محمد الراشق.. وداعاً !
تعلّق بفنّ الملحون وساهم في تطوير الزجل المغربي وردّ الاعتبار له
عبد اللطيف الوراري
1. على إثر نوبة في التنفُّس، رحل عنّا، فجر يوم الأحد 18 غشت، الشاعر الزجّال محمد الراشق، وووري الثرى بمسقط رأسه مكناسة الزيتون. وكان الراحل يمرُّ بمعاناة مريرة مع المرض أفقدته كثيراً من عافية الجسد، لكن روحه المتوثّبة ظلّت نشطة، فلا يقعد عن نشاط زجلي أو ثقافي هنا وهناك، حتى فارقَتْه إلى الملكوت الأعلى راضيةً مرضيّةً. وفور نعيه على صفحات موقع التواصل الاجتماعي (الفايسبوك)، حتى تقاطرت رسائل التعزية والمواساة، وبدا تأثُّر مُحبّيه وأصدقائه داخل المغرب وخارجه كببراً لفقدان الراحل الذي كان رجلاً حييّاً، كريماً ومحبوباً في محيطه وبين أوساط الأدباء الذين أشادوا بأخلاقه العالية وعمله الجمعوي وموهبته في قول الشعر العامي.
2. ولد محمد الراشق (1955-2013) بمدينة مكناس، وفيها نشأ واشتدّ عوده على شجرة المحبّة، وتناهى إلى سمعه ووجدانه إيقاعات التراث الشعبي ومحكياته وكراماته ممّا كانت تزخر به هذه المدينة العريقة (زوايا، حلقات الذكر والإنشاد، عيساوة، ملحون..)، وعن أمّه التي كانت تحفظ هذا التراث الحيّ أخذ الطفل الذي كانه، كما تشرّبه من حفلات المدرسة التي كانت تُحييها في مناسباتٍ دينية ووطنية.
كتب محمد الراشق الشعر الفصيح في بداية نبوغه الأدبي، قبل أن ينصرف عنه إلى الشعر العامي أو الزجل الذي استحوذ عليه وأخذ بمجاميع كيانه، فأعطاه وقته وقوته حتى انقاد له، وذلك بعد أن تأثّر بشعراء فنّ الملحون الذين عرفت بهم مكناس، وفي مقدّمتهم حكيمهم سيدي قدور العلمي، والحسين التولالي، وحمود بن إدريس السوسي. ونجد آثار هؤلاء وسواهم بادياً في شعره، وأهمّها معين الحكمة الذي يسري في جُلّ زجله، وغنى الإيقاع، وعتاقة اللغة العامية التي يغرفها من منبع أصيل، لكن لا نعدم أثر شخصيتة القويّ، إذ كان يصهر كلّ ذلك في بوتقة عصره وثقافته الحديثة ورؤيته الذاتية للعالم، فنجده يصرخ ضدّ الظلم والاستبداد ويحتجّ على مظاهر البؤس والحرمان التي طالما تأذّى منها في محيطه الاجتماعي، ولعلّنا تتبّعنا ذلك في ديوانيه الأوّليّن: "الزطمة على الما" (1999)، و"مكسور الجناح" (2005). لكن ديوانه الثالث الذي صدر حديثاً، والمعنون بـ"ثريا د الروح"، يعكس لنا طوراً آخر من تجربته النفسية والوجودية، يتجاوب مع دبيب حياته الداخلية وتهجُّساته الكسيرة، ومع معاناته مع المرض الذي يغنم صمت المبدع وأنفته.
وفي مجال البحث، سواءٌ في الزجل أو فنّ الملحون أو التراث الشعبي بعامة، فقد تأثّر محمد الراشق بدراسات أشهر الباحثين فيه من أمثال محمد الفاسي، وأحمد سهوم، عباس الجراري ومحمد مفتاح. ولعلّنا نجد ذلك واضحاً في كتابه الموسوم بـ"أنواع الزجل بالمغرب: من الغنائية إلى التفاعلية" (2008)، وفي غيره من مقالات كان ينشرها، بين فينة وأخرى، في منابر ثقافية ورقية وإلكترونية.
واليوم، يمكن أن تُشكّل هذه الأعمال، الزجلية والبحثية، حقل إلهام لا ينضب بالنسبة للباحثين وطلاب الجامعة الذي عليهم واجب إظهار تراثنا الشعبي المغربي، وتطويره ونشره داخل المغرب وخارجه.
3. منذ أن حلّ بالخميسات في عام 1982م، لم يَأْلُ محمد الراشق جهداً للنهوض بأوضاع الثقافة في هذه المدينة الهامشية، فظلّت بناية ملتقى الثقافات-اليونسكو التي كان يعمل بها مديراً، منارةً ثقافيّةً قلّ أن أدَّت نظيراتها من المؤسسات العمومية ما كانت تضطلع به من العمل الثقافي والجمعوي لسنوات، يزدهر حيناً ويخفت حيناً آخر؛ فصارت محجّاً لأدباء ومثقفين مغاربة فعلت محاضراتهم عن الشعر والرواية والسينما والملحون والزجل في شبابها فعل السحر، وهم الذين نبغوا في تحصيلهم الدراسي وظلّوا يتوقون للإفصاح عن مواهبهم بلا طائل، بعدما تميّع النشاط الثقافي، وآلت الأمور لتدبير الثقافة، بين مؤسسة وأخرى، لغير أهلها ممّن كان وكده الدنيا وهمّ الوصولية.
كانت البناية مكونة من طابقين، أرضي للتنشيط الثقافي، وعلوي للسكن الإداري. يفصل بينها وبين الثانوية التي التحقت بها للدراسة أواخر الثمانينيات شارع عامّ، وفي الأطراف غابة بأشجار الكاليبتوس العظيمة، تتوسّطها كنيسة أثرت عن حقبة الاستعمار الفرنسي. وترافق تردُّدي على البناية والسياحة بلا وقت في الغابة مع بداياتي الشعرية، ولمّا علم سي محمد ذلك من بعض زملائي، إذ كنتُ أخفي تعاطي الشعر كمن يتعاطى إدمان شيء خطير، حتى أنزلني بين أترابي منزلة خاصة، وحرص على أن يشركني في أيّ نشاط يزعم تنظيمه. في هذه البناية، تعرّفتُ على الشاعر بنسالم الدمناتي والمسرحي عبد الكريم برشيد، وعلى جيل جديدٍ من الكتاب يتلمس طريقه وقتئذٍ.
عبر تلك السنوات، كان محمد الراشق يتصرّف مع الجميع بكرم ولطف، ولم يصدر عنه ما يشين طلعته في أعيننا. كان يؤثر على نفسه ولو كانت به خصاصة، وإلّا إلام نرجع تأخُّر إصداراته إلى أواخر التسعينيات؟ وفوق ذلك، إلام نرجع طبعها إيّاها على نفقته الخاصة، وهو الذي كان يتعيّش على أجر بسيط بالكاد يغطي حاجيات زوجته وأبنائه الذي تبنّاهم وأحبّهم. حتى في ذروة مرضه ومعاناة معه، كانت نفسه تأنف أن يستجدي أحداً.
4. وإذا كان لي من نداء، بهذه المناسبة الحزينة، فإنّي:
أدعو وزارة الثقافة إلى نشر أعماله الكاملة إسوة بغيره من الكُتّاب الكبار؛
وأدعو أصدقاءه من الزجّالين أن ينشئوا جائزة في شعر الزجل تحمل اسمه، تكون موجّهة للمواهب الجديدة؛
وأدعو هواة الزجل وناشئته أن يتعرّفوا على أسرار صنعته الفنّية؛
كما أدعو السلطات المحلية بمدينة الخميسات أن تطلق اسمه على حيّ من أحيائها الرئيسية.
هذا بعض دَيْن مستحقّ علينا نحو الرجل، ونحو الفنّ الذي أحبَّه، ونحو الوطن الذي أخلص له.
وإذ أنعيه إلى أصدقائه في المغرب وخارجه، وأتقاسم معه واجب التعزية والمواساة، فإنّ لسان حالي ما قاله في هذه الأبيات من قصيدته الزجلية "لرياج الجايّة": (يا رياح الشّوم/ الوقت مهمومْ/ الّليل بْلا نجوم/ والوقت صهْدان/ يقلّب فجْنابو/ والقاتل فرْحان/ ناشط بكلابو/ تنهشْ يّامنا/ تقدّدْ عْظامنا/ تهدّدْ سلامنا./ يارياحْ السّهوب/ الرّتاجْ مقلوبْ/ ونا حيْران/ كيفاشْ لهروب؟).