معضلــة التدريــس بالكفـــاءات
يُشكّل التدريس بالكفاءات في المناهج التربوية الجزائرية معضلة حقيقية يتسرّب أساها من فقر المربي الجزائري للعملية التكوينية وأحيانا عدم قابليته لذلك لما ترسّب في الذهنية الاجتماعية من أنماط سلوكية براغماتية ولّدتها فترة المحنة الأخيرة التي أفرزت جيلا لا يكاد يؤمن بشئ إلى درجة أدّت به إلى الاستهانة بأمواج البحر وركوبها رغم معرفته المسبقة بجسارة الخطر الذي يناضل لأجله، وليس غريبا أن نحاول تصور هذه الحركة الدّخيلة كنوع من الاستباق لاستدراك فرص التّفوق التي فاتت من عمر الشباب الذي عاصر مِحنة وورث كومة من العُقد التي أسهم في تشكيلها الواقع الداخلي وصقلها التحفيز الخارجي على كل الجوانب بما في ذلك الجوانب النفسية التي باتت سلاحا خارقا يلعب على مشاعر العامة وحتى الخاصة لصدق إصابته مواضع الوَجع من الجسد النحيل، وبجانب هذه المحنة التي يترتب عن الاستهانة بتبعاتها الإصرار على بناء مؤسسة اجتماعية هشّة ومن ثمة وطن لا يستطيع الاعتماد على طبقة كاملة تشكل فئته الغالبة وهو ما يعني السقوط في فخّ "الكثرة" مقابل رداءة "النوعية"، ظهرت المخارج العملية لتطوير الممارسة الفردية من جهة وترقيع عباءة المنظومة التربوية أخلاقيا وعلميا من جهة أخرى فكانت ممثلة في فكرة "المقاربة بالكفاءات".
ومن ملامسة بسيطة لبعض مدلولات "المقاربة بالكفاءات" التي تتجاوز كونها مجرد منهج تربوي حبيس المؤسسات التعليمة يمكننا التطرق إلى محتواها بوصفها إطارا نظريا شاملا يمكن أن يرتقي إلى مؤهل مفهوم "العقلية" التي ينسحب على تعريفها كل سلوك واع وغير واع من طرف المتعلم وغير المتعلم اللذان يحققان توافقا تاما مع مقتضيات مواجهة "الواقع" ممثلا في إشكاليات الحياة التي تبادر بسؤال "الحلّ" المناسب لا النمطي، الحرّ لا المقيد، المتنامي لا المتراجع، وباختصار إلى الحلّ وفق متطلبات الموقف واللحظة في ظل ممارسة لا تستطيع مغادرة "حرم القبيلة".
رغم أن "المقاربة بالكفاءات" طريقة تربوية قديمة بالنسبة للتداول المعرفي والنظري إلا أنها حديثة بالنسبة للمناهج التربوية الجزائرية، إذ رغم قدم وجود هذا الإطار إلا أنّ الحقل التربوي ظل ولفترة طويلة خاضعا لنمط التدريس بالأهداف، الطريقة التي تركز بشكل أساسي على الكم والتراكم، وبإزاء عمليات الإصلاح التربوي الجديدة دخل إلى الحقل الثقافي والتربوي مصطلح "المقاربة بالكفاءات" بصورة مفاجئة مما جعل المكلفين بتطبيقه في حيرة من أمرهم وتطلب الأمر منهم البحث الواسع والكدّ الطويل لتدارك حالات الاغتراب عن الموضوع.
اعتمدت الطريقة التربوية التقليدية بشكل أساسي على فارق النوعية وبالتالي ماتت عمليات التقويم الإنتاجي من لدن المربين، وتخضع هذه الطريقة تلقائيا إلى فكرة الوصول إلى أبعد مدى ممكن بالتلميذ من حيث قدَر المعارف الموجهة إليه وهو ما يعني جعل هذا الأخير في وضعية تلقّ مستمر بمنطق التعلم الموجه من "العارف" إلى "فاقد المعرفة" الذي يتم شحنه بطريقة شبه آلية وضخّه بالثقافة والمعرفة لتهيئته لمواجهة الحياة الاجتماعية المعقدة في عصر المسؤوليات الفردية، وقد اعتمدت جملة هذه الطروحات على فرضية جدّ تقليدية مفادها أنّ الصغير قادر على استيعاب التعدّد والكثافة، بل من الواجب عليه ذلك في ظل هيمنة شبه مطلقة لعقلية السّلطة الفوقية التي يُؤتمر بأوامرها وتنفذ في الحال، وفي لحظة التغيّر الاجتماعي والسياسي والتوجه نحو الانفتاح على الآخر وحتى على الذات التي تبيّن أنها متعدّدة بدورها أخذ المنهج الاجتماعي بصورة عامة يراجع حساباته القديمة، حيث تبين ضرورة إعادة صياغة مختلف المفاهيم بما يتوافق مع العصر طبقا لما أتاحته النظريات المختلفة من معارف أثبتت يقينا وتجريبا صلاحية مجموعة من الإجراءات التي اختُبرت بما فيه الكفاية، فتبنّت الجزائر في ظل سعي حثيث لتجديد المنظومة التربوية فكرة "المقاربة بالكفاءات" وأعدّت لها جانبا ماديا وتقنيا ضخما رغبة في إعادة تشكيل البنية التحتية بالكامل، وأملا في اجتياز المسافة الفاصلة عن الضفة الأخرى، وهنا اقتضى الأمر طرح إشكالية منهجية التدريس "بالكفاءات" من زاوية نجاعتها العملية ومدى مطابقة المكلفين بتنفيذها لما يعلق عليهم من آمال.
"المقاربة بالكفاءات" منهجية تربوية تعلمية شاملة وهي نوع من التّصور الوجودي لقضايا التربية بغضّ النظر عن الأطُر الرسمية المتاحة لها، إذ ينتهي بها الأمر إلى الإصرار على تكوين المواطن الصّالح الذي يُجيد بكل كفاءة برمجة وجوده الاجتماعي والتفوق على أزماته بإيجاد حول وابتكار وضعيات جديدة بتجدد إشكاليات الحياة، وهو ما أطلق عليه تربويا مصطلح "وضعية مشكلة" التي يقتضي فيها الأمر تشكيل أزمات حقيقية معرفيا لدى المتعلم من قبل المربي، في حين يطلب من هذا الأخير التأقلم معها وحلّها، كما تنتهي أهداف هذه العملية إلى بعث رجل وامرأة المستقبل اللذان لا يشكلان عبئا على الدولة من خلال فكرة المبادرة والحيوية الفردية في ظل وعي راسخ بالقيم الاجتماعية والوطنية وذلك بالتحكم في مختلف المهارات وممارستها فعليا، ولأجل ذلك ركزت "المقاربة بالكفاءات" على تنمية مجموعة من "الكفاءات" الضرورية التي يمكن ذكر بعضها وليكن كفاءة "المواطنة" التي تتجسد تربويا من خلال عمليات ربما تبدو معقدة إلا أنها في الواقع في غاية البساطة، حيث يتلقى المتعلم فكرة منذ دخوله المدرسة عن الوطن في كل مادة من جانبها، إذ يُتاح له قراءة نص في التربية الإسلامية ثم في التربية المدنية ثم في القراءة وهكذا، وهي المعلومات ذاتها التي يرتقي في تعلمها خلال السنوات اللاحقة إلى غاية وصول مستواه إلى الحدّ الذي يدخل فيه إلى مناقشات أكبر، فيتشكل بذلك وعي الوطنية والوطن من جانبه على كافة الأصعدة حتى يغدو لديه سلوكا قوليا وفعليا في كل المناسبات، وهذه الطريقة التربوية التي اقترحت على المناهج الجزائرية تكشف بوضوح أنّ "المقاربة بالكفاءات" لا تعني تغيّر شيء كما يتداوله البعض من الذين يتساءلون عن الجديد من المربين أنفسهم حين يُصرّون على أنّ التلميذ لا يزال يتلقى المعارف ذاتها وهو الأمر الفعلي لأنّ الطرح المقدم لا يسعى إلى تغيير الوُجود ولا يستطيع ذلك وإنما يسعى إلى تغيير التصورات والمفاهيم، وأولى هذه التغييرات تغيير تصوراتنا ومفاهيمنا عن العملية التربوية بنقلها من فكرة الكم إلى فكرة الكفاءة، كون هذه الأخيرة أكثر عملية ومعقولية من كل الجهات كما أنّ الطريقة التقليدية أثبتت قلة مردوديتها مقابل ما يطرح حديثا مما يُعدّ لبّ وخلاصة الدراسات اللسانية والنفسية وغيرها، وعلى كل فقد تم تدعيم البرامج التربوية بما فيه الكفاية لضمان سيرورة هذه العملية بالكيفية الصحيحة وإن تجاهل أو ضعف المربي عن ممارستها، ولعلّ هذه النقطة هي الأهم بحكم أنّ الذين ينتقدون المقاربة بالكفاءات في كثير من الأحيان هم من الذين لم يستوعبوها فهما في حين يؤدونها عملا دون شعور منهم، ويبقى الفارق في عملهم مرتبطا بإشكالية الممارسة التي تختلف عند شخص تتهيأ له الفرص والوسائل وهو يعِي المطلوب وبالتالي يُحسن الممارسة، وآخر تُتاح له الأدوات ذاتها لكنه يمارسها عن غير وعي، بما يعني تفويت الكثير من الفوائد على التلميذ خصوصا في بعض الحالات التي لا تكون فيها الوثائق مصاحبة للعملية التربوية، فيكون العمل مزيجا من المعلومات الموجهة بغير قناة مناسبة للتواصل.
ولأجل تحقيق الممارسة التربوية الناجعة تضمنت المقاربة التربوية الجديدة نقطة أساسية كثيرا ما سقطت عن الممارسة اليومية وهي "البيداغوجيا الفارقية" التي تعني تربويا تكييف الوضعيات التربوية المختلفة مع الإمكانيات المتفاوتة للتلاميذ وأيضا مقتضيات التصوّر العام للعملية التربوية والتي تُرتب حسب القدرات العقلية والمهارات الفردية والمميزات بدءا من تنظيم القسم إلى كيفيات الجلوس التي يفترض أن يحكّمها المربي بناء على القدرة على السمع، البصر، الانتباه.. إلى غير ذلك، وتبدأ "المقاربة بالكفاءات" هنا بالضبط مع نقطة الخصائص الفردية "الكفاءات" التي يحتاج الأمر إلى رصدها لتمكين كل تلميذ على حدة من مزاولة "كفاءاته" وتطويرها بغض النظر عن المستوى العام مع باقي المواد، لأنه يفترض تربويا وموضوعيا وجود مُيول معيّنة لصالح نشاط تربوي بذاته، فلا يصلح عقلا أن تضيع فرص التنمية فيه من جانب كفاءاته التي تغدو يوما ممارسته كمواطن وينتظر منه تقديم شيء لمجتمعه، ومن أمثلة ذلك توفر موهبة الرسم أو قول الشعر عند تلميذ قد يكون بعيدا كل البعد عن حلّ أبسط معادلة في الرياضيات، وإلى جانب هذا يندرج ضمن أهداف "البيداغوجيا الفارقية" مَحو الطبقة الداكنة من التفاوت مابين التلاميذ وإيجاد بدائل وسطية لا تهدر حقّ الضعيف الذي يحتاج إلى كثير من العناية ولا تستهلك نصيب المتفوق الذي يجتاز المراحل التربوية والمعارف جريا.