الاثنين ١١ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم ورود الموسوي

محمود درويش وأنسنةُ الموت ..!

لم يمت أحدٌ تماما ..
تلك أرواح تغيَّر شَكلها ومُقامها
هكذا يفهم محمود درويش موته .. يخبرنا أن الموت لا يطال الارواح فما هي الا ارواح باقية تغير شكلها ومقام مبيتها وذاكرتها ايضاً ..! لم اعتد الكتابة عن أحد يتركنا .. فالفقد يدعونا الى صمت طويل .. لكن هل يحتاج منا محمود درويش كلمات لتأبينه ..؟؟ وهو الذي بادر لتأبين نفسه قبلنا جميعاً .. بل أكثر من ذلك .. هذا الشاعر الذي كتب كل شيء لم ينسى أن يضع مراسيم جنازته كي لا يترك لأحدٍ التدخل في طقوسه المقدسة .. ولِـمَ لا يعد طقوسه وهو الذي مات قبل هذا مرة ورأى ما رأى ..ليكتب جداريته بحرفية الموتى ..!

فيا موت !
انتظرني ريثما اُنهي تدابير الجنازة
في الربيع الهش حيث ولدت..
حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه
سأقول: صُبُّـوني بحرف النّون
حيث تعبُّ روحي سورة الرحمن في القرآن
وامشوا صامتين معي
على خطوات أجدادي ووقع الناي في ازلي..!
ولا تضعوا على قبري البنفسج
فهو زهر المحبطين
يذكر الموتى بموت الحب قبل اوانه
وضعوا على التابوت سبعَ سنابلٍ خضراءَ إن وجدت
وبعض شقائقِ النعمان إن وجدت
وإلاّ فاتركوا ورد الكنائس للكنائس والعرائس..!

هكذا يختار محمود درويش مراسيم حمل جنازته .. لا يريد جلبة ولا عجة وراء النعش ولا يريد خطباء يتغنون بفلسطينه وموت التين وزيتونه .. لا يريد أصواتاً فارغة بل يريد سلاماً ومشياً حكيماً .. لا يريد ورد البنفسج فهو ورد المحبطين .. فهو يذكر الموتى بموتهم ويعني موت احاسيسهم كالحب .. وهو ليس ممن يُحبطون ولا الموت الذي ينام معه الان استطاع سلب الحب منه .. بل راح يستعيض البنفسج بسبع سنابل خضراء باخضرار روحه التي ستخلد رغماً عن الموت .. الموت انتصر على جسد درويش لكنه هزمه روحياً ..هذا الموت الذي سيأتينا عاجلاً أم آجلاً .. والذي حاوره درويش بأعلى مستويات اللغة .. لدرجة أنسنته ليكون رجلاً كهلاً اتعبه التطواف على أرواح الناس .. فيطلب منه أن يسترح

ويا موت استرح..!
يطالبه بالجلوس على كرسي .. يسأله:
ألديك وقتٌ لأختبار قصيدتي
لا.. ليس هذا الشأن شأنك
انت مسؤول عن الطيني في البشري لا عن قوله او فعله..!

يعرف جيداً أن الموت خادم غيب ليس إلا لا يعارضه محمود .. بل يعرف جيداً انه لا يفهم غير لغة الطيني فهو مسؤول عنها .. الموت الذي نسى أن الخلود لا يعني مادة الاشياء بل كنه روحها يذكّره محمود درويش بالخلود –مثالاً- على هزم الموت...!

هزمتك ياموت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الاغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري
مقبرة الفراعنةِ النقوشُ على حجارة معبدٍ
هزمتك وأنتصرت
وأفلت من كمائنك الخلودُ
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد..

الخلود الذي اختاره محمود درويش خلوداً أفلت من كمائن الموت .. واتخذ شكل الابدية .. هذا الانسان الذي حمل قضية شعبه اولاً وقضية الانسان ثانياً لم يجادل احد في شعريته رغم ما قد يثار حول مصداقية نصه .. لكن لا أحد ينكر أهمية شعر محمود درويش في هذه المرحلة .. والمراحل القادمة في تاريخ الشعر العربي المعاصر .. حين يقال محمود درويش فأنت بالضرورة تعني منظّراً لقصيدة .. تماما كما الماغوط الذي افلت من كمائن الموت بالخلود مخلفاً وراءه ثقلاً من المؤلفات في أهم ميادين الأدب فأثرى قصيدة النثر .. وكتب المسرح .. والقصة .. ولم يأتي الى اليوم من يحل محل الماغوط ..!

هذا هو درويش الذي اختار لاسمه الخلود ولأسماء اصدقائه .. رغم سؤاله الواضح داخل جداريته .. وهو يستذكر العظماء قبله ..

فماذا سيفعلُ موتى بأسمائهم ..؟؟

الغريب في رحلة محمود أن قلبه هذا هو سر تعبه .. وسر تقلباته ... قلبه هذا الذي اجريت له عمليتان قبل هذه الاخيرة .. كان سبباً لكتابة الجدارية عام 1999 وهو السبب ذاته لرحيله اليوم .. ذات السرير الابيض الذي تحدث عنه وذات الاجواء .. الاسم هو ذات الاسم الذي قالته امرأة وغابت في الممر اللولبي.. درويش الذي عشق فلسطينه .. حتى اصبح اول شاعر للمقاومة ورغم محاولاته بعد لك للخروج من هذا الاطار الشعري لكنه ظل شاعر الزيتون والسجون والسلاسل .. شاعر الحرية حتى في موته .. لذا لن أقول وداعاً يا محمود درويش لأنك أكبر من الوداع وأكبر من كل ما قالوا وسيقولون .. لك الخلود ولنا اسمك ..!

وهذا الاسم لي ولاصدقائي اينما كانوا
ولي جسدي المؤقت حاضرا أم غائبا
متران من هذا التراب سيكفيان الآن
لي متر و75 سنتمترا
والباقي لزَهْرٍ فوضويِّ اللون
يشربني على مهل
ولي ماكان لي: امسي وما سيكون لي
...
واسمي وان اخطأتُ لفظ اسمي على التابوت لي
أما أنا – وقد امتلأت بكلِّ اسباب الرحيل-
فلستُ لي
أنا لستُ لي
أنا لست لي....

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى