقيقية محاطة بإطار خيالي يراها القارئ وتراها هي لوحةً ً معلقة ً في فضاء موجود - غير موجود ، واقعي - وهمي ، ملموس - متخيّل . إذا كانت المرآة رمزاً ودلالة ً وموضوعة مركزية في أدب بعض الكتاب والشعراء من كلا الجنسين فاللوحة لا المرآة هي الرمز - الشيفرة وإحدى الدلالات الأثيرة في أدب وكتابات دينا سليم . اللوحة مقابل المرآة . يرى الناسُ وجوههم في المرآة لكنَّ زينة ترى نفسها في اللوحة . صورتها مرآتها فأين الصورة الحقيقية ؟ أين الوجه الحقيقي للإنسان ؟ لا لوحة بالنسبة لدينا أو زينة دونما ألوان . لا تحب اللوحات بالأسود والأبيض . حياتها ألوان ففي الألوان جمال وفتنة وإيحاء وفيها بقاء لها مستدام متصل يحاكي خلود ودوام الجنة التي رفضتها . بدون ضوء لا نرى الألوان . فاللون إبن النور ، و زينة - دينة خُلقت داخل فضاء النور مكشوفة لألوان طيف قوس قزح الطبيعية وهي أساس جميع باقي مشتقات الألوان . إنها ترى للنور لوناً ، بل وتراه متعدد الألوان مجسَّداً في لوحة يضمها ويحددها إطار ذو إعتبارات نفسية - فنية - إبداعية قد يكون هو الآخر بعضاً من هذا النور . نور في نور في نور والجنة عتمة ٌ وظلام ٌ دامس .

المقطع الثاني :

( ... تستطيعين تحويل الألوان إلى قدرة محسوسة بها لغة خاصة مميزة ، بلمساتك تصبح الوجوه ناطقة ً ... ) .
حسب رؤية حازم ، عاشق زينة ، فإنَّ هذه قادرة كالمسيح أن تحيي الموتى ... إذا لا مست زينة الوجوه أنطقتها . إنها تستطيع أن تبعث الحياة في وجه في لوحة رسمته يدا حبيبته زينة . فزينة ليست ساحرة مجرد ساحرة كباقي السواحر ، إنما إنها خالقة ... إنها ربّة ، تنطق الجمادات ، تمنحها الحرارة اللازمة للحركة فتتحرك ....أي تبعث الحياة فيها . ألوان زينة تتكلم بلغتها الخاصة . تخاطب الجمادات والموتى فتنطق تلك وتنهض من موتها هذه . ألوان زينة - دينا تتحول بقدرتها وتخضع لمشيئتها ، اللون يتحول ككل شئ في الحياة والطبيعة . موضوعة وفلسفة التحول هي واحدة من بين المسائل التي تشغل بال الروائية السيدة دينا سليم .

تكرر موضوع اللون والفرشاة واللوحة في مواضع قليلة أخرى من الرواية وجدت أبرزها في الصفحات 38 / 41 / 97 ... فضلاً عما ذكرتُ آنفاً حيث شرحت بالتفصيل .

ثانياً : الجنس ... الحب ... الرومانس

إذا تركنا جانياً موضوع اللون واللوحة فسنواجه عالماً آخرَ هو الآخرُ شديد التفرّد رافل ٌ بشتى صنوف وسائل التعبير الخاصة وآليات كشف دواخل الإنسان العاشق إمرأة ً ورجلاً . كيف تقلب الكاتبة باطن الإنسان وتحرث روحه وتعرضها للنور والشمس والضوء . من أي نبع تغترف الإلهام وتجبل عباراتها خليطاً ناجحاً من الجوهر السائل المصهور بحرارة فائقة القوة تخترق الحُجب والجُدر والمسافات . أحسب الكاتبة تقارب موضوعات الجسد والجنس والعشق مقاربة غير مرئية ، تدنو منها وتراها ولكن ليس بعينيها إنما خلال عدسة آلة فيديو سينمائية تسجل فيها الصوت والصورة وتظل هي صامتة محايدة لا من حركة ولا من صوت . تقترب من هذه الموضوعات مقاربة راهبة تتعبد في مقامات الهوى والعشق . تختار ألفاظها بدقة وحذر وذوق رفيع وأدب جم . قالت أو وصفت الحب والعشق بعبارات هنا وهناك من قبيل (( العشق هو ضد الموت ... أجمل ما في الوجود ... الحب هو الأمل ... الحب يتجاوز حدود الزمان والمكان ... إنه أعظم شعور في حياة المرء ... إنه أعظم أسباب الإلهام ... إنه المطلق ... )) . في الصفحة 22 من رواية دينا سليم مقطع طويل رائع إختلطت فيه الريشة والألوان والرسم بالحب والجسد والممارسة الصريحة. أنقله لطرافته كما هو ثم سأعلق على بعض أجزائه إذا رأيتُ ذلك ضروريا ً لإلقاء المزيد من الضوء على إبداعيات كاتبة الرواية وقدرتها على الخلق والتخليق ، خلق الصور والمجازات الجديدة وتخليق الطريف منها بالطريف الآخر ، توليف الطرائف أو مونتاج النظائر والمتخالفات .

( رغبة غريبة تداعب تفكيره وشهوة حيوانية تستحوذ على مخيلته . توقفت نظراته السكرى على صدرها ، يبحث عن حلمتيها النافرتين ، ومن تحت ثوبها الناعم تحوطهما دائرتان واسعتان بلون القهوة . لم يستطعْ الثوبُ حجب الرؤية عن ناظريهِ وربما خيَّل إليهِ أنه يرى بروزهما .
 لا تزمّي شفتيكِ فالنشوة تفوق إحتمالي ، تثيرانني ، ونهداكِ يأخذانني إلى عالم مجنون .

وبحركة سريعة يحرر قميصه عن جسده المرتعش وينتظر البقية :
 إنزعي عنكِ الخجل يا حبيبةَ القلب والروح ...
تنزوي الأضواءُ الخافتةُ بين ساقيها ، عاريتين تخترقان العَتمة ... تلوذُ وتذوبُ لذّة ُ الذكرى بأشباح الماضي ...
 دعيني أنزعْ عنكِ ما تبقى ...
إضطربت أنفاسها و ( حازم ) متكئ أرضاً يلملم شُتاتَ أنفاسهِ :
 لا ترتجفي ولا تتحركي ريثما أنجز ما بدأتُ ...
 أخشى عدمَ تعرفي على نفسي !
 ألا تدركين أني رسام ٌ محترف ٌ ، ستحكمين حال رؤيتكِ لنفسكِ داخلها .
 لماذا لا تعلمني الرسم ؟
 هيا ، إقتربي ، سأعلّمك كيف تضربين الريشةَ َ بالألوان .
سكنت الأصباغُ السوادَ وتجمدت الحياةُ بخصلات ريشة معطوبة ، قبعت طويلاً داخل كأس ماء ، شراب الأحزان يحتل ُّ المكانَ وتأوهات الهجران تملأ الفراغ . إمتزجت ألوانُ النشوة بالشهوة المؤجلة ، تعددت ألوانُ الدمع ، إلتقت البرودةُ الحرارة َ وإنصهر القلبان وإزدادا وهنا ً . لِمَ وشى بهما القمرُ المخادعُ وإختفى ؟ أُضرمتْ النيرانُ في جسدين عاريين ، أخفت
( زينة ) عينيها بيديها تحاولُ ضبطَ أنفاسها ، إرتمت على سجاد الغرفة كغزال شارد عَطِش ٍ ، تحن ُّ إلى الماء والماءُ لا يحن ُّ إلى سواها / الصفحة 22 من الرواية ) .
حتى هنا ونحن أمام مشهد سينمائي بالشاشة العريضة ( سينما سكوب / باناروما ) يعرض لنا كمشاهدين صوراً حية ً ناطقة بالألوان قريبةً جداً من أفلام ( البورنو ) ... حتى هنا نُجابَه باللون وريشة الفنان وأصباغ الرسام المحترف التي تجد لها سَكَنا ً في السواد رمزاً للتشاؤم أو خوف الفشل ، فشل تجربة الحب بين حازم وزينة . تجربة متأزمة دوماً مضطربة لا مستقرَ لها تتأرجح ما بين أقصى اليمين وأقصى الشمال . غيرَ أنَّ
( زينة ) لا تتحرج من ممارسة الجنس مع حازم وهي على خط النار تجهد أن تظلَّ قامتها متوازنة ً وهي تسعى مغمضة العينين على حافة السراط غير المستقيم. نعم ، تعالج الكاتبة دينا وتقترب من موضوعات الجسد والجنس بأساليبها الخاصة ووسائلها الخاصة ومفرداتها الخاصة غير المطروقة فيحس القارئ بصدق حرارة قلبها وجسدها ونقاوة ألفاظها تماماً كما تحسُّ هي وتلتقط نأمات جسد وأعماق دواخل بطليها حازم وزينة . هي الوسيط الأمين بيننا كقرّاء وبينهما . ننحاز بقوة لطرفها كلما إنحازت هي للطرف الآخر . نميل إليها حيثما مالت لجهة زينة وحازم . نقع في حبها ما دامت صادقة ً مع نفسها من خلال ( زينة ) حتى نراها تتماها بها مائة بالمائة ( فتمتزج ألوانُ النشوة بالشهوة المؤجلة ...وتضرمُ النيرانُ في جسدين عاريين وتُخفي زينة عينيها بيديها ) ... إنها تُغري القارئ بالحلول المطلق فيرى نفسه في حازم ويراها زينة أو حلّت في زينة .
نقرأ في الصفحة 89 كلاماً فيه قدرٌ ليس بالقليل من البورنو الجنسي .

حازم يهذي ( ... أنتِ يا شمسَ الكون ! هل استطعت ِ أخيراً لثمَ ثدي
( إينانا ) فإستفاقت من غيبوبتها ؟ أشتهي لثمَ فمَ حبيبتي الملقاة أرضا ً تنتظرني ، أزيحُ ثوبها عن ثدييها وسرتها ، فيرتعدُ ردفاها شوقا ً . ستمنحني جسدها ولن تطلق أبداً لعنتها على الكون كما أطلقتها ( إينانا ) التي إختلستُ منها حرمتها ، عضوي يضاهي عضو ( شوكليوتا ) قوة ً ، وعصري يضاهي عصره رقيّا ً . لن أغتصب َ حبيبتي وهي نائمة ، ولن أسلبها أنوثتها وهي في سبات ، سأطلب وصالها عندما تمنحني هي جسدها وروحها وعقلها وكيانها / 89 ) .

هنا كما في مواقعَ أخرى رأيتُ بعض آثار واضحة من ( نشيد الإنشاد ) في التوراة من العهد القديم .
يحيلنا هذا النص إلى هذيان حازم ، أي أنَّ الجنس والبورنو فيه ما هما إلا مجرد أحلام ، أضغاث أحلام وتمنيات تعصف في رأس حازم . يتمنى أن يفعل كذا وكذا مع حبيبته الغائبة عنه . إنه يستحلم ويستمني لا أكثر . رغبات محروم حسبُ .

تنتهي الرواية بالرسم والوحدة القتالة . تسمع ( زينة ) صوت ( حازم ) يخاطبها في الوهم من باب التمني ، هو يحلم وهي تتمنى : ( من الآن وإلى الأبد ستمارسين الرسم ما دمتِ تملكين روعةَ الإبداع ، تدونين السعادة ، لا لزوم للوحات الماضي العابسة ... / 116 ) .
تنتهي الرواية نهاية عابسة حزينة . إختفى حازم ، أما مصير زينة فهو بألفاظها هي ( غاصت زينة بالواقع متألمة ... لم يشاركها الحبيبُ السريرَ ... تطوي جراحَ الذكريات النازفة ، تركل الشظايا بقدميها المكسوتين ، يؤرِّقها سريرٌ فارغ ٌ بارد ٌ ... يشف ُّ عن وحدتها / الصفحة 116 ) .
إلتفت الساقُ بالساق ِ ولاقت النهاية ُ البداية َ ، إكتملت الدائرة فلم نفاجأ بسوداوية وتشاؤمية عنوان الرواية فالخاتمة محفورة في الجبهة .

متعة ، متعة كبرى يحسها قارئ صفحات رواية ( تراتيل عزاء البحر ) ... متعة وثقافة ترتسمان أمام القارئ في أُطر من الإعجاب بإبداع
الروائية ( نادية سليم ) والوقوع في أسر قوة شخصيتها وفخامة هيبتها وسعة خيالها وقدراتها غير المحدودة على توظيف أفكارها الجديدة المبتكرة في خلق وتخليق جمل وتراكيب لغوية متسربلة بترف المعاني وألوان الصور وغرابة المجازات . يفتخر بك قرّاؤك يا سيدة دينا سليم .

* د. عدنان الظاهر

[1دينا سليم ، الصفحة التاسعة من الرواية

[2دينا سليم ، الصفحة التاسعة من الرواية

[3إنجيل متّى ، الإصحاح الرابع: ثم أُصعِدَ يسوع إلى البريّة ليُجرَّب من إبليس . فبعدما صامَ أربعين نهاراً وأربعين ليلة ً جاعَ أخيراً . فتقدّم َ إليه المجرِّب ُ وقال له إن ْ كنتَ إبنَ الله فقلْ أن تصيرَ هذه الحجارة ُ خبزاً . فأجاب وقالَ مكتوب ٌ ليس بالخبز وحده ُ يحيا الإنسانُ بل بكل كلمة ٍ تخرجُ من فم اللهِ . ثم َّ أخذهُ إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل . وقال له إنْ كنتَ إبن َ الله فاطرحْ نفسكَ إلى أسفل .لأنه مكتوب ٌ أنه يوصي ملائكته بك . فعلى أياديهم يحملونك َ لكي لا تصطدمَ بحجر ٍ رجلكَ . قال له يسوعُ مكتوبٌ أيضاً لا تجرِّب َ الرب َّ إلهكَ . ثم أخذه أيضاً إبليسُ إلى جبلٍ عالٍ جداً وأراهُ جميعَ ممالكِ العالم ومجدِها . وقال له أُعطيكَ هذهِ جميعَها إنْ خررتَ وسجدتَ لي . حينئذ ٍ قال يسوعُ إذهبْ يا شيطانُ . لأنه مكتوبٌ للرب ِّ إلهكَ تسجدُ وإياهُ تعبدُ . ثم َّ تركه إبليسُ وإذا ملائكة ٌ قد جاءت فصارت تخدمه ُ


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى