مرت سنة...
مرت سنة. وقمنا بمسح رقم ووضعنا رقما بدله يتبعه. هكذا يبدو لنا العالم سريعا فيما بيت اللحظتين. لحظة استقبال رقم وتحنيط آخر.
مرت سنة.. ولازلنا ننتظر أولائك الذين أحبونا ولم يظهروا، رغبوا فينا ولم يأتوا، أولائك الذين وعدونا بالمجيء وأخلفوا، ولم يستطيعوا أن يعتذروا ولو بالهاتف. ننتظر أولائك الذين يبعثون فينا الدفء في لحظات الوحدة عندما يستبد بنا ذلك الشعور القاهر بالحاجة إلى الآخر، لا لشيء إلا لحرارة تنبع منه وهو أمامنا، ورفقته نحس بأننا ننتمي إليه وفي عينيه مرآتنا.
مرت سنة.. وسمعنا فيها كل أغاني الشوق والهيام ورأينا الوجد في أبهى صوره، وعندما يأتي المساء نتناول آخر وجبة.. نغلق الأعين ونفتحها على عالم مليء بورود الحب، وبين أحضانه نرسم طيف ذلك الآخر الذي نريد أن يأتي في الوقت المناسب ويحبنا كما نرغب بالشكل الذي نريد، ترسمه استيهاماتنا وخيالاتنا... وعندما يروح الليل، نبحث في كل الشوارع عمن نتوسم فيه تربة قابلة أن نزرع فيها بذرة شوقنا وحنيننا لتزهر وردة نتعطر بها عندما يتعفن العالم أمامنا. لكن.. يظل بحثنا عمن يحمل عطرا نتقاسمه معه برغبته أملا وحلما يلف جوانبنا الباردة ونحن نستمع مرة أخرى وثالثة لأغاني الحب والشوق والهيام.
مرت سنة.. والألم الذي يقطع أحشائك ويزعجك، ولم تستطع أن تحدد مكانه في أوصال جسدك، لازلت تجتره حرقة ولهيبا لا يهدئهما سوى الاستسلام للنوم. الألم يجعلك تتمنى أن تنهي نهارك بأسرع وقت ممكن وبأقل الخسائر. لكن يأتي موعد النوم لكي ترسل جسدك الواهن إلى موعد لم ترغب فيه. النوم يصبح علاجك المجاني، لكن إلى متى وجسدك يتقطع من الألم لمدة سنة؟
مرت سنة.. تجرعنا فيها كل صباح كؤوسا من الكافيين، نفتح أعيننا المسهدة من كثرة انتظار الحب ورؤية أخبار الحرب في جرائد تهددنا بخطر قادم من عدو مجهول بجنسيات متعددة. نلتهب رعبا من موت وشيك. الجرائد تجعلنا نحس بأن كل لحظة نعيشها هي انفلات من انفجار محتمل. أخبار تصيبك بالكآبة والرهبة والرغبة في عدم إكمال المشوار حتى ولو أصبحنا مرضى بالتفاؤل وصعدت حرارته على شفاهنا.
مرت سنة.. استنشقنا فيها سجائر بها تبن مستعد للحرق، تنفسنا هواء مسموما يسري داخل الجسد، هو نفس الجسد الذي لم يعرف أين يحدد موضع دائه. مص يومي للفافة من الزبالة تفضح قلقا غير مفهوم، دخان أزرق يرفع من درجة حرارة قلقك ومن حرارة الكرة الأرضية...سجائر متناثرة..سجائر بعد الفطور، سجائر بعد الغذاء، أخرى بعد الغضب، علبة في المقهى تبخر التوتر أمام فريق يلعب ببلادة، سيجارتين قبل النوم وأنت تقرأ أبياتا عن الحب. لم يزُل القلق واستسلم الجسد الموجوع لنوم بارد.
مرت سنة.. قتلناها شحنا. شحنا بطاريات هواتفنا النقالة لنرسل خطابا مشفرا عن أحوالنا، خطابا يلخص اشتياقنا لمن نحب وغضبنا مِن من غاب. وحتى إن عجزنا عن تشفير أفكارنا، اكتفينا بالرنين؛ حتى الإشارة الصوتية ننتظرها لأنها تبعث فينا الدفء!... شحنا المخادع الهاتفية بالقطع النقدية لكي نتأكد من أن الذي نحب لازال على قيد الحياة أو لنرتب موعدا مع الآخر ونلغي آخرا كان مُتفًَقا عليه لنجلس في المقهى ونتبادل أحلاما بغد أقل كآبة... شحنا أعيننا بصور جثث الأبرياء وأخبار القادة وأنشطة الحكومات والتصريحات الرسمية وأخبار عن همجية الغازي المحتل وانتظارات المواطنين.
مرت سنة.. حشونا أعيننا صورا تنضح بصور الفرح وأغاني الحب المجسد تراودنا عن عالم افتراضي نهرب إليه بعد يوم من الجري والانتظار، انتظار أول فرح نصطدم به يجعلك تشعر بأنك كائن إنساني.
مرت سنة.. حشونا فيها خزان السيارة ببنزين يزيد المدينة كآبة لتنطلق بسرعة البرق لمواعيد تافهة: إلى مكتب برائحة العنكبوت، به وجوه إسمنتية لم تتناول فطورها الرديء بعد، أو إلى مقهى تلوك فيه أحلامك متأملا مرور باقي الوجوه أمامك وتراقب الحيارى لتتأكد أنك لم تته بعد ولازلت في المركز، أو إلى المخبزة لكي تصطف مع وجوه ترهب الجوع وتأخذ حصتك من قرص طحيني كزبد الصابون، أو إلى مصلحة الكهرباء لكي تؤدي فاتورة اقترب موعد أدائها رغم عدم اقتناعك بالكمية التي استهلكتها، هي نفس الكمية التي استعملتها عندما كنت تحشو عيناك بصور الأغاني والأخبار والدمار والقتل...
مرت سنة.. على بعادنا، على هجرتنا إلى الآخر وهو مستقر في وطنه، ومرت سنة على حزم حقائبنا ولم نعد بعد. لازلنا هنا قابعين، ننتظر أقرب فرصة للانسلال لكي نطفئ جمر الحنين إلى البلد.. ذابت سنة وهذا البراد لازال أمامنا يدفئنا ويذكرنا بالبلد، يرافقنا في كل حالات الضيق عندما تخنقنا الذكرى ويصعد الإحساس بالوحدة والتيه ويطبق على أنفاسنا ويشعرنا بالرغبة في الانفجار شوقا والتحول إلى شظايا تنزل بقرب الذين نذوب فيهم أو أي شيء نشتم رائحته فينا...
مرت سنة من الانتظارات والمفاجئات: غائب عزيز يعود، هدية من الجيران تشعرك بالأنس، بطاقة بريدية من صديق قديم...
تقابل هذه الأوقات لحظات غير متوقعة تشعر أمامها بالضعف: السيارة أصبحت متعكرة المزاج، إشعار بضريبة لم تؤد، صنبور الحمام مصاب بالزكام، أشغال صيانة بالشارع تثقب طبلة الأذن، سرقة الفيلا المجاورة، زيادة في ثمن البنزين، ضيف مزعج وأنت تستعد للذهاب إلى موعد السهرة مع الأصدقاء...
مرت سنة.. من الاكتئاب والحيرة، لحظات جلسنا فيها لوحدنا، اخترنا العزلة عن الآخرين، ولو مؤقتا، لأننا أصبنا بالعياء.. انعزلنا ووضعنا يدنا تحت الذقن نحاول أن ننتقي أجمل ذكريات الماضي لكنها تمزقنا كحيوان جائع.. نفشل ونريد أن نشرع في بناء الحاضر، لكن الشعور بالعجز يتضاعف لحظة التفكير في استجماع القوى.. نهرب ونشيح بوجهنا عن حاضرنا وندفع باب الأمل إلى المستقبل، فتكون الرهبة من المجهول هي عنوان انكسارنا، والحصيلة أن الانتصار كان لحيرة هذه اللحظات.
مرت سنة.. كررت فيها نفس الأفعال واستنسخت نفس السلوك بنفس الرتابة المعهودة التي تزعجك عندما تنتبه إليها: نفس الحمام تدخله عندما يتعفن الجسد ليتطهر العالم أمامك ولتتطهر أمامه.. نفس الفوطة تمسح بها جسدك الذي كنت منذ لحظة تكرهه.. رائحة الصابون تعطر جوانب الحمام وتتسرب إلى باقي أرجاء الغرفة.. تعفن العالم في جسدك ورحت تبحث عن الصابون لكي تصبح شفافا، وتنبعث منك رائحة الحنين وعطر الشوق والجمال، يتبادر إلى ذهنك ذلك الجسد الذي ألفت عطره ويذكرك بكل شيء.. حتى الرائحة لها مكان في الذاكرة.. رائحته تستنفرك وتعود بك إلى الوراء.. شيء من الغرابة أن يحضر شخص أمام عينيك من رائحة غابرة اصطدمت بها دون سابق إشعار.
مرت هذه السنة.. وتعرفت فيها عليك ومنحتني معنى التجدد. أنتظرك للاحتفال بعيد زواجنا...