السبت ١٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم زكية علال

محمود درويش..من سيقتات من خبز أمك

عندما وقفت على خبر وفاة الشاعر محمود درويش أسرعت إلى النت لأرسل رسائل تعزية إلى الكتاب الفلسطينيين وحتى القراء الذين تربطني بهم علاقة أخوة وصداقة والذين تعاطفوا معي وأنا أكتب من داخل غزة رسائل تتحدى النار والحصار، لكن لم أدر هل أعزيهم ومن خلالهم أعزي الشعب الفلسطيني.. أم أعزي نفسي.. أم أعزي هذا الدم العربي الذي يفقد حرارته شيئا فشيئا حتى يكاد يصبح باردا؟!! أم أعزي هذا الشموخ العربي الذي ينحني في غير كبرياء؟!

بعثت لأصدقائي في رام الله والجليل وغزة برسائل تعزية، لكن في داخلي كنت أبكي.. بل أنتحب في ركن بعيد وأحتاج إلى تعزية وإلى من يشدّ على يدي ويقول لي " البقية في حياتك " كنت أحس أن الأمر يخصني أكثر من أي إنسان آخر وأنني معنية بالتعزية كأفراد أسرته وككل الشعب الفلسطيني لأن قضيته قضيتي ووجعه وجعي وحسرته على عرب يتقاتلون على بقايا تمرة تشبه حسرتي... أحسستُ أني معنية بهذه الخسارة التي تؤثث لمقاومة يتيمة ومبتورة..

تألمت كثيرا لوفاة الشاعر المناضل محمود درويش.. أوجعني جدا رحيله المفاجئ..

طبعا.. لم يوجعني رحيل جسده.. فكل نفس ذائقة الموت.. ولكن أوجعني أنه مات بعيدا عن صدر أمه وخبزها وقهوتها التي كان يحن إليها، وكل خبز تناوله في أوربا وأمريكا لم ينسه طعم خبز أمه الذي ظل مذاقه في فمه إلى آخر لحظة من عمره..

أوجعني أن القضية التي ناضل من أجلها ورهن حياته لانتصارها، لم تعد ذات شأن، بل أصبحت عبارة عن صور دمار وحصار وتقتيل تعوّد عليها العالم وتدحرجت إلى مصاف القضايا العقيمة التي لا يفيد معها أي علاج أو كيّ.. وحتى القليل من الدول العربية التي ظلت على وفائها لجوهر القضية سقطت آخر قلاعها وأصبحت على قناعة أنها لن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين أنفسهم الذين يسعون إلى حسن الجوار مع إسرائيل ويرون فيها صديقا يجب احترام مشاعره ورغباته.. بل بالإمكان احتضانه إن اقتضى الأمر !!

أوجعني أن الشاعر ترك الوطن والأهل وجال في عواصم الدنيا ليناضل من أجل قضية من ورق.. قضية سقطت بالتقادم كما قضايا الإجرام !!
على امتداد ثلاثين سنة كتب أوجاعه وحرقته وضمنها في دواوين شعرية تُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة لكنها لم تكن كافية لتحقق له حلم العودة إلى وطن حر وحر، وعاد إليه في تابوت كما الغرباء.. هو عاد إليه مؤخرا وقبل رحيله، لكن الوقت الذي منحوه له أو منحه لنفسه لم يكن كافيا ليعيد ترتيب الحياة عند مدخل شرايينه.. لم يكن كافيا ليقتات من خبز أمه لِمَا تبقّى من عمره، ولا ليزيل غبار السنين الذي تراكم وتكدس على قلبه المتعب، فانتهى كما ينتهي العظماء.. رحل الجسد وبقي الرمز والقيمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى