الخميس ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٤

مدير على الشارع الالتفافي

أحمد زيدان ـ طولكرم ـ فلسطين

مدير مدرسة سفارين/ طولكرم

لم تعلم أمي أمس أنني سلكت ذلك الطريق للوصول إلى المدرسة. لم تعرف أنني قطعت الشارع الالتفافي العسكري مرتين صباحا ومساءً. يبدو أن حبات الدواء التي تناولتها حركت في عينيها غيمة كبيرة من النعاس جعلتها تستسلم للفراش. اليوم أيضا ذهبت إلى المدرسة سيرا على الأقدام، ثمانية كيلومترات مشيتها وأشعة الشمس ومثلها – عائدا- والغروب. نمت الليلة نوما متقطعا. انتفاضات وآلام في القدمين.

فتح الباب. وصلني صوت من الطابق الأرضي متهدجا. قمت لملاقاتها، ولكنها قعدت على الدرج لتستريح، فيما بدا عليها التعب والإرهاق.
زحفت التجاعيد على وجهها الذي ضاعت ملامحه الأصلية منذ سنوات. بادرتني بالسؤال:

ـ لم اسمع صوت سيارتك اليوم ولا أمس. ألم تذهب إلى المدرسة؟

ـ ذهبت ، ولكن دون سيارة.

صمت قليلا ثم واصلت:

ـ عن طريق الجبل، سيرا على الأقدام.

جحظت عيناها، وقالت في استهجان:

ـ أأنت مجنون؟ وراءك ستة أطفال.

ـ الطرق كلها مغلقة. لا سيارات ولا...
ـ إذن لست مضطرا لذلك. أصبح قتل الرجل مثل قتل الدجاجة. الطريق بين القريتين طويل. ومن أية نقطة حاولت أن تصل لا مفر من اجتياز الشارع الالتفافي....... من السيارات العسكرية تطل وجوه أياديها على الزناد.. البنادق محشوة بالموت. في هذا الوادي المهجور يستطيعون قتلك، وينتهي كل شيء في ثانية.

في الأيام الأولى من الانتفاضة التعليمات الرسمية واضحة: الظرف دقيق. أنت سيد الموقف. قدر بنفسك المخاطرة، لا يتحمل مسؤولية ما ينتج عنها إلا أنت. إذا لم تستطيع الوصول إلى مدرستك، يمكنك الالتحاق بأقرب مدرسة من مكان سكنك.

كثيرون وجودا أنفسهم في الصباح في مدارس لم يزوروها من قبل. أخذوا مكان المعلمين الذين حالت الحواجز العسكرية دون وصولهم إلى مدارسهم. ولكن كثيرون أيضا أعمتهم أنانيتهم فتعللوا بالحواجز وباتوا في أسرتهم لا تستفزهم حرارة النخوة ولا تلسعهم سياط الضمير، فكان القرار الوزاري الجديد صارما: التعليم تحت كل الظروف.

حبات المطر تنزلق فوق زجاج النافذة بكثافة، كثير من الوجوه تطل من خلف النوافذ والأبواب بين الفينة والأخرى تحاول أن تستكشف إمكانية النزول إلى الحقول لقطف ثمار الزيتون. تناولت كيسين من النايلون، أدخلت حذائي الأيمن في الكيس الأول، وفعلت كذلك بحذائي الأيسر. استطاعت المظلة التي حملتها فوق رأسي أن تصمد خلال الدقائق الأولى ولكن عندما اقتربت من الوادي وانفتح الأفق على مداه بين جبلين شامخين تحولت المظلة إلى أشلاء في ثوان. لم يشكل ذلك مشكلة لي. بل كانت المشكلة الحقيقية في احتمال التقائك دورية عسكرية أثناء عبورك الشارع الالتفافي. كانت تلك المرة الأولى التي أتأخر فيها عن الدوام المبكر. تحللت من كيسي النايلون قبل وصولي إلى المدرسة، فيما انشغلت بعد ذلك بإزالة بقع الطين التي التصقت بمؤخرة البنطال.

في غرفة المعلمين يشتعل النقاش بين بعضهم:

ـ إذا لم تنتقل الانتفاضة من طور الحجر إلى طور السلاح، فلا شيء له قيمته.

ـ ليس ذلك فقط. المهم أن يكون للقيادة موقف يركن إليه/ ويعتمد عليه... أن تظل القيادة مع حركة الشارع حتى نهاية المشوار.
ـ أنتما متفائلات. كما قلت لكما سابقا إننا لم نبدأ بعد . نقطة البداية مرحل، مرحلة طويلة بل ربما أطول المراحل وأهمها. التعبئة الوطنية. بناء الإنسان الفلسطيني. التربية.
ذات يوم أثناء عودتي من المدرسة، استوقفني والد أحد الطلاب كلماته تقطر حزنا ومرارة.

ـ لم ادع وسيلة إلا جربتها. نفذ صبري. لا أتحدث معه منذ شهرين لا عن الدراسة ولا عن غيرها ، كل ما اعرفه عنه جزء مما يبوح به لوالدته أن أملي بنجاحه في الثانوية العامة ضئيل، هو حر ، هذا مستقبله، عملت ما علي.

ـ لكنك لم تزر المدرسة. ولم تطلعنا على وضعه وسلوكه أول بأول. المرشد التربوي... قسم ال....

طال الحديث ، العجز مساحات مستطيلة. كل منا مسح حبات العرق التي نبتت على جبينه. .... طويت الجزء الأكبر من الطريق خلفي. عندما اقتربت من الشارع الالتفافي كانت الشمس قريبة من خط الأفق. رائحة الليل تهبط على المكان فجأةً أطلت دورية عسكرية من جهة الغرب زعيقها ينشر الذعر والرعب في كل مكان.التجأت إلى صخرة كبيرة أسفل الشارع،وكتمت أنفاسي.ولكن الدورية توقفت على بعد أمتار فقط. أصوات الجنود واضحة وضعوا أسلاك من الحديد الشائك فوق الطريق وبدءوا بإيقاف وتفتيش السيارات من كلا الاتجاهين ، ارتحت قلقاً تأكدت أن أحد منهم لم يرني ،طال الانتظار ذبحتني عقارب الساعة، من بين الصخور القريبة ظهر فجأة حيوان بري ،تجمدت في مكاني وكذلك هو، عينانا تصافحتا طويلاً،هذا الحيوان حديث العهد في المنطقة،يقول الناس هنا إنه واحد من عشرات الخنازير البرية التي أطلقها اليهود في أماكن عدة بهدف ترويع الناس وإيذاء أرضهم ومزروعاتهم .

زرع الخنزير وجهه في الأرض وسار عدة أمتار بشكل متعرج كمن يتتبع شيء ما أو يبحث عن رائحة محددة، ثم ما لبث أن صعد فوق الصخرة التي أختبئ تحتها، وشرعت عيناه اللامعتان تجولان في الفضاء، ضوء قوي حاصره، تبعته رصاصة مزقت الليل وأسقطت الخنزير أمامي مباشرة، ندت عنه زعقة قوية لم تكتمل ، تحول على أثرها إلى جثة هامدة .

في البيت- الحمد لله على السلامة

ـ لك عمر

ـ الله قدر ولطف.

في الليل،فيما كانت عيناي تنبشان في سماء الغرفة، كان ذهني مشغولا باسترجاع ما حدث، كان ذلك أشبه بكابوس مقيم.
مضى شهر كامل اعتدت هذا النظام الجديد، لم يحصل أن التقيت دورية على الشارع وجهاً لوجه.يومياً كانت تمر دورية قبل وصولي الشارع بدقيقتين أو بعد عبوري له بدقيقة بعد قطع الشارع مباشرة يغيب المرء بين الأشجار الكثيفة على الجانبين .
صباح أحد الأيام، في نهاية المشوار بالضبط في الشارع الطويل المؤدي إلى المدرسة تفاجأت بعدد النعاج تتدافع في أحد الأزقة وتنتشر في عرض الشارع في استعراض مزعج، تباطأت لأفسح لها المجال، لكن خروفا ضخما له قرنان دائريان استدار إلى الخلف وتقدم مني، توقفت، نظرت في كل الاتجاهات، لم يكن في الشارع غيري، طلاب المدرسة دخلوا إلى غرفهم الصفية قبل دقائق لم أدر ماذا أصنع ،عاد الخروف إلى الوراء بضع خطوات وأسرع نحوي، رمى بجسده الممتلئ دفعة واحدة. قفزت مثل لمح البصر ولذت بحائط قريب. ثم ما لبثت – عندما استجمع قواه وهجم من جديد- أن اندفعت باتجاه أحد البيوت. صعدت درجتين، استدرت بسرعة، ورفعت قدمي في الهواء لتصطدم برأسه العنيد. في تلك الأثناء، فتحت امرأة الباب واندفعت بخشبه كبيرة وهي تصرخ:

ـ يا عبد الجليل الحق الخروف نطح المدير.

في لحظات، عشرات الرجال والنساء كانوا في الشارع، تداخلت الأصوات، أياديهم في الهواء. أما أنا فلذت بالصمت.

ـ قلنا له مائة مرة: إذبحه وأرحنا من شره.

ـ يا ناس حرام عليه. ماذا لو حصل للمدير شيء لا قدر الله.
ـ لو وصل الخبر إلى الشرطة لحبسته أسابيع.

وضع الحاج أبو الأمين ذراعه فوق كتفي وقال بهدوء: الحمد لله على السلامة. دعك من المدرسة الآن، تفضل عندنا لترتاح قليلا، ليس من المعقول أن تدخل المدرسة بهذا الوضع.

شكرته.

ـ لا أستطيع أن أتأخر أكثر من ذلك،سأسوي الأمر حالا، ولكن ماذا لو كان عشرون أو ثلاثون طالبا من الصغار الآن في الشارع؟!
ـ عبد الجليل رجل مريض ولا يسمع، ماتت زوجته منذ شهور، لكن بعد الذي حدث اليوم لن نسكت، كلنا عندنا أولاد، اليوم مساءا سوف نتفاهم مع أولاده. أؤكد لك أن الخروف لن يبقى.
في المدرسة بدأت أشعر بألم شديد في ذراعي اليمنى، لم أستطع الكتابة، أصر أحد المعلمين على مرافقتي إلى العيادة القريبة. قال الطبيب مازحاً:

ـ يا رجل البلاد في حالة حرب، الناس يناطحون جيشا من أقوى جيوش العالم، وأنت تناطح كبشا من لا حول له ولا قوة!! ماذا تريدني أن أكتب في سجل المرضى؟ على كل حال، يلزمك أن تستريح ثلاثة أيام على الأقل.

في البيت قالت لي زوجتي: لا تقعد، أمك مشغولة عليك. سألت عنك ثلاث مرات.

ـ لكن لا أستطيع مقابلتها الآن، ماذا سأقول لها؟ هل أقول...
جاء صوتها معلنا عن وصولها، صوت اصطدام العصا بالأرض يحدد مكانها.

ـ اسمع، إذا كان الأمر سيطول، خذ معك حمار دار أبي معروف، تذهب وتعود وأنت مرتاح، ليسوا في حاجة له، وأنت لن تقصر معهم، وإذا كان الأمر سيطول أكثر أقترح عليك شراء حمار.
سكتت برهة وهي تتأمل تعابير وجهي، ثم أضافت.
ـ أعتقد عن عبورك الطريق على الحمار أكثر أمانا من عبورك له على الاقدام.
لم أرد، حبست ضحكة أحسست بها تنفجر من داخلي.
لم أنم تخيلت نفسي وأنا أركب حمارا يخترق شوارع القرية والطلاب – في شارع المدرسة- يحيطون بي من الجانبين.
تذكرت أول يوم عينت فيه مديرا، صباح ذلك اليوم، سلمني مدير التربية والتعليم كتاب التعيين، وقال وهو يضع النظارات على عينيه:

ـ والمظهر لا يقل أهمية عن المخبر، الإدارة "برستيج" خذ بالك.
أمي ليست متقدمة في السن، إنها في بداية العقد السادس من عمرها، مرضها هذا مؤقت أو ربما طبيعي في هذا العمر، التهابات وآلام المفاصل،لم تلتحق يوما بمدرسة، لكن عندها سعة أفق، وبعد نظر إلى حد الدهشة.
ـ اسمع يا بني، أخوك رئيس قسم في الجامعة، وها هو يوميا يمر على الحواجز ويتسلل من بين الجبال، قبل أيام أوقفه الجنود عند مفترق سبسطية، أجبروه على الانبطاح ووجهه للأرض، ومعه عدد من زملائه، لم نر شيئا بعد، الله يجبر أهل غزة، أنظر إلى ما يحصل في رفح وخان يونس، تدور هناك حرب حقيقية ، هذا قدرنا، هذا شعب قضى حياته في الألم والعذاب، ألم يمت جدك رحمه الله وفي كتفه رصاصة منذ أيام الإنجليز؟ ألم يمت والدك – منذ سنوات – في ساحة (المركز) في ظروف غامضة بعد خروجه من مكتب التحقيق بدقائق؟ توقفت لحظة ثم أضافت:

ـ ربما لم يعجبك كلامي أمس، وربما شعرت بالضيق والأذى، ولكن أنا أمك ، أريد مصلحتك وراحتك، سوف يوفر لك الحمار جهدا ووقتا، إضافة إلى أن الطريق بوساطته ستكون أكثر أمانا.

في الليل، شعرت أن كلماتها بدأت تتسلسل إلى قلبي، وتتسرب إلى أعماقي، بدأت جبال الرفض والعناد تتهاوى وتتلاشى، فيما أخذت نفسي تميل إلى السكينة والرضى والامان.

قلت في نفسي: فعلا هذه حرب، حرب إبادة، حرب إرادة، هل ستنقص مكانتي إن ركبت حمارا؟ ألست أركب الحمار في موسم الزيتون؟ ألست أركبه أثناء ذهابي إلى الأرض أو المزرعة بين الحين والآخر؟ أليست رسالة التعليم النبيلة تستحق المجازفة والتضحية إلى حد كبير؟ فكرت قليلا، قلت في نفسي: لماذا لا أركب الحمار حتى مشارف القرية وأربطه بشجرة هناك ريثما أعود؟!

ذات صباح كانت الأرض مبللة بالماء، فاضطر الحمار إلى السير ببطء، ومع ذلك أخذت حذري التام، وكنت في غاية اليقظة والانتباه، ولكن في اللحظة التي كنت أنوي فيها قطع الشارع الالتفافي توقف الحمار في منتصف المسافة وأخذ يرجع إلى الخلف، ضربته بعصا كانت بيدي ولكن دون جدوى، نزلت عنه وبدأت أجره وأضربه ولكنه أصر على موقفه كانت هناك بركه صغيرة من الماء على الشارع رأى الحمار فيها صورته فرفض الخوض فيها أو القفز عنها، ماذا أصنع؟ ليس هناك بديل آخر، في تلك اللحظة، جاء هدير السيارة العسكرية من جهة الغرب، لم يكن بإمكاني فعل شيء، توقفت السيارة بعيدا جنديان قفزا منها وسارا أمامها شاهرين سلاحهما نحوي.
ـ ارفع إيديك!

سقط حبل الحمار من يدي تلقائيا، مر أحدهما بيديه على جيوبي وملابسي وحذائي.

ـ هل تتكلم العبرية؟
ـ لا.
ـ ماذا تفعل هنا في هذا الوقت المبكر؟

ـ أبداً، أريد قطع الشارع شمالا.

ـ هويتك.
بحثت عنها في ملابسي، اعتدت أن البس ملابس خاصة بالمدرسة، وفوقها ملابس للعمل أخلعها قبل وصولي الى المدرسة، ناولته الهوية.
ولكنه قبل أن ينظر فيها قال:

ـ هل أنت الذي رفعت قضية ضد الجيش في (قدوميم)؟

ـ ماذا؟

استعان بجندي آخر ، تحدث معه العبرية، وقال لي الجندي:
ـ اسمع، يقول لك الضابط أن راعيا للغنم عبر الشارع من هذا المكان بغنمة قبل يومين فتفاجأ به مستوطن يقود سيارة مسرعة الأمر الذي أدى إلى مصرع ثلاثة من النعاج توجه الراعي أثر الحادث إلى الإدارة المدنية في قدوميم وقدم شكوى ضد الجيش والمستوطن هل أنت راعي الغنم؟

ـ لا.
ـ هل تعرف شيئا عن هذا الموضوع؟

ـ ابداً.
ذهب الضابط الى السيارة العسكرية، فتح جهاز الارسال، قرأ رقم هويتي بصوت مسموع بعد دقائق عاد ووقف أمامي، قال وهو يعبث بالهوية:-
ـ إذن أنت سجين سابق، أليس كذلك ؟

ـ نعم .

ـ كم مرة اعتتقلت ؟

ـ ثلا ث مرات

ـ آه... مخرب؟
لم أرد ، سادت فترة صمت.

ـ إسمع، هويتك معنا، إنتظر حتى نعود.

ربطت الحمار بعمود قريب، وشرعت أنتظر.

هبت رياح قوية حملت معها رائحة كريهة، نظرت الى المكان الذي جاءت منه الريح فرأيت عدد من النعاج المنتفخة ملقاة على أطراف الشارع.

إذن الحكاية صحيحة، مرت سيارة أحد المستوطنين، خفف من سرعته عندما رآني وعندما صار بمحاذاتي بالضبط، أخرج راسه من النافذة وقال:

ـ خمار وخمار.
مستوطن آخر، أخرج رشاشه من الشباك ولوح به قائلا:
ـ ابن زانية.

انتظرت ساعتين، كل الوجوه التي مرت لها ملامح واحدة، قمت من مكاني، ركبت الحمار وعدت الى البيت.
ـ ليذهبوا هم والهوية الى الجحيم.

كانت تلك المرة الأولى التي تغيبت فيها عن المدرسة منذ بداية تعيني.......الليل صديقي من أيام طفولتي، لكنه غدا هذه الأيام صديقي الوحيد، أو صديقي الحقيقي، إنه مولد أفكاري، ومستودع أسراري.

ـ أن تتحرك خارج بيتك وهويتك في جيبك مصيبة، أن تتحرك خارج بيتك دون هوية فألف مصيبة.
ـ ليس لها حل سوى أن تذهب صباحا إلى (قدوميم) وتحكي لهم القصة.
ـ صار موقف مشابه مع أخي منذ أيام، توجه إلى الحاجز العسكري عند الطيبة، صحيح أنهم أتعبوه، لكنهم أعطوه الهوية.
أثناء اجتماع مجلس المعلمين، خرج المعلم يعقوب فجأة دون استئذان، شبعته عيون المعلمين بدهشة حتى الباب، بعده بلحظات، خرج المعلم ابراهيم وقد احمر وجهه، وضع يده على فمه وهو يتظاهر بالسعال في الخارج، انفجرا ضاحكين دون مبالاه.
ـ اللهم اجعله خيرا، قال أحد المعلمين.

ـ إذا لم تستح فاصنع ما شئت، قال آخر.

ـ والله زبون قال ثالث.

نقرت بأصبعي على الطاولة عدة مرات طالبا التزام الهدوء.
ـ على كل حال، سأنقل طلبكم- أقصد الاخوة الذين تغيرت أجور مواصلاتهم بسبب الأحداث- إلى المسؤولين في مكتب التربية والتعليم لعلهم يطلبون من الوزارة الإذن بتعديلها وصرف الزيادة المستحقة لكم، بناء على طلبكم المتكرر.

وقف المعلم ماجد فجأة، تقدم حتى صار في منتصف الغرفة، يداه في الهواءقال وهو يبتسم، أو كمن يؤدي مشهدا تمثيليا.
ـ أنا اقول لكم لماذا خرج المعلمان يعقوب وابراهيم من الجلسة....
تقدم باتجاهي، وقف أمامي مباشرة، عيون الجميع معلقة به، وضع يده اليمنى فوق كتفي رتب أصابعه بحيث ضغط الابهام على الوسطى، ثم نفض الوسطى بقوة، فحلقت في الهواء دودة خضراء ما لبثت أن سقطت على الأرض، أزاح كل منهم كرسيه للوراء محاولا الوقوف لرؤية ما قد سقط، فتعالت الضحكات، وتداخلت الأصوات التي لم تتوقف إلا عندما انبرى المعلم ماجد بخبث محاولا الاصطياد في الماء العكر.
ـ أنا أقول لكم من أين جاءت هذه الدودة، انتقلت إلى المدير من المعلم محمود.

المعلم محمود لم يجب كعادته، لم يرمش له جفن، اعتاد هذه المواقف، ولكنني لم اشأ أن يضيع على هذا المعلم الصابر حقه، كما أنني أردت أن أقمع المعلم ماجد أمام زملائه لعله يتوقف عن الاستهتار والعبث.

ـ هذا المكان يا أستاذ ماجد – كما يعرف زملاؤك – صرح علمي عريق، لم يفتح فيه لغاية الآن قسم للتمثيل والتهريج، لذا أرجو أن تؤجل الإعلان عن مواهبك وإبداعاتك لفرصة مناسبة، أما المعلم محمود الذي اعتاد منك الاذى، واعتدت منه الصفح فإنني أدعوك الآن وأمام الزملاء جميعا إلى تقديم الاعتذار الفوري له والتعهد بعدم ممازحته وإحراجه.

ـ أما الدودة يا أستاذ ماجد فأمثالك الذين يسكنون بجوار المدرسة، ولكنهم اعتادوا في هذه الظروف – الوصول مع قرع الجرس أو بعده فلا يعرفون من أين جاءت، ومع ذلك وحتى لا يظل الأمر يشغل بالك فأنا أصحح معلوماتك، أنت تعلم –أو ربما لا تعلم – أنني أحضر إلى المدرسة على حمار، هذا الحمار يحتاج إلى شعير، والشعير في المدينة والمدينة طرقها مغلقة، وحتى لا يموت الحمار لا بد أن أجهز له العشب الأخضر في كيس وأضعه أمامه حتى نهاية الدوام، هذا العشب الأخضر يا أستاذ ماجد مستودع للدودة والنحل والفراش... ولله الحمد، فهذا الدود لا يلدغ ولا يلسع ولا يؤذي... بل ربما له فوائد يعلمها أهل العلم... هل ارتحت؟!
كثيرون ارتسمت ملامح الرضى على وجوههم، الضحكات

الواسعة رنت في أعماقهم، لم يسلم أحد منهم من لسانه، كانوا يتوقون إلى هذه اللحظة. سادت لحظة الصمت، عقارب الساعة تشير إلى أن الوقت المخصص للاجتماع أوشك على الانتهاء، قلت:
ـ على كل حال، لا بد من تخصيص اجتماع مستقل لاحقا لموضوع التطوير لأهميته من ناحية، ولأننا بصدد بناء وتسليم الخطة التطويرية المدرسية المقترحة للعام الدراسي القادم من ناحية ثانية ولكنني أؤكد لكم – فيما تبقى من وقت- أن التطوير نهج يجب أن يستمر والمعلم هو العنوان، إذ لم يكن هذا المعلم مقتنعا من داخله بضرورة التطور وحتمية التطور فلن يكتب لهذا المشروع النجاح حتى لو توافرت امكانات الدنيا كلها.

في الطريق، أثناء العودة، التقيت دورية راجلة على الشارع الالتفافي، خمسة من الجنود المشاة كانوا موزعين في المكان، كان بإمكاني أن أتأخر في الحقل القريب ريثما ينصرفون، لكني خشيت أن يحل الظلام وهم هناك فتصبح مهمتي صعبة، لمحني أحدهم نبه زملاءه، أعادوا توزيع أنفسهم في المكان،على بعد عشرين مترا توقفت ونزلت...مثلما طلبوا.

ـ دع كل شيء مكانه. تعال قال أقربهم .
قدرت أن الموقف ليس سهلا، تقدمت....... ثلاثة من الجنود أحاطوا بي، أما الآخرين فتولى كل منهم حراسة الشارع من جهة.
ـ هويتك
ـ مع الجيش.

ـ قلت لك إعطني الهوية، ألا تفهم؟

ـ الجنود أخذوها مني في هذا المكان قبل أسابيع، ولم يعيدوها لي.
ـ وتمشي بدون هوية؟ أنت مجنون؟

ـ هذا ما حصل.

ـ من أين انت؟

مددت يدي مشيرا إلى القرية التي تتمدد فوق التلة المقابلة
ـ سفارين.

في هذه اللحظة، بدأ عدد من شبان القرية غربي البلد يضرمون النار في الاطارات ويقذفون الجنود بوابل من الشتائم والمسبات، نظر الي الجندي وقال:

ـ أتعرفهم؟ .

ـ لا .

ـ كذاب .

توقف لحظة ثم قال:

ـ إسمع، انتظر هنا، سنعود حالا
أدار ظهره، وتبعه الآخرون، انتظرت حتى رأيتهم يتسلقون سفح التلة باتجاه البلد، سحبت الحمار وقطعت الشارع بسرعة، وغبت ببين أشجار الزيتون، في البيت قالت امي:

ـ الحمد لله على السلامة

ضحكت وضحكنا جميعا، وأضافت:
ـ تستطيع الآن أن تنام طويلا، حتى يبدأ العام الدراسي القادم، يخلق الله ما لا تعلمون.

كان العشاء جاهزا، رفضت أمي المشاركة.

ـ أنا مثل البرميل بدون عشاء، فما بالك لو أكلت ونمت؟!
أما الأولاد فلم نفلح في جرهم للمائدة، كانت عيونهم تلتهم الصور على شاشة التلفاز إطارات مشتعلة، طواقم الهلال الأحمر، أشجار الزيتون الملقاة على أكتاف الشارع، وعلم فوق أسوار القدس.

أحمد زيدان ـ طولكرم ـ فلسطين

مشاركة منتدى

  • مشكوووووووور

  • انني ارى في قصة مدير على الشارع الالتفافي قصة حقيقية تمثل المعاناة والقسوة التي يعيشها المواطن الفلسطيني وان التضحية من اجل بناء الوطن والمواطن تحتاج الى اناس على قدر المسؤولية وانا متاكد ان نسبة كبيرة جدا من الفلسطينين ان لم يكن كلهم كان لهم قصصا مع الاحتلال ولكن بلون وطعم اخر كمولود على الحاجز/ورصاصة طائشة/وفيات الحواجز/مواطن بلا هوية وغيرها وكلها تستحق التقديروالدراسة وياحبذا مثل هذه القصص تلقى اهتمام الاعلام لفضح اعمال الصهاينة .ابو اسامة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى