محمود درويش: ما نفع القصيدة
يمكن متابعة الكتابة في هذا الموضوع في باب الشعر، فثمة شعراء آخرون ينتمي قسم منهم الى جيل الستينيات مثل عز الدين المناصرة ومحمد القيسي ووليد سيف، وينتمي قسم آخر الى جيل السبعينيات مثل أسعد الأسعد وخليل توما وغسان زقطان، وينتمي قسم ثالث الى جيل الثمانينيات مثل ابراهيم نصر الله ويوسف عبد العزيز... الخ. ويمكن أيضا ان يميز ما بين رافض للمسيرة السلمية ومؤيد لها. ولكن المرء يتساءل إن كان ثمة جدوى لذلك، فالشعراء المدروسون هنا يعتبرون من أبرز شعراء المقاومة، ولهم حضورهم في داخل فلسطين وخارجها، وفوق ذلك فقد واكبوا الثورة منذ بداياتها، واستمروا يكتبون الشعر.
حقا ان هناك أسبابا اخرى تحول دون مواصلة الكتابة اهمها عدم توفر نتاجات ادباء المنفى بين يدي، الا نتاجات اقلهم وهم من درستهم، الا أنني، وأنا أكتب، أخذت أتساءل عن فاعلية الشعر وعدد قرائه، وعن الشعراء ومواقفهم وما الذي يشكلونه في رفضهم الحل المنجز او قبولهم له وليس هناك من شك في ان الاجابة عن هذه الاسئلة، وأكثرها يثيرها دارس الادب دراسة اجتماعية، يتطلب ان يقوم المرء بمسح اجتماعي يتعرف من خلاله عن المؤلفين والطبقة التي ينتمون اليها وفاعليتها في "اتخاذ القرار السياسي او التأثير على من يتخذونه، وعن قرار الشعر وعددهم وأخذهم بما يقوله الشعراء والالتزام به... الخ. ولأن ذلك يحتاج الى جهد وفترة زمنية طويلة وفريق عمل، فقد آثرت استنطاق القصائد التي اتى فيها اصحابها على أهمية الشعر وموقف الجهور منه ومن الشاعر.
وأشير، ابتداء، الى أن غسان كنفاني كان في كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 48-1968" قد وقف عند ظاهرة مهمة هي دور الكلمة في المقاومة. واستنتج من نصوص درويش والقاسم وزياد وآخرين انهم كانوا يرون في قصائدهم ضربا من المقاومة، وأنها ليست مجرد كلمات، واستشهد بمقطوعات لهؤلاء، ومنها المقطع التالي لدرويش:
هكذا الشاعر زلزال واعصار مياهورياح إن زأرهمس الشارع للشارع: قد مرت خطاهفتطاير يا حجر" (انظر: كنفاني، 1987، ط3، ص 68)
واختلف الأمر لدى الشاعر نفسه فيما بعد. كتب درويش في منتصف السبعينيات قصيدة "وتحمل عبء الفراشة"، وفيها يقول:
"ستقول طالبة: وما نفع القصيدة ؟ شاعر يستخرجالازهار والبارود من حرفين. والعمال مسحوقونتحت الزهر والبارود في حربين. ما نفع القصيدةفي الظهيرة والظلال" (أعراس، 1977، ص 122).
وكتب ايضا في 1990 قصيدة "أرى ما أريد"، ويرد فيها المقطع التالي:
"أرى ما أريد من الشعر: كنا قديما اذا استشهد الشعراء نشيعهم بالرياحين ثم نعود الى شعرهم سالمين
ولكننا في زمان المجلات والسينما والطنين نهيل التراب على شعرهم ضاحكين
وحين نعود نراهم على بابنا واقفين " ( ص 15 )
ودرويش هنا لا يتحدث عن ذاته شاعرا، فله جمهوره وله ايضا قراؤه، ونحن نعرف انه شاعر من اثنين يعتبران الأكثر قراءة ومبيعا في العالم العربي، ولكن درويش يشير الى الشعراء الاخرين الذين لا تعاد طباعة دواوينهم، وهذه لا توزع في طبعتها الأولى خمسة الاف نسخة لمائتي مليون مواطن عربي. ويعزز رأيه هذا غيره من الشعراء. يقول عبد اللطيف عقل في آخر قصائده التي كتبها قبل وفاته؛ "توبة عن التوبة":
سيدي الشعر في بلاد النسانيسمثلها صار لا يساوي فتيلاوالذي رأســــــه عليل كرأسيكل فكر فذ يراه عليـــــلا
ولا يجافي عقل الحقيقة فيما يمس عدم الالتفات الى الشعر في العالم العربي، ولعل تجربته الشخصية تعزز هذا، ونحن نعرف ان مجموعاته الشعرية التي صدرت لم تطبع طبعة ثانية وثالثة. ولكن ما يلفت النظر في شعره انه كان كتب عام 1990 قصيدة "بيان العار والرجوع" وفيها يميز بين شعر وشعر، وبين شاعر وشاعر، يقول:
"هو الشعر لما يقاتل يزهوولما يداهن يكبوولما ينافق أقسى من الطعن في الخاصرة"ويقول: "هلا يا شاعر الروم والفرس،تقرأك الان كل جميلات باريسقبل ارتشاف الحليب مع القهوة المزاصبحت اشهر من خالد بن الوليدوغيّرت رأي الأجانبفي أمة لو خلت من وجودكصارت "ثقافتها مستنيرة"ويتابع: هلا بكلكن تذكر اذا نفع الذكران الذي يسرع الخطو لا يستطيع الوصولاومن مال عن شعبه شعرةًابعدته الجماهير ميلا فميلا فميلا. (بيان العار والرجوع، 1992، 56، 57، 60)
وهكذا نجد ان الشعر ما زال ذا حضور وفاعلية، فاذا ما كان شعرا مقاتلا زها،
واذا ما داهن كبا، واذا ما نافق اصبح اقسى من الطعن في الخاصرة. وهكذا نجد الشاعر يبدي لنا رأيه في الشاعر الجيد، فالشاعر الجيد هو الذي ينجز بهدوء، وهو ايضا الذي لا يميل عن شعبه، لانه اذا ما مال قيد شعرة، ابعدته الجماهير اميالا. ويذكرنا كلام عقل هذا بشاعر فلسطيني معين. حقا انه لا يذكر اسمه مباشرة، ولكنه يورد من شعره عبارة هي "شاعر الروم والفرس"، وهو فوق ذلك يشير الى وجوده في (باريس)، ويقول ان شهرته طارت في الافاق. ولا نريد هنا أن ندافع عن هذا الشاعر أو نذم عبد اللطيف عقل، ولكن ما قاله الثاني عن الأول، قيل عن القائل نفسه. لقد قال عقل ذات نهار:
"أنا نبض التراب دمي فكيف أخون نبض دمي وأرتحل"
ولم يلتزم بما قال، فلقد أرتحل مرتين؛ مرة لطلب العلم، وهذا ما لا يؤاخذ عليه، ومرة في أثناء الانتفاضة دونما سبب مقنع.
ويختلف علي الخليلي عن درويش وعقل، وذلك في قصيدته "لتنهض بي بيتا بيتا" من مجموعة "القرابين اخوتي" (1996)، في أنه يحدد موقفا من قصيدة النثر، فيقول:
"في الشارع المقدسي أبحث عني فاصطدم بالقصيدة
المنثورة الرديئة"
ويفهم من كلامه ان قصيدة النثر هي القصيدة الرديئة، وما من شك في انه يقدر الشعر غير المنثور، او هكذا يفهم، والا لما واصل كتابة الشعر. واذا كان عقل ميز بين شاعر يداهن وآخر يقاتل، فان المتوكل طه يكتب قصيدة عنوانها "لسانان" يرى فيها ان للشاعر لسانين:
"نبسط الشعر على ثلج الحكاياونقل في سرنا ما لم نقل في مشهد الريحواضواء المراياولهذا فلنا في فمنا حرفوحرف للسرايا" (ريح النار المقبلة، ص 48)
وغدا المتوكل مثالا جديدا لسلفه المتنبي، ولا جدال في أنه هنا يختلف عن اميل حبيبي الذي ميز بين السياسي والمبدع في شخصه، فلقد ذهب الى انه في السياسة كان يحاور ويناور، أما في الادب فلا يستطيع الا ان يكون صادقا. ويفهم من أقواله انه لم يكتب ادبا يختلف الخطاب فيه باختلاف المخاطب، وهذا ما لا يفهم من نص المتوكل. حقا ان المتوكل في قصيدة "بلاط عصري"يكتب عن شعراء المديح وما يلم بهم باختلاف الظروف، وهو بذلك يرثي لحالهم، الا انه شخصيا لا يشذ عنهم، وهذا ما تقوله قصيدة "فضاء الاغنيات" وقصائد "الريح" و "الشيخ". يقول المتوكل في "بلاط عصري".
"أغرقني بالفضة والعسل الصلبوخلاني امدح عورته البائنة الكبرىلكنني صرت اذا ما سرتيشار الي: المداح.. المداحولما غرقت سفن التاجر في قاع الصحراءالعربية،قالت لي زوجتي:ما عادت اشعارك تكفينا زيتا وطحينابعد قليل..صرت اذا ما سرتلأبحث عن من يغرقنيبقليل من عسل رخوقالوا اخذ "لسان المداح" مقاس التاجرفلنبحث عن مداح اخر" (ريح النار المقبلة، ص 71)
ومقطوعات الشعراء المقتبسة عن الشعر تثير قضايا عديدة منها: الشاعر والجماهير، والالتزام، والشعر والاخلاق، والشعر في عصر الذرة..الخ. وعموما فسوف اختتم الكتابة بالوقوف عند شاعرين شابين لم تكتمل تجربتهما الشعرية بعد، ولم تنضج ايضا، ولكنهما يمثلان الجيل الشعري الجديد. حقا ان هناك اصواتا شعرية شابة اخرى، ولكن نصوص المتوكل طه وعيسى بشارة تسعفنا فيما نحن بصدده اكثر مما تسعفنا نصوص الاخرين، ذلك ان الموضوع في قصائدهما حاضر حضورا واضحا، وهذا ما تخلو منه قصائد شعراء الحداثة.
1- المتوكل طه: ما كان مسخا صار أمنية:
بدأ المتوكل طه يكتب الشعر منذ نهاية السبعينيات، أيام كان طالبا في جامعة بيرزيت، وقد أصدر، حتى الان، ست مجموعات هي "الخروج الى الصحراء" (1983) و "مواسم الموت والحياة" (1987) و "زمن الصعود" (1988) و "فضاء الاغنيات" (1990) و "رغوة السؤال" (1992) و "ريح النار المقبلة" (1995)، ورئس اتحاد الكتاب في الضفة والقطاع لسنوات عديدة، ويعمل الان وكيل وزارة الاعلام.
واذا ما تلمس المرء موقفه من السلام في اشعاره، لاحظ انه ينزع نحوه بوضوح. وقد انعكس هذا في قصيدته الطويلة التي كتبها إبان الانتفاضة "فضاء الاغنيات"، ونجده فيها يتجه نحو الجندي الاسرائيلي ويخاطبه قائلا:
"نحب صغاركمونحب ان يمضوا مع الاطفال في بلديالىنبع السلام الزاخر الفواح باطمئنانفارجع ايها الجندييا من شوهتك مباديء الطغيانارجع كي نطرز عمرنا الباقيبأغنية السلام العذب" (ص 31)
ويتكرر الموقف نفسه في مرحلة (مدريد) حيث يفصح في القصائد التي كتبها في عامي 91/1992 انه من انصار التعايش، ويدعو اليه فالتعايش بين العرب واليهود ليس بالأمر الجديد، انه موجود منذ زمان قديم، والاندلس خير دليل، وعليه فلا يرى فيه منقصة:
"خطاب التعايش هذاحملناه للناس دهراما بالهم ينكرون علينا محبتنا للتعايش" (رغوة السؤال، ص 20)
ومع ذلك لا يرى في ذهاب الفلسطينيين الى مدريد خطوة ايجابية، لأن الذاهبين سيبحثون هناك ما كانوا، من قبل، يرفضونه ويرون فيه حلا مسخا:
"ويقتلني ان ما كان مسخا
يصير منى قصتي السالفة" (ص 18)
ويرى ان فلسطين صائرة لتصبح اندلسا ثانية، وأنها على طريق الضياع، فقد أضفنا - كما يقول - ضفاف اريحا وساحل عكا ويافا لأيام قرطبة الغابرة، وفوق ذلك اخذنا نشبه حيفا باشبيلية التي ما نسينا، وعليه فلم نبصر اننا نشيع اندلسين معا. والذي يحزن الشاعر حقا هو ان الشهداء، حين يقومون، يتساءلون: ليس لهذا قتلنا.. ولكن لتبقى اناشيدنا واقفة. ويؤكد المتوكل ان (مدريد) تشهد أنا خرجنا الى لغة الظل، وأننا نسينا حروف الشواهد، وعلىالرغم من ذلك يكرر انه مع السلام الذي يعيد الىالقدس مهرتها الواجفة، السلام الذي يعيد لامتنا قدسها الكاسفة.
في "ريح النار المقبلة" (1995) نلحظ نغمة التشاؤم والحزن نفسها، وهي نغمة ما كان لها في "فضاء الأغنيات " حضور، وكان الحضور يومها لنزعة التحدي والاصرار على المقاومة. ولم تكن قصائده تختلف عن قصائد درويش والبرغوثي والخليلي في هذا الجانب، ولربما اختلف المتوكل عنهم من حيث انه اعتقل في الانتفاضة غير مرة.
يسخر المتوكل في قصيدة "نشيد الصحراء" التي نشرت، ابتداء، تحت عنوان "هذيان"، يسخر من مقولة "سلام الشجعان"، فيقول:
"فاعتذروا يا شهداء،
اعتذروا للاخوة والسلطان.. عقدنا صلح الشجعان الفردي، فموتوا غيظا لن يصبح احد منكم جنرالا او مسؤولا في غزة واريحا" ( ص 21)
ويرى ان غزة وأريحا قد ضاعتا، مثل القدس، وذلك منذ اللحظة التي كسرنا فيها حلم الخندق في لبنان. وكان المتوكل كتب هذه القصيدة قبل ثلاثة ايام من توقيع اتفاق (أوسلو).
ويرى في قصيدة "باختصار شديد" المكتوبة في 1/9/1993 اننا كنا نغني لهذا السقوط منذ البدء. ولا يدري المرء ان كان الشاعر نفسه يشارك في الغناء، فثمة من لم يغن للسقوط، وثمة من يرفض حتى الان كل هذا الذي جرى، لأنه ما زال يرى في الحكم الذاتي حلا مسخا لا يلبي طموحات الشعب الفلسطيني وأمانيه، ولأنه يرى ان الحل الذي انجز لم يأت بالخيرات قدر ما أتى بالويلات. ونلحظ ان المتوكل، مثل مريد البرغوثي، يطلب من الذين وافقوا على الحل وأخذوا، بناء علىذلك، يهدون الجنود الاسرائيليين الورود، أن يفكروا لحظة قبل أن يغنوا:
"احضنوهم وقولوا: شلوم..سلاملا بأس، لكنرجاء، رجاءفكروا لحظة...ثم غنوا " ( ص 31)
وتستمر نغمة الرفض في قصائد اخرى، ومنها قصيدة "جدار" التي تقوم على ثنائية الشهيد والمفاوض، الجدار والوفد، الصمود والانهيار فالبيع، الذين قاوموا والذين غنوا هيولا الخيانات، وهكذا يصغي الى الانباء، ولكن:
"ما من نبأسوى بقعة من سراب المكاتبتحرق في الحلق ارض الظمأوما من نبأسوى أن روح الشهيد استوت للمفاوضطاولة للضياعبلا غابة أوسباع " (ص 36)
ولا يخرجه من هذه الحالة؛ حالة الحزن التي انتابته سوى شبل يغني من زنزانة الرعب للامام، ويخلف-أي الشبل- وراءه الذين يخرجون من إثم اللقاءات على درب السلام رملا ونعامة (ص 78). ويكتشف في قصيدة "الشهيدة باسمة التميمي" "أننا بعد هذا السلام انتهينا، وتسكننا الحمأة الجارحة" (ص 100).
والقصيدة التي تختلف في نغمتها عن بقية قصائد الديوان التي خاضت في موضوع السلام هي قصيدة "خرجوا"، وقد كتبها الشاعر اثر خروج القوات الاسرائيلية من مدن الضفة والقطاع. ولا تختلف روح هذه عن روح قصائد الانتفاضة. وينفعل الشاعر بالحدث، ويصاب بحالة زهو، ويقول انهم لم يخرجوا الا بعد الثمن الغالي الذي دفعه الفلسطينيون، انهم "لم يخرجوا من أرضنا او روحنا بضمير آدم أو بطاولة التفاوض والقبل" (ص 113). ولم تستمر حالة الفرح والانفعال والزهو، اذ تعقب هذه القصيدة قصيدة اخرى هي "مشهد جانبي"، ولا تخلو هذه من نبرة حزينة. وعموما فان اكثر قصائد " ريح النار المقبلة" تعبر عن خيبة اكثر مما تعبر عن فرح، وهي خيبة متعددة: خيبة من الحل المنجز، وخيبة من بوذا والشيخ، وخيبة الشاعر المداح الذي استيعض عنه بمداح آخر.
2-عيسى بشارة: رقصة الموت الاخيرة
أصدر عيسى بشارة، وهو من نابلس ويعمل محررا في جريدة "القدس"، ديوان
شعر عنوانه خلود، وكتابا مشتركا عنوانه "شهادات فلسطينية: قصص وبطولات شهداء الانتفاضة كما يرويها اهلهم وذووهم" (1990) مع بسام الكعبي، ورواية عنوانها "مدينة البغي" (1994)، وديوان "أباريق الظمأ" (1997). وتجدر الاشارة قبل معالجة بعض قصائد الديوان الاخير الى ان "مدينة البغي" تعبر عن خيبة كاتبها من العالم العربي، فقد أقام بطل الرواية، ولا شك أنه الكاتب نفسه، في احدى العواصم العربية، ولاقى من صنوف العذاب ما لا يحتمل: سياسيا واجتماعيا وغربة عن الوطن. يخرج قاريء الرواية وهو يتحسر على خيبة صابر وما آل اليه. ومن يعرف عيسى بشارة يعرف انه نشأ في نابلس وذهب الى الكويت ليغادرها الى ألمانيا آملا ان يكمل تعليمه هناك دون ان ينجز ذلك، وهكذا عاد الى عمان، ويبدو انه خاب فيها فآثر العودة الى الوطن يدفعه حنين جارف عبر عنه في القصيدة الاولى من اباريق الظمأ:
"رحلت يطاردني شبح من أقاصي البلاد
ويا ليتني ما رحلت " ( ص 70)
وتحفل القصيدة هذه بعبارات "طعنة الأهل في الخاصرة" و "أتيت وفي جعبتي جمرة من جحيم المنافي" و "على ضفة الموت كنت وحيدا افتش عن خفقة في الصدور" و "في رحلة البؤس لا شيء يأتي وقد أصبح المر حلو المذاق" (؟) و "زمان الضياع" و "يطول الحصار"...الخ. وهي عبارات تعبر عن نفسية تشعر بغولية هذا الكون، نفسية غير متصالحة مع الاخرين، نفسية غير مطمئنة وغير راضية عما هو موجود. ثمة قلق وخوف وشعور بالضياع، ولا يجلب السلام عكس ذلك.
ثمة قصيدتان هما "رقصة الموت الاخيرة" و "المنفى الجديد" تعبران عن رؤية الشاعر للمرحلة، وعنوانهما يعبران عن خيبة "موت أخير" و "منفى جديد". ويشير في الاولى الى سمات المرحلة، ويكرر عبارة "هذي سمات المرحلة، هذا بريق المقصلة" غير مرة، حتى لتبدو الموتيف الأساس للقصيدة: إن بريق السلام هو بريق المقصلة، ورقصتنا التي تعبر عن فرح ليست سوى رقصة الموت الاخيرة، وعلينا ان نهييء انفسنا لمنفى جديد.
يرى عيسى ان عودة العائدين ليست عودة الظافرين، ومن هنا يتساءل:
"ماذا تبقى من رفات الحلم في هذا المسار ؟بل اي موت جارف قد يجرف الأحياء والأمواتفي وطن تغرب منذ ان بدا الحوار" ( ص97)وينهي القصيدة معبرا عن خيبته مما آلت اليه الأمور، ويعلن موقفه الشخصي:"واليوم لا يأتي سوى هذا المحاللتقوم مملكة الضياعويجوب بين ربوعها جيش الضباعأنا لا أبشر بالخرابولا أحذر من نسيم او هواءلكنني لا أستطيع السير في فلكيسير الى انقضاء" ( ص 118)
ويكتب في "المنفى الجديد" عن الحصار الذي ارتدى ثوبه من جديد وأصبح يذبحنا برقيق الكلام، ويتساءل: كيف أصبح ملح الهزيمة حلو المذاق، وكيف أصبح اللقاء لقاء يمهد للمدنفين دروب الفراق؟ وهو بذلك يشير الى ما أمسى عليه الفلسطينيون. لقد توحدوا بسبب الهزيمة، هزيمة حزيران، ولقد افترقوا بسبب السلام، ولم يعد اللقاء متيسرا. ويرى أن العطايا التي منحت لبعض العائدين كبلت بالقيود أصابعهم، وأنها غدت تطوق أعناقهم بالبريق. وتنتهي القصيدة بتعبير الشاعر عن خيبته مما جرى، وعن عدم رضاه، ذلك ان الاتفاقيات لم تجلب السلام.
وهكذا نلاحظ ان أكثر الشعراء عبروا، حتى الان، عن خيبتهم مما أتت به مرحلة السلام. ترى هل يقرأ الذين وقعوا الاتفاقيات كتابت هؤلاء، أم أنهم يأخذون برأي عبد اللطيف عقل:
"سيدي الشعر في بلاد النسانيس
مثلها صارت لا يساوي فتيلا" ؟
مشاركة منتدى
26 كانون الثاني (يناير) 2015, 16:34, بقلم وليد الجغبير... رام الله
رموز الشعر الفلسطيني الحديث الأساسيين هم:
1. شعراء المقاومة في شمال فلسطين: محمود درويش- سميح القاسم- توفيق زياد... وقد تبنوا إديولوجية الحزب الشيوعي الاسرائيلي... لكن درويش انشق سياسيا بعد ذلك وانضم عام 1974 الى الفرع الاخر في بيروت أي شعراء الثورةالفلسطينية .
2. شعراء الثورة الفلسطينية: عزالدين المناصرة- معين بسيسو- محمود درويش -أحمد دحبور... وقد تبنى هؤلاء اديولوجية الكفاح المسلح وفلسفة التحرر الوطني في ظل منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1964. مارس منهم ( الشعراء الستة ) الكفاح المسلح في المرحلة اللبنانية للثورة الفلسطينية في لبنان الشاعر البروفيسور ( عزالدين المناصرة) وشارك في معركة كفر شوبا في يناير 1976 دفاعا عن الجنوب اللبناني. وشارك في معركة المتحف خلال حصار بيروت عام 1982. وقاد بنفسه ( معركة المطاحن) مع ( شاستري ونبيل نصر )في جنوب بيروت لفك الحصار عن ( مخيم تل الزعتر ) المحاصر انذاك ( حزيران 1976).