الخميس ١٥ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

محمود درويش: بين ريتا وعيوني بندقية

يشكل درويش فيما أنجزه بعد (مدريد) حالة استثنائية. ولا أظن أن هناك أديبا فلسطينيا حظي بما حظي به، فقد التفت الى أشعاره ونثره المعارضون قبل المؤيدين، وأعادوا نشر نتاجاته، على الرغم من أنه ذهب الى مدريد وأسهم، كما تقول الشائعات، في صياغة كلمة الوفد الفلسطيني. ويستطيع المرء أن ينظر في أعداد مجلة "فلسطين المسلمة" ليرى أنها لم تخل من بعض أقواله. (انظر عدد تشرين الاول 1993، ص 33).

وقد أصدر درويش، منذ مدريد، مجموعتين هما: "أحد عشر كوكبا" (1993) و"لماذا تركت الحصان وحيدا؟" (1995)، وأجريت معه العديد من المقابلات التي أبدى فيها رأيه فيما يجري وفي الطرف الاخر الذي أكثر من ذكره في أشعاره قبل الخروج وبعد مرحلة السلام، ومن تلك المقابلات المقابلة التي أجراها معه الشاعر اللبناني عباس بيضون (انظر مشارف، ع 3، تشرين الاول 1995) والمقابلة التي اجرتها معه (لور أدلير) (انظر الكرمل، ع 52، 1997).

ويستطيع المرء ان يلحظ، من خلال أقوال درويش واشعاره، خيبته من الحل السلمي المنجز، وقد بدا هذا بوضوح في تلك المقابلة التي اجرتها معه مراسلة جريدة "الحياة اللندنية"، وهو في باريس، وقد أعادت جريدة "الأيام" الصادرة في رام الله نشرها يومي 27 و28/5/1997. تسأله رلى الزين عن شعوره في رام الله، بعد عودته اليها، فيجيب:

"ما نحياه ملتبس الدلالات، لا هو عودة ولا هو زيارة ولا هو اقامة، وشروط كل هذه الاسماء محاصرة باحتلال ملموس وربما اشد قسوة الان، الاحتلال تحول من احتلال كامل الأرض الى نوع من الحصار لأجزاء من الأرض غير مترابطة وغير متصلة بعضها ببعض، أي أن وجودنا الانساني هناك يشبه وجود كائنات في داخل اقفاص، وبالتالي الاحساس بالاحتلال وبالحصار يتأزم اكثر واكثر، لذلك من السابق لأوانه تماما الاحتفاء بالعودة أو حتى استخدام هذا التعبير" (الأيام 27/5/1997، ص 15)

ويجيب الشاعر في الفترة نفسها (لور أدلير) على سؤالها: كيف ترى وضع شعبك

اليوم، وماذا عن العملية السلمية، وهل هناك أمل ؟ قائلا:

"نستطيع القول إن الحرب العربية الاسرائيلية قد انتهت في المدى المنظور. ونحن، الآن، في مرحلة ما بعد الحرب بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، ونحن في مرحلة ما قبل السلام، ونحن في اكثر المناطق الفكرية غموضا. خارجون من حرب، وذاهبون الى سلام يهرب منا. السلام لم يحل حتى الان..." (الكرمل، 52، صيف 1997، ص 222).

ويمكن أن نقتبس مقاطع اخرى تحمل الدلالة نفسها. ولأن كلام درويش النثري، غالبا ما يعين على تفسير شعره، فسأعتمد على أشعاره وسأستعين في الوقت نفسه بآرائه النثرية. فالفقرة النثرية الاخيرة ترد في "لماذا تركت الحصان وحيدا ؟" شعرا. يقول درويش في قصيدة "متتاليات لزمن آخر":

"كل شيء هاديء في ملتقى البحرين
لا تاريخ للأيام منذ اليوم،
لا موتى ولا أحياء. لا هدنة،
لا حرب علينا أو سلام" (ص 161)

وتندرج هذه القصيدة مع ثلاث قصائد أخرى هي: "شهادة من (برتولد بريخت) أمام محكمة عسكرية" و"خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس" و"عندما يبتعد"، تحت عنوان واحد هو "أغلقوا المشهد".

وإذا ما أخذنا بأقوال درويش التي وردت في اللقاء الذي أجراه معه عباس بيضون، وفي اللقاء الذي اجرته معه رلى الزين، اذا ما أخذنا بأقواله من أن "لماذا تركت الحصان وحيدا؟ " سيرة ذاتية كتبت شعرا (الأيام 28/5/1997، ص 10، ومشارف ص 97) عرفنا أن الجزء الاخير "أغلقوا المشهد" يعكس في اكثره مرحلتي (مدريد) و(أوسلو).

يبدأ الديوان بقصيدة "أرى شبحي قادما من بعيد" التي يطل فيها الشاعر على الماضي. انه يقيم في باريس التي كتب فيها اشعار الديوان، ومنها يراجع ذاته ويسترجع ماضيه الشخصي والانساني، وتؤرخ اجزاء الديوان الاخرى لتجارب في حياة الشاعر وفي حياة شعبه، ابتداء من هجرة 1948 وترك المكان وانتهاء بالاقرار بالهزيمة. يبدأ القسم الأول
"أيقونات من بلور المكان" بالاتيان على القرية التي أقام فيها ابوه وجده، ويصف ما ألم بسكانها في العام المذكور، ولا يغفل الاتيان على حياتهم في لبنان، وكان درويش يومها طفلا. ويؤرخ في أقسام اخرى تجربته في حيفا، وهذا ما يبدو في قصيدة "من روميات أبي فراس"، وتجربته وهو في باريس، وهذا ما يلحظ في قصيدة "هيلين، ياله من مطر"، وينتهي الديوان بقصائد "أغلقو المشهد"، القصائد التي تعبر احداها عن خيبة الشاعر مما آلت اليه الاوضاع، حيث وافق بنو وطنه على الشروط التي أمليت عليهم، بعد ان حقق الطرف الاخر الذي أغلق، مع حلفائه، -ولنلاحظ صيغة الفعل "أغلقو"، ولم يستخدم الشاعر "أغلقنا"، - المشهد. ولنأخذ المقطع التالي من قصيدة “خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس"، لنلحظ ان السلم الذي أنجز انما تم أساسا بين طرفين غير متكافئين:

"أغلقوا المشهد
تاركين لنا فسحة للرجوع الى غيرنا
ناقصين. صعدنا على شاشة السينما
باسمين، كما ينبغي ان نكون على
شاشة السينما، وارتجلنا كلاما أعد
لنا سلفا آسفين على فرصة
الشهداء الاخيرة. ثم انحنينا نسلم
أسماءنا للمشاة على الجانبين. وعدنا
الى غدنا ناقصين..."

وتعقد القصيدة على ثنائية "الهم" و"النحن"، ثنائية المنتصر والخاسر، القادر والضعيف، المملي شروطه لأنه قوي والموافق على شروط يدرك انها لا تلبي أدنى طموحاته. ولئن كان المقطع السابق يصور "النحن"، فان المقطع الذي يليه يوضح ما أصبحت عليه "الهم" مقارنة مع ما أمسى عليه المتكلم ومن ينتمي اليهم:

أغلقوا المشهد
انتصروا
عبروا أمسنا كله،
غفروا
للضحية أخطاءها عندما اعتذرت
عن كلام سيخطر في بالها،
غيروا جرس الوقت
وانتصروا..."

لقد عادت "النحن"، ومن ضمنها انا الشاعر الى غيرها، والى غدها ايضا، ناقصة، فيما غير "الهم" جرس الوقت وانتصروا. ونتذكر هنا كلمة درويش في رثاء اميل حبيبي، نتذكرها لنقول ان "النحن" ليست سوى الفلسطينيين. يقول درويش:

"فانهض معنا يا أبا سلام لنمضي قليلا معك واليك، الى هناك، الى حيث تريد أن تنام حارسا دائما لتلفت القلب الى حيفا. واغفر لنا يا معلمنا ما صنعت بنا وبنفسك. اغفر لنا اننا سنعود بعد قليل الى انفسنا ناقصين" (مشارف، 9، حزيران 1996، ص 34)

وتبدو المفارقة في قصيدة "احد عشر كوكبا على آخر المشهد الاندلسي" أوضح ما تكون. يزور الشاعر اسبانيا، للمرة الاولى، يوم عقد مؤتمر السلام العربي الاسرائيلي في (مدريد)، ويستوحي من زيارته تلك قصيدة شعرية جميلة جدا، قصيدة تفيض بمشاعر الحزن والأسى لخروج العرب من الاندلس، وينتهي المقطع الحادي عشر بالسطرين التاليين:

الكمنجات تبكي على العرب الخارجيين من الاندلس
الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين الى الاندلس

ويحق لنا أن نسأل: لماذا استوحى الشاعر لحظة خروج العرب من الاندلس لا لحظة دخولهم اليها ؟ والأخيرة هي التي يفخر كثير من العرب والمسلمين بها، فهي تذكرهم بقوتهم ومجدهم وانتصاراتهم. حقا ان درويش قد يختلف في رؤيته عن هؤلاء، وقد لا يرى ما يرون، ولكنه كان معجبا بالاثار العربية هناك. فهل اختياره لحظة الخروج، وهي لحظة هزيمة، بدلا من لحظة الدخول، وهي لحظة انتصار، تعبير عن ايمان عميق لديه بأن (مدريد) تشير الى خروج الفلسطينيين من فلسطين اكثر مما تدل على دخولهم اليها. وكثيرا ما ربط درويش، في اشعاره ما بين الاندلس وفلسطين. (حول ذلك، انظر كتابي: ظواهر سلبية في مسيرة محمود درويش الشعرية، نابلس، 1996).

في طبعة ديوان "أحد عشر كوكبا" الصادرة في بيروت يرد، في المقطع السادس، السطر الشعري التالي:

“ان هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار"

ولا أدري ان كانت مفردة السلام هي المفردة الاولى التي استخدمها الشاعر في هذا السطر، فقد حلت، في طبعات الديوان الاخرى، مفردة الرحيل مكانها. والثانية، اذا كان النص يعبر فقط عن لحظة خروج العرب من الاندلس، أكثر دلالة، فالعرب لم يخرجوا من الاندلس من خلال عملية سلام، وأما اذا كان الشاعر يرى في خروج العرب من الاندلس موازيا لخروج الفلسطينيين من فلسطين، من خلال مفاوضات السلام، فقد فضح الشعر صاحبه. ولا ننكر تأثير الزمن الكتابي على الزمن المصوغ شعرا، وهكذا اسقط الشاعر ما يعتمل حقيقة في نفسه.

اذن كيف بدت صورة اليهودي في نصوص درويش الاخيرة ؟

أشير، ابتداء، الى أن أكثر من دارس تناول صورة اليهودي في اشعار محمود درويش، ومنهم الدكتور عبد الله الشحام الذي كتب دراسة تحت عنوان "صورة المرأة الاسرائيلية من حيث هي محبوبة: المرأة المجندة في اشعار محمود درويش بعد حرب 1967" ونشرها في مجلة (Bulletin) في عام 1988، ومنها دراسة الدكتور بسام قطوس "علائق الحضور والغياب في "شتاء ريتا الطويل"، وقد نشرها في مجلة "دراسات للعلوم الانسانية والاجتماعية، عدد 2، 1996، وألقاها في مؤتمر الادب الفلسطيني في جامعة بيرزيت، المنعقد في 17-19/5/1997. وثمة دراسة اخرى انجزها باحث عربي من سكان المناطق المحتلة عام

1948، ولم أطلع عليها. وهناك دراسات اخرى كثيرة تناولت "عابرون في كلام عابر".

وقد يتساءل المرء ان كانت هذه الكتابة ستضيف جديدا الى ما كتب، وبخاصة ان درويش نفسه يرى ان "لماذا تركت الحصان وحيدا ؟" سيرة ذاتية وشعرية للشاعر، وانه - أي الديوان- اعادة كتابة لتجارب درويش السابقة باسلوب يتشابه تارة مع اسلوبه السابق، ويختلف طورا. وقد يذهب قاريء درويش ودارسه الى أنه - أي درويش- غالبا ما يعيد كتابة افكار سابقة بأسلوب جديد، وقد ظهر ذلك غير مرة في نصوصه. وأستطيع شخصيا ان أعطي العديد من الأمثلة على ذلك، وسأكتفي بثلاثة منها.

يقف الشاعر في المقطع الثاني والعشرين من قصيدة "يوميات جرح فلسطيني" (1970) أمام شخصية اليهودي الذي يشغل نفسه بتحليل الحجارة لكي يبحث عن عينيه في ردم الاساطير وليثبت ان الفلسطيني عابر في الدرب لا حرف في سفر الحضارة. (أ. ك، مجلد 1، ط 14، 1996، ص 351). ويتكرر هذا في قصيدة "لصوص ا لمدافن" (1986) فالآخر فيها يلص المدافن لكي لا يترك للمؤرخ شيئا يدل على أنا الشاعر /أنا الفلسطيني، ولا يستطيع اليهودي سوى ان يرتدي قبر الفلسطيني القديم/ الجديد هوية. (أ. ك./مجلد2، ط 1، 1994، ص 353).

ويكتب درويش في مراحله الشعرية الاولى قصيدة "ريتا والبندقية" (1967) (أ. ك./مجلد 1، ص 186) ويعود ليكتب قصيدة "شتاء ريتا الطويل" (1993) (أ.ك. /مجلد 2، ص 537).

ويكتب درويش قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" (1967) (أ.ك./مجلدا، 189)، ولا تختلف صورة الجندي في قصيدة "عندما يبتعد" (1995) عن الاولى كثيرا. (لماذا تركت الحصان وحيدا ؟، ص 164).

فهل اختلفت نظرة درويش، في ظل مرحلة السلام، عن نظرته الى الاخر في مرحلة الحرب او في فترة الانتفاضة ؟

لعل ما يستحق ان يلتفت الان اليه هو النظر الى اراء درويش النثرية فيما يخص صورة الاخر في اشعاره، وهي اراء لم تكن بمثل هذا الوضوح من قبل، اذ يشير فيها الى الاشخاص الذين كتب عنهم، وهو بذلك يمكن الناقد من التوصل الى نتائج يطمئن اليها، وبخاصة انه سيدرس النص الشعري بما يضيئه من خارجه، معتمدا على كلام صريح لصاحب النص الشعري، وهذا ما لم يتوفر للدارسين السابقين الذين درسوا نصوص الشاعر الشعرية معتمدين عليها وحدها، في فترة لم تكن فيها أقوال الشاعر متوفرة كما هي عليها الان.

يذكر درويش في المقابلة التي اجراها معه بيضون انه كان صديقا ليهود كثر، وانه كتب قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" عن احد افضل اصدقائه منهم، وكان هذا جارا له، وقد جاءه بعد حرب حزيران ليقول له انه قرر ان يترك البلاد نهائيا. (مشارف، ع3، تموز 1995، ص 76) ويرى ان مواقف اهل الفتيات اليهوديات من اقامة ابنتهم علاقة مع عربي تختلف "باختلاف مصادرهم وتربيتهم الايديولوجية" ويضيف: "احببت مرة فتاة لأب بولندي وأم روسية. قبلتني الام ورفضني الأب. لم يكن الرفض لمجرد كوني عربيا. ذلك الحين لم اشعر كثيرا بالعنصرية والكره الغريزي. لكن حرب 1967 غيرت الامور. دخلت الحرب بين الجسدين بالمعنى المجازي، وايقظت حساسية بين الطرفين لم تكن واعية من قبل. تصور ان صديقتك جندية تعتقل بنات شعبك في نابلس مثلا، أو حتى في القدس. ذلك لن يثقل فقط على القلب. ولكن على الوعي ايضا. حرب 67 خلفت قطيعة عاطفية في علاقات الشبان العرب والفتيات اليهوديات" (السابق، ص75).

ويكرر الشاعر في ربيع 1997 الكلام نفسه، ويستطرد في الحديث عن اليهود الذين عرفهم. يذكر السجان الاسرائيلي الذي سجنه قبل عام 1967، وقد ورد ذكره في قصيدة "من روميات ابي فراس" (1995)، ويذكر ريتا والجندي الذي كتب عنه قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" (1967). ويجيب (لور أدلير) التي تطمح في معرفة المزيد عن (ريتا) بأن (ريتا) "تركيب لغوي لأكثر من تجربة" و"أنه لا يعرف امرأة بهذا الاسم لأنه اسم فني ولكنه ليس خاليا من ملامح انسانية محددة" وعندما تلح (لور) في السؤال لمعرفة اذا ما كانت قصته مع (ريتا) وقعت بالفعل، يجيب درويش:

"اذا كان يريحك ان اعترف بأن هذه المرأة موجودة، فهي موجودة او كانت موجودة. تلك كانت قصة حقيقية محفورة عميقا في جسدي... في الغرفة كنا متحررين من الاسماء، ومن الهويات القومية ومن الفوارق، ولكن تحت الشرفة هناك حرب بين الشعبين"
(الكرمل، ع 52، 1997. ص 220).

ويوضح رأيه في اليهود فيقول:

"اليهود بينهم السيء وبينهم الجيد، وهم ليسوا ملائكة كما يريدون ان يقولوا عن أنفسهم، وليسوا شياطين. وهذا ما يشير الى أنهم شعب طبيعي، ومن حسناتهم انهم ليسوا فقط شياطين او ملائكة، وهم مجموعة من الشياطين والملائكة". (السابق، ص 221).

وهنا يمكن الاجابة عن السؤال الذي أثير من قبل. يكتب درويش في قصيدته "ريتا والبندقية" ما يلي:

"بين ريتا وعيوني بندقية
والذي يعرف ريتا، ينحني
ويصلي
لاله في العيون العسلية "

وتنتهي القصيدة دائرية الشكل بالسطر الذي ابتدأت به" بين ريتا وعيوني بندقية". ويفترض ان تكون البندقية في مرحلة السلام، لو كان السلام حقيقيا، قد سقطت، فهل نزعت من أرض الواقع وهل نزعت من القصيدة ايضا؟ في باريس، بعد مرحلة (مدريد) يكتب درويش "شتاء ريتا الطويل" ويرد فيها:

"البحر خلف الباب، والصحراء خلف البحر، قبلني على
شفتي - قالت. قلت: يا ريتا، أأرحل من جديد
ما دام لي عنب وذاكرة، وتتركني الفصول
بين الاشارة والعبارة هاجسا ؟
ماذا تقول ؟
لا شيء يا ريتا، أقلد فارسا في أغنية
عن لعنة الحب المحاصر بالمرايا..
عني ؟
وعن حلمين فوق وسادة يتقاطعان ويهربان، فواحد
يستل سكينا، وآخر يودع الناي الوصايا
لا أدرك المعنى، تقول
ولا أنا...."

وتنتهي القصيدة ببكاء ريتا التي تمضي الى المجهول حافية، فيما يدرك الشاعر الرحيل. ويظل الحلمان متقاطعين فيما يحمل احدهما السكين.

وقد يقول درويش انه كتب القصيدة عن تجربة عاشها في الستينيات، تجربة انتهت فعلا بالرحيل وعدم استمرار اللقاء. وهنا نثير السؤال: أليس هناك تأثير للزمن الكتابي؟ واذا كان الزمن الكتابي لهذه القصيدة هو زمن السلام، فهل سيؤدي السلام ايضا الى الرحيل. وليس هناك من شك في ان درويش الذي يدعو الى السلام والحوار يدرك جيدا ان ما أنجز حتى الان لا يلبي طموحات الشعب الفلسطيني.

حقا ان هذه القصيدة تختلف اختلافا كليا عن قصيدة "عابرون في كلام عابر" التي انجزت في مرحلة الانتفاضة، حيث يحق لنا ان نشير الى ان فترة مدريد وما بعدها تركت اثرا على الخطاب الشعري عند درويش، ومع ذلك فنهاية "شتاء ريتا" نهاية تعبر عن خيبة.

واذا ما وقفنا امام قصائد "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" (1995) وتتبعنا صورة الاخر فيه، فهل نعثر على تغير؟

كما ذكرت، ابتداء، فالديوان سيرة ذاتية وشعرية للشاعر، واذا كان ذلك كذلك، فمعنى ذلك أن صورة الاخر فيه لاتختلف كثيرا عن تلك التي بدت في القصائد المذكورة وأخرى غيرها مثل قصيدة "كتابة على ضوء بندقية".

تطالع القاريء لديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا ؟ " صورة الجندي السجان، والفتاة التي احبها الشاعر، والجندي الطيب الذي يقرأ اشعار (كيتس)؛ الجندي الذي لا يحب الذين يدافع عنهم، ولا يكره الذين يعاديهم، انه الجندي نفسه الذي يحلم بالزنابق البيضاء. وكان الديوان سيكون اكثر انسجاما مع سيرة درويش الشعرية، لو ادرج هذا قصيدة "عندما يبتعد" قبل قصيدة "شهادة من برتولد بريخت امام محكمة عسكرية. واذا كانت" عندما يبتعد" الوجه الاخر ل "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" و"شهادة من برتولد بريخت" الوجه القريب لقصيدة "كتابة على ضوء بندقية"، تماما مثلما ان قصيدة "من روميات ابي فراس" قريبة من قصيدتي "الى أمي" و"ريتا والبندقية"، فان قصيدة "خلال، غير لغوي، مع امريء القيس " هي الاقرب لقصيدة "عابرون في كلام عابر".

واذا كان درويش يرى ان "أنا الشاعر مكونة من عدة ذوات، وقد تروي قصة جماعية"، وانه حين كان يروي بعض جوانب طفولته، لم يكن يروي حكاية خاصة، وانه لم يكن يروي بعض جوانب طفولته، (انظر الكرمل، 1997، ص 219)، فان ما يهمنا، هنا، هو الكتابة عن الأنا الجمعية والاخر الجمعي، وهذا ما يتحقق في قصيدة "خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس"، وتبقى هذه القصيدة القصيدة المعبرة حقا عن الانا الجمعية والاخر الجمعي، فالخلاف بين درويش والجندي ليس خلافا شخصيا البتة، تماما كما انه ليس خلافا شخصيا بين فرد وفرد، فما بين درويش و(ريتا) ليس حالة فردية. انه حالة تتكرر، فكم من عربي أعجب بيهودية وأحبها، وتكمن المشكلة في الصراع الذي جرى على أرض فلسطين، أو على تعبير درويش، خارج الغرفة وتحت الشرفة. ولم يحقق (أوسلو) للفلسطينيين حدا أدنى من العدالة، وهكذا شعرت الانا الجمعية التي نطق الشاعر باسمها بأنها لم تجد نجمة للشمال ولا خيمة للجنوب، ولم تتعرف على صوتها ابدا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى